رواية شظايا قلوب محترقة ( وكأنها لي الحياة ) الجزء الثانى الفصل السابع والثلاثون
"لا إله الا انت سبحانك اني كنت من الظالمين "
لم يكن اليأس طريقًا اختارته بإرادتها، بل قدرًا أحكم الطوق حولها حين ضاقت الدروب وتكاثفت الخيبات. شعرت أن الوجود صار أثقل من أن يُحتمل، وأن القلب أُنهك من كثرة المحاولات، فاستسلمت لوهمٍ قاسٍ بأن الانطفاء قد يكون الخلاص الأخير من الألم.
وفي لحظةٍ مثقلةٍ بالعجز والندم، بدا لها الرحيل أرحم من بقاءٍ ينهش الروح ببطء.
وعند آخر، خُيِّل إليه أن كل النهايات قد كُتبت، وأن الأبواب أوصدت بلا رجعة، لكنه لم يسمح لليأس أن يكون خاتمته. تسلّل احتمال الحياة مرةً أخرى من شقٍّ ضيّق، فاختار المحاولة، لعلها تكون بدايةً تُعيد للروح معناها.
هناك، بعدما بدا الرفض قدرًا لا مفرّ منه، وُلد قبولٌ أعاد للقلب نبضه، وكشف أن بعض الطرق لا تنتهي إلى العدم، بل تقود بعد طول عناء إلى الضوء، وأن المستحيل قد ينحني يومًا ليصير ممكنًا
دقائق قليلة، ودلفت رحيل لتطمئنَّ على ابنتها…
توقَّفت فجأةً جاحظة العينين، حين وقعت عيناها عليها ممدَّدة على الأرض كجثَّةٍ شاحبة.
تجمَّد جسدها، وانقطع صوتها، واكتفت بهزِّ رأسها نفيًا، كأنَّها ترفض ماتراه.
لحظات..لكنَّها كانت كفيلة بأن تُنتزع أنفاس أي أمٍّ ترى فلذة كبدها على حافَّة الموت.
ثم انطلقت صرخةٌ شقَّت السكون، زلزلت أرجاء المكان، صرخةٌ خرجت من أعماق قلبٍ أمٍّ انهار، ولم يعد لديه القدرة على الصمود.
هرع يزن، يتبعه آسر ركضًا إلى مصدر الصوت.
هوت رحيل على ركبتيها جوار ابنتها، تصرخ بجنونٍ وهي تضمُّها:
_ رولا..رولاااا…يا روحي ردِّي عليَّا!
شدَّت رأسها إلى صدرها، وبكت بعويلٍ يمزِّق القلب، حتى دلف يزن فتجمَّد في مكانه، وقد صُعق من رؤية ابنته بتلك الحالة، كأنَّ الحياة انسحبت منها دفعةً واحدة.
انحنى آسر سريعًاوانتشل رولا من بين ذراعي أمها وهو يهتف بلهفة:
_ لازم نلحقها يا ماما…بسرعة!
صرخت رحيل وهي تتشبَّث بها، تضُمُّها بقوَّةٍ وكأنَّها تُودِّعها:
_ لااا..بنتي…بنتي هتسيبني!
كانت تضمُّها كما لو أنَّها ذاهبةً إلى مثواها الأخير، بينما الزمن ينهار من حولهم، والقلوب تتسابق مع الموت.
بينما بالخارج، كان يوسف يقف قبالة بلال، وماإن انتهى من تلك الكلمات التي شقَّت صدره حتى ردَّ بصوتٍ حاول أن يُخفي ارتجافه:
_ لا..مش بجوِّزك غصب زيِّي ولا حاجة، أنا قصدي تدِّي نفسك فرصة…يمكن تلاقي الحب اللي إنتَ مش حاسس بيه..
مكنتش أعرف إنَّك بتحبِّ واحدة يا صاحبي…على العموم، آسف وكأنَّك ماسمعتش حاجة.
أنهى كلماته وتحرَّك فورًا دون أن ينتظر ردًّا.
ناداه بلال أكثر من مرَّة، لكن يوسف لم يلتفت، كأنَّ بينه وبين ابن عمِّه جدارًا من وجع.
خطا بخطواتٍ سريعة نحو منزله، حتى توقَّف فجأة..
وهو يرى آسر يركض بجنونٍ نحو سيَّارته.
ثوانٍ، وخرج يزن يحمل رولا بين ذراعيه، جسدها متراخٍ، رأسها متدلٍّ بلا حراك.
اتَّسعت عينا يوسف، واندفع نحوهما وهو يهتف بفزع: ُ
_ خالو! في إيه، مالها رولا؟!.
كان الليل هادئًا ليصدح الصوت في المكان، صوتٌ يدلُّ على الفاجعة حتى وصل إلى أذن بلال، الذي كان عائدًا للمنزل بعد أن فشل في إيقاف يوسف أو الحديث معه.
_ لازم نروح المستشفى، رولا انتحرت!
قالها يزن وهو يفتح باب السيَّارة بسرعة، لكن يوسف أوقفه فجأة واقترب بخطوةٍ حاسمة، وتلقَّف رولا من بين ذراعيه دون تردُّد.
_ اهدى..إن شاء الله ننقذها.
لم يُكمل حديثه، إذ وصل بلال في تلك اللحظة، فتسمَّرت قدماه وهو يرى جسد رولا بين ذراعي يوسف، الذي اندفع بها راكضًا بها نحو سيارة آسر
ليضعها بالسيارة بهدوء، مع توقُّف رحيل تنظر لابنتها
كمن فقدت عقلها، يداها ترتجفان، وعيناها معلَّقتان بابنتها الممدَّدة بلا حراك، والدم يلطِّخ السيارة..
تعلِّق كفَّها بذراع يوسف، تشدُّ كُمَّ قميصه:
_ رولا بتموت!! اعمل أي حاجة… انقذها!
قالتها بصوتٍ مبحوح، مكسور، يتوسَّل أكثر ممَّا يطلب.
انحنى يوسف سريعًا يفحص النبض، ويضغط بقوَّة على الرسغ، ثم رفع رأسه إليها بوجهٍ متماسك يخفي قلقًا حقيقيًّا:
_ طنط رحيل أنا هوقف النزيف دلوقتي، بس ده إسعاف مؤقَّت، لازم مستشفى فورًا.
هزَّت رأسها بعنف، دموعها تنهمر:
_ لا…لا، اعملها هنا متودِّيهاش، أنا خايفة تموت في الطريق!
إنتَ دكتور، مش هتسيبها تموت صح يا يوسف؟!
نظر إليها نظرةً حاسمة، وخرج صوته قويًّا رغم التوتُّر:
_ لو فضلت هنا دقيقة كمان، هيَّ هتموت..
قطع في الشريان، وده محتاج جراحة أوعية ونقل دم، وده مش موجود غير في المستشفى.
اقتربت من يزن تتهاوى خطواتها، وكأنَّ الأرض تُسحبُ من تحت قدميها، حتى كادت تسقط لولا أنَّها تشبَّثت به بضعفٍ مهين.
