رواية قلب السلطة الفصل التاسع والثلاثون 39 بقلم مروة البطراوي


 رواية قلب السلطة الفصل التاسع والثلاثون 

خرج "رائد" من الغرفة وهو يرمي كلماتَه الأخيرة مثل سهام باردة، ثم أغلق الباب بخفّة لكنها كانت كافية لتترك رجفته في صدر "ليلى".
ظلّت تنظر إلى الخشب الذي انفصل عنه، كأن عينيها تتمنّى أن تخترقه وأن تمزّق حضوره، حتى ولو كان غائبًا. لم تستطع منع شهقة صغيرة من الهروب، شهقة ليست من خوفه… بل من تراكم كل شيء.

زفرت بمرارة، أصابعها تعضّ على طرف الغطاء، وكأنها تبحث عن شيء يثبتها على الأرض.

همست لنفسها بصوت منكسر، أقرب للرجاء منه للغضب:

"إمتى ربنا يخلّصني منك؟… إمتى؟"

ثم سقطت على الوسادة، لا تبكي… بل تتلوّى من الداخل.
فالدموع عند "ليلى" ليست سهلة؛ هي تحفظها كما تحفظ أسرارها، تحبسها في قلبها القريب من الانفجار، قلبٍ لا تعترف به ولا تجرؤ على مواجهته.
كل ما شعرت به في تلك اللحظة هو خليط خانق:
الخوف الذي زرعه فيها…
الغضب الذي يأكل أطرافها…
والخذلان الذي ينهش ما بقي من قوتها.

كانت ترتعش، لا من كلمات رائد فقط… بل من الكابوس الذي أفزعها، ومن الحقيقة التي لم تعد تفرّق بينها وبين الأحلام المظلمة.

قلبها يدق في صدرها كأنه يحتجّ:
هل هذا رجل تخشاه؟
أم رجل… تخشاه لأنها تشعر به أكثر مما ينبغي؟

لكنها دفنت وجهها في الوسادة، كأنها تهرب من كل شيء، حتى من نفسها.

---

✦ ما لم تره "ليلى" بعد مغادرة رائد ✦

في الخارج، كان الرواق ساكنًا… لكن خطوات "رائد" كانت تحمل شيئًا آخر.
هدوءه لم يكن راحة؛ بل هدوء الذئب قبل الانقضاض.

أخرج هاتفه من جيبه، فتح الرسالة المخفية التي لم يرها أحد.
لمع الضوء على وجهه، واختفت الظلال لعُمر ثانية، ثم ظهر سطر واحد:

> "أرسلت لك الفيديوهات… واحدة بس كفاية تدمّرها للأبد."

تجمّد رائد للحظة.
لم يكن انتصارًا ما شعر به… بل وجعًا غامضًا، كأن شيئًا فيه يتحرّك رغمًا عنه.

تنفّس ببطء، النظرة في عينيه أصبحت أعمق، أظلم… أقرب لرجل يصنع حربًا في صمت.

همس لنفسه بصوت خافت، قاسٍ، يحمل ما هو أبعد من التهديد:

"لسه بدري يا ليلى…
لسه في اللي يوجعك أكتر من كده."

أعاد الهاتف لجيبه، وعدّل ياقة قميصه الأبيض، ثم هبط السلالم بخطوات ثابتة، رجل يبدو واثقًا، بينما في داخله شيء يتحرّك بسرعة النار.

أما ليلى…
فكانت في الأعلى، معلّقة بين كابوسٍ انتهى ورجلٍ قد يبدأ كابوسًا جديدًا.

---

قلب السلطة بقلمي مروه البطراوى 💜
كانت نيرفانا جالسة على حافة الأريكة في صالة الدور الأرضي، سماعاتها في أذنها لكن الموسيقى متوقفة منذ دقائق.
هي لم تستمع لشيء… بل كانت تستمع للبيت نفسه.
ذلك الصمت الغريب الذي سبق نزول والدها.

رفعت عينيها حين سمعت وقع خطواته على السلم.
خطواته دائمًا تُخبرها بالحقيقة:
إن كان غاضبًا، مطوّلًا، أو متوترًا.

وهذه المرة…
كانت خطوات هادئة جدًا.
هادئة بدرجة مخيفة.

أزالت السماعة من أذنها، وجلست معتدلة، تحاول فهم ملامح أبيها وهو يهبط ببطء، كأنه ينزل من مرتفع لا من سلم.

نيرفانا:
– بابا… إنت نمت جمبي طول الليل .

