رواية شظايا قلوب محترقة ( وكأنها لي الحياة ) الجزء الثانى الفصل السادس والثلاثون 36 بقلم سيلا وليد


 رواية شظايا قلوب محترقة ( وكأنها لي الحياة ) الجزء الثانى الفصل السادس والثلاثون 

"لا إله إلاّ أنت سبحانك إني كنت من الظالمين" 

ما أثقل أن تحمل قلبًا مزدحمًا بالصمت، يصرخ ولا يسمعه أحد
وما أشد أن تمضي بخطواتك فيما روحك واقفة في مكانها

وما أقسى أن يضيق صدرك دون سبب واضح، كأن الهواء نفسه يهرب منك.

مؤلمٌ أن تشعر بأن الأشياء من حولك شاحبة
والوجوه تمرّ بك بلا معنى
وكأن العالم صفحة فارغة لا تترك عليها بصمتك.

ويبلغ الألم ذروته حين يلاحقك شعور غامض بالذنب، وتُحاكم على شيء لا تعرف ملامحه ولا حتى اسمه
فتبقى عالقًا بين سؤال لا يُجاب، ووجع لا يُفهم.

قبل عقد القران بشهرين..
بمنزل إلياس تحديدًا مكتبه.

دلف مالك وألقى تحيَّة المساء بصوتٍ هادئ، رفع إليه إلياس نظرةً مُنهكة ثم أشار له بالجلوس دون كلمة.

جلس مالك ووضع ملفًّا أمامه على المكتب قائلًا: 

_هنا كلِّ حاجة وكمان بالصور والفيديوهات.

قطَّب إلياس حاجبيه يردِّد بدهشةٍ منخفضة:

_فيديوهات؟!!

_أيوة، لقطات دخول وخروج العمارة؛ بس زي ماقولتلك قبل كده الكاميرات اتعطَّلت قبل دخول رولا بنصِّ ساعة، وفضلت كده لتاني يوم.

أطبق إلياس أصابعه على القلم وضرب به سطح المكتب علامةً على بدء انشغال وتشوُّش عقله؛ حتَّى شردت عينيه وهو يربط بين الأحداث المبعثرة.

_يعني وقت ماراحت لرؤى السجن نقول الكاميرات اتعطَّلت.

هزَّ مالك رأسه مستغربًا إصراره:

_ليه مُصِرّ إنِّ المكان ده مربوط برولا؟

نهض إلياس واتَّجه ليجلس مقابله:

ماتربط الأحداث يا مالك…
واحدة خرجت من السجن وبعد كده راحت مكان أوَّل مرَّة تروحه، بدليل إنَّها ماكنتش عارفة الطريق وكلِّمت أوبر يوصَّلها، وسايبة عربيِّتها قدَّام السجن..ده احتمال.

توقَّف لحظة، ثم اخفض صوته بنبرةٍ أعمق:

_الاحتمال التاني..إنِّ رؤى قالتلها ماتركبش عربيِّتها لأنَّها عارفة إنِّي بحطّ جهاز تتبُّع، وبرضه هنا رؤى هيَّ اللي بعتتها.

تاه مالك بحديثه، ثم نظر إليه: 

_جايز، بس ليه راحت هناك؟ واللي عرفناه إنِّ الشقَّة ملك لدكتور قاعد برّة، والبوَّاب بيأجَّرها من وراه.

مطَّ إلياس شفتيه، وردَّ بنبرةِ خبيرٍ اعتاد المكر:

_وده ذكاء، علشان الشقَّة ماتبانش مشبوهة، ويبعد عنها أيِّ عين ممكن تراقب.

وقبل أن يكمل، انفتح الباب ودخل أرسلان بخطواتٍ سريعة:

_ميرال قالتلي إنَّك عايزني.

لوَّح له إلياس:

_تعال يا أرسلان…

ثم أعاد نظره إلى مالك:

صورة الراجل مش باينة، بس نقدر نودِّيها لرسَّام محترف يوضَّح الملامح، إيه رأيك؟

أومأ مالك:

_تمام، أه وفي حاجة كمان، بالنسبة لفريق الأمن اللي في العاصمة بلَّغوا إنِّ في شخص هاجم الفيلَّا كذا مرَّة، وهدَّد صاحبتها بالقتل.

اشتدَّ فكُّ إلياس:

شوف المطلوب واتصرَّف..مش عايز البنت تتأذي، ولو وصلت إنِّ تحبسوه احبسوه، مش ناقص صداع.

تنحنح مالك بتردُّد:

_ده متقدِّم لمجلس الشعب..يعني حصانة وشغل.

رفع إلياس عينيه إليه بغضبٍ مكبوت:

_مالك…دماغك مش شغَّالة ولَّا إيه؟ إنتَ لسَّه بتقول متقدِّم يعني مش نائب، ولا حصانة ولا زفت..
لو حاول تاني ارموه السجن بتهمة التهديد والسطو المسلَّح والكاميرات هتثبت..
أنا مش جاي أشتغل بدالكم… لازمتكم إيه؟

خفض مالك رأسه فورًا:

_آسف يا إلياس هتابع بنفسي، همشي محتاج حاجة؟

أغلق إلياس الملف وأسند ظهره إلى المقعد، ثم زفر من صدره ضيقة واضحة:

_إنتَ حصل معاك حاجة؟ بقالك كام يوم مش طبيعي.

لوَّح بكفِّه وردَّ بخفوت:

_لا… أبدًا، إرهاق شغل بس، يلَّا سلام.

قالها وهو يشيح بوجهه، طالعه أرسلان بهدوء: 

_مالك غضبان ليه؟ اهدى شوية، أنا شايفهم إنُّهم مش مقصِّرين. 
_مقصرين يا أرسلان، لمَّا يسألوا عن تفاهات يبقى مقصِّرين، المهمّ سيبك من دا كلُّه واسمعني كويس، ومش عايز حرف من اللي بقوله يطلع بينَّا حتى غرام. 
قطَّب جبينه بقلق وتساءل:
_خير قلقتني؟ 
_بنت يزن. 
قطَّب جبينه بجهل: 
_مش فاهم. 
تنحنح الياس وتحرَّك من مكانه متَّجهًا إلى الأريكة، جلس يستند بظهره عليها وعيناه للسقف:
_رؤى... 
توقَّف أرسلان مقتربًا من مكانه وجلس بجواره: 
_مش فاهم، إيه علاقة بنت يزن برؤى؟. 
اعتدل ينظر إليه: 
_على تواصل مع رؤى يا أرسلان، البنت زارتها من فترة مرَّة، ومعرفش إيه اللي حصل بينهم، في فترة تعب بابا وانشغالنا كلِّنا رؤى سحبت البنت لعندها. 
هزَّ رأسه بعدم معرفة: 
_يابني مش فاهم قصدك، إزاي رولا وصلت لها وهيَّ في السجن، ولَّا التانية خرجت؟.
مسح إلياس على وجهه وقال: 
_فاكر يوم مابلال كلِّمك وسألك عن تليفون رولا..وإنَّها في عيد ميلاد؟.
حاول أرسلان التذكُّر، فأومأ له وقال: 
_أيوة إنتَ وقتها اتَّصلت بمالك وعرفت مكانها وكمان خلِّيتني أقولُّهم يسيبوا المكان، وقتها سألتك فيه إيه بس ماما اتَّصلت بتعب بابا وانشغلنا وأنا نسيت. 
حكَّ إلياس جبينه بقوَّة حتى كاد أن يقتلع جلده: 
_للأسف انشغلنا الأيَّام دي، أنا شكِّيت وأمرت الفريق يدوَّر ورا الموضوع دا، وللأسف لمَّا حبُّوا يخبَّروني بابا تعب وسافرنا علشان العملية، ولمَّا رجعت عرفت بقى اللي وجع قلبي أوي 
يا أرسلان. 
طالعه أرسلان بعينٍ متألِّمة يستفهم مايتلفَّظ به:
_إنتَ تقصد إيه؟

صمت إلياس، حتى شعر إن تكلَّم  ستصبح الكلمات كثعبانٍ سام يلتفُّ حولهم..ورغم ذلك رفع عيناه وتمتم  بصوتٍ خافت، وكأنَّه يخشى ردَّة فعله:

_رؤى استخدمت البنت بحقارتها… والبنت دفعت التمن.

هزَّ أرسلان رأسه بعنف، كأنَّ الكلمة صفعة، فاتَّسعت عيناه وتحوَّلت للون الغضب المشتعل تترجمه ملامحه:

_أوعى..أوعى يكون اللي فهمته صح… وإنِّ البنت كانت في مكان مشبوه…و…

أطبق إلياس جفنيه بقوَّة، كأنَّ الألم يطحن رأسه.
هَبَّ أرسلان واقفًا، يدور في الغرفة كوحشٍ جريح، يعضُّ على شفته حتى تلوَّنت بالدم:

_آاااه يا بنت الكلب!

ركل المقعد بغلّ، ثم التفت إلى إلياس بنظراتٍ تشتعل نارًا:

_كانت فين حراستك يا باشا..طيب إحنا انشغلنا، همَّا كمان كانوا فين، إزاي حاجة زي دي يعدُّوها..إزاي يقصَّروا بالشكل دا؟

رفع إلياس كفِّه بنفاد صبر:

_أرسلان..أنا مش جايبك علشان تحاسبني اللي حصل حصل خلاص، اقعد واسمعني.

_أسمع إيه؟! بلال النهاردة جاي وعايز يتجوِّزها!

سكت فجأة، كأنَّ ضربة غير مرئية أصابته.
راح يربط الأحداث، ترنَّح قليلًا، ثم هوى على المقعد حينما أصبحت ساقاه لم تعودا تقويان على حمله:

_يعني..بلال عارف اللي حصل علشان كدا؟..

قبض يده بقوَّة حتى ابيضَّت مفاصله، يطالع صمت إلياس بتوتُّرٍ يخنق:

_وبعد كدا؟

تنفَّس إلياس بعمق، وصوته خرج واهنًا:

_معرفش..اقعد مع ابنك وافهم منُّه، قبل مانروح ليزن.

شهق أرسلان كأنَّه يختنق:

_يعني البنت فعلًا…

عجز لسانه عن نطق الكلمة..
أطلقت أنفاسه زفرة حارقة تهزُّ صدره، تعرِّي ألمه:

_إزاي بلال؟ مظنِّش..مش بلال!!

أخفض إلياس صوته:

_أنا قولت لك إمبارح الولاد بيخطَّطوا لحاجة..وشكِّي زاد بعد زيارة يوسف لرؤى..إزاي يروح لها بعد اللي عرفه؟ ده المفروض كان قتلها الزبالة دي.

_هنستفاد إيه دلوقتي يا إلياس؟
اقترب إلياس، وقال بصوتٍ محمَّل بحذرٍ ثقيل:
_متخافش، هتتحاسب بس دلوقتي لازم نفهم بلال وصل لفين، لازم نعرف هنقول إيه ليزن..مش عايزين نفكِّك العيلة، بلال شايفها شهامة بيحاول يعمل اللي يقدر عليه..بس هل هيقدر يتحمِّل بعد كدا؟

رفع إرسلان  نظره إليه وقال بنبرةٍ تختلط فيها الأب والقائد:

-أنا مستحيل أظلم ابني ولا أظلم البنت..دي بنتي ودا ابني، البنت اتأذت ودا اللي وصَّل يزن للحالة دي.
_هتقول ايه ليزن؟ 
_اعرف قرار بلال الأوَّل، الموضوع مش سهل، ممكن عملها شهامة، وممكن يكون يزن طلب منُّه، أو اتِّفاق مع رولا. 

تجمَّد أرسلان يغلي من الداخل، لكن في عينيه بريق خوف..خوف من القرار الذي اتَّخذه ابنه، وخوف أكبر من الحقيقة التي ستصفعه بعدما يتذكَّر ماصار. 

انحنى أرسلان بكتفيه قليلًا، كأنَّ الحمل أثقل من صدره، صوته خرج متقطِّعًا:

_مش عارف أقولَّك إيه..حقيقي مش عارف، بس مقدرش أغصبه على حاجة.

لم يتركه إلياس يهرب من المواجهة، قال بحزمٍ هادئ:

ماقولتش تغصبه..قلت تقعد معاه وتشوفه..واجهه..الجواز دا عن حب ولَّا لأ؟

اقترب خطوة، ينبش داخل خوف الأخ والأب:

_أنا مش هلفِّ وأدور عليك يا أرسلان… اتمنِّيت بعد جواز يوسف، إنِّ بلال يتجوز واحدة من البنات سواء شمس أو رولا..علشان العيلة، محبِّتش بنتي تخرج برَّة، وموضوع حمزة قلب عليَّ المواجع، رغم فرق السن اللي بينه وبين شمس، بس دا ابن عمَّها..ومهما حصل بينهم مش هيجرحها، ولا هيقول لها أمِّك ولا أبوكي، وخصوصًا بظروفنا دي.