عيناها معلَّقتان بوجهه، تبحثان عن طمأنينةٍ أنَّ ابنتها مازالت على قيد الحياة، فتساءلت بنبرةٍ مهتزَّة، وكأن الحروف أشواكًا تقطع شفتيها:
— يزن..البنت ماتت!! صح؟
ارتجف صوته وهو يحاول التماسك، لكنَّ عينيه خانتاه:
— رحيل، اهدي لو سمحتي…
كلُّ ذلك وبلال واقفٌ على بُعد خطوات، لا يتحرَّك، يحدِّق في جسدها الشاحب كأنَّها صورةٌ لا تنتمي للواقع.
كانت ممدَّدة أمامه، بلا لون، بلا صوت..بلا روح، جثَّة فقط.
استقلَّ يوسف السيارة بجواره، وهو يحاول إيقاف النزيف بعمل إسعافات أوليَّة.
رفع رأسه فجأةً نحو آسر، صرخ بأعلى صوته:
_بسرعة! على المستشفى!.
انطلقت السيَّارة بسرعةٍ جنونيَّة كأنَّها تسابق الزمن، بينما استقلَّ يزن سيارته الأخرى ورحيل إلى جواره، وانطلق خلفهم دون أن ينطق بحرف.
أمَّا هو…فبقي واقفًا، جامدًا، فارغًا.
لا يشعر بشيء..عقله يصفعه بأسئلةٍ متلاحقة لا ترحم:
_دي رولا!! ولَّا أنا بتخيَّل..
ليه تعمل كده..
بعد كتب الكتاب؟
أنا السبب، جوازي منها..هوَّ اللي قتلها؟
هزَّ رأسه بعنف، كأنَّه يحاول طرد الفكرة، أو طرد نفسه ممَّا فعلته بنفسها، لكنَّ الذنب كان أثقل من أن يُهزم.
ظلَّ على حاله، حتى اخترق أذنه صوتُ ضي المرتجف:
_ بلال..هوَّ يوسف فين؟ بتَّصل بيه ومش بيرد!
عندها فقط عاد إليه وعيه، كمن أُفيق فجأةً من غيبوبةٍ قاسية، انتفض جسده بعنف وتحرَّك دون تفكير، يركض نحو سيارته وصوته يخرج مبحوحًا، متكسِّرًا:
_ راح المستشفى… ولازم ألحقه.
هرولت ضي خلفه والذعر ينهش قلبها، وأنفاسها تسبق خطواتها:
_ مستشفى!! ليه..إيه اللي حصل؟!
توقَّف لحظة، لحظة قصيرة لكنَّها بدت دهراً، ثم نطق الكلمة من فمه بلا وعي، كأنَّ لسانه نطق بها قبل أن يستوعبها عقله:
_رولا..انتحرت.
_ انتحرت؟!
تمتمت بها بذهولٍ مرتعش، واتَّسعت عيناها كمن تلقَّى صفعةً موجعة، ثم أسرعت لتستقلَّ السيارة بجواره.
لم تمرّ سوى دقائق معدودة حتى وصلا إلى المشفى..ترجَّل بلال مسرعًا دون أن يلتفت لسيَّارته وخلفه ضي التي تناديه، لكنَّه لم يستمع إليها، دلف إلى الداخل بعينين تائهتينِ تبحثان عنهم بين الوجوه..وجد الجميع مصطفِّين أمام غرفة العمليات، الوجوه شاحبة، والقلوب معلَّقة بخيط أملٍ واهٍ.
خطا بخطواتٍ سريعة حتى توقَّف أمام يوسف:
_ إيه اللي حصل؟
_ في العمليات…
قالها يوسف باقتضابٍ مُنهك.
اتَّجه يوسف بنظره إلى يزن، الذي كان يقف بجسدٍ متماسكٍ بعض الشيء وقلبٍ يئنُّ حتى الاختناق:
_ خالو اهدى…هيَّ هتكون كويسة إن شاء الله.
أومأ يزن بصمت، وشفتيه ترتجفان وهو يكرِّر كمن يتشبَّث بالنجاة:
_ إن شاء الله… إن شاء الله.
بينما وقفت رحيل أمام باب غرفة العمليات، تحدِّق فيه وكأنَّها ترى خلفه روح ابنتها معلَّقةً بين السماء والأرض. لم تكن تبكي..كانت تشعر بشعورٍ أعمق من البكاء، كانت صامتةً بشكلٍ مخيف، كأنَّ الصدمة سحبت منها حتى القدرة على الصراخ.
ثوانٍ…ثم خانتها قدماها.
انهارت فجأة، جسدها يهوي كمن انطفأ فيه آخر خيط قوَّة، ولولا أن أسرع بلال ويزن إليها لارتطمت بالأرض، تشبَّثت بثياب بلال وأصابعها ترتجف، وصوتها خرج مبحوحًا، مشقوقًا، كأنَّ صدرها يتمزَّق مع كلِّ حرف:
_ بنتي يا يزن… عايزة بنتي.
شهقت شهقةً موجوعة، ووضعت كفَّها فوق صدرها:
_ قلبي بيوجعني عليها..إزاي ماحسِّتش بيه؟.
انفجرت بالبكاء أخيرًا، بكاءً حارقًا لا صوت له أحيانًا، ولا دموع تكفيه أحيانًا أخرى:
_رولا هتموت..لا هيَّ ماتت فعلًا.
قالتها ونهضت فجأةً وقد خُيِّل لها أنَّها ماتت متَّجهةً إلى غرفة العمليات تطرق على الباب.
سحبها يزن وآسر:
_ماما اهدي، إيه اللي بتعمليه دا!!.
حاوطها يزن وعاد بها إلى المقعد الحديدي:
_رحيل، فين إيمانك بربِّنا، خير إن شاءلله.
ألقت نفسها بأحضانه وبكت بشهقاتٍ مرتفعة:
_بنتي موِّتت نفسها يا يزن، أنا أمِّ فاشلة، بنتي وصلت لمرحلة إنَّها تقتل نفسها.
_رحيل قدَّر الله وماشاء فعل، إن شاء الله خير، اختبار من ربِّنا وإن شاء الله هنكون قدُّه، ادعي لها ربِّنا ياخد بإيدها وتقوم بالسلامة.
جلس آسر أمامها على عقبيه:
_ماما حبيبتي إن شاءلله هتكون كويسة، بلاش يأسك دا، خير حبيبتي بطَّلي عياط.
قالها آسر ونظراته على والده الذي شحب وجهه يتمتم بلسانه:
"لا إله إلَّا أنتَ سبحانك إنِّي كنت من الظالمين" ظلَّ يكرِّرها إلى أن خرج الطبيب أخيرًا بجوار يوسف الذي دلف للداخل بعد تأخُّرهم.
ركض آسر أوَّلًا يليه بلال:
_إيه يا يوسف؟..
نظر للطبيب ثم إلى يزن:
_الحمد لله هيَّ كويسة، بس لازم تفضل في العناية كام ساعة.
_عناية!! تمتمت بها رحيل بدموع.