لم يرد فورًا.
وقف أمام آخر درجة، مسندًا يده على الدرابزين، وجهه خالٍ من التعبير… وهي تعلم ماذا يعني هذا الوجه.

وجه العاصفة الهادية.

رفع رأسه إليها أخيرًا:

رائد:
– عندك مدرسة النهارده ولا إيه نظامك؟

ضيّقت عينيها قليلًا.
رائد لا يسأل سؤالًا إلا لسبب.
ونبرته كانت هادئة بشكل غير طبيعي.

نيرفانا:
– آه… عندي. بس لسه بدري.
وبعدين… إنت مالك؟ شكلك… مش زي كل يوم.

ابتسم ابتسامة ضئيلة جدًا.
ابتسامة ما بين التجاهل والإخفاء.

رائد:
– لو كل واحد صِحي الصبح ووشّه مش زي كل يوم، يبقى فيه كارثة؟ ولا إيه؟

أغمضت نصف عينيها، ورفعت حاجبها، نظرة ابنة فاهمة أبوها أكتر ما بيعترف:

نيرفانا:
– لأ… بس إنت مش من النوع اللي وشّه يتغير من غير سبب.
– حصلت حاجة فوق؟

ساد الصمت.
لمدة ثانية… ثم ثانيتين.

كانت تنظر له بثبات.
وهو… كان يهرب بعينيه، يتفادى النظر إليها كما لو أنها تقرأ داخله.

وفي النهاية قال:

رائد:
– ليلى… كان عندها كابوس.

لمعت عينا نيرفانا بسرعة لم يستطع إخفاءها.
وكأن الكلمة وحدها اخترقت حاجزًا داخليًا.

نيرفانا (بسرعة وقلق):
– هي كويسة؟ حصلها حاجة؟
– صوتها كان عالي؟ حد زعّق؟!

ابتسم رائد بخفوت، تلك الابتسامة التي تخفي أكثر مما تُظهر.

رائد:
– انتي مركّزة زيادة ليه؟
– ليلى مسؤوليتي… وأنا عارف أهتم بيها

تنفست نيرفانا ببطء، كأنها تحاول السيطرة على نبرة قلبها قبل نبرة صوتها.

نيرفانا:
– ما قلتش إنك مش عارف.
بس…
هي شكلها مش مرتاحة هنا.
بتخاف. بتحلم.
وبتبقى مش طبيعية لما بتشوفك.

لمعت عينا رائد بحدة خفيفة، ثم قال بنبرة غامضة:

رائد:
– يمكن علشان أنا اللي بيظهرلها الحقيقة من غير فلترة.
والناس… ساعات بتخاف من الحقيقة أكتر من الكوابيس.

مرّت رعشة خفيفة في كتف نيرفانا.

هي تعرف هذا الصوت جيدًا…
صوت الرائد اللي بيخطط.

اقتربت خطوة منه، ورفعت رأسها كي تنظر في عينيه مباشرة:

نيرفانا:
– بابا…
لو إنت ناوي تعمل فيها نفس اللي كنت بتعمله زمان مع الناس…
ما تعملش.
دي… غير.

سقطت الكلمات بينهما كحجر في بحر ساكن.

رائد لم يحرّك ساكنًا.
بل نظر إليها نظرة طويلة… حملت شيئًا يشبه التحذير، وشيئًا يشبه التعاطف… وشيئًا ثالثًا لا يُعرف.

رائد (بصوت منخفض):
– انتي ملكيش دعوة.
وخليكي في دراستك.
وما تدخليش نفسك في حاجة أكبر منك.
نسيت انك قولتي انها السبب في خطفك ؟

ثم مرّ بجوارها، كأن وجودها لم يكن عائقًا.
لكن قلب نيرفانا… كان يخفق بطريقة لم تعهدها.

وعندما ابتعد خطوات قليلة، نادته بصوت خافت… خافت جدًا لكنه يحمل صدقًا لا تخطئه الأذن:

نيرفانا:
– بابا…
لو ليلى اتكسرت…
إنت هتتكسر معاها… سواء صدّقت ده أو لأ.
انا قلت اللي سمعته من اللي خاطفيني بس ممكن يكون كذب .

توقف.
جمد في مكانه.

لكنّه… لم يلتفت.

ومشى.

وتركت نيرفانا وحدها في الصالة، تدرك لأول مرة…
إن الحرب القادمة  ليست  بين ليلى ورائد فقط .
إنها حرب… ستهز  البيت كله.