توقَّف لحظة، وكأنَّه يزن كلماته قبل أن يرميها:

بس معرفتش أوصَّلها له إزاي… خصوصًا بعد علاقته بشمس، وتعلُّق شمس بابنِ إسحاق، ورولا اللي هوَّ شايفها أخوية أكتر من أيِّ حاجة تانية.

انخفضت نظرات أرسلان نحو الأرض، وكأنَّه يحاول إيجاد جواب لم يُخلق بعد:

_طيب وبعدين؟

أشار إلياس بإصبعه:

بعدين دي عند ابنك..هل الجواز دا تحسين لصورتها قدَّام المستقبل، ولَّا حصل مشاعر بينهم..هل بلال شايف إنُّه بيسترها بس، ولَّا بيختارها؟

ابتلع أرسلان ريقه بصعوبة، والصراع بدا واضحًا في صوته:

_خلاص هشوفه، وهردّ عليك.

تردِّ عليَّ قبل مانروح ليزن علشان نعرف هنقول إيه.

هزَّ رأسه بتعب، ثم نهض بخطواتٍ  أثقل ممَّا يحتمل جسده، كأنه يُجرُّ قلبه خلفه.
بعد فترةٍ طويلة من الشرود، ظلَّ أرسلان جالسًا في حديقة منزله يحدِّق في الفراغ، وكلمات إلياس ماتزال تخنقه كحبلٍ يلتفُّ حول عنقه..عقله غارقًا فقط في سؤالٍ واحد:
هل يستطيع ابنه أن يكون رجلًا، رجلًا بحق..أم أنَّ رجولته تلك ستتجاوز الكرامة وتجرُّ الفتاة للهاوية بدل برَّ الأمان؟

اقتربت غرام وهي تحمل فنجانين من القهوة، ابتسامة خفيفة على ثغرها: 

_عملت قهوة نشربها سوا، من زمان قوي مقعدناش قعدة صافية.

رفع عينيه إليها بضياع، كأنَّه يسمع ولا يفهم..كلُّ مايشغل ذهنه كان أثقل من أن يشاركه مع أحد.

وضعت كفَّها على كتفه برفق، تميل برأسها لتقرأ ملامحه:

-مالك يا أرسلان؟

التفت إليها..نظرةٌ واحدة لرجلٍ ينهار بصمت، لحظاتُ صمتٍ خانقة ثم همس بصوتٍ مخنوق:

_مفيش..مش كنتي رايحة لضي؟

ابتسمت بخفوت:

_أه، كلِّمتني وقالت هتروح مع شمس يعملوا شوبينج.

أومأ لها بلا كلمة، بقيت تحدِّق به لحظات، ثم ضاقت عيناها شكًّا:

_إلياس قالَّك حاجة زعَّلتك، مش المفروض كنت رايح تكلِّمه في موضوع بلال؟

أخرج تنهيدةً طويلة..تنهيدةٌ تحمل ثقل مايشعر به:

_كلَّمته وقالِّي موافق، بس قالِّي اتأكد من قرار بلال…مينفعش يرجع بعد كده في كلامه، إحنا أهل والرجوع بعد الموافقة هيشتِّت العيلة.

هزَّت رأسها باقتناع، ثم قالت بصراحةٍ لا تخلو من القلق:

_مش هضحك عليك قرار بلال فاجئني، خصوصًا وإحنا عارفين دلع رولا وعصبيِّة بلال، بس دي حياته مقدرش أتدخل مدام هوَّ حابب البنت خلاص.

مرَّر يده على وجهه بقوَّة وكأنَّه يحاول أن يحرق الأفكار التي تنهشه، كان الصمت داخل صدره صراخًا يشتعل ويأكل كلَّ شيء.

_ياالله..كيف يتحمَّل أبٌ جرمًا كهذا؟ جرمًا يأتيه من شخص هو أقرب له من أنفاسه…
كيف يتعايش مع سرٍّ قادرٌ على أن يعصر قلبه حتى الرماد؟

تمتمت غرام بقلقٍ وهي ترى ملامحه تتمزَّق:

_أرسلان..فيه إيه، وليه شكلك كده؟

أغلق عينيه بشدَّة:

_غرام عندي صداع، صدَّقيني مش قادر أتكلِّم دلوقتي.

ولكن قطع اللحظة صوتُ بلال:

_حضرتك طلبتني يا بابا؟

رفع أرسلان رأسه ببطء…دقَّق النظر في وجه ابنه طويلًا، نظرة فاحصة..نظرة أبٍ يحاول أن يقرأ أبعد من الملامح، يحاول أن  يعرف إن كان ماسيُقدم عليه ابنه هل طريق نجاة..أم طريق هلاك؟

أشار له بالتقدُّم، ثم التفت إلى غرام:

سبيني شوية مع بلال، واعمليلي قهوة غير دي، بردت.

تطلَّعت إليه…نظرة صامتة لكنَّها مليئة بالأسئلة، كانت عيناه ترجوانها للمرَّة الأولى..
أومأت دون نقاش ونهضت متَّجهةً للداخل.

وبقي أرسلان ينظر إلى بلال بصمتٍ يخنقه.

ساد الصمتُ فترةً ثقيلة، ونظراته تتفحَّص ملامح ابنه ثم قال بصوتٍ منخفض لكنَّه نافذ:
_عايز أعرف كلِّ حاجة عن موضوع رولا، أنا بثق في ابني ومتأكِّد إنُّه عمره مايخذل أبوه، وكمان عرفت كلِّ اللي حصل وكبرت أوي في نظري يا بلال..بس دا مايمنعش إنَّك تقولِّي إنتَ ناوي على إيه؟

توتَّرت نظرات بلال، ومرَّر أصابعه بقلق في خصلاته، قبل أن يهمس:
_مش فاهم حضرتك تقصد إيه؟

تنفَّس أرسلان بعمقٍ ثقيل ثم قال:
_أنا وعمَّك عرفنا اللي حصل لرولا.. ومقدَّرين موقفك، بس لازم أفهم طبيعة الجواز دا..الجواز اللي بشروط باطل يابني.

أطرق بلال برأسه قليلًا، وقال بصوتٍ خرج مزيجًا من الحذر والصدق:
_بابا..الأوَّل دا مش جواز كامل، وبما إنَّك عرفت فالموضوع كلُّه إنقاذ للموقف، علشان محدِّش يكسر عمِّي يزن ولا رولا.
إحنا هنفضل إخوات والجواز كلُّه ورق، ودا اللي قلته لعمُّو يزن، هوَّ في الأوَّل رفض بس أنا ويوسف أقنعناه..
ومحدش غيرنا كان هيعرف، ولا كنَّا عايزين حد يعرف.

رفعت كلمات بلال شيئًا من قلق أرسلان، لكن لم تُطفئ النار في عينيه، 
فقال بحدَّةٍ هادئة:
_بس دا مش صح يا بلال.

تحرَّك بلال من مكانه، وكأنَّه يبحث عن الكلمات:
_الكلام دا يا بابا لو أنا عايز أتجوِّزها بجد، إنَّما أنا مش شايفها غير إنَّها أخت..مش شايف فيها زوجة ولا حبيبة.

أمال أرسلان رأسه قليلًا:
_ويوسف ما كان شايف ضي كده، 
هل علاقته بأختك زي ماإنتَ شايف رولا هل هيفضل شوية ويطلَّقها؟

تسمَّرت عينَا بلال، واتَّسعتا بصدمةٍ مكتومة فشهق بخفَّة، كمن لم يتوقع الضربة:
_لا طبعًا…على ماأظن علاقتهم غير.

اقترب أرسلان بنظره منه، يضغط على موضعٍ يعرف أنَّه مؤلم:
_ليه يا دكتور، مش كان الجواز إنقاذ للموقف علشان يوسف مايسافرش، 
هو ماقلَّكش حاجة عن حياته مع ضي؟

تجمَّد بلال وتسابقت دقَّات قلبه مع صمته..ثم رفع وجهه شاحبًا وكأنَّ والده يصفعه بشيءِ غير واضح:
_لا، يوسف غيري وأنا حاسس إنُّه بيحبِّ ضي فعلًا.
مسح وجهه بكفِّه بعنف:
_لا. مش عارف يا بابا.

أومأ أرسلان برأسه بأسى ثقيل:
_أكيد مش هتبقى عارف لأنَّك ما تختلفش عنُّه.

ارتفع صوت بلال قليلًا، لكنَّه ظلَّ متَّزنًا:
_بابا، رولا أخت زيَّها زي ضي.

تغيَّر وجه أرسلان، كأنَّ الكلمات أوجعته من الداخل:
_اللي بتقوله دا ماينفعش يابن أرسلان، 
أنا شكلي قدَّام يزن إيه  وإنتَ ناوي تطلَّق بنته من قبل ماتتجوَّزها؟
إنت َمتعرفش كسرة الأب في ضناه يا بلال..والبنت صغيرة تطلع مطلَّقة بعد فترة إزاي يتقبَّل دا؟

تراجع بلال خطوة، وصوته خرج مكسور الإرادة:
_طب مطلوب منِّي إيه دلوقتي؟

سأله أرسلان بصراحة جارحة:
_يعني مفيش أمل تتجوِّزها جواز كامل؟

قالها بلال بسرعة دون تردُّد، وكأنَّه يخشى أن يلين قلبه إن تأخَّر:
_لا.
ثم وقف وثقلُ القرار يهبط على كتفيه.. وقال: 

_يوسف كان هيكتب عليها..وكان هيعمل اللي أنا هعمله، 
بس أنا رفضت علشان ضي..
فالموضوع مش محتاج ترتيبات، دا إنقاذ للموقف وبس.
وكمان رولا شايفاني أخ.
_يعني الكلام هيكون مع يزن على أساس فترة؟
_أه يابابا، وكلامي مش هيتغيَّر. 
_تمام يا بلال..روح شوف شغلك 

داخل منزل يزن وخاصَّةً مكتبه..

جلس يزن خلف مكتبه بظهرٍ منحني قليلًا، وكتفاه يهبطان مع كلِّ زفير كأنَّ روحه تُسحب منه بالتدريج.

دخل إلياس بجوار أرسلان بخطواتٍ هادئة، لكنَّهما لم يستطيعا تجاهل ملامح يزن…تلك الهزيمة التي لم يُرَ مثلها على وجه رجلٍ مثله.

جلس إلياس أمامه يتأمَّله لحظة..ثم قال بصوتٍ خافت:
_يزن..أنا آسف، منكرش عرفت الموضوع من فترة بسيطة، بس كنت بتأكِّد من شوية حاجات.

لم يرفع يزن رأسه فورًا..ظلَّ ينظر إلى نقطةٍ ثابتة بالغرفة، كأنَّ الإجابة تحتاج قوَّة لم تعد لديه.
ثم قال بصوتٍ مبحوح، متشقِّق بالحزن:
_للأسف يا إلياس، اللي حصل حصل مبقاش ينفع نعمل حاجة.

تبادل إلياس أنفاسًا ثقيلة، ثم قال:
_طيب…ورأيك إيه في قرار بلال، 
إنتَ موافق على الجواز دا؟
هوَّ بيقول فترة وكلِّ واحد يرجع لحياته…دا هينفع؟

هنا فقط رفع يزن عينه إليه، ليست عين رجل.. بل عينُ أبٍ كُسرت إحدى ضلوعه.
هزَّ كتفه ببطء، بصوتٍ يخرج وكأنَّه يخشى أن ينهار إذا تكلَّم أعلى:

مضطَّر أوافق..مضطَّر ومجبر مش مخيَّر للأسف.

مرَّر كفِّه على وجهه، وابتلع دموعًا تأبى الاحتمال..
ثم تابع مختنقًا:
_لو عندك حل تاني قولِّي..
أروح أتحايل على رؤى، عشان تقولِّي مين عمل كدا؟ طب بعد كدا 
هياخدها ويتجوِّزها، واحد واطي وندل زي دا. 

ضرب بيده على صدره بخفَّة، كأنَّه يطعن نفسه:
_إنتَ ترضى تجوِّز بنتك لواحد زي دا حتى لو إنقاذ؟.

اهتزَّ صوته ونزلت حدَّة نظره إلى الياس:
_أنا عندي تفضل طول حياتها كدا…
ولا أحطِّ إيدي في إيد مغتـ صب.

قاطعه أرسلان لحظة، والنيران تشتعل في قلبه، ثم قال بنبرةٍ ثقيلة:
_يزن صح.
أنا متأكِّد إنُّهم عملوا كدا علشان يكسروه…ومش بعيد يطلعوا يهدِّدوا بحاجة تانية بعد كدا.

تشنَّج فكُّ يزن، ثم مدَّ يده إلى درج مكتبه، فتحه ببطءٍ كأنَّ كلَّ حركةٍ تحتاج إرادةٍ يصعب تجميعها..أخرج ورقة مطويَّة ويداه ترتجفان برعشةٍ واضحة، وضعها أمامهما:

_دي، الورقة اللي بلال لاقاها معاها الليلة دي.