اقتربت ضي تضمُّها وهي تنظر لزوجها بهزَّة رأس، فتحدَّث الطبيب:
_هيَّ جت فاقدة دم كتير، والوقت للأسف كان طويل، إحنا قدرنا الحمد لله نسيطر على الوضع، لكن من الأفضل تفضل تحت الملاحظة كام ساعة، هيَّ كويسة والدكتور يوسف هيشرح لكم الوضع.
قالها طبيب جراحة الأوعية وغادر المكان..سحبت رحيل كفَّ يوسف:
_البنت عايشة يا يوسف ولَّا خلاص؟
_طنط رحيل إيه اللي بتقوليه دا، الدكتور قالِّك إنَّها كويسة.
قالها بلال وعيناه على يوسف:
_الموضوع مراقبة لفقدان الدم للأعضاء الحيوية، صح يا يوسف ولَّا لأ
أومأ يوسف وقال:
الحمد لله إننِّا لحقناها في الوقت المناسب، وإنقاذها تمَّ بنجاح..هيَّ موجودة في العناية لساعات بس، ودا بناءً على طلبي علشان نبقى مطمِّنين.
النزيف كان شديد والتأخير للأسف رغم إنُّه دقايق إلَّا إنُّه سبَّب هبوط شديد في الضغط ونقص في وصول الدم والأكسجين للأعضاء المهمَّة، فلازم نتابع.
الحمد لله مفيش نزيفوعوَّضنا الدم اللي فقدته، وحاليًا حالتها مستقرَّة، لكن لسه محتاجة متابعة دقيقة، لأنِّ في شوية مخاطر بنراقبها، مش علشان حالتها خطر لكن علشان نطمِّن.
سحب بلال ذراعه لبعض الخطوات:
_ المخِّ والقلب ماحصلُّهمش حاجة من النزيف دا صح؟.
_لا الحمدلله كلُّه حاليًا كويس، قالها وهو ينظر إلى رحيل التي تطالعهم بنظراتٍ مرعبة.
_والله يا طنط مافيه حاجة، مكان الإصابة محتاج متابعة لأنِّ الشريان والأعصاب اللي حواليه حسَّاسين، فممكن يحصل تنميل أو ضعف مؤقَّت في الإصابة، وغالبًا بيتحسِّن مع الوقت والعلاج.
بعد دقائق، دلفت رحيل إلى الغرفة، فوجدتها ماتزال غافيةً تحت سطوة المسكِّنات..انحنت عليها، طبعت قبلةً مرتعشةً فوق جبينها، وهمست بصوتٍ مبحوح تكسِّره الدموع:
_ رولا، افتحي عيونك يا حبيبتي، طمِّني قلب أمِّك المحروق عليكي…بالله عليكي يا بنتي.
ظلَّت تهمس لها، تحاول أن تربط بين وجودها بالكلمات، قبل أن يُفتح الباب ويدلف بلال..توقَّف عند العتبة يحدِّق في جسدها الشاحب، كأنَّ الصدمة كبَّلته..التفتت إليه رحيل، نهضت تمسح دموعها واقتربت منه:
_ إيه اللي حصل يا بلال، إنتَ آخر واحد كنت معاها.
ردَّ بصوتٍ خافت، مثقلٍ بالتيه:
_ معرفش..والله معرفش، أنا كمان بسأل السؤال ده.
عادت رحيل بنظرها إلى ابنتها، وصوتها انكسر:
_ تفتكر علشان غصبتها في موضوع كتب الكتاب؟
صمت، لم يجد مايقوله..لم ينفِ، ولم يؤكِّد، اكتفت بأن ربتت على كتفه بحزنٍ صامت، ثم تحرَّكت إلى الخارج.
ظلّ وحده..
تقدَّم بخطواتٍ بطيئة، وعيناه لا تفارقان ملامحها التي انطفأ نورها..أين ذهبت ضحكتها، أين شقاوة تلك الفتاة المدلَّلة التي كانت تملأ المكان حياة..أهذه حقًّا رولا؟!
جلس على المقعد جوارها، ومدَّ كفِّه يمسِّد خصلاتها بحنانٍ مرتعش، فداهمته مشاهد خاطفة جمعتهما… ضحك، عناد، نظراتٌ لم تُفهم في وقتها..انفجرت دمعةٌ غائرة رغمًا عنه حين لامست أنامله كفَّها المجروح.
مرَّر أصابعه بحذرٍ يخشى أن يؤلمها أكثر، ثم رفع يدها دون وعي ولثمها بقلبٍ ينهار..نظر إلى وجهها وهمس بصوتٍ مكسور يحمل تهديدًا لا يشبه سوى الحبِّ الخائف:
_ لمَّا تفوقي هعاقبك، وهكرَّهك نفسك..
اصبري عليَّ ولو ماعلَّمتكيش يعني إيه وجع إنِّ روح تتخلَّصي منها، يبقى قولي عليَّ متخلِّف وغبي.
قاطعه دخول آسر، انتفض من مكانه ونهض سريعًا، مسح دموعه بظهر كفِّه، ثم خرج من الغرفة دون أن يلتفت إليه…
خرج من الغرفة واتَّجه إلى جلوس يوسف الذي يحاوط رأسه بكفَّيه:
_رولا انتــ حرت علشاني صح، كانت رافضة كتب الكتاب؟
رفع رأسه إليه وعجز عن الرد:
_معرفش..اسألها لمَّا تفوق، إنتَ مكنتش أقرب ليها منِّي.
دار بعينيه على يزن ورحيل، إلى أن وقعت عيناه على آسر الذي توقَّف أمام غرفة العناية يتابع بنظراته جسد أخته:
_هتقول إيه لآسر، فكَّر في دا، أهمِّ من رولا، طيب خالو كبير ومش قدر يستوعب الصدمة، وشوفت حصلُّه إيه، إنَّما آسر وكمان محامي، دا ممكن يو. لَّع الدنيا وإحنا ماصدَّقنا لمِّناها.
مسح على وجهه بغضب:
_نفسي أعرف الغبية دي عملت كدا ليه؟!.
قاطعه صوت آسر لوالده:
_واحدة مكتوب كتابها النهاردة، والمفروض تكون سعيدة مش تحاول تقـ. ـتل نفسها، هوَّ إيه اللي بيحصل بالظبط، ومن إمتى بلال بيحبِّ رولا؟.
نهض يزن من مكانه بهدوء رغم مايشعر به:
_إحنا في مستشفى، اتجنِّنت، لمَّا تصحى هنعرف ليه عملت كدا، صوتك مايعلاش.
جلست ضيّ إلى جوار يوسف، تراقب الوجوه المتوتِّرة من حولها بصمتٍ ثقيل، قبل أن تميل نحوه وتهمس بقلقٍ لم تستطع كبحه:
— يوسف، إيه اللي بيحصل بالظبط، كلام آسر صحيح، من إمتى رولا وبلال بيحبُّوا بعض؟
التفت إليها برأسه ببطء، وصوته خرج واهنًا كأنَّ الكلمات تُستنزف من صدره:
— ومن إمتى وإحنا كنَّا بنحبِّ بعض؟
هزَّت رأسها نافية، وعيناها تشتعلان بالشك:
— لا..كنَّا بنحبِّ بعض يا يوسف، متنكرش همَّا غيرنا، ماتحاولش تتذاكى عليَّ، أنا متأكِّدة إنِّ في حاجة حصلت وإنتَ مخبِّي.