في الدور العلوى … كانت ليلى تستمع الي  اسمه علي لسان   نيرفانا،  تسأل نفسها:
مين فيهم… المفروض تخاف منه أكتر؟

---

قلب السلطة بقلمي مروه البطراوى 💜
كان الصمت يغطي الغرفة، بينما ليلى جالسة على طرف السرير، ظهرها محني قليلًا، تهز ساقها بعصبية لم تعترف بها بعد.
عينُها مُعلقة بالنافذة… لكن عقلها مُعلق برائد، بكلماته، وبالخوف الملتف حولها من اللحظة اللي صحيت فيها.

اهتز الهاتف بجانبها.
رقم "ماما".
لم يكن توقيتًا معتادًا للاتصال.
أجابت بسرعة، صوتها ما زال متأثرًا ببقايا ما مرّ عليها:

ليلى:
– ألو… ماما؟

جاء صوت نيفين متقطعًا… كأنها تحاول تدارك دمعة أو خوف أو صدمة:

نيفين:
– ليلى؟
يا بنتي… إنتي كويسة؟

انقبض قلب ليلى.
نبرة أمها لم تكن عادية… ولا حتى قريبة من الطبيعي.

ليلى (بحذر):
– ماما… مالِك؟ صوتِك عامل كده ليه؟

سمعت شهقة مكتومة على الطرف الآخر.
ثم قالت نيفين بصوت خافت، كأنها تخشى أن يسمعها أحد رغم أنها بعيدة:

نيفين:
– رائد…
رائد خلي يقين تكلمني .

تجمدت ليلى.
حرفيًا… تجمّدت.
كل شيء فيها توقف لحظة.

ليلى:
– قالت لك إيه…؟

زفرت نيفين بقليل من الرعشة:

نيفين:
– عرف…
عرف يا ليلى إنّك حكيتلي عن اللي حصل ما بينكم قبل كده.
عرف إنك قولتي … اللي كان المفروض تدفنيه  جواك.

ضغطت ليلى على الهاتف بقوة:

ليلى (بضيق):
– إزاي عرف؟
مين قاله؟
ده… ده كلام بيني وبينك!

ارتفع صوت نيفين قليلًا، كأنه انفجار خوف:

نيفين:
– ماعرفش!
بس هو قالّتلي  بالحرف:
"يا مدام نيفين… تدخلك في  اللي مش ليكِ مش هيتعاد. وعيب تتكلمي في اللي ما يخصّكيش. ولو ليلى راسها اتلخبط… السبب هيكون انتي."**

بلعت ليلى ريقها.
شعرت بقشعريرة باردة في ظهرها.

ليلى:
– وصدّقتيه؟
خوفتي و شايفه  إنك غلطانة إنك تقفي  جنبي؟

جاء صوت نيفين أضعف من كل مرة:

نيفين:
– هي… قالتها بشكل يخوّف.
وقالت كمان…
"بلاش تحكي لمهاب. وبلاش تفتحي مواضيع قديمة. كل واحدة في مكانها."**

رفعت ليلى رأسها فجأة، وكأن شرارة اشتعلت داخلها:

ليلى:
– مهاب؟
هي جابت سيرة مهاب ليه؟

صمتت نيفين ثانية… ثم قالت الحقيقة دفعة واحدة:

نيفين:
– علشان تخوّفني.
علشان تكممني.
علشان… أبعد.
بس اسمعي يا ليلى…

تغيّر صوت نيفين فجأة، من خوف… إلى صلابة أم اكتشفت الحقيقة:

نيفين:
– مهاب عارف.
عارف من ساعه ما ضرب عليكي الرصاص .
وعارف اللي حصل بينكم… وعمري ما كنت هخبي عنه.
و يقين  قالّتلي الكلام ده علشان أفكّر إن مهاب مش واقف في صفّك.
علشان اتلخبط … و ابعد .
علشان تحسّي إنك لوحدِك.

هنا… صمتت ليلى.
صمت طويل.
طويل كأن الزمن توقف.

أغمضت عينيها، شهقة مكتومة خرجت رغمًا عنها.

ليلى:
– يعني…
هو بيحاول يعزلني.
يخلي اللي حواليّ يشكّوا فيّ… وأنا أشك فيهم؟

نيفين (بحزم أم حامية):
– آه يا بنتي.
هو بيخاف من اللي يعرفوا الحقيقة…
وبيخاف أكتر من اللي ممكن يقفوا قصاده.
بس اسمعيني كويس…
مهاب معاكي.
وأنا… مهما خوّفني… مش هبعد.
ولا هاسكت.
ولا هسيبك لوحدِك.
فاهمة؟

ارتعشت شفتا ليلى، لكن صوتها خرج ثابتًا رغم كل شيء:

ليلى:
– فاهمة يا ماما…
بس رائد…
رائد مش هيكتفي بكده.