اقتربت أنفاس إلياس من الورقة دون أن يلمسها، بينما تابع يزن وصوته يذوب كخيطٍ ينقطع:

_مكتوب عليها جواز عرفي، ورولا ماضية.

ارتجفت شفته السفلى، فشَدَّ عليها بأسنانه ليحافظ على ماتبقَّى من تماسكه..
وأضاف بصوتٍ بالكاد يُسمع:

والاسم اللي جنبها اسم مش موجود، رحيل دوَّرت…أنا كلِّمت ناس كتير، 
بس في الآخر قولت مش هدوَّر تاني.

توقَّفت أنفاسه نصف ثانية، ثم أشار بإصبعه المرتعش إلى التوقيع:

وخصوصًا إنِّ العقد دا مزوَّر..
الإمضاء مطبوع مش بخطِّ إيدها.

ثم أغلق عينيه لحظةً طويلة لتنزل دمعةٌ واحدة سريعة، مسحها بيده قبل أن يروها.
لقد حاول أن يكون قويًّا…لكنَّه لم ينجُ من أن يكون أبًا مكسورًا.. 
_بلال صح..نجوِّزهم فترة وكلِّ واحد يرجع لحياته، مستحيل أمِّنها لحدِّ تاني، أخوها ميعرفش حتى ميرال لمَّا جت تسألني..ماعرَّفتهاش.
توقَّف أرسلان وسكب بعض المياه وقدَّمها إليه، ثم قال:
_ولا عاش اللي يكسرك، وربِّ العزَّة لناخد حقَّها، ووعد مفيش حدِّ غيرنا يعرف، ولا حتى غرام هقولَّها حاجة، رولا زيَّها زي ضي..وأنا بوعدك هجيبه وتاخد حقَّك منُّه، إنَّما أختك دي عايزة ميِّة نار ونحطَّها فيها. 
كان إلياس يستمع إليهما بصمتٍ إلى أن قال:
_لو كنت ناوي تروح لها بلاش، أوعى تعبَّرها، بكرة هروح لها وأشوف أخرتها إيه. 

عند رولا ويوسف..
دلفت معه إلى أحد المقاهي المطلَّة على النيل، جلست بصمتٍ بينما هو يحاول أن يلتقط أنفاسه: 

_تشربي إيه؟
_أي حاجة..مش فارقة.

حلَّ بينهما سكونٌ ثقيل، لا يُسمع فيه سوى ارتطام الماء بحافَّة النهر..ظلَّ كلاهما يحدِّق في صفحة النيل إلى أن قطع يوسف ذلك الصمت المخنوق:

_يوم مابابا فرض عليَّ جوازي من ضي..كنت حاسس زي اللي اتكتب عليه الإعدام، الدنيا ضاقت بيَّا، وكلِّ ماموعد الفرح يقرَّب…قلبي يتقبض وكأنِّ حد بيطفِّي نوري بإيده، كنت بسأل نفسي: إزاي أتجوِّز واحدة مش شايفها غير إنَّها أختي؟
تنهَّد بعمق قبل أن يكمل:
_مع إنِّ شخصيِّتها كانت عاجباني… بس القلب له أحكام تانية، وإنتي شايفة مكنش بينَّا حياة أصلًا.

كانت رولا تستمع إليه بإنصاتٍ حقيقي، كأنَّها تستعيد معه أطياف الماضي المؤلم..التفت هو إليها فجأة:

_فيه فرق كبير بين حد تشوفيه قريب وزي أخوكي، وبين إن نفس الحدِّ دا بعد فترة يبقى ملكك، حياتي اتقلبت مليون درجة..حاولت أقبل فكرة إنَّها مراتي، وإنِّ دا أمر واقع..لحدِّ مابقت ضي هيَّ الحياة ذاتها.
ارتسمت على ملامحه ابتسامةٌ هادئة دافئة:
_رغم جنانها…رغم قوِّتها…سكنت روحي، ساعات بسأل نفسي إزاي البنت اللي كانت زي أخت تبقى واخدة كياني كلُّه؟!

أفلتت منه ضحكةً خفيفة، والذكرى تلمع في عينيه:
_حبِّيتها بكلِّ حالاتِها وبقيت مستعدِّ أتنازل، وأسيب شخصيِّتي كلَّها تتكسر، بس ماشوفشِ دموعها، المهم أشوف ابتسامتها.

تنهَّد، وعاد ينظر إلى النيل الذي يشبه داخله:
_أنا بحكيلِك كدا علشان أقولِّك شوفي إحنا كنَّا فين وبقينا فين، ليه أنتوا كمان متبقوش زيِّنا؟

هنا، انفرطت كلمة رولا كأنَّها حجرٌ سقط في قلبه:
_يوسف…بلال فيه واحدة في حياته.

رفع رأسه إليها بسرعة، و تغيَّر وجهه بالكامل، كأنَّ صاعقة ضربته:
_إيه اللي بتقوليه دا؟!

لم تستطع أن تمنع ابتسامتها الحزينة من أن تظهر…تلك الابتسامة التي تُولد من الخذلان لا الفرح:
_شوفت في جيب البالطو بتاعه سلسلة لبنت وفيها صورتها، ومكتوب عليها "كارما".

صمتت بعد كلماتها…بينما شهقةٌ غير مسموعةٍ علقت في صدر يوسف، لا يعرف إن كانت دهشة، أم خوفٌ على صديقه…أم خشية ممَّا سيأتي بعدما علم بمن تكون. 
رفع عيناه إليها: 
_حتى لو زي مابتقولي، فيه قدَّامكم فترة، مش يمكن.. 
قاطعته سريعًا:
_ممكن مانتكلِّمش في الموضوع دا. 
_رولا فيه حد في حياتك؟ 
لمعت عيناها بالدموع وقالت:
_حتى لو..هل لي الحق إنِّي أحبِّ واتحب بعد كدا يا يوسف؟
_أنا مش عايز أجرحك وأقولِّك دا من صنع إيدك، بس لازم تقوي، مش هنبكي على اللبن المسكوب. 
أومأت بحزن وقالت:
_دا اللي ناوية أعمله، بس في الأوَّل لازم أواجه عمِّتو، ليه عملت فيَّ كدا؟
زمَّ شفتيه ساخرًا وكأنَّها طعنته: 
_علشان واطية للأسف، وضعيفة لدرجة إنَّها طعنتك في ضهرك، بلاش تواجهي، إنتي أكبر من إنِّك تضيَّعي وقتك معاها، رغم اعتراضي على تصرُّفاتك في الأوَّل لكن رولا يزن الشافعي لازم ترجع، ومبقاش عندك خيار إلَّا إنِّك ترجعي أقوى من الأوَّل، أولًا علشان باباكي ومامتك، وثانيًا علشان نفسك، بنت الشافعي محدِّش يكسرها، سمعتيني، والجواز هيتم مش علشان إحنا مكسورين، علشان نبني حياة تليق بينا، ومش عايز فكرة إنِّ بلال بيحبِّ واحدة تانية فلازم أتنازل علشان أنا مكسورة، إيَّاكي تعمليها، تبقي متستهليش اسم أبوكي. 

بمنزل إسحاق الجارحي..

دلف حمزة بعدما أذن له والده بفتورٍ لا يخلو من القسوة.
ورغم عقابه وابتعاده عنه الأيام الماضية، إلَّا أنَّ إسحاق أومأ له بدخول المكتب.
دخل بخطواتٍ تحمل عنادًا لا يُخفى، وجلس مقابله مباشرةً كمن يخوض حربًا.. 

فيه موضوع عايز آخد رأي حضرتك فيه.

رفع إسحاق حاجبه ببرود، لا يُظهر ترحيبًا ولا رفضًا، فقط صمتٌ ثقيلٌ يدفع حمزة للانفجار.

لم ينتظر، بل ألقى كلماته دفعةً واحدة:
_أنا مش عايز أكمِّل في الحربية..وقبل ماترفض مش علشان شمس، الموضوع دا خلص واتقفل، أنا عايز أفكَّر في شغل حر مش حابب القيود… حضرتك حاسس إنِّي مدفون، مفيش حرية..كلِّ حاجة بقيود.

تصلَّبت ملامح إسحاق، وصوته بدا كالسهم:
_بس دا مكانش رأيك يابن إسحاق في الأوَّل.

_فعلاً…قالها حمزة وهو يشدُّ على كفَّيه بعصبية:
_لأنِّي كنت منبهر بالكيان، الحربية حاجة كبيرة أوي.

_وإيه اللي اتغيَّر؟

انكمش حمزة لحظة، ثم انطلقت الكلمات من قلبه لا من عقله:
_خلاص يا بابا…مبقتش عايز أكمِّل، إحنا مبنشوفش بعض غير في الإجازات الرسمية!! غير إنِّي بكرة هتجوِّز..مش عايز يكون في فاصل بيني وبين ولادي، مش عايزهم يشوفوا أبوهم ضيف في البيت.

_ومين قالك كده؟ إنتَ دلوقتي مضغوط دا طبيعي، لسة في البداية.

_بابا، قالها وهو يزفر بقوَّة كمن أوشك أن يختنق:
_أنا أخدت قرار، وفكَّرت في شغل حر ليَّا.

زوى إسحاق مابين حاجبيه، وقال بنبرةٍ حادَّة:
_فكرت…وياترى إيه لزمتي؟

اهتزَّ فكُّ حمزة بغيظٍ مكبوت:
_بابا لو سمحت…دي حياتي أنا، أنا خلاص اتخنقت من الحربيَّة وبقيت كاره، يعني مش هتستفيد منِّي حاجة… وبدل ماأنفصل أخرج بكرامتي.

ارتفع صوت إسحاق بنبرةِ تهديدٍ صامت:
_يعني إيه يا حمزة؟

ابتلع حمزة ريقه ثم قال:
_عايز أفتح شركة سياحيَّة لكلِّ دول العالم، وكمان أستغلّ وظيفة الطيران دي بطيَّارات خاصَّة لبعثات وسفر خاص، دا شغل هيمشي وهيكبر..إيه رأي حضرتك؟

صمت إسحاق طويلًا، يطالعه بنظرةٍ لا تُقرأ، ثم استدار فجأةً إلى جهازه:

_هفكَّر…وأردِّ عليك.

وقف حمزة، وكأنَّه فقد آخر خيطٍ للصبر:
_أوكيه…بس متتأخَّرش، عندي تدريبات خارج الحدود ومش ناوي أحضر.

نطق تلك الكلمات التي أصبحت  كالانفجار ثم غادر تاركًا خلفه أبًا يختبئ في صمته، وابنًا يعلن تمرُّده الحقيقي.

بمنزل طارق..

توقَّف أمام المرآة يغلق أزرار حلَّته بعناية. 
دلفت هند بخطواتٍ هادئة، تحمل فنجان قهوته بين يديها: 

_عملت لك قهوة.

استدار بنصف جسده نحوها، لتتجلَّى ابتسامةٌ دافئة في ملامحه رغم إرهاقه:
_هاتيها يا حبيبتي لسة قدَّامي وقت.

اقتربت منه بحذرٍ مفعم بالاهتمام، وضعت الفنجان على الطاولة ثم وقفت أمامه، ترفع يديها لتساعده في عقد ربطة عنقه.
كانت أصابعها ترتجف بخفَّة، لكنَّه لم يعلِّق..
_هتقعد كام يوم؟

يومين يا حبيبتي وهرجع أسبوع، وعندنا افتتاح في شرم نصِّ الشهر… وبعده هسافر.

قالت بهمسٍ ونبرةٍ تخفي خوف فراقٍ جديد:
_ترجع بالسلامة يا حبيبي.
ثم صمتت وعيناها تتنقَّلان بين أزرار بذلته، تسأل قبل أن ترفع نظرها إليه:
_اتكلِّمت مع الحرباية أم ابنك، ولَّا لسة؟

كانت تحاول التظاهر بالصلابة، لكن نبرة السؤال فضحت قلقها.

_اتكلِّمنا…وعملت كلِّ اللي يلزم الطفل.

ارتجفت عيناها، وانخفض بصرها إلى الأرض وهي تتمتم بصوتٍ خافت:
هتشوفه كلِّ قدِّ إيه؟

رفع طارق ذقنها بلطف، ليجعلها تواجه عينيه مباشرة:
_هند، الولد هييجي هنا ويكون مع أخوه كلِّ أسبوع زي ماطلبتي.

ووافقت يا طارق؟
كان السؤال يحمل خوفًا مكتومًا، لا غيرة.

_وهيَّ تقدر ترفض يا حبيبتي؟

لم ينتظر ردَّها، بل سحبها إلى صدره بحنانٍ يبدِّد كلَّ شك، يمسِّد على خصلاتها بطمأنينةِ رجلٍ يريد أن يثبت لها أنَّها الأولى..والأهم.

_إنتي تؤمري بس، هند متعرفيش إنتي بالنسبة لي إيه.

حاوطت خصره بيديها، وأسندت رأسها إلى صدره، تتنهَّد براحةٍ تشبه شهيق حياةٍ جديدة:
_ربِّنا يديم سعادتنا يا حبيبي يارب.