انحنت أقرب تخفض صوتها حتى لا يسمعه أحد:
— بلال مابيحبِّش رولا وأنا متأكِّدة.. الأوَّل كنت شاكَّة، دلوقتي متأكِّدة.
تنفَّس بعمق، كأنَّ صداعه يطرق جمجمته بعنف:
— ضي، أنا مصدَّع ومش قادر أتكلِّم… رجاءً اسكتي.
لم تيأس، قالت بمرارةٍ خافتة:
— على فكرة، مفيش راجل بيخبِّي على مراته حاجة إلَّا لو مش واثق فيها.. خلاص مش عايزة أعرف منَّك حاجة.
قالتها ونهضت سريعًا لتتَّجه وتجلس إلى جوار رحيل، منكفئةً على حزنها.
راقب يوسف جلستها المنكسرة، لكن رنين هاتفه قطع شروده..نهض وتحرَّك بعيدًا عن الجميع:
_ أيوة يا بابا.
_ إيه اللي حصل، ليه خرجتوا كلُّكم فجأة؟
مسح على شعره، ثم قصَّ لوالده ماجرى.
في الجهة الأخرى، نهض إلياس من فوق الفراش مبتعدًا عن ميرال التي كانت تقرأ في مصحفها، واتَّجه إلى الشرفة:
_ ليه، إيه اللي حصل؟
_ محدِّش يعرف حاجة..الحمد لله لحقناها، ومستنيِّين تفوق.
ردَّ إلياس بنبرةٍ خائفة لم يفلح في إخفائها:
_ وخالك كويس؟
_ أيوه الحمد لله…بس ده مايمنعش إنِّ أعصابنا كلَّها على آخرها..نزفت كتير وحضرتك عارف الوضع بعد كده.
_خير إن شاء الله، شوية وماما تنام وأجيلكم.
_ مفيش داعي إحنا جاييِّن أصلًا، بس مستنيِّين تفوق وأطمِّن.
_ مينفعش، لازم نكون جنب خالك.
_ اللي حضرتك عايزه…
_ خلاص يا حبيبي ارجع إنتَ ومراتك، وأنا ساعة كده ماما تنام علشان متسألش.
جاء صوت ميرال فجأةً ساخرًا:
_ وياترى مش عايز مامته تسأل على إيه يا إلياس باشا؟
ضحك يوسف على الطرف الآخر:
_كده..ربِّنا يعينك يا حاج أنا هقفل، وإنتَ شوف جواب مقنع لحضرة الصحفيَّة.
_ الواد ده بيقول إيه؟
_ عيب يا ميرو، الواد كبر وبقى اسمه الدكتور..مش عارف إلياس صابر عليكي إزاي.
قالها يوسف وأغلق الهاتف، واستدار ليعود فوجدها تقف خلفه، تعقد ذراعها بتحفُّز:
_ ماإنتَ بتعرف تنكِّت أهو…أومال معايا مصدَّع ليه؟
_ شوفي يا سبحان الله، علشان تعرفي إنِّك صداع وبحاول أتحمَّلك.
_والله يا يوسف، بقى أنا صداع؟
استدارت لتغادر، لكنَّه سحبها فجأة يضمُّها تحت ذراعيه بقوَّة:
_ استني يا بنتي..أنا هلاقيها منِّك ولَّا من أمِّي؟
اعتدلت واقفةً أمامه تحدِّق في عينيه بقلقٍ صريح:
_ إيه اللي حصل يا يوسف..أو إيه اللي بيحصل؟
فتح فاهه ليرد، لكن صوت الممرِّضة قاطعهم:
_ المريضة فاقت.
بقصر الجارحي..
كان يجلس أمام المسبح شاردًا في طيفها؛ تلك الطلَّة التي سرقت أنفاسه وفضحت تماسكه الواهي، مال برأسه نحو القمر وابتسامة لامعة تستقرُّ بعينيه وهو يستعيد كلماتها الناريَّة، كلماتٍ لم تكن سوى اعترافٍ صريحٍ باشتياقها له.
همس، ومازالت الابتسامة تنير وجهه:
_عيونك فضحتك يا صغيرتي…
أغمض عينيه، وانساق بخياله وهو يحتضنها، ليجرفه التذكُّر إلى لقائه بميرال في النادي قبل عدَّة أيام..
قبل عدَّة أيام بالنادي..
ترجَّل من سيارته متَّجهًا إلى الداخل، ليصادف خروج ميرال وهي تتحدَّث بهاتفها.
أوقفها بصوتٍ مهذَّب:
_طنط ميرال…
ضيَّقت عينيها قليلًا وأنهت حديثها مع رحيل، ثم لوَّحت بيدها لغرام طالبةً منها الانتظار دقائق..اقترب حمزة بخطواتٍ ثابتة:
_إزي حضرتك؟
_أنا كويسة يا حبيبي، عامل إيه..ووالدتك عاملة إيه؟
_الحمد لله، وإنتوا عاملين إيه؟
ابتسمت ابتسامةً خبيثة، وكأنَّها قرأت ماخلف سؤاله، ثم اقتربت خطوةً ونظرت مباشرةً داخل عينيه:
_ليه تعمل كده يا حمزة؟ أنا بحاول مع إلياس تهدئة الأمور، تقوم إنتَ تشتغل بأسلوب همجي! شوف وصلنا لإيه… وعرفت من والدتك إنَّك بتفكَّر تسيب شغلك..غلط يا ابني.
تجاهل كلماتها وسأل بهدوءٍ جريح:
_شمس عاملة إيه؟
ابتسمت ابتسامةً مقتضبة:
_كويسة.
ثم أتبعتها بتساؤلٍ متحفِّز:
_بتسأل عليها ليه؟ ماإنت خلاص بتبدأ حياة جديدة، وناوي تفتح شركة سياحيَّة.
_هوَّ ليه حاسس أنُّكو مستكترين عليَّ أحبَّها.
_إيه اللي بتقوله دا يابني؟!
اقتربت تربت على ذراعه:
_مش عارفة أقولَّك إيه، بس اللي إنتَ بتعمله غلط، أوَّلًا حرام تضيَّع مستقبلك.
نظر إليها وقال:
_عادي، مفيش حاجة فارقة..سياحيَّة ولَّا جويَّة كلُّه واحد.
هزَّت رأسها معترضة:
_لا، مش واحد..يمكن إنتَ مش شايف قيمة اللي بتسيبه دلوقتي، بس هتندم، أوعى تسيب شغلك ولَّا مستقبلك،
اسأل مجرَّب يا حبيبي والله بكرة تندم.
ضحك بمرارة، وصوته خرج مبحوحًا:
_الندم في إيه وإنتي مش مرتاحة، ولا حاسَّة بالحاجة اللي بتحبِّيها.
_تضيَّع مستقبلك!! من إمتى وإنتَ مستسلم كدا؟!.