نيفين (بصوت منخفض يرتجف):
– وإنتي كمان…
مش نفس البنت اللي كان يقدر يكسرها زمان.

رفعت ليلى رأسها…
وعينيها لأول مرة تحمل لمعة مختلفة:
لمعة صدمة… وخوف… وغضب… وشيء يشبه بداية القوة.

ليلى:
– ماما…
لو عرف إن مهاب واقف معايا…
الدنيا كلها هتولع.

قالت نيفين بجملة أنهت المكالمة… جملة حملت القدر كله:

نيفين:
– يا ليلى…
الدنيا ولعت خلاص…
بس المرة دي، مش إنتي لوحدِك اللي هتتحرقي."

وانقطع الخط.
ليلى ظلت ممسكة بالهاتف، ترتجف…
بينما خلف الباب، كان هناك ظل واقف…
ظلّ سمع آخر جملة.
وظلّ… ليس من المفترض أن  يكون موجود .

---

قلب السلطة بقلمي مروه البطراوى 💜

بابتسامةٍ رقيقة تخفي قلقًا مبهمًا، ناولت "يقين" طبق الإفطار لخطيبها، ثم وضعته أمامه قائلة بنبرةٍ يغلّفها الدفء:

– اتفضّل يا حبيبي!

طوى "شامل" الجريدة ببطء، وألقاها على طرف المائدة، ثم تطلّع إليها بعينٍ باسمة، وقال:

– تسلم إيدِك يا حبيبتي. أومال فين رائد ونيرفانا؟ البيت هادي يعني.

شدّت "يقين" كرسيًا إلى جواره، وجلست قائلةً برقةٍ لم تخفِ نبرة العتاب في صوتها:

– نيرفانا فوق بتجهّز نفسها عشان المدرسة... ورائد لسه نازل من جناحه دلوقتي.

رفع "شامل" حاجبيه في دهشة، ونظر إلى ساعته مستنكرًا:

– من جناحه؟! هو كان بايت هناك؟ أنا كنت فاكره هيفضل في أوضة المكتب أو ينام في أي حتة تانية بعيد عن "ليلى" والمشاكل.

قهقهت "يقين" بسخريةٍ مريرة، وهي ترشف القهوة:

– تِتخيّل؟ البيه كان نايم طول الليل في أوضة نيرفانا! حاضن بنته وسايب مراته التعبانة فوق لوحدها تصارع خيالاتها.

تقلص وجه "شامل" بتعجب: – في أوضة نيرفانا؟!

– أيوه، وردت تقلد نبرة أخيها بتهكم: – "أصل البت وحشاني، وعايز أشبع منها!"... هو بس بيعمل كده عشان يهرب من المواجهة مع ليلى، ودلوقتي طبعًا طلع يغير هدومه في جناحه عشان يسمعها كلمتين يسموا بدنها وينزل.

وبينما كانت تكمل جملتها، جاءه صوت جهوري، بارد، يحمل نبرة تحذيرية من خلفها:

– ومن إمتى وإنتي بتفصصي تصرفاتي يا يقين؟ وقاعدة تحفلي عليا كمان؟

التفتت إلى مصدر الصوت بتأفف، لتروا "رائد" يقف بطلته الطاغية، يرتدي زيه الأبيض الذي يزيده هيبة، لكن عينيه كانتا تحملان ظلامًا لا يناسب بياض ثيابه.. ظلام الرسالة التي قرأها منذ لحظات.

رمقته بنظرة ممتعضة وقالت: – ما إنت بقيت مادة خصبة للكلام يا حضرة الجنرال... تصرفاتك بقت غريبة.

تقدم "رائد" نحو المائدة بخطوات ثقيلة، وجلس على رأسها كعادته، مسح وجهه بيده وكأنه يزيل بقايا توتر المشهد السابق، ثم قال وهو يتناول كوب الشاي ببرود:

– وإنتي بقيتي رغاية... أي تفصيلة صغيرة تروحي تحكيها لشامل! عشان بقى خطيبك يعني نسيتي إن ليكي أخ؟

رمقه "شامل" بنظرةٍ عاتبة، وقال بهدوء يحاول به امتصاص غضب صديقه المكتوم: – وقبل ما أكون خطيبها، إنت من إمتى بتعتبرني غريب يا صاحبي؟ مالك يا رائد؟ شكلك مش رايق.