مضت عدَّةُ أيامٍ والوضع كما هو..
بمنزل إلياس، كان منهمكًا على جهازه يحدِّق في الشاشة دون أن يرى شيئًا، بينما كانت هي تجلس بمقابلته، وصمتٌ ثقيلٌ يحاصر الغرفة كأنَّه حاجز زجاجيٌّ يُبعد كلًّا منهما عن الآخر.

همست قائلة:
_إلياس..ماقولتش إيه اللي حصل عند يزن، وليه بلال عايز يتجوِّز رولا؟

رفع رأسه بحركةٍ بطيئة:
_علشان دا اللي المفروض يحصل… مش عايز تفكُّك في العيلة، وعقبال آسر وشمس إن شاء الله.

شهقت تضرب صدرها بذهول:
_يانهار أبيض! إيه اللي بتقوله دا؟! اللي ناوي عليه دا مستحيــل!!

ألقى قلمه بعنف على المكتب، وطالعها بتحذيرٍ غاضب:
_دا اللي لازم تقولي لبنتك عليه… تهيِّئيها لكدا، ولَّا تتجوز واحد بعد كدا يعايرها.

قفزت من مكانها وكأنَّ الأرض لفظتها:
_مستحييييل! أنا مش موافقة..البنت بتحبِّ حمزة، إيه هتكسر قلبها..هتقدر تكسر قلب بنتك يا إلياس؟

اقترب منها، وصوته انخفض لكنَّ وجعه ارتفع:
_ميرال، هتقدري تشوفي بنتك مكسورة، المفروض إنتي أكتر واحدة عارفة المصيبة دي ممكن تعمل إيه.

اتَّجهت نحوه بخطواتٍ متعثِّرة وكأنَّها تسند روحها عليه، تشبَّثت بذراعيه برجاءِ طفل:
_وحياتي يا إلياس..بلاش تقتل بنتك بالحيا…

_بإيدي إيه أعمله؟ خرجت منه مبحوحة، كأنَّه يعترف بعجزه لأوَّل مرَّة في حياته..
ردَّت كالمستغيثة: 

_وافق يا إلياس على حمزة، والله الواد بيحبَّها قوي.

سحب رأسها إلى صدره دون وعي،  يخشى أن تنهار أمامه، اختنق صدره وهو يحاول كبح دموعه:
_هوَّ في أب بالدنيا مش عايز سعادة ولاده، قوليلي إيه الحل؟ أنا عارف الواد بيحبَّها بس هل الحبِّ دا كافي يموِّت الماضي، ماأنا حبِّيتك ارتحنا؟ رغم إنِّ حياتنا كانت غير…

احتوت وجهه بكفَّيها، ودموعها تسيل بمرارةٍ مجروحة:
_وحياة ربِّنا ماتكسر البنت يا إلياس.. مش شايف دبلت إزاي؟ دي شمس..
لو جبتلها سيرة الجواز من غير حمزة ممكن تعمل في نفسها حاجة.

ارتفع بكاء ميرال فجأة، وشعرت بتفتُّت قلبها، ضمَّها إلياس بقوَّة حتى شعر أنَّ ضلوعه تتشقَّق تحت وطأة خوفه:
_أنا خايف عليها..خايف ترجع ميرال تاني وقلبي يوجعني، مبقاش فيَّ حتَّة سليمة يا ميرال، تعبت والله تعبت ومبقتش قادر أتحمِّل الوجع.

ابتعدت عنه بخفَّة منكسرة، وقبَّلت كفَّيه تترجَّاه بأسفٍ حزين:
_أسفة…أنا السبب في دا كلُّه، وكلِّ يوم بدعي ربِّنا يريَّحكم منِّي.

قاطعها وهو يضع يده على شفتيها، ودمعةٌ تسلَّلت غصب عنُّه:
_إخص عليكي يا ميرو، كدا تكسري حبيبك، هونت عليكي تدعي عليَّا؟!

آاااه..خرجت منها ببكاءٍ يخضُّ الروح، فضمَّها بقوَّةٍ أكبر، وكأنَّ احتضانها هو الوسيلة الوحيدة لوقف الانهيار:

_مش قادرة على الكسرة دي يا إلياس، ماصدَّقت يوسف يرجع يضحك من قلبه..دي بنتي قطعة من روحي، لو موتي هيعيِّشها سعيدة، والله أتنازل عن حياتي.

_آآآه..خرجت من جوفه كأنَّ قلبه يتمزَّق، وضع جبينه على جبينها:
دا قدرنا وقدرهم..والصبر هو الحل، أنا راضي بكلِّ حاجة يكفيني تكونوا جنبي..ابتسامة يوسف، شقاوة شمس..وإنتي في حضني آخر الليل… دول كافيين أدوس على النار وأعدِّي.

لم تحتمل فلفَّت ذراعيها حول خصره بقوَّة، وانفجر بكاءها ثانية، 
وبينما كانت تستندُ إليه..

دخل يوسف وتوقَّف في مكانه بعدما رآهما بهذا الحال، محمحمًا ليخفِّف الموقف:
_آسف، لقيت الباب مفتوح..مكنتش أعرف إنِّ الباشا رجَّع شبابه.

ابتعد إلياس سريعًا يمسح دموعه حتى لا يرى ابنه ضعفه، بينما اقتربت ميرال من يوسف تبتسم رغم دموعها:
_هوَّ إحنا كبرنا ولَّا إيه؟ لا بقى أبوك أصغر منَّك.

رفع يوسف حاجبه بسخريَّةٍ باردة:
_أيوة ماأنا شايف..مش محتاج شرح.

قهقهت عليه بمرارة، وتعلَّقت بذراعيه كطفلةٍ تبحث عن أمانٍ ضائع، وليست والدته.
_تعال أعاكسك شوية بدل بابا، أهو تفكَّرني بالذي مضى.

كلماتها لم تصرف نظره عن والده، فعيناه بقيتا مشدودتينِ إلى إلياس المنكسر، الذي بدا وكأنَّ العالم كلِّه انهار على كتفيه..التفت إليها يوسف فجأةً وقبَّل كفَّيها بخفَّة:
_عايز قهوة يا ستِّ الكلّ من إيدك الحلوة دي.

رفعت نفسها لتقبِّل وجنتيه، وتمتمت بمحاولة مزاح، لكنَّها لم تخف شعور قلبها بالخوف:
_أنتوا بتطولوا كدا ليه؟

ضحك مشاكسًا:
_إنتي اللي قصيرة يا ميرو.

ارتجف قلبها من مشاكسته، لكنَّها تحرَّكت سريعًا نحو المطبخ لإعداد القهوة، بينما اقترب يوسف من مكتب والده وجلس مقابله وعيناه كالسكاكين:

_عرفت إنَّك رحت لخالو..إيه الأخبار؟
_ليه خبِّيت عليَّ موضوع مهمِّ زي دا..مفكَّرني مش عارف؟
تساءل بها إلياس، ليردَّ يوسف: 
_مش فاهم كلامك الصراحة..منين خبِّيت ومنين عارف؟

نهض الياس من مكانه ببطء، كأنَّ كلَّ خطوةٍ تكاد تقتلع روحه، واقترب من المقعد ثم رفع ساقيه على المقعد المقابل، محاولًا التماسك أمام ابنه:
_كنت بتعمل إيه في السجن عند رؤى؟

مطَّ شفتيه يومئُ برأسه، كأنَّه يبحث عن كلمة تبرِّر مافعله، لكن إلياس لم يترك له مجالًا:
_بقالي كام يوم مستغرب سكوتك… لدرجة شكِّيت إنَّك مابقتش تهتم.

صمتٌ ثقيلٌ ملأ المكان، قبل أن ينهض يوسف ويقف بمحاذاة والده، عيناه المتَّقدتان بالنار:
_مادام حضرتك عرفت، وأنا أصلًا كنت عارف إنَّك هتعرف، السؤال اللي بقالي كام يوم أسأله لنفسي، إيه اللي يخلِّي راجل زي حضرتك، هيبة ومركز، وستِّ جميلة بتحبَّها وتحبَّك، يروح يخطَّط يكسر قلبها من واحدة إنتَ أويتها؟

اقترب خطوة وتعمَّق بالنظر في عين والده، حتى كاد يقرأ كلَّ جزءٍ من ضعفه:
_هل جوازك من أمِّي كان إجبار وانتقام..هل فعلًا تيتا أجبرتك، وعلشان ترضي غرورك يا إلياس باشا قتلتها بالطريقة دي؟

هنا شعر إلياس بأنَّ قلبه يتوقَّف، وساقاه لم تعد تحمله، فسقط على المقعد متهالكًا.
كان صدى كلمات يوسف يضرب صدره كالمطرقة، كلُّ ذكرى وكلُّ ذنبٍ يعود ليحرق روحه.

دخلت ميرال في اللحظة ذاتها، وكلُّ عصبٍ بجسدها يرتجف، كأنَّ نيران الماضي العتيق قد انفجرت فجأةً بين قلبها وقلبه، أعادته إلى سنينٍ من الألم والخيبة، نيرانٌ سوداء تخنقه وتخنقها. 

نظر يوسف إلى شحوب وجه والده، وشعر بطعنةٍ في صدره…لعن نفسه بصمت، واقترب خطوةً منه وكأنَّه يحاول انتشاله من السقوط:
_أنا مكنتش عايز أتكلِّم، بس لازم تدافع عن نفسك..أنا مصدَّقتهاش… لكن للأسف عرفت إنِّ دا حصل..ليه تعمل في أمِّي كدا..ليه تدبحها يا بابا بالطريقة دي..علشان إيه؟

قبل أن يجيب إلياس، جاءت القاضية التي لم يتوقَّعها بصوتٍ مكسور مرتجف، ممزوجًا بين ذنب عمره وآلامٍ لا تموت:
_أنا السبب.

تفوَّهت بها ميرال وهي تقترب تحمل قهوته بيدٍ ترتعش وكأنَّها تحمل اعترافًا ثقيلًا..وضعت الفنجان أمامه، وانحدرت دموعها بلا استئذان:
_أنا السبب يا يوسف…أنا اللي وصَّلت حياتنا لكدا.
اختنق صوتها، وكأنَّ السنوات كلَّها عادت تخنقها دفعةً واحدة:
_أبوك كان صح..أنا كسرته، وبدل المرَّة اتنين وتلاتة، وكان طبيعي لشخصيِّته يثأر لرجولته.

انقلبت ملامح يوسف لصدمةٍ حقيقيَّة، يشعر بأنَّ الأرض تحت قدميه مالت فجأة:
_يعني كلام رؤى حقيقي!! إنتي كنتي بتهربي منُّه..وحاولتي تقتليني وإنتي حامل فيَّا؟!.

شهقت ميرال وجحظت عيناها، تهزُّ رأسها بعنف:
_محصلش! دا كذب..إزاي تصدَّق حاجة زي كدا؟

_مصدَّقتش يا ماما، بس كان لازم قلبي يرتاح، لازم أعرف إيه اللي وصَّلك إنِّك تدفنيني بالشكلِ دا؟

اقتربت منه كالمسلوبة، واحتضنت وجهه بين كفَّيها كأنَّها تخشى أن يبتعد:
_عارفة إنِّي ظلمتك وغصب عنِّي..والله يابني غصب عنِّي.

بعد اعترافها المنهار، جاء صوت إلياس متعبًا، متحشرجًا، مثقلًا بسنين عتابٍ لم يقلها يومًا:
_يوسف…

رفع رأسه إلى ابنه، والنظرة في عينيه كانت أكبر من الحديث، خليط من وجع، وندم، وجرحُ أبٍ ينهار أمام حقيقة أنَّ ابنه يحاسبه:
_كبرت لدرجة جاي تحاسبنا؟!

هزَّ يوسف رأسه بصلابة:
_من حقِّي يا بابا.

هنا اقتحمت ضي الغرفة كشرارةٍ ضوءٍ وسط دخانٍ كثيف:
_أين أنتَ يا دكتور؟ أنا جاي لحضرتك يا عمُّو، علشان ناوية أقـ تل ابنك دا!

ابتعدت ميرال تجفِّف دموعها بسرعة، اقتربت ضي من يوسف تلكز ذراعه بعنفٍ مضحك:
_ابنك المحترم بيضايقني وبيحرق دمِّي..قال إيه هروح أتجوِّز عليكي!! 
لوَّحت بيدها:
_أنا بعرَّفك أهو ممكن أمَوِّ ته ولا يهمِّني أبو عين زايغة دا.

رغم الحزن الذي يخترق صدر ميرال، إلَّا أنَّ ابتسامةً خفيفةً ارتسمت على وجهها..أمَّا الياس فرفع عينيه إلى ضي بنظرةٍ تحمل خليطًا من السخريَّة والمرارة والاعتراف الخفيّ:
_ميقدرش يعملها يا حبيبتي.
ثم أكمل وصوته ينفجر بحقيقةٍ مرَّة:
_كان قِدر أبوه يعملها في خمس سنين عذاب.
ابتلع غصَّة، ونظر ناحية ميرال قبل أن يكمل:
_أبوه..لو فكَّر يقهره أو يقهر أمُّه وينتقم منها زي ماعقله بيقولُّه كان عندي فرص كتير.