_وأعمل إيه بالمستقبل يا طنط؟ حاربت علشانها، وفي الآخر هيَّ خذلتني..حضرتك بتقولي اللي عملته غلط، طيب ماكانت تقول من الأوِّل إنَّها مش بتحبِّني، ليه تكسرني كده؟
اقترب خطوة حتى وقف أمامها مباشرة:
_لو كنت أعرف إنِّ رفضها بسبب السنِّ اللي بينَّا، صدَّقيني ماكنتش حاولت أقرَّب، فهمت ده متأخَّر..يمكن هيَّ ماحبِّتش تواجهني بالحقيقة رغم إنِّ عمُّو إلياس وبابا قالولي، بس ماتوقَّعتش تيجي منها.
اتَّسعت عيناها بدهشة:
_إيه اللي بتقوله ده يا حمزة؟
_بقول الحقيقة..شمس مش خايفة عليَّ ولا عمُّو إلياس، ولا حتى حضرتك… اللي فارق معاكم هوَّ السنّ..
أنا آسف وبكرَّر أسفي، ربِّنا يسعدها مع اللي يختاره قلبها.
وعلى فكرة موضوع شغلي خلاص انتهى.
اقتربت منه بقلقٍ واضح:
_مين قالَّك كده يا ابني؟
خفض عينيه وقال بصوتٍ منكسر:
_مش محتاج حد يقولِّي، يمكن من كتر حبِّي ليها ماشفتش نظراتها ولا خوفها…وفسَّرت كلِّ حاجة على مزاجي.
هزَّت رأسها نافية:
_لا، مش صح يا حمزة، وإنتَ عارف الرفض ليه، وإلياس اللي رافض خوفًا عليك.
_طنط ميرال، أنا مش طفل وخلاص بقى أسطوانة خايفين على مستقبلك..
عمر الوظيفة ماكانت مستقبل، بلاش نلزق الاتنين في بعض.
عرفت إنَّها رافضاني ومش زعلان، على الأقلِّ فوقت لنفسي.
_يا ابني إيه اللي إنتَ بتقوله ده؟!
_آسف لو عطَّلت حضرتك، وطنط غرام زهقت..بعد إذنك.
خرج من شروده على صوت والده:
_قاعد كده ليه؟
اعتدل في جلسته وحدَّق للأمام:
_قلت أقعد شوية..بكرة عندي شغل مهمّ.
سحب إسحاق مقعدًا وجلس قبالته:
_شوفتك إنتَ وبنت إلياس، أومال ليه وعدتني هتبعد عنها؟
سحب نظره بعيدًا وقال بصوتٍ منخفض:
_القلب مالوش أحكام للأسف يا بابا… والله حاولت ولسه بحاول.
عاد ينظر إليه، وابتسامةٌ خفيفة مرتعشة ارتسمت على شفتيه:
_طلعِت بتحبِّني يا بابا، مش زي ماكنت متخيِّل.
ضيَّق إسحاق عينيه:
_مش فاهم…تقصد إيه؟
_حضرتك قلتلي فرق السنِّ بينكم كبير، وبعد اللي حصل افتكرت إنِّ ده سبب رفضها.
_لا، مش علشان كده..
علشان أبوها خايف عليك، مش عايز يضيَّع مستقبلك.
إنتَ متعرفش إلياس ممكن يدوس على نفسه علشان مايئذيش حدِّ في طريقه.
مرَّر يده على شعره بانفعال:
_أنا مش عارف أعمل إيه يا بابا…
عارف إنَّك هتقول عليَّ متهوِّر، بس بجد معرفش..
معاها بفقد أعصابي، مع إنِّ ده مش طبعي.
تعرف لمَّا شوفتها بتضحك لابن الدكتور؟
كنت عايز أقوم أموِّته…وعايز أصرخ وأقول دي بتاعتي أنا.
استمع إليه إسحاق بهدوءٍ مشوبٍ بالحزن، ثم ربت على كتفه:
_الراجل لمَّا يعدِّي التلاتين، لو حب..بيحبِّ بجنون.
وبنت إلياس شكلها مجنِّناك يا حضرة الكابتن.
أفلت ضحكةً قصيرة خرجت معها دمعة:
_حتى كلمة كابتن منها غير أي حد.
اعتدل بكامل جسده، وعيناه تتوسَّلان:
_بابا، أنا بجد بحبَّها..
مش متخيِّل حياتي من غيرها.
بقالي قدِّ إيه، ولا حد عمل فيَّ اللي عملته هيَّ.
تنفَّس إسحاق بعمق، ثم نهض:
_قوم نام وإن شاء الله خير.
توقَّف، وأمسك كفَّ والده:
_عمُّو إلياس شايف تردُّدك، وعلشان كده رافض.
بابا، أنا مش بطلب حاجة مستحيلة..
لو بتحبِّني بجد ساعدني.
_طيب وشغلك؟
_مش عايزه.
توقَّف إسحاق، التفت إليه بحدَّة:
_يبقى مش هساعدك في حاجة.
طول ماإنتَ بتتنازل مش هساعدك يا ابن إسحاق.
قالها وتحرَّك للداخل،
بينما هوى حمزة على المقعد مرَّةً أخرى…
مثقلًا بقلبٍ يعرف جيِّدًا أنَّه خاسر في معركة الحبِّ والعقل معًا.
بمنزل يوسف..
توقَّفت تنتظره حتى خرج من الحمَّام، فطالعها بنظرةٍ ساخرة:
_إيه، عايزة الحمَّام؟
اقتربت خطوة، صوتها مشدود:
_عايزة أفهم إيه اللي بيحصل يا يوسف، وصدَّقني لو مافهَّمتنيش هزعل منَّك أوي.
ابتسم ابتسامةً باردة وهو يمرُّ من جانبها:
_الموضوع مايخصِّناش علشان تزعلي..
إنتي ليكي حق تزعلي لو في حاجة تخصِّني أنا…غير كده لأ.
قالها واتَّجه للفراش، لكنَّها وقفت أمامه تسدُّ طريقه:
_مش هتنام قبل ماتقولِّي ليه بلال اتجوِّز رولا؟
تنفَّس بنفاد صبر، ورفع صوته:
_وبعدين بقى..هنفضل نحكي في الموضوع ده لحدِّ إمتى؟
روحي اسأليها هيَّ.
وبالمرَّة نصيحة ماتبقيش حشرية، صفة مذمومة، وأنا مابحبَّهاش ولا بحبِّ اللي متوصف بيها.
عقدت ذراعيها بعناد:
_بغضِّ النظر عن حصِّة النحو دي..أنا كده ومش هسكت غير لمَّا أعرف.
في لحظة، جذبها بعنف فسقطت فوق الفراش وحاصرها بجسده، وعيناه تقدحان غضبًا:
_اسمعيني كويس، علشان خلقي بقى ضيِّق من هيافتك..
قولت مابحبِّش الزَّن، يبقى خلاص..
الموضوع مايخصِّناش…يتجوِّزها، يطلَّقها، يولعوا الاتنين مالناش دعوة..
ولو تدخَّلتي في السكَّة دي أروَّحِك على بيت أبوكي.
قومي خدي شاور عايز أنام، ستَّات نكدية.
اعتدل مبتعدًا، واتَّجه لغرفة الملابس وهو يتمتم بكلماتٍ غير مفهومة.