تجاهل "رائد" سؤاله عن حاله، فهو لن يخبر أحدًا عن الكارثة التي في جيبه الآن، وتدخّلت "يقين" بلطفٍ تحاول تلطيف الجو:

– يا حبيبي رائد ما يقصدش. هو بس أعصابه مشدودة... عارف إن "البُنبونايه" بتاعتنا حطّته في موقف ضعف، وهو مش متعود على كده.

أومأ "شامل" برأسه، ثم تنفّس بعمق وقال مبتسمًا بخفة: – البنّبوناية دي هي نقطة ضعفك وقوتك يا رائد. فينها بقى؟ معاد المدرسة قرب... ولا غيرت رأيك؟

تصلبت ملامح "رائد" فجأة، وتذكر التهديد المبطن، فقال بحزم قاطع: – لا، مغيّرتش... هي زمانها نازلة، ما تقلقش.

رمقته "يقين" بنظرةٍ قلقة، ثم قالت بلهجة عابسة: – أنا مش فاهمة إنت مصمّم ليه توديها دلوقتي؟! استنى كام يوم... البنت لسه مخضوضة، خلّيها تهدى وتنسى اللي شافته.

– أنا أكتر واحد عارف فين مصلحة بنتي... ومحدّش هيخاف عليها قدي.

– طب فهّمني يا أخويا! أنا كمان عمتها وبخاف عليها.

زفر "رائد" بضيق، وكأنه يغلق باب النقاش للأبد: – خروجها ورجوعها لحياتها هو العلاج... الحبسة هتخليها تفكر وتكتئب. نيرفانا قوية وهتعدي الأزمة دي طول ما هي وسط الناس.

– ياسلام؟! وفرضنا حصل لها...

قاطعها بنبرة صارمة، وعيناه تلمعان بحدة أخرستها: – قولت خلاص يا يقين!! دي بنتي، وأنا أدرى بيها. مش هفتح تحقيق كل يوم الصبح!

ساد صمت ثقيل ومفاجئ، كسره وقع خطوات خفيفة مرحة على الدرج. ظهرت "نيرفانا" أمامهم، ترتدي زيّها المدرسي، وشعرها المبلول ينسدل على كتفيها، وابتسامة مشرقة بريئة ترتسم على شفتيها الوردية، وكأنها لا تحمل أي هموم في هذا العالم.

– جود مورنينج!

تبدلت ملامح "رائد" 180 درجة، واختفى الوحش ليظهر الأب الحنون، هتف الجميع في وقتٍ واحد: – صباح الفل يا أميرتي!

اقترب منها "رائد"، سحبها لحضنه وكأنه يتأكد من وجودها، طبع قبلة سريعة على جبينها وقال: – إيه يا قلب دادي، اتأخرتِ ليه كده؟

ردّت بخجل طفولي محبب: – سوري دادي، كنت باخد شاور وبظبط شعري... بس أهو جاهزة!

ابتسم وهو يُشير نحو الكرسي، لكن عينيه كانتا تفحصانها بخوف خفي: – طيب اقعدي افطري بسرعة، عشان شامل يلحق يوصلك ويرجعلي تاني.. ورايا شغل مهم معاه.

التفتت "نيرفانا" بعفوية تجاه "شامل" الجالس يراقب المشهد بصمت غامض، وقالت بدلال طفلة اعتادت التدليل: – الله! أنا بحب أونكل شامل يوصّلني... بيسوق بسرعة وبيشغلي أغاني، مش زي "عم خلف" السواق الممل!

تعالت ضحكات "رائد" و"يقين"، بينما رسم "شامل" ابتسامة واسعة ساحرة، وقال مازحًا: – تؤمر يا جميل... طب إيه رأيك النهارده أمشي تاتا تاتا؟ إحنا عندنا أهم من سلامتك يا قمر؟!

ضحك رائد  ، ولكن خلف تلك المزحة المريحة، والابتسامة المرسومة بإتقان، كانت تعتمل في صدر "شامل" براكين من نوع آخر. خوف منه خاصه بعد معرفته بالتخطيط لقتل حازم .

نظراته له لم تكن مجرد نظرات  شقيق أو خطيب شقيقته  بل كانت نظرات صياد ينتظر اللحظة المناسبة. الغيظ و الغضب  والرغبة المظلمة تأكل أطراف روحه.