ثم أشار إلى ضي ورفع يده لينهي النقاش:
_خدي جوزِك وروحوا اتعاتبوا بعيد عنِّي.
سحبته ضي وهي ترسم ابتسامة، تصنَّعت المشاكسة:
_طيب محدِّش يلومني بعد كدا. 
تحرَّك معها مسلوب الإرادة وكلمات والده تحرق صدره، توقَّفت أمامه تنظر إليه بعتاب:
_إيه اللي قولته دا!! إنتَ متعرفش باباك عانى قدِّ إيه، يوسف مش غبي علشان يغلط بالشكلِ دا.
تحرَّك دون أن يردَّ عليها، خطوات تحت قدمه تهزُّ الأرض... 
لحقته سريعًا 
_يوسف استنى
لكنه لم يستمع اليها، يشعر بالاختناق، دلف الى منزله وهي خلفه، ولكن توقفت على كلمات زهرة
_استاذة ضي، فيه حد باعت للدكتور ورد، اطلعه فوق ولا احطه في المكتب 
ضيقت عيناها واستدارت تنظر للورود
_مين اللي بعته
هزت كتفها واشارت الى الكارت
_معرفش، عليه الأسم 
بمنزل كارما 
تجلس بحديقة منزلها مع ابنة عمها، تقلب في جهازها
_ايه رأيك في الفستان دا 
نظر ابنة عمها للجهاز ثم قالت: 
_واو.. تحفة، واللون ياخد العقل 
عايز Jewelry بسيط هيكون واو 
هزت رأسها واشارت الى بعض 
الاكسسوارات 
_معاها Accessories
حلوين اوي حبيبتي.. ياله هاتيه هموت واشوفه على القمر 
قاطعهم صوت مشاجرة، وصل الى اطلاق ضرب نيران.. وظهور طليقها الذي يدعى اسامة 
تراجعت للخلف تحاول ان الفرار، الا انه اوقفها وهو يشير اليها بالسلاح
_هموت بنت عمك لو سمعت نفسك 

عند بلال كان متجهًا الى المشفى، ارتفع رنين هاتفه
_ايوة.. 
_دكتور فيه هجوم على منزل استاذة كارما، وللاسف مفيش غير اتنين بس من طقم الحراسة 
توقف فجأة 
_يعني ايه.. وفين طقم الحراسة 
_استاذ مالك اخدهم اجتماع مهم
اتصل بيه فورًا، متصل بيا ليه، انا في الطريق شوية وهكون عندك 
قالها وهو يغير اتجاه السيارة، وقام بمهاتفة الياس على الفور
_دا وعدك ليا ياعمو، الحيوان طليقها هجم على بيتها، ومعرفش عمل فيها ايه دلوقتي 
_اهدى ياحيوان، مالك راح على هناك، كان فيه اجتماع مهم، اكيد فيه حد من الخدم عندها خاين، مالك هيتصرف
_تمام ياعمو 
قالها وتحرك بسرعة جنونية نحو منزلها... دقائق ووصل الى المنزل، ترجل سريعًا متجهًا للداخل وهو يرى بعض الرجال المصابين 
اتجه للداخل وجدها تقف امامه 
_خلاص سبها وانا هاجي معاك 
_كارما... نطق بها بلال 
لتستدير اليه سريعًا تنظر اليه ببكاء، 
اقترب منهم 
_بتعمل ايه هنا ياحيوان 
جحظت اعين اسامة
_ودا بيعمل ايه هنا، مش بقول انك واحدة شمال، والله لاقت لك ياحيوانة بتخونيني مع الكلب دا.. 
جن بلال من كلماته واقترب منه غير مكترث بسلاحه 
ابعد هموتك.. لكنه لم يكترث 
_اضرب ياجبان انا قدامك، بتتشطر على ست... لم يكمل بلال حديثه لتنطلق رصاصة من سلاحه تخترق

🖤🖤🖤🖤🖤🖤

"لا إله إلاّ أنت سبحانك إني كنت من الظالمين" 

في خضمّ الفوضى التي تتلاطم حولهم، تقف الحقائق كقطعٍ مبعثرة لا يكتمل معناها إلا بالصبر والتمهّل. فليس كل كلمة تُقال تُوجَّه لمن نظن، ولا كل موقف يُرى بوضوح من النظرة الأولى. 

وما بين بحثٍ لا يهدأ، واضطراب القلوب، وانكشاف الخفايا، تتشابك المصائر بطريقة لا تُمهل أحدًا فرصة للحكم المتعجل.

وفي زاوية أخرى من الحكاية، تتأرجح المشاعر بين طيشٍ لا يُكبح، وحكمة تأتي كصفعةٍ تعيد أصحابها إلى واقعهم، بينما يُوشك الغضب المكتوم أن يتحوّل إلى قرار لا رجوع فيه. 

وكل كلمة تُقال، وكل نظرة تُخفى، تشدّ خيطًا جديدًا من التوتر يزيد القصة اشتعالًا.

وما إن نقترب من حافة الحقيقة، حتى ندرك أن القادم أعقد وأشد وقعًا، وأن كل شخصية تحمل في داخلها ما لا يُرى من النظرة الأولى… وما الفصل الجديد إلا خطوة نحو كشف المستور وإشعال ما ينتظر الانفجار.

طلقة نارية ارتجّ لها المكان قبل أن تستقر في قدم أسامة، دفعه الألم ليسقط أرضًا صارخًا يزمجر كوحش جريح.
رفع مالك سلاحه بثبات، وأشار لأحد الحراس بصرامة:

_اتصل بالشرطة فورًا.

زمجر أسامة وهو يتلوّى:
والله لاوديكم في داهية… انتو متعرفوش أنا مين!

لم يعره مالك أدنى اهتمام، بل التفت إلى بلال يتأكد من سلامته:
_انت كويس يا دكتور؟

_كويس… الحمدلله. شكرًا يا حضرة الظابط.

_هييجي ظابط كمان شوية، وهيطلب شهادتك… قولي كل حاجة 

أومأت كارما بقلق واضح، فاقترب منها بلال قليلًا بعد أن التفّ الفريق الأمني حول أسامة، ينظر لملابسها المنزلية 

_كارما… ادخلوا جوه. حضرة الظابط هيتصرف مع كل حاجة.

رفعت عينيها إليه، وخوفها يسبق كلماتها. فأومأ بطمأنة حازمة:
_متخافيش… يلا ادخلوا

خطت للداخل، لكن نظرتها الأخيرة لأسامة الجالس على الأرض كانت مليئة بالرعب والاشمئزاز معًا.

اقترب بلال من مالك يهمس بحدة مكتومة:
_دي مش أول مرة يهجم عليها بالطريقة دي… عايزك تتعامل بجدية.

هز مالك رأسه بثقة غاضبة:
_متقلقش يا بلال… من الافضل تمشي، وجودك هنا ممكن يعمّل حساسية، خليك 

بفيلا السيوفي
جلس مصطفى السيوفي في الحديقة، يتأمل الزهور يشعر بأن روحه عادت إليه، تقدّمت نحوه فريدة تحمل طعامه، وبمجرد أن اقتربت، أشرق وجهه المتعب.

_شوفت الدنيا منورة إزاي يا أبو الياس؟

رفع نظره الذي أثقله المرض، وابتسم بحنان :
_بوجودك يا فريدة… حياتي منورة بوجودك ووجود الولاد.

توقفت أمامه، وضعت يده على صدرها، تُمسك رأسه :
_مصطفى انت حياة فريدة.. النفس اللي بيطلع منك بيطمن قلبي.

ربت على يديها بحنو الأب والصديق والزوج:
_ربنا يبارك في فريدة واسمها، ويبارك لك في الولاد يا حبيبة العمر ورفيقة الدرب.

قبلت كفه، قبلة امتنان وخوف من الفقد:
_ويخليك لينا يا رب.

تنهد مصطفى بثقل:
ياااه يا فريدة… خلاص أنا أوشكت.

سحبت يدها بسرعة، وعيناها تتسعان بالرفض:
_هو مين اللي أوشك ده؟! دا كلام يتقال؟! دا أنت زي الفل…المهم 

_إسلام كلمك

_أيوة كلموني كلهم، ربنا يطمنّا عليهم

ابتسم بضعف:
_إسلام وملك والولاد كويسين الحمدلله.

هزت رأسها مطمئنة:
_ربنا يوفقهم
تسائل إلياس وغادة مش هيجوا النهارده؟

_لا… الياس اتصل وقالي مشغول، وقال بكرة من الصبح هييجي… ومعاه يوسف وشمس.

بعد يومين
بالمشفى  بمكتب بلال

طرقت الباب بخفة قبل أن تدلف.
رفع رأسه فورًا، والابتسامة شقت ثغره:

_دكتوري… فاضي؟

_أكيد… اتفضلي.

دخلت تحمل قالب كيك صغير، وضعته أمامه بخجل بسيط:
_حبيت أشكرك… على كل اللي عملته. أخيرًا ارتحت… وبقيت أنام.

أعاد ظهره للمقعد، ينظر للكيك بابتسامة ماكرة :
_افتكرت عيد ميلادك… وجاية تحتفلي معايا.

ضحكت بنعومة، تهز رأسها:
_لا طبعًا! وبعدين عيد ميلادي هحتفل بيه معاك ليه؟ خلّيني ماشية جنب الحيط يا دكتور

ضحك وهو يرفع حاجبه:
ممكن الحيطة تقع عليكي، خلي بالك.

_يبقى ريّحتني والله.

أمال جسده على المكتب، ونبرة صوته تغيرت:
_شخصيتك بتقول إنك مش هوائية، بالعكس.. شايف حد طموح.

خفضت عينيها:
_كنت… كان فعل الماضي مبني، عمره ما يترفع.

_الإعراب اتغيّر يا دكتورة.

رفعت رأسها سريعًا، وعيناها تتسعان بدهشة تمتزج بألم قديم:
_دكتورة… يااااه الكلمة دي اتحرمت منها كتير. تعرف… بابا مكنش بيناديني غير بيها.

ابتسم بخفة:
_علشان كده دافعتي عن حقه، وكملتي تعليمك.

_مكنش بإيدي حاجة.

_دلوقتي بإيدك.

صمتت، تحاول تفك طلاسم كلماته.
_تفتكر هقدر؟

_وليه ما تقدريش!! جربي ولو وقعتي، جربي تاني. المهم ما تستسلميش.

هزت رأسها بيأس ممزوج بالضعف:
_مش هقدر… أنا اتكسرت وبقيت ضعيفة أوي، وبحارب لوحدي.

_حاولي… وأنا معاكي. هساعدك.

تجمدت نظرتها عليه، كأنها تسمع وعدًا لا يخصها.
_بلاش بالله عليك. مش عايزاك تتأذي بسببي، كفاية اللي عملته. أنا مبسوطة إني اتعرفت عليك بجد، وطلعت زي ما عمو قال عليك بالظبط.

ابتسم بجدية:
_كارما… أنا هنتظر إنك تدخلي الامتحان السنادي… ومش بس كده. عايز أشوف تقدير عالي، واسم "الدكتورة كارما" منور صيدلية المستشفى.

هزت رأسها بخوف:
بلاش تديني أمل… أرجع أندفن بيه. أنا راضية بحياتي كده.

نهض من كرسيه وجلس أمامها مباشرة، وقال بنبرة  أعمق:
_وأنا مش هتنازل عن الأمل ده.

بسط كفه نحوها:
_تقبلي نكون أصحاب، وقت ما تحتاجيني… هتلاقيني.

نظرت لكفه ثم إليه، ودمعتها انسالت بلا استئذان:
_لو عرف… ممكن يقتلك.

ابتسم بثقة ساخرة:
_وأنا موافق. خليه يقرب، وشوفي هعمل إيه.
وبعدين إيدي وجعتني من كتر ما مستني… وشكلي بقى وحش. ده أنا البنات كلها تتمنى نظرة… مش مدّ إيد.

ضحكت وهي تمد يدها أخيرًا:
_اتفقنا… يا دكتور.

_بلال بقى… بلاها دكتور. إحنا أصحاب.

توردت وجنتاها:
_أنا سعيدة جدًا يا بلال.

أوووه… لو ماما سمعت اسمي منك كده كانت زمانها رقصت.

أفلتت ضحكة خافتة على تلقائيته:
_ساعات بحسك طفل.