جلست على الفراش تتابع حركته بنظرةٍ مشتعلة، ثم قالت بنبرةٍ حاسمة:
_عارف؟
كان ممكن أعدِّي الموضوع عادي…
بس إصرارك ده، وحياة غرورك الأصلع لازم أعرف الحقيقة.
توقَّف، واستدار بجسده ببطء، صوته تهديد صريح:
_دقيقة كمان لو شوفتك قدَّامي أبيِّتك في الجنينة برَّة..
قووومي.
نهضت ترمقه بغضبٍ مكتوم، ثم اندفعت إلى الحمَّام، وصفعت الباب خلفها بعنفٍ هزَّ جدران الغرفة.
مضى يومان، والهدوء يُخيِّم على أرجاء الكمبوند، هدوءٌ مشوبٌ بالريبة والأسئلة المكتومة..لم يكن أحدٌ يعلم ماالذي جرى لرولا ولما فعلت ذلك، سوى دائرةٍ ضيِّقةٍ التزمت الصمت، بينما راحت الألسنة تتهامس:
لماذا تفعل ذلك بعد زواجها من بلال،
كيف تصل الأمور إلى هذا الحدّ؟
اتَّخذ يزن الصمت درعًا له وابتعد، لم يسأل، لم يبرِّر، لم يواجه..يومان كاملان لم يحدِّثها فيهما، بل لم يرها حتى بعد أن أفاقت، وكأنَّ المسافة صارت ملاذه الوحيد من وجعٍ لا يعرف كيف يواجهه.
في المقابل لم تفارقها رحيل لحظة، كانت إلى جوارها كظلٍّ حامي، تحاول أن تضمِّد ماتبقَّى من روحها قبل جسدها، توافد الجميع لزيارتها، كلماتٍ مطمئنة، ونظراتٍ مشفقة، وأسئلة مبتورة لا تلامس الحقيقة.
وحدها ضي لم تتراجع، ظلَّت تسأل، تحاول أن تنبش فيما صار، لكن دون إجابة.
مساء اليوم الثالث، كانت رولا تجلس في غرفتها، شاردةً، تحدِّق في نقطةٍ وهميَّة، والحزن يثقل كتفيها، ووحدةٌ خانقةٌ تلتفُّ حول قلبها.
قطع وحدتها صوت طرقاتٍ خفيفة على باب الغرفة.
رفعت رأسها ببطء، وقبل أن تنطق، انفتح الباب..ودخل يزن.
توقَّفت أنفاسها لحظة.
عيناها اتَّسعتا، وخرج صوتها مبحوحًا، مرتجفًا، كطفلةٍ تبحث عن الأمان:
_ بابا…
وقف عند الباب، لم يتقدَّم فورًا..عيناه استقرَّتا عليها، نظرةٌ طويلةٌ تحمل قسوة الألم الذي شعر به بما فعلته، أكثر ممَّا تحمل غضبًا..أغلق الباب خلفه بهدوءٍ مُربك، ثم قال بصوتٍ منخفضٍ لكنَّه حاسم:
_قاعدة كدا ليه؟ اجهزي خطيبك هيجي ياخدك علشان تروحي تشتري فستان الفرح.
ارتبكت، حاولت الرفض ولكنَّها قالت بضعف:
_ بابا، أنا تعبانة شوية ومش عايزة أخرج.
قاطعها دون صراخ، دون انفعال، لكن بنبرةٍ لم تحتمل النقاش:
_ قومي مش عايز اعتراض.
وقفت ببطء، رأسها منكَّس، اقترب منها خطوتين ثم توقَّف..لم يحتضنها، لم يمدَّ يده، فقط رفع ذقنها بإصبعه، أجبرها على النظر في عينيه.
_ بصِّيلي.
صمت لثوانٍ، أنفاسه متقطِّعة، ثم خرج السؤال مكسورًا، جارحًا، صادقًا حدَّ الوجع:
_ ليه؟
انهارت دموعها فورًا، شهقة حادَّة شقَّت صدرها، حاولت الكلام لكن صوتها تخاذل:
_ أنا..أنا آسفة
أنزل يزن يده ببطء، عينيه امتلأتا بألمٍ أعمق من الغضب، قال بصوتٍ اختلط فيه العتاب بالخوف:
_آسفة!! إيه اللي حصل خلَّاكي تعملي كدا؟.
_معرفش كنت مخنوقة ومحسِّتش بنفسي.
همس وكأنَّه يخاطب نفسه أكثر ممَّا يخاطبها:
_ مخنوقة لدرجة إنِّك ترعبيني عليكي!!
مخنوقة لدرجة تموِّتي نفسك!!.
أنا بنتي تنتحـ. ر، ليه مش مسلمة؟!
تحجَّر وجهه، وبدت عيناه كأنَّهما تحملان نارًا لا تُطفأ.
تقدَّم نحوها خطوة، ثم أخرى، حتى توقَّف أمامها ونطق بصوتٍ هادئ لكنَّه الهدوء الذي يسبق الانفجار:
_إنتي فاهمة إنتي كنتي ناوية على إيه..
فاهمة إنِّك كنتي هتوقفي قدَّام ربِّنا وإنتي جاية بمعصية مالهاش توبة؟!
رفع ذقنها بعنفٍ محسوب، لا ليؤذيها؛ بل ليجبرها أن تعرف مدى خطأها:
_أوعي تفكَّري إنِّ اللي كنتي هتعمليه حل..
دا خروج من رحمة ربِّ العالمين.
اشتدَّ صوته، وكأنَّ كلَّ كلمة ينطقها، أراد بها أن تصفعها، لتدرك كم قسوة ماأشعرته به:
_عايزة تمو تي كافرة؟!!.
هزَّها بعنف بعدما فقد السيطرة، وصرخ صرخةً زلزلت كيانها:
_بنتي أنا تمو. ت كافرة!!
دلفت رحيل سريعًا وحاولت إبعاده عنها:
_يزن اهدى لو سمحت.
دفعها بغضب وأشار بتهديدٍ صريح:
_قولي لها لو فكَّرت مجرَّد تفكير تعمل حاجة زي دي تاني، يبقى لادبنتي ولا أعرفها، خلِّيها تجهز..بلال هيجي كمان شوية.
_تمام..تمام، ممكن تهدى، أنا تعبت مبقتش ملاحقة حرام عليكم، خاف على نفسك شوية.
كانت نظراته على تلك التي انكمشت في أحضان والدتها..
بعد فترةٍ خرجت فوجدته واقفًا يتحدَّث في هاتفه..التقط وقع خطواتها، فاستدار وأغلق الخطَّ سريعًا، توقَّفت أمامه تنظر إليه بصمتٍ موجع.
_ اركبي واقفة كده ليه؟
_ مش عايزة.
فتح الباب، وعيناه تنسحبان نحو يزن المتوقِّف في الشرفة، ثم قال بنبرةٍ خافتة حازمة:
_اركبي، ومش عايز أسمع نفس.