كان يشتعل داخليًا، يلعن  "رائد" وثقته العمياء. ينتظر فقط أن ينفرد به  ليغلق النوافذ، ويفتح له  باب الجحيم المستعر الذي أضرمه فيه بتصرفاته الطائشة، حتى لو لم يكن يدرك ذلك بعد.
قلب السلطة  💜

نهض "شامل" سريعًا، وكأنه كان ينتظر الإشارة بفارغ الصبر. تناول حقيبة "نيرفانا" الصغيرة بابتسامة مصطنعة، وودع "يقين" و"رائد" بهدوء زائف، بينما كان صدى الكلمات الأخيرة التي قالها "رائد" لا يزال يتردد في أذنه: "ورآيا شغل مهم معاه."

لم يكن الشغل هو ما يشغل بال "شامل" الآن، بل كان يشغل باله ما ينوى رائد أن يفعله .

خرج مع "نيرفانا" التي كانت تسير بجوارة بخفة، لكن خطاه كانت ثقيلة ومحملة بنيران الغضب . كان الغيظ الذي أضرمه فيها رائد  يشتعل مرة أخرى، تمامًا .
  توقفت  خطوات شامل  أمام سيارته ليفتح لها الباب.

تذكُّر أول الطريق (فلاش باك)
في تلك المرة الأولى، ركبت "نيرفانا" السيارة وجلست في المقعد الخلفي، بينما دار "شامل" حول السيارة بتؤدة، قبل أن يدخل مقعد القيادة ويغلق الباب بعنف مكتوم،

بدأ يقود في صمت، والفتاة تغني أغنية هادئة من راديو السيارة، ترددها بصوت خافت لا تعرف حجم العواصف التي  في صدره. من جراء ردود أفعال رائد ضده .

قال فجأةً دون أن ينظر إليها، وكأنها جملة سُحبت قسراً من فكّيه:

– بتحبي باباك أوي… مش كده؟

– أيوه… بابا طيّب وبحبني.

– وبتخافي منه؟

– لأ… هو بيزعق بس عمره ما ضربني.

توقف عند إشارة مرور، ثم التفت إليها، وقال بنبرةٍ خافتة، بدا فيها صوته مهزوزًا بشكل لم تلاحظه هي:

– طيب لو حد حاول يقرّبلك وأنتِ مش مرتاحة… تقوليلي، مش كده؟

نظرت له "نيرفانا" بدهشة، ثم قالت بتردد:

– تقصد إيه يا أونكل شامل؟

أعاد نظره للطريق وابتسم ابتسامةً مصطنعة، أخفى بها براكين قلبه، وقال:

– قصدي إنك لو اتضايقتي من حد في المدرسة، أو حتى من أي تصرّف.. تبقي تقوليلي. أنا مش بس سايقك يا نيرفانا، أنا صاحبك اللي مبيتخلاش عنك.

– حاضر، ماشي.

وهي لا تدري أن تلك الابتسامة كانت تعلم ما حل بها في تلك الليلة   المظلمة  التي زرعت  في طريقها،
اهتز "شامل" كمن يفيق من غيبوبة الذاكرة المؤلمة، فأدرك أنه ما زال واقفًا أمام باب السيارة يحمل حقيبتها. التفتت إليه "نيرفانا" باستغراب طفولي:

– إيه يا أونكل؟ فيه حاجة؟

في تلك اللحظة، علم "شامل" أن ما حدث في تلك الليلة   المظلمة ، قد يتحول اليوم إلى قرار لا عودة فيه.

فتح لها الباب، ودفعها برفق للداخل، بينما عقله يرتّب الكلمات التي سيقولها لها اليوم، ليُشعل فتيل الجحيم الذي وعد به نفسه.

ركب مقعد القيادة، وضغط على دواسة البنزين بعنف، ينطلق بالسيارة كالسهم، محاولاً الهرب من شبح براءتها التي تزيده اشتعالاً.

قلب السلطة بقلمي مروه البطراوى 💜
قضت "ليلى" بقية يومها حبيسة جدران الجناح، لم يجرؤ أحد على الصعود إليها بعد خروج "دادة غالية"، التي تركت خلفها صينية طعام فارغة أدت مهمتها. شعرت "ليلى" بغربة مضاعفة، فلم يكلف "رائد" نفسه عناء الاطمئنان عليها ولو برسالة، فكانت الوحدة تلتهمها رويدًا رويدًا، حتى أرهقت روحها وجسدها.

حين أرخى الليلُ ستائره الثقيلة على المدينة، تمدّدت "ليلى" في فراشها المنهك، لا لتنام، بل لتستسلم لوهم الراحة الذي طال انتظاره. أغمضت عينيها، فاندفع الحلم إليها كفيضانٍ لا يُقاوم، كأنه كان ينتظر غفلتها ليبوح بما يُخفيه النهار.