_آه والله… ومحتاج رعاية.
إيه رأيك تشتغلي عند أبويا بيبي سيتر… وتهتمي بابنه؟

نظرت اليه بتساؤل:
_انت عندك أخ صغير؟

ضحك بصوت مرتفع، يشير إلى نفسه بفخر طفولي:
_أنا أهووو!
ضحكا سويًا، وهي تهز رأسها بسعادة 

مضت الأيام سريعًا، حتى جاء اليوم المحدد لعقد القران.
اتجه بلال إلى منزل يزن ظهر اليوم، يحمل علبة مزينة

طرق الباب… وتوقف للحظات، كأن صدره يضيق قبل أن تُفتح.
ظهرت رولا أمامه، تنظر إليه باستفهام لم تنطق به شفاهها، لكن عيناها قالت الكثير.

رفع العلبة بيده قليلًا:
_جبت لك فستان… علشان كتب الكتاب.
تنحنح وأكمل :
_الصراحة أخدت ضي علشان تساعدني.

نظرت إلى الفستان، ثم رفعت عينيها إليه بملامح مشدودة:
_إنت ليه بتحسسني إن الموضوع بجد؟ مكنش له لزوم أصلًا… كنت هحضر بأي حاجة.

زفر بلال بخفوت، ونظر بعيدًا كأنه يصحّح كلماتها في رأسه:
_معرفش يا رولا… ماما صممت.
ثم عاد ينظر لها:
_ومتنسيش إنها متعرفش حاجة… قدّام الكل جواز حقيقي.

اقتربت منه خطوة، وتعمّدت أن تغرس عينيها في عينيه، وقالت بصوت هادئ لكنه مسموم بالألم:
_متعملش بطل على حسابي يا دكتور… وأنا وافقت علشان بابا المكسور بس.
تقدمت أكثر وهمست:
_يعني مسرحية… والستارة هتترفع قريب.

ضحك وضيّق عينيه بسخرية مستفزة:
_عارفة يا بت أنا نفسي أعمل إيه؟
أشار إليها بيده بحركة تهديد طفولية:
_أربطِك على شجرة وأنزل فوقيك بالحزام… لحد ما أشوف دمك بيسيـــح.
مال برأسه قليلًا:
_مالك ما تتظبّطي؟
ثم أشار لنفسه:
_أنا خُلقي قد عين النملة… يعني مفيش تفاوض.
رفع الفستان:
_الزفت دا تلبسيه تولعي فيه، براحتك.

استدار وهو يزفر بعصبية، يتمتم بكلمات غير مفهومة من شدة غيظه.

ضربت رولا قدمها بالأرض، كطفلة مقهورة:
_غبي متخلّف! وفي الآخر هيكون جوزي!

توقف بلال فجأة، واستدار ببطء…
عيناه التصقتا بعينيها بشراسة، وصوته خرج منخفضًا لكنه اخترقها:
_سمعتك يا متخلّفة… وهحاسبك.

ثم اقترب خطوة و خطوة، حتى كادت أنفاسها ترتفع وهمس بابتسامة مائلة:
_يا مراتي… يا عسل… إلا ساعات

_آآاااه!
صرخت بها وهي تلقي علبة الفستان على الأرض بعنف.

قهقه بلال عاليًا،، ثم سار وهو يلوّح بيده دون أن يلتفت:
_دي حلووت أوي يا رورو!

بعد فترة، دلفت رحيل إلى الغرفة، لتجد ابنتها واقفة أمام الفستان، تنظر إليه بشرود  تشعر داخلها من خوف وارتباك.. اقتربت منها بهدوء، ومسدت على  خصلات شعرها بحنانٍ أمومي دافئ.

_واقفة كدا ليه؟

استدارت رولا نحوها بعينين دامعتين، وهمست بكلمات حاولت التفوه بها

_ماما… انا هتجوز بلال فعلًا. تخيّلي! بلال هيكون جوزي.

رسمت رحيل ابتسامة مطمئنة على ثغرها، وقالت بحنوّ:

_ماله بلال يا حبيبتي، بالعكس… دا أنا أتمنى دا من قلبي.

لم تتمالك رولا نفسها، فانحنت تضع رأسها على صدر والدتها، التي ضمّتها بقوة…ضمتها بقلب أمّ كان يتوق منذ سنوات إلى هذه اللحظة؛ لحظة أن تُلقي ابنتها رأسها على صدرها دون خوف أو حواجز.

_أنا آسفة يا ماما… عارفة إني زعلتك كتير… بس غصب عني.. هي ضحكت عليّ وكرهتني فيكي.

مسحت رحيل دموعها، محاولة إخفاء ألم السنين خلف ابتسامة رقيقة.

_مفيش أم بتزعل من بنتها… انتي أغلى من روحي يا رولا، ومهما حصل عمري ما هتغير معاكي

انهارت رولا في بكاء صامت، تسترجع كلمات رؤى السامة… تلك الأكاذيب التي مزّقت ثقتها بوالدتها 

_إزاي صدقتها!! إزاي تعمل فيا كدا؟ معقول في ناس قلوبها بالشكل دا؟

سحبتها رحيل من يديها، أجلستها على الفراش، ثم ضمّتها بحنان، قبل أن تبدأ بسرد الحقيقة… الحقيقة التي كانت السبب وراء كل هذا الحقد القديم.

وحين انتهت، رفعت رولا رأسها تنظر إلى والدتها بعينين يملؤهما الضياع:

_إيه الشر دا كله، ليه تعمل كدا، هو بابا مش أخوها؟

ابتسمت رحيل بحزن:

وميرال ماكانت أختها… لكن الشر ساعات بيعمّي. المهم… انسي كل اللي فات، ولا كإنه حصل. فكّري بس في اللي جاي… انتي داخلة حياة جديدة. يمكن بلال يكون العوض اللي ربنا بعتهولِك.

هزّت رولا رأسها، والدمعة تهرب من عينها رغمًا عنها:

_ماما… بلاش تضحكي على نفسك وعليّ. بلال بيستر فضيحة بنت عمّه… كم شهر وهيرمي عليّ يمين الطلاق.

_وليه تفكري بالطريقة دي!! مش يمكن… يمكن تحبّوا بعض بجد؟

ارتجفت أنفاس رولا، وقالت بصوت مكسور:

_مستحيل أشوفه زوج يا ماما… وهو عمره ما هيشوفني غير بنت عمه يزن… رولا اللي لازم يشيل عنها العار.

مسحت رحيل دموعها مرة أخرى، تقاوم رغبة ملحّة بأن تهزّها هزًّا وتخبرها أن للحياة مسارات لا تستطيع العيون الضيقة رؤيتها.

_سيبي كل حاجة للزمن… يمكن بكرة يخبّي لكِ حاجة أحلى من اللي بتتخيليها.

بغرفة شمس…

كانت تجلس في الحديقة الملحقة بغرفتها، تحدّق في الفراغ بشرودٍ ينهش روحها. قطع شرودها طرقُ إلياس على الباب؛ رفعت إليه عينيها الذابلتين، ثم نهضت على كلماته: 

_بابا يدخل ولا يرجع؟

إيه اللي حضرتك بتقوله دا، لأ طبعًا، حضرتك مش محتاج استأذن

دنا منها بخطوات بطيئة، خطوات تُترجم ما يشعر داخله من خوف، وكأنه يرسم ملامح حزنها على قلبه قبل وجهها.

_تعالي يا بابا… عايز أتكلم معاكي شوية، ينفع؟

لم تستطع المقاومة؛ دمعة أفلتت، ثم ألقت نفسها بين ذراعيه. ضمّها بكل ما أوتي من حنان… وقلبه يصرخ في  بصمتٍ

وما أقسى يا عزيزي القارئ أن يُقهر الأب حين يقف عاجزًا أمام وجع ابنته… وجعٌ يلتف حول عنقه كحبل خفي، يخنقه بصمت، بينما هو يتظاهر بالثبات كي لا ينهار قلبها قبل قلبه.

ذاك العجز الذي يجعل يد الأب ترتجف وهو يمسح دمعةً لا يعرف كيف بوجوده، ولا لماذا يشعر أنها انغرست في ضلوعه قبل خدها… وكأن دموعها تُسكب من روحه هو، لا من عينيها.

يا لوجع الرجال حين ينهزمون أمام بناتهم… هزيمة لا يراها أحد، لكنها تأكل ما تبقّى فيهم من صلابة، وتتركهم واقفين كالأشجار التي تتظاهر بعدم الانكسار، بينما الريح قد كسرت جذورها من الداخل.

سحب نفسًا وجلس، وما زال يحيطها بذراعيه، كأنه يحاول جمع شتاتها بين ضلوعه.

_ليه قافلة على نفسك؟ وإزاي ماتروحيش جامعتك، ماما زعلانة.

اعتدلت، تمسح دموعها بخجل.

خلصنا المحاضرات المهمة… ومبقاش في حاجة ضروريّة. والامتحانات خلاص قربت.

أومأ بتفهّم، ثم زفر نفسًا طويلًا قبل أن يقول بهدوء:

_حمزة لسه بيكلمك؟

رفعت عينيها إليه، لكنها لم تجب. هزّ رأسه مؤكدًا:

_أنا عارف إنه كان بيكلمك.

همست بصوت مختنق، يحمل خجل الاعتراف:

_مش دايمًا والله… وكان بحدود. ساعات كان بيطمن على المذاكرة… أو يقول إنه مش راجع من الشغل غير بعد أسبوع. يعني كله في المهم… مش اللي في دماغ حضرتك.

رفع حاجبه:

_وإيه اللي في دماغ حضرتي؟

ازدادت ارتباكًا، تفرك كفيها، وكأن الكلمات ثقيلة.

_أنا آسفة إني خذلت حضرتك… والله غصب عني.

ابتسم رغمًا عنه… براءة ابنته تمسّ شيئًا لوالدتها مدفونًا بصدره: 

_كأني قاعد قدام ميرال في طفولتها… بس الفرق إنها كانت شعنونة ومجنونة. إنما شمس أبوها هادية ورقيقة.

حدّقت فيه بعيون اتسعت دهشة:

_عايز تلزقني لماما وخلاص، إزاي بتقول إني زي ميرال وهي كانت شعنونة؟

أخيرًا خرجت منه ضحكة صادقة… ضحكة  تنفض شيئًا من غبار الحزن عنه. جذبها إليه بحنان.

_والله ميرال وطول لسانها… بس تعرفي جنانها دا كان اللي حببني فيها.

ثم أضاف وهو يشد على كتفها:

_حبيبتي… مش عايزك بريئة أوي كدا. لازم تقوي. ماينفعش أي كلمة تكسرِك وتخليكي تقفلي على نفسك.

نظرت إليه بتردّد:

_بابا… ليه حضرتك رافض حمزة؟

رفع حاجبه مازحًا:

_آه… أنا بقولك تقوي وبلاش البراءة… بس يا شموس ما توصلش للبجاحة.

اتسعت عيناها بصدمة، فابتعدت بنظرها، تفرك كفيها بعصبية.

_أنا أصلي…

مسد على شعرها برفق.

_بهزر معاكي يا حبيبتي… أنا مش رافض حمزة كـ حمزة. أنا خايف عليكي.

_متخافش يا بابا… أنا مبقتش صغيرة.

ابتسم ابتسامة تخبّئ عمرًا من الخوف عليها.

_عارف يا بابا… وبابا محتاج يشوف بنته كبرت بجد.

صمت لحظة، ثم أضاف بصوت يشبه الهمس:

_أنا حكيتلك قبل كدا اللي حصل… وليه رفضنا حمزة. ممكن تثقي في بابا؟

_واثقة في حضرتك. قالتها بضعفٍ لا تخطئه أذن.

نهض هو، بينما هي ابعدت بعينيها نحو الفضاء، كأن شيئًا بداخلها يتشقق.