استقلَّت السيارة بهدوءٍ يوجع القلب، والدموع محتجزة تحت جفنيها.. عندها أوقفتهما غرام:
_ بلال استنَّى…
قالتها وهي تقترب حتى وصلت للسيارة، ثم وضعت بين يدي رولا كتالوجًا لأشهر المصمِّمين:
_ حبيبتي، سيبك من الواد ده..شوفي الديزاينر اللي في الكتالوج ده، ولو في حاجة معيَّنة في دماغك قوليلي، ومالكيش دعوة بحاجة.
ارتسمت على شفتي رولا ابتسامة باهتة:
_هشوفه يا طنط وإحنا ماشيين..ضي كلِّمتني وهتقابلنا هناك، عندها خبرة أكتر منِّي، وكمان بتتعامل مع دايزنرز مميزين.
_ تمام يا حبيبتي ربِّنا يسعدكم.
رفعت عينيها إلى بلال، الذي تابع الحوار بصمت:
_ أي حاجة مراتك تشاور عليها تجيبها، سمعتني ولَّا لأ؟
_ ومين هيدفع إن شاء الله، مالِك بتقوليها بصدر مفتوح قوي كده يا غرام؟ أنا كلِّ مرتَّبي هصرفه على الفستان..إنتوا مجانين!! لازم أشيل شوية للزمن…يعني ممكن نشوف فستان بخمسميَّة ونحوِّش الألف التاني.
_ خمسميِّة إيه يا واد؟!
_ خمسميِّة دولار!! جنيه يا غرام، مفكَّرة دولار ولَّا إيه؟
لكمته في كتفه وهي تضحك:
_ امشي من قدَّامي بدل ماأنزِّلها من العربية وأخدها أنا.
استقلَّ السيارة وهو يتمتم ساخرًا: _وعلى إيه الطيب أحسن…إنتي كده هتصرفي الألف ونص.
بعد فترة، في أحد أشهر الأتيليهات، توقَّفت رولا أمام المرآة تنظر إلى انعكاسها الذي كان غريبًا عنها؛ عروس بثوبٍ أبيض وقلبٍ مثقَل، انبثقت دمعة، ثم شهقة مكتومة وهي تضع كفَّيها على فمها..التقطت ضي الصوت فدفعت الباب ودلفت:
_ إيه..إيه؟ اهدي…فيه حد يعيَّط وهو بيقيس فستان الفرح؟
ألقت رولا نفسها بين ذراعيها وبكت بنحيبٍ متقطِّع:
_مش عايزة فرح يا ضي اقنعيهم، هيسمعوا منِّك.
أبعدتها برفق، ومسحت دموعها بحنان:
_ طيب…ممكن تبطَّلي عياط وتسمعيني؟
سكنت قليلًا، رسمت ضي ابتسامة حزينة كأنَّها تتحدَّث لنسخةٍ شاحبة من رولا..وليست هي، ضمَّت وجهها بين راحتيها:
_ اسمعيني كويس، انسي أي حاجة حصلت..افتكري حاجة واحدة بس:
_إنِّك عروسة وفرحك بعد يومين. افقدي الذاكرة وكأنِّ مفيش حاجة حصلت، ولَّا أقولِّك…حطِّي في دماغك إن دي تدابير من ربِّنا علشان الجواز ده يتم خلاص، سواء راضية أو مش راضية..إنتي دلوقتي اتجوزتي بلال وبقى جوزك حتى لو ماعملتيش فرح… هل الفرح هيمنع اللي حصل، هل هيرجَّع اللي ضاع؟
انسابت دموع رولا:
_ هو مالوش ذنب، ليه تتحسب عليه جوازة؟
صفَّقت ضي كفَّيها:
_ أضربها دي ولَّا إيه؟! بقولِّك جوزك، تقولي مالوش ذنب!
طيب اسمعي يا بنت عمِّ يزن…أنا أصلًا هشيل مرارتي قريب من الدوك، فبلاش إنتي وهوَّ عليَّ.
بصِّي فيه قانون في عيلة الشافعي:
لا يجوز الجواز إلَّا بالغصب، اقنعي نفسك بكده..تمام يا عروسة؟
_حتى لو عرفتي إنِّ بلال بيحبِّ واحدة تانية؟
_ بت! صدَّعتيني…لا والدوك بيقول عليَّا نكدية! مايحبِّ يا أختي…ماكلِّنا بنحب..أنا بحبِّ أبويا وأمِّي، حدِّ منعني؟
ضحكت رولا رغمًا عنها.
_ أيوه كده اضحكي وبالنسبة لبلال بيحبِّ واحدة تانية دي، سيبيها عليَّ وأنا أجيب ضِلوفها.
_ إيه هيَّ دي؟
_ مرارتي! كان حد ضربني بالسليبر وقالِّي ماأجيش..
المهمّ، لفِّي كده خلِّيني أشوف فستان السندريلَّا.
تأمَّلت ضي الفستان ثم همست:
_إيه اللي عرَّفك إنِّ بلال بيحبِّ واحدة؟
_ عرفت وخلاص.
_ إنتي مش مكسوفة وإنتي بتقوليها؟! لا، كأنِّك بتسمَّعيني نشيد قومي..ده أنا غرت لك يا مصيبة!
_ وهغير ليه؟.براحته.
_ أيوه صح هتغيري عليه ليه؟ مجرَّد جوزك بس! لمَّا الموضوع يتطوَّر ويتجوزها ابقي غيري.
_بتتريقي؟
_ لا يا أختي، بشرح لك النشيد الوطني.
اخلعي..اخلعي وكمان مختارة فستان يتخلع لوحده، والله نفسي أولَّع فيكي… بس ممعيش كبريت.
دوى طرقٌ خفيف على الباب:
_ خلَّصتوا ولَّا لِسَّه؟
_اهدى يا خويا، هوَّ إحنا بنختار طرحة؟ ده فستان عروسة.
جاءها صوته من خلف الباب:
_ أنا عارف إنِّك هتغرَّقيني…مش عارف جايَّة ليه أصلًا.
_ جاية أشتري لك الشوز.
قالتها وهي تشير إلى رولا:
_ مفيش فساتين حلوة هنا، أنا هتصرَّف.
خرجت فوجدته واقفًا أمام الواجهة الزجاجيَّة، يدسُّ يديه في جيبي بنطاله.
_ هنكلِّم دايزنر يصمِّم وخلاص، مفيش حاجة كويسة.
_ براحتكم..اللي يعجبها.
اقترب منها وقال بصوتٍ منخفض:
_ ماتسمعيش كلامها في موضوع أي فستان وخلاص، خلِّيها تختار اللي يعجبها.
ضيَّقت ضي عينيها وهي تراقبه:
_ تمام، ماتخافش..المهمّ كلِّم يوسف وعرَّفه إنِّي خرجت من الشغل معاكم.
_ ماتكلِّميه إنتي..أكلِّمه أنا ليه؟
_ متخاصمين.
_ متخاصمين ليه؟
_علشان مكنش راضي يقولِّي ليه عايز تتجوِّز رولا.
ارتفعت ضحكاته في المكان:
_ مجنونة!
اقتربت تتلاعب بزرِّ قميصه:
_ تعرف؟ أنا استجدعتك قوي..ربِّنا يحميك يا حبيبي، طول عمرك شهم.