وجدت نفسها تسير في ممر طويل، أرضه من مرآة، وجدرانه من دخان. كانت ترتدي فستانًا أبيض، باهت اللون، وكأنّه فستان زفافٍ نُسي طويلًا في دولاب الألم. تمشي، والريح تُلقي ببعض خصلاتها إلى الوراء، لا تدري إلى أين تمضي، لكن الخطى تدفعها، والمكان يُنادِيها.

وفجأة، توقف الزمن، وسمعت وقع أقدامٍ مألوف.

كان هو... "رائد". لكنه لم يأتِ كما تعرفه، بل كما تخافه.

شاحبًا، عيناه غارقتان في غموض كثيف، يتقدّم منها دون صوت، كأن الهواء نفسه يخشى أن يمرّ بينهما.

– رائد (بصوت مبحوح): "استني... ما تمشيش كده."

– ليلى (تتلفت حولها، ثم تهمس لنفسها): "أنا مشيت؟ ولا هو اللي سابني؟"

– رائد (يقترب): "أنا كنت تعبان... بس ما نسيتكيش لحظة."

– ليلى (بابتسامة مكسورة): "تعبان؟ التعب ما يمنعش اللي بيحب، إنّه يسأل... إنّه يسمع... إنّه يحسّ!"

في الحلم، كانت كلماتها تُقال وتُرَى... تتساقط من فمها حروفًا مشتعلة، ترتطم بالأرض، فتتحول إلى زهور ذابلة.

مدّ يده نحوها، لكنها لم تتحرك، لا لتقترب ولا لتبتعد.

– رائد (بصوت مُنهار): "أنا غلطت... بس رجعتلك... ليه كل ما أجي، ألقاكي قافلة الباب؟"

– ليلى (بنبرة حزينة تتكسر): "الباب؟ الباب اتقفل لما وقفت ورايا، بدل ما تسندني... اتقفل لما اخترت تسمع غيري، وتصدّق الكدب... اتقفل لما لقيتني بنهار، وسِبتني أوقع."

صمت... ثم ظهر حولهما مشهد آخر، وكأن الحلم قرّر أن يعرض تسجيلات الوجع القديمة.

ورأت "ليلى" نفسها، تقف أمام مرآة، لا ترى فيها وجهها، بل ترى وجه امرأة تُشبهها، تبتسم بينما قلبها يتفتت.

ورأت "رائد" يُسلّم ورقةً لشخص غريب، ويشيح بوجهه عنها.

ورأت ظلّها وهي ترحل، تحمل في يدها شيئًا لا يُرى... ربما كرامتها.

ثم عادت إلى الممر، و"رائد" أمامها، يهمس:

– رائد: "طب قوليلي أعمل إيه؟ قولي أرجّعك إزاي؟"

– ليلى (بدمعة تشق خدّها في الحلم): "ما بقاش ينفع... في حاجات لما بتتكسر، ما ينفعش تتلصم... بتفضل تجرح اللي يشيلها."

أراد أن يبكي... لكنه لم يستطع، ففي الأحلام لا يبكي إلا من صدّق الحقيقة.

وفجأة... بدأ الممر ينهار. الأرض التي من مرآة، تهشّمت تحت أقدامهما، والدخان أصبح كثيفًا حتى غطّى وجهه.

صرخت "ليلى": "رائد!!"

لكن صوته كان يأتي من بعيد، كأنه ندم مؤجل: "ما تسيبينيش..."

ثم... سقطت.

واستفاقت!

نهضت "ليلى" من نومها فزعة، ويدها على قلبها كأنها تُحاول أن تُوقف ارتجاف الذكرى.

نظرت حولها... الظلام يُحيط بالغرفة، وصوت أذان الفجر يتسلّل من النافذة، يبعث بالسكينة رغم قسوة الحلم:

"إنَّ قرآن الفجر كان مشهودًا..."

همست لنفسها، وهي تفرق أثر الكابوس عن الواقع: "كان حلم... بس الوجع كان حقيقي."

ثم قامت، وسارت نحو نافذتها، فتحتها بهدوء، ورفعت عينيها نحو السماء، وقالت في لحظة صدق نادرة، تقرّر فيها أن تسترد نفسها من قبضته:

– ليلى (بصوت ساكن، قوي): "اللهم إني أستودعتك قلبي... فلا تُعيده إلا لمن يقدّره."