أغلق الباب خلفه… وفي اللحظة ذاتها، همست لنفسها:

زعلانة ليه، باباكي خايف عليكي… فوقي يا شمس. ما هو ما صدّق… وتلاقيه حاسس إنه ندم أصلًا

دلفت ميرال تحمل فستانها الخاص بحفل عقد القران
_دا فستان شموسة، بابا بعت لاشهر ديزاينر علشان خاطر شموسة تنور الحفلة
_ماما هي رولا وبلال بيحبوا بعض من امتى!! 
جلست ميرال بجوارها 
_معرفش حبيبتي، حتى يوسف مقاليش، المهم عايزة وشك يرجع ينور تاني 
هزت كتفيها باعتراض 
_مبقاش لي نفس لحاجة ياماما، بابا لسة مصر، وهو ماصدق 
ابتسمت ميرال حتى لمعت عيناها بالسعادة من كلمات ابنتها 
_ياااه دا شموسة منهارة من بعد الكابتن
_مكنتش اعرف الحب موجع اوي، ياريتني ماشوفته ولا قابلته 
مسدت على خصلاتها وقالت: 
_مش احنا قولنا النصيب، يعني لو ربنا شايف لك خير معاه، والله ياحبيبتي ولا بابا ولا الدنيا كلها هتقدر تمنعه، المهم خلي عندك ثفة بربنا ان معاه الاحسن 
_يارب يكون هو الاحسن ياماما 
ضمتها ميرال بحنان وغامت عيناها بالألم ودون أن تشعر شمس قامت بالاتصال به واخرجت ابنتها من احضانها 
_يعني افهم من كدا ان واحشك اوي
هزت رأسها... فاشارت ميرال الى اذنيها
_اسمع.. مش عايزة الصم والبكم دا 
_ايوة وحشني اوي، وزعلانة منه اوي اوي 
_اوووه.. حضرة الكابتن لازم يتعاقب، وعقابه لازم يكون على ايد شموسته
افلتت ضحكة ناعمة وقالت
_ايه اللي حضرتك بتقوليه دا ياماما، انا شمس بابا بس، عارفة لو سمعك 
_ايه هيطلقني.. مش مهم، المهم اشوف الشمس تنور تاني، وبعدين مش قولتي انتي بتحبيه، يبقى انتي شمسه
_ايوة بحبه، بس بابا يزعل، وانا مستحيل ازعله.. وبعدين هو المستفز له شمس، دا عايز المحاق ويقعد فيه 
قهقهت ميرال تغلق الهاتف 
_حبيبة قلب امها اللي بتوقع من قلم واحد 
توردت وجنتيها خجلًا وهمست
_بتكسف على فكرة 
_ايوة ايوة واخدة بالي، المهم اجهزي علشان تروحي لبنت خالك
نظرت للفستان وقالت 
_مش هلبسه، مش ضروري، هلبس اي حاجة 
براحتك.. تمتمت بها ميرال وتحركت للخارج 

بمنزل أرسلان…

كانت ضي تتوسّد ساق والدتها، بينما غرام تمسد على خصلاتها برفق، تسألها عمّا يجري معها 

_عاملة إيه مع يوسف يا حبيبتي؟

كويسة يا ماما… يوسف حنين أوي وبيحبني أوي.

مرّت أناملها على وجه ابنتها، تتأمل ملامحها المطمئنة وهي تقول:

_أنا لاحظت دا… عيونه بتقول إنه بيحبك. بجد سبحان الله… دا يوسف اللي كنت خايفة منه زمان.

ابتسمت ضي، ثم همست كمن تعترف بسر:

_وأنا كمان يا ماما بحبه أوي… أموت لو بعد عني.

_بعد الشر عليكِ يا حبيبتي… المهم زي ما قلت لك، ما تحاوليش تضغطي عليه في موضوع الشغل. ماتنسيش إنه دكتور.

_آه يا ماما… بس أنا ما بقيتش أشوفه غير ساعات في اليوم.

أجابتها غرام وهي تربت على كتفها بحنان الأم التي تعرف الدنيا جيدًا:

_حبيبتي… الزوجة بتقوّي جوزها علشان ينجح أكتر. مش بيقولوا ورا كل ناجح ست عظيمة، وبعدين يكفي إنه بيبات معاكي آخر الليل. ضي يوسف لسه بيرسم طريقه. والطب مش سهل، لازم وقت وشغل وشُهرة. انتي ادعميه… مش تقعديه جنبك.

_حاضر يا ماما… بحاول والله.

ثم أضافت غرام بنبرة عاتبة لطيفة:

_وبعدين… أنا شايفة إنك بقيتي كسولة في شغلك! يوم آه وعشرة لأ. ماتعودتش منك على كده. فين حماسك؟

تنهدت ضي بعمق.. التقطت غرام تلك الإشارة فورًا، ثم سألت:

_هو انتي حامل؟

تجمّد جسد ضي للحظة، وقلبها يكاد يقفز. اعتدلت جالسة تنظر لوالدتها بدهشة:

_مش فاهمة يا ماما… هو أنا لو حامل هخبي عليكي، ما تنسيش إننا لسه متجوزين من كام شهر.

_ماشي يا حبيبتي… بس ساعات الحمل بييجي من أول شهر. ولا إنتوا مأجلين؟

كان أرسلان يقف خلف الباب، يستمع للحوار بتوترٍ ، ينتظر إجابة ابنته.

تذكّرت ضي ما حدث بينها وبين يوسف في الأيام الأولى من الزواج… ألم داخلي خافت، وصراع عقل وقلب، ثم قالت بخفوت يكاد لا يُسمع:

لا مش مأجلين. بس ربنا ما أذنش.

في تلك اللحظة، دلف أرسلان إلى الداخل وهو يبتسم:

_هو إنتي مالكيش بيت يا بت؟ على طول عندنا! شايف عربية جوزك برّه… سايباه ليه وجاية؟

رفعت حاجبها بتذمّر لطيف:

_بتطردني من بيت أبويا يا بابا؟! مكنش العشم! طيب… والله ما أنا جايلكم تاني. أنا ماليش غير جوزي حبيبي… هو ده اللي باقيلي.

قهقه أرسلان، وجذبها إلى حضنه رغم ادعاء الغضب:

_شوفي البت… باعتنا علشان الحلوف بتاعها!

اعتدلت ضي بسرعة، رافعة سبابتها نحوه:

_أولًا… الدوك مش حلوف! ده قمرين، ومش هسمح لحد يغلط فيه، even لو حضرتك
وثانيًا… حضرتك اللي طردتني. وأنا ماشية خلاص. ولازم تجيلي زيارة علشان أسامحك.

شهق أرسلان شهقة مصطنعة وهو يشاكسها:

_يا بنت غرام… والزيارة دي، تبقى سرنجة للدكتور ولا علبة مُطهر؟

قهقهت ضي، تدفن رأسها في صدره، بينما عمّت الضحكات أرجاء الغرفة.

_غرام… اعمليلي قهوة. واعملي لبنتك عصير… سمعت إنها بطّلت قهوة بأوامر الدوك.

طبعًا هو يؤمر، مش جوزي حبيبي بقى!

_شوفوا البت… وبجاحتها!

اقتربت ضي، تقبّل يد والدها:

حبيبي يا بابا… وحشتني أوي، ووحشني حضنك 
_حضن ايه يابنت ارسلان، هو انتي كنتي بتنامي في حضنه اصلًا
ارشار ارسلان عليه بضحك
_اهو ابو سرنجة جه اهو 
_سرنجة ايه ياارسو، مابلاش، انت الله يرحم دا انت كنت شغال تمرجي 
_تمرجي في عينك ياقليل الادب 
_مش هرد عليك، ابوي رباني متغلطش في الاكبر منك، بس دا بردو مايمنعش اقول لالياس اخوك بيقول انك مابتعرفش تربي 
شهق ارسلان يلقيه بما اوجده امامه من فاكهة، فكانت حبة من الموز، التقطها يوسف بين كفيها وغمز اليه
_حتى خايب في النشان، معرفش كانوا مشغلينك تمرجي ازاي 
_اه ياحلوف ياحيوان 
_مش هرد عليك بردوا، مهما تغلط، انت راجل كبير، والزعل غلط على صحتك 
كبح ارسلان ضحكته بصعوبة
_امشي يلا من هنا، ماتدخلش البيت دا تاني 
_بابا ايه اللي بتقوله دا 
_يامحنو ياختي، قومي انتي كمان معاه 
قاطعه يوسف 
_وتقوم ليه، هي ليها ورث في البيت دا، هي مش بنتك، وانت لما تتكل الورث هيتقسم، اقعدي يابت في ورثك، واللي مش عاجبه يبيع ورثه 
_اااه يابن 
_طنط غرام.. تعالي اشهدي ابويا اتشتم في بيت اخوه 
لوح بيده قائلًا
_هاخد الموزاية دي، واحطها على السلم عندي، بعد مااكلها، علشان لما تيجي... اكيد عارف هتبقى شجرة وعايزة مية 
_ماشي يايوسف 
_حبيبي ياعمو، انا هعدي على بيت خالو ياضي، شوية وراجع، اشوفه محتاج حاجة قبل الحفلة

_هي شركة التنظيم مجتش
_جت، بس لازم اشوفه بردو، ياله سلام، اشوفك بالليل ياارسو، بس يبقى خد بالك.. العضمة كبرت
_ماشي ياابو سرنجة 
توقف مستديرًا اليه: 
_مابلاش، لتوقع تحت ايدي، واعرفك ابو سرنجة دا هيعمل ايه 
امشي يابن... 

ارتفعت الضحكات في المكان، لتملأ أركان المنزل بالسعادة والدفء.

_بحب علاقتكم أوي.

ابتسم وهو يضحك، ثم تمتم ساخرًا:
_علاقة مين، دا يتعاشر، دا عايز

صمت قليلًا، ثم ضحك، فعانقت ذراعيه بحنان:
_وحشني كلامنا مع بعض وهزارنا أوي.

 التفتت إليه بابتسامة:
_وانت يا روح بابا… عاملة إيه مع الحلوف دا، كويس معاكي ولا لسه دماغه في السفر؟

لاحت في ذاكراتها كلمات يوسف وهمسه لعشقها، حتى توردت وجنتاها خجلًا، وهزّت رأسها:
_يوسف كويس أوي… وحنين أوي أوي يا بابا… ومتخافش مبقاش يفكر في موضوع السفر دا خالص.

ابتسم لها أرسلان وهو يراقبها:
_يعني كويس يا ضي؟

طالعته باستفهام:
_آه يابابا… ليه بتسأل، هو قال لحضرتك حاجة؟

ابتلع غصة، محاولًا السيطرة على مشاعره… فما زال حديث بلال يدور في ذهنه:
_يوسف بعاملك كزوجة… ولا كـ بنت عمه وامر وفرض عليه؟

شهقت ضي، ارتبكت، فنظرت لوالدها واهتز رأسها بالنفي، رغم الدموع التي لمعت في عينيها:
_إيه اللي حضرتك بتقوله دا؟

رفع كفيه يمسح على شعرها بحنان:
_بطمن بس يا حبيبتي… خايف يكون لسه بيعاني بسبب قرار الزواج متزعليش مني.

ابتسمت له، وطمأنته:
_لا يا بابا إحنا كويسين… وكويسين أوي.

نهضت لتسحب حجابها، وقالت:
لازم أرجع بيتي… 

_ضي…
تمتم بها أرسلان بعدما تحركت سريعًا، فتوقف واقترب منها:
_متزعليش من بابا… كنت بطمن.

_مش زعلانة من حضرتك.
قالتها وهي تتجه نحو منزلها بخطوات سريعة، لكن امسكت كفيها والدتها بعدما استمعت الى حديث ارسلان
_تعالي حبيبتي، ساعديني في الحلويات اللي هناخدها لكتب الكتاب

بعد فترة صعدت ضيّ للطابق الأعلى بمنزلها بخطوات متسارعة، تكاد أنفاسها تسبقها. فتحت الباب ودلفت للداخل وقلبها يخبط وكأنه يريد الهرب من صدرها… كلما عادت كلمات والدها لذهنها شعرت بوخزة جديدة في روحها.

خرج يوسف من الحمّام يمسح قطرات الماء عن شعره، ولم تنتبه هي لوجوده، اندفعت للداخل كمن يفرّ من شيء لا تراه… فاصطدمت به.

_ضي…
قالها بقلق وهو يرى ارتجاف كتفيها. رفعت عينيها إليه، عينان معتمتان بدموع محبوسة.

اقترب خطوة، وتسائل بخوف لم يستطع إخفاءه:
_مالك… إنتي بتعيّطي ليه؟

لم تجبه… بل ألقت نفسها بين ذراعيه فجأة، وكأنها تبحث عن الأمان الذي تشعر انه سينسحب منها، بكت… وبكت بشهقات موجوعة، شهقات اخترقت قلبه

_يوسف… ليه ماحملتش لحد دلوقتي أنا… أنا عايزة أطفال مبقتش قادرة أتحمّل كلام حد ولا نظرته

تجمد للحظة، وانعقد حاجباه  بعدم فهم حقيقي.
_تقصدي إيه؟

رفعت عينيها إليه، وصوتها يترنّح:
_تخيّل بابا، مفكّر إنك لسه…
توقفت، اختنقت الكلمة في حلقها. لم تستطع أن تكمل.

استدارت تهرب إلى الحمّام، تختبئ خلف بابه وكأن الجدران وحدها القادرة على احتواء وجعها.
أما يوسف فوقف مكانه لحظة، وشعوره يشبه من سُحبت روحه من صدره دفعة واحدة.. الآن فقط فهم.

تحرك بخطوات ثابتة رغم الاضطراب الذي يعصف بداخله. ودلف إليها، فوجدها تجلس على حافة البانيو، يديها تغطي وجهها وهي تبكي بصمت موجوع.

مال بجسده نحوها دون كلمة، رفعها بين ذراعيه بحنان ، وضمها لصدره، وتركها تبكي.

اتجه إلى الفراش، جلس أمامها، حاوط جسدها بذراعيه كمن يخشى أن يسلبه القدر إياها.. حدق في عينيها المنتفختين.

_ممكن… تبطّلي عياط؟
مسح دموعها بإبهامه.
وممكن… محدّش يدخل حياتنا، من امتى وانتي ضعيفة قدّام كلام حد؟ باباك خايف… زي أي أب. مش شك، ولا كلامه عليكِ… ولا عليّا. كلهم بيسألوا، وده حقّهم. بس المهم إحنا حياتنا… مش رأي الناس.