---

قلب السلطة بقلمي مروه البطراوى 💜
على عكس "ليلى" التي استفاقت من كابوسها، لم يكن "رائد" قد استسلم للنوم العميق من الأساس. كان يقظًا في مكتبه الملحق بجناحه، محاطًا بسكون الفجر الذي لم يكسره سوى صوت نقراته الخافتة على لوحة مفاتيح حاسوبه المحمول. كان يرتدي رداءً داكنًا، ووجهه خالٍ من كل مظاهر التحدي التي يرتديها أمام الآخرين؛ وجه قاسٍ، عليه علامات إرهاق وتفكير عميق.

كانت الساعة تشير إلى الخامسة صباحًا، والضوء الرمادي يغزو الغرفة عبر النافذة. رفع رأسه فجأة نحو هاتفه المحمول الذي ضاء فجأة، يظهر عليه اسم "عادل".

تناول الهاتف بنبرة أمرة، لا تقبل النقاش:

– أيوه يا عادل، إيه الأخبار؟

جاءه صوت "عادل" عبر الخط، يشي بالتوتر والحذر:

"صباح الخير يا رائد بيه.. لقيت المصدر تاني بيحاول يرسل نسخ إضافية، بس قدرنا نوقف العملية دي دلوقتي."

تمتم "رائد" بضيق وهو يضغط على عظام فكه:

– "دلوقتي" دي مش كافية يا عادل. أنا عايز المصدر ده يتكشف بالكامل. عايز أعرف مين بالظبط بيراقبنا، ومين معاه النسخ دي؟

"شغالين على الموضوع يا بيه، بس واضح إن الطرف ده محترف جداً في التخفي. الموضوع مش سهل زي ما كنا متوقعين. في حاجة تانية.. في محاولات للاختراق من نفس الآي بي اللي أرسل الرسالة، وكأنه بيجس النبض."

– "يجس النبض؟!" سخر "رائد" ببرود قاتل: – يبقى لازم نحرقه. جهز "حازم"  و أمر الراجل بتاعنا يتصرف في حدود اللي اتفقنا عليه. عايز الموضوع ده يخلص قبل ما النهار يطلع. أي فيديو ينزل، أنا مش هسامح في الموضوع ده.

ساد صمت على الخط، ثم سأل "عادل" بحذر مبرراً:

"وبخصوص الإجراء اللي طلبته مني بخصوص المدام.. هل ده إجراء مؤقت ولا نجهزه بشكل دائم؟ زي ما حضرتك عارف، الأمر ده هيثير شكوك كتير."

لم ينظر "رائد" إلى أي شيء، لكن عيناه كانت تنظران إلى المستقبل المظلم الذي يراه، فأجاب بنبرة حادة لا تحتمل السؤال:

– نفذ اللي طلبته بالظبط، وبدون سؤال. دي حماية مؤقتة.. لحد ما ألعب لعبتي أنا وأقفل الملف ده من جذوره.

"تمام يا بيه.. أمرك يتنفذ دلوقتي."

أغلق "رائد" الهاتف دون كلمة وداع، وألقاه على المكتب بعنف، ثم وضع مرفقيه على الطاولة وغطى وجهه بيديه، وكأنه يحاول احتواء العالم الذي ينهار حوله.

همس لنفسه بتهديد خافت، حاد، يمزج بين القلق والسيطرة:

– لازم أتصرف... لازم أتصرف قبل ما أخسر كل حاجة.

ثم رفع رأسه فجأة، وأعاد تشغيل الحاسوب، وبدأ في العمل مجدداً كأنه لم ينم منذ أيام.

---

بينما كانت "ليلى" تحاول استعادة هدوء قلبها، كانت نيرفانا  "" في غرفتها  الخاصة، تقف أمام زجاج نافذتها الشاسع، تراقب ضوء الفجر الخجول وهو يطرد بقايا الظلام. لم تنم "نيرفانا " سوى ساعات قليلة، فكانت روحها متأججة ومصممة نتذكر ما حدث اليوم معها ، كان "شامل" يقود "نيرفانا" بصمت، صمت ثقيل يشبه الليل الذي أرخته ليلى على غرفتها.

نيرفانا جلست ، تتأمل الطريق من نافذة السيارة، وتعيد في ذهنها كلام "شامل"، ذلك الحديث البسيط
الذي خفي تحته ما لا تدريه بعد. كان صوته الهادئ، وابتسامته ، يثيران شعورًا غريبًا من القلق والفضول معًا.

– شامل (بصوت خافت، كما لو كان يتحدث لنيرفانا ونفسه في آن واحد):
حصل أي حاجة يا نيرفانا ؟…  


غير معرف
غير معرف
تعليقات