اقترب أكثر، وقال بصوت خافت:
_ينفع تحضري كتب كتاب أخوكي الحلوف بعيونك دي… انتفخوا على الفاضي.

ضحكت ضي ضحكة قصيرة ممزوجة بالبكاء.
_ممكن تاخدني في حضنك،!! أنا عايزة أنام.

رفع حاجبه بمشاكسته المعتادة:
_آخدِك في حضني… تدفعي كام؟

نظرت لعينيه نظرة جعلت قلبه هو من يرتجف هذه المرة، وهمست:
_عمري كله… عمري كله ملكك يا يوسف.

في تلك اللحظة انطفأ العالم حولهما…
اختفى الحديث، وتلاشت الأسئلة، ولم يبقَ إلا نبض قلبين يتعانقان.

انحنى نحوها، وصوته يرتجف بمحبة خالصة:
_ويوسف… وعمره فداكي يا روح يوسف.

بعد عدة ساعات، انتهت رولا من زينتها. شاغبتها ضي:
_زي القمر… والله الواد بلال هيغمى عليه.

لم تجب رولا، ظلت فقط تحدق بشرود، كأنها غارقة في عالم آخر. مر وقت آخر، ثم خرجت برفقة والدتها…

اقترب أسر بعدما وجدها تقف بخجل بجوار والدتها، وفتح ذراعيه بابتسامة سعيدة:
_القمر يقول للقمر… قوم واقعد مكانك.

رسمت رولا ابتسامة حزينة، حتى وقعت عيناها على بلال الذي توقف متجهًا نحوها. تنحنح أسر مبتعدًا، مشيرًا إليه:
_براحة يا عريس… على العموم لسه متحسبناش.

لم يرد، كانت نظراته فقط تتبعها. سحبت عيناها منه، حتى غادر أسر المكان.

_رولا… بوصيلي.
اتجهت نظراتها إليه، كأنها تراه لأول مرة، وغاصت عيناها في بحر من الدموع.

_مش قادرة على الوجع دا.

عانق كفيها، وتحرك بها نحو الطاولة المعدة لعقد القران:
_مش عايز ضعف… الكل مصدق إننا بنحب بعض.

توقفت على كلماته، وكلماته ذبحت روحها:
_بلاش يا بلال… لو سمحت. 

ابتسم بمرارة، وقال بصوت حازم:
تفتكري أقدر أعملها، وأكسر أبوكي؟ رولا… إحنا مش هنتجوز علشان بنحب بعض… لازم منه.

اطبقت على جفنيها، وتحركت بجواره بصمت.. كانت تريد ان يطفأ نيران روحها، ولكن خاب ظنها

بعد فترة، انتهى عقد القران.

في أحد أركان الحديقة، كانت شمس تتحدث مع صديقتها لدقائق معدودة، حتى أنهت المكالمة واستدارت للعودة… ولكن اصطدمت بحائط بشري.

نظرت إليه بعينين هادئتين، ورغم هدوئها، كانت النار مشتعلة بداخلها من الاشتياق. وهو ينظر إليها، نظراته كادت أن تدفنها داخل قلبه.

_لو شوفتك قريبة من الواد دا تاني هموتك… سمعتيني ولا لا؟

رفعت رأسها إليه، تطالعه بجبروت أنثى:
_ولا تقدر تعمل حاجة… خليك في إجازتك السعيدة.

لأول مرة، رأى في عينيها نظرات أنثى عاشقة، مليئة بالغيرة والاشتياق.

سحبها بقوة، رغم يقينه بحبها له:
_اللي يقرب من حاجة تخصني، ادفنه ومايرفليش جفن.

تململت بين أحضانه:
_حمزة.. ابعد متبقاش مجنون، مش انت ما صدقت… بابا كان عنده حق.

قالتها باختناق، أغمض عيناه كي لا يخرسها بطريقته، لكنه أمال رأسه ليهمس بنبض قلبه قبل شفتيه:
_حاولت أبعد وأنساكي… بس كنت بموت… مش قادر أتنفس.

_شمس…
صاح بها يوسف لتبتعد كالملسوعة. اقترب من حمزة، وعيناها شرارات نارية.

_عيب أوي… خليني شايف فيك، حمزة ابن عمو اسحاق.
قالها وسحب كف أخته يضغط عليه بقوة، مزمجرًا بها.

ابتسم يوسف بغضب ساخر:
يا سلام على الاحترام والتربية.

_روحي عند ماما.

توقف عند وصول سيارات أصدقاء بلال الذين جاءوا لتهنئته. خطى إليهم وهو ينادي على بلال:
ألف مبروك يا بلال… بالرفاء والبنين.

قالها أحدهم، واقترب ليعانقه، لتظهر خلفه كارما التي نزلت من سيارتها، وعيناها مليئتان بالحزن.

_كارما…

_مبروك يا دكتور.

صمت بلال، وعيناه تنطق بما لا تستطيع الكلمات قوله. كل هذا و يوسف يراقب نظراتهم بصمت، حتى رفع صوته:
_رولا… تعالي سلمي على أصدقاء جوزك.

التفت إليه سريعًا،ينظر اليه بالعتاب لما تفوه به، ثم التفت برأسه نحو رولا، التي توقفت بجوار ضي لتتقبل التهنئة.

_رولا…

رفعت رأسها إليه، فأشار لها بالاقتراب. تحركت نحو وقوفهم، وأشار بعينه نحو بلال:
_أستاذة كارما… مريضة عند بلال.

شعرت رولا فجأة بضعف جسدها، وتذكرت ذلك السلسال… دققت النظر فيها، جمالها، وكم كسرها  هذا الألم وحدها وهي ترى حبيبة زوجها امامها، هنا شعرت بأن الأرض تدور تحت قدميها، وفقدت اتزانها، حتى كادت أن تسقط، لولا ذراعيه اللذان تلقفاها بحذر.

_انتي كويسة؟
تمتم بها بقلق واضح في عينيه.

أومأت، وعيناها تلاحق كارما التي همست:
_مبروك… ربنا يسعدكم. مع إني زعلانة من الدكتور ما عزمني، بس باباه قام بالواجب وبعتلي دعوة خاصة للبيت… مكانش ينفع ما أحضرش.

التفت بلال سريعًا إلى أرسلان، ثم عاد بنظره إليها:
_نورتينا.

نظرت إلى ذراعيه التي تحيط بجسد رولا بتملك واضح، ثم أومأت بابتسامة باهتة:
_بنورك يا دكتور.

تحركت لتجلس، بينما استدار بلال نحو رولا، عيناه لا تفارقها:
_انتي كويسة؟

لم ترد، فقط نظرت إلى قربهما، ودقات قلبها العنيف تعلن تمردها الداخلي. كرر بلال نداءه بنبرة ناعمة:
_رولا… انتي كويسة؟

أومأت وحاولت الاعتدال، لكنه ظل يحاوط جسدها بحذر وامتلاك.

اقتربت رحيل بعد أن لاحظت تعب ابنتها:
حبيبتي شوفتي كنت عارفة إنك هتوقعي كده… دا علشان ما سمعتيش كلامي واكلتي؟

_هي ما أكلتش.
هزت رأسها بالنفي وقالت:
_من إمبارح الصبح قولها يا بلال، هتوقع كده.

سحبها بلال وتحرك إلى ركن هادئ، جلسها، ثم انحنى لينظر إليها:
_متخلنيش أعاملك كزوج المصري الأصيل…

عيناها فقط على كارما، رغم أنها لم تنظر إليهم، لكنها تشعر بغضب يوشك أن يحرق الكون كله. دارت كارما بعينيها، حتى وقعت على جلوسهم..هنا بسطت رولا كفيها بجرأة، تعانق ذراع بلال، كأنها تقول له إنه ملكها، ثم وضعت رأسها على صدره. تجمد جسده من فعلتها، ينظر إليها بغير استيعاب، لكن حديثها أحسه بالقهر، وهي تتمتم:
_أنا حاسة إني عريانة… والكل بيبص علي زي ما يكون الكل شافني الليلة إياها اللي، بلال أنا عريانة صح، حاسة  نظرات الكل بتاكل فيا.

لم يتحمل، رفع ذراعه يلفها حول جسدها الضعيف، ففي الأيام الماضية لم يرها، وشعر بأن الذي بين يديه طفلة صغيرة.

_رولا، اهدي، مفيش حاجة من دي… بلاش تخلي الكل ياخد باله.

اعتدلت تنظر إليه بدموع:
_دي الحقيقة… بس أنا ماليش ذنب، ليه يحصل معايا كده؟

احتوى وجهها بين راحتيه، يمسح دموعها:
_احنا قولنا إيه، هننسى… صح؟

التقط يوسف تلك اللحظة، وانبعث الأمل في قلبه، انحنت ضي اليه
_مالك عيونك مش نزلت من عليهم
_غيران، ونفسي اكون مكانهم 
لكزته تنظر اليه بغضب: 
_هو انت هتفضل تحرق دمي كدا 
امال بجسده يهمس اليها
_بعد الشر على حبيبة قلبي 
_لا والله 

بعد عدة ساعات 

جلس بلال في حديقة منزله، يعبث بهاتفه للمرة العاشرة، يحاول الاتصال بكارما، لكن الهاتف مازال مغلقًا. زفر بضيق ومسح على شعره بحدة، وكأن الغضب ينتزع أنفاسه.. اقترب يوسف، واضعًا يديه في جيبيه، التفت إليه بلال بعينين مرهقتين.

_مالك؟ بتتصل بمين في ليلة زي دي؟

لم يجب بلال في البداية، بل اكتفى بإيماءة نافرة

_ انت ليه مصر إني اتجوزت؟

ابتلع يوسف غصته وقال بصوت محشرج:

علشان دا اللي المفروض… إيه حكايتك مع البنت دي؟

ضاقت اعين بلال:

_أنهي بنت؟

_كارما يا بلال… نطقها بحدة وهو يقترب خطوة، يرمقه بنظرة اتهام صريح.

_انت دلوقتي متجوز… حتى لو اتفاق… النظرة لأي واحدة تانية خيانة.

ارتفع صدر بلال بغضب مكتوم:

_انت اتجننت! بتقول إيه؟ رولا مش مراتي! دا إنقاذ موقف! مستحيــل تجمعنا أوضة واحدة!

لم يتراجع يوسف، بل تقدم أكثر وكلماته تهتز:

_لا، هتجمعكم… فرحكم بعد يومين. ابعد عن البنت دي… واقنع نفسك إن دا نصيبك.

هزّ بلال رأسه بعنف:

_يوسف… مش علشان انت اتجوزت بالغصب… عايزني أتجوز بنفس الشكل.

ازدادت ملامح يوسف تصلبًا وهو يهمس:

أنا بهددك يا بلال… ابعد عنها.

لكن بلال انفجر، وارتفع صوت رغم انكساره:

_رولا هتفضل زيها زي ضي… عمرها ما هتكون مراتي! وأه… بحــب كارما! ارتحت كدا؟!

كانت رولا تقف بالقرب منهما، حتى استمعت لكلماته التي شطرت قلبها، 
كأن الزمن توقف عند أذنيها.جاءت لتشكره…جاءت بقلب خجول، تحاول ترميم روحها.. لكن كلماته، كانت كافية لتقصم روحها.

تراجعت خطوة… ثم تحولت خطواتها لركض مذعور، وشهقات تخنق صدرها،
وعيناها لا ترى إلا ظلام الخذلان.

وصلت  غرفتها، دلفت للداخل ثم أغلقت الباب خلفها بعنف،
ثم خطت بخطوات متعثرة، توقفت
تحدّق في المرآة… في ملامحها… في زينة اختلطت الآن بدموع حارّة.
ألقت نظرة على دبلة الخطوبة بيدها،
 التي تراها الفتيات  أنها بداية حياة…لكن عندها تحولت لطعنة.

انهالت عليها كل الذكريات لهذا اليوم
نظرة والدها المنكسرة، وجملته المبتورة خوفًا، وصمته الذي حاول أن يخفي به وجعه.

ثم بلال، وصوته، وكلمة "بحب كارما"…
تردد كل هذا في رأسها كالصدمة.

هوت على ركبتيها،ومنها إلى الأرض،
وصوت بكائها يكسر قلبها كأنه استغاثة لا يسمعها أحد.

ارتعشت أصابعها وهي تبحث عن شيء ينهي الصراع…شيء يصمت الألم.
سحبت الأداة الحادة، ولم تتردد لحظة…لتضعها على معصمها،
وما إن انساب الدم حتى شعرت وكأن الحياة هجرتها دفعة واحدة.

دار المكان من حولها…وتشابك الظلام بنورها الأخير…حتى هوى جسدها على الأرض،ساكنًا…منكسرًا…
وكأن روحها تهمس للمكان:
"كفاية وجع عايزة اموت، انا عار على الكل"

تعليقات