ضمَّها بحنان:
_ ولا يحرمني منِّك يا حبيبة أخوكي. المهمِّ لسانك يطول مع أمِّي ولَّا حماتك هقصُّه.
_متخافش، وبعدين على فكرة مش هيقولوا حاجة.
_ عارف، بس مش عايزها تحسِّ إنَّها مكسورة قدَّام حد.
رفعت نفسها وقبَّلت وجنتيه:
_ أحسن أخ في الدنيا..
وبالمناسبة هيَّ اللي قالت لي، مش يوسف.
_عارف، هيَّ قالت لي.
_ طيب إيه؟
زوى حاجبيه متسائلًا:
_ يعني ليه؟
_ رولا..هتطلَّقها فعلًا؟
في تلك اللحظة، انفتح الباب وخرجت رولا.
توقَّف الكلام في حلقه، والتقت عينا بلال بعيني رولا، نظرة خاطفة، مشدودة…كأنَّ السؤال سقط ولم يعد له جواب
مساءَ ذلك اليوم، أقامت فريدة حفلَ حنّةٍ لـ رولا في فيلا السيوفي، رغم اعتراض يزن في بادئ الأمر، لكنها حسمت الأمر بلهجةٍ لا تقبل الجدل:
_ مالكش دعوة… دي حنّة حفيدي وحفيدتي.
التفّت الفتيات في الأسفل، وارتفعت الزغاريد مع الأغاني الخاصة بالحفل، يتمايلن على الإيقاع والفرح يملأ المكان.
في الأعلى، بغرفة بلال، وقفت رولا أمام المرآة، تتأمل هيئتها بذلك الفستان الأحمر، قبل أن تلتفت إلى ضي التي تراقبها بصمت:
_ حلوة؟
_زي القمر… وخطفتي قلبي. شوفي بقى، على رأي يوسف، ببلاوي هيعمل إيه.
تنهدت رولا وتراجعت تجلس على الفراش:
_ بلاش دماغك تروح لبعيد… ده مجرد ستار، ده كله.
نهضت ضي وهي تحاول تغيير الجو:
_ أنا مش عايزة أكتئب، ناوية أصالح جوزي اللي بقاله أسبوع هاجرني يا أختي.
ضحكت رولا، بدخول شمس، تصفق بمرح:
_ ولاد بلدنا! يوم الخميس هكتب كتابي، وأبقى عريس.
اقتربت منهما، ثم أشارت نحو الأسفل:
_ يلا، أصحابكم تحت وعمالين يرقصوا، وإنتوا هنا!
اقتربت من رولا، غمزتها بخبث:
_ قولي بقى… رسمتي الحنّة ولا لأ يا ورق اللورا؟
دفعتها رولا ضاحكة:
_ امشي يا بت، مش ناقصاك… مبقاش غير الحنّة!
شهقت ضي، وضربت على صدرها بتهويل:
_ يخيبك! إنتِ مارسمتيش؟! أمال الحنّانة كانت بتعمل إيه؟
بسطت رولا كفيها وأشارت:
_ أهو… دي حلوة.
زمّت ضي شفتيها بسخرية:
_ ناقص الجنايني يا أختي… راسمة وردة! طيب ما جبتيش شوية مية؟ إنتِ هبلة؟ فيه عروسة ترسم وردة؟
_أومال أعمل زي ما الحنّانة بتقول؟ أكتب اسم أخوكي ويفضل يلقّح بالكلام؟
لوّحت ضي بيدها بحسم:
_ لا يا أختي، لا يلقّح ولا تلقّحي… أنا هروح ألبس، أحسن ما أعمل جريمة!
خرجت متجهةً إلى غرفتهما، دفعت الباب وهي تتمتم بكلماتٍ غاضبة عن غباء رولا.
وجدته واقفًا أمام المرآة، يجفف شعره. دلفت متصنّعة عدم الاهتمام.
رفع عينيه إلى انعكاس صورتها وقال بهدوءٍ ساخر:
_ أهلًا… وكالة رويترز.
رفعت حاجبها بتعالٍ، ثم تقدّمت إلى داخل الغرفة دون أن ترد.
ابتسم، ألقى بالمنشفة جانبًا، وتحرك خلفها. وجدها تبدّل ثيابها.
_ إيه.. داخل على فين كده؟ فيه باب من الاحترام يتخبط عليه.
نظر إلى الباب، ثم إليها بنظرة مستفزة:
_ وأخبط ليه؟ وإنتِ تقفلي ليه؟ على أساس يعني ما شُفتِكِيش قبل كده؟
_ قليل الأدب… لا، والكل مفكرك محترم!
دنا منها ببطء، وهمس بنبرة منخفضة ومشاكسة:
_ متخلّينيش أعمل زي مابتقولي يا ست المحترمة.
_ إياك تقرّب… عايزة أكمّل لبس، والكل تحت.
تراجع نحو خزانته:
_ أقرّب ليه؟ أنا داخل أغيّر علشان نازل.
اندفعت نحوه فجأة، ناسِية أنها لا تزال بنصف ملابسها:
_ نازل فين إن شاء الله؟ إنت مش لسه جاي؟
طالعها ببرود، ثم نزع روب الحمّام.
شهقت صارخة:
_مش بقول قليل الأدب! ما لقيتش اللي يربّيك؟
دفعها خارج الغرفة وهو يقول بضجر:
_ افصلي شوية… إيه ده!
طرقت الباب بعنف، دارت حول نفسها تقضم أطراف أصابعها:
_ ماشي يا ابن إلياس… اصبر عليّ.
بعد دقائق، خرج وأشار إليها:
_ ادخلي البسي، ممكن حد يدخل وإنتِ كده.
دخلت وأغلقت الباب بقوةٍ اهتزّت لها الجدران.
ضحك وهو يهمس:
_مجنونة… بس بحبها.
قاطعه رنين هاتفه، فخرج إلى الشرفة يجيب عليه.
بعد دقائق، خرجت ترتدي ساريًا أحمر شفافًا، يُظهر بطنها، وتركت خصلاتها تنساب بحرية.
جلست أمام المرآة تضع لمساتٍ تجميلية هادئة.
دلف للداخل…
وقعت عيناه عليها، لم يدقّق في هيئتها بدايةً، حتى التقت عيناه بعينيها المزيّنتين بالكحل.
اقترب ببطء، وحاوط جلوسها من الخلف…
رفع حاجبه وهو يبتسم بنظرة ماكرة:
_ إيه الحلاوة دي؟
رفعت أحمر الشفاه ببطء، متصنعة عدم المبالاة.
وضع رأسه بخصلاتها وهمس:
_ وحشتيني على فكرة.
ارتجفت يداها للحظات، لكنها تماسكت وقالت بصوت متحكم:
_ ابعد… مش حضرتك اللي عايز كده، وانا كمان.
تابع حديثها من خلال انعكاسهما بالمرآة حتى انتهت.
_ غلطي ولا لأ؟
_ لا… مغلطتش، وخلاص اتصرفت لوحدي، مش قضية يعني. كان لازم أعرف عشان أتصرف.
_ضي، ماتدخليش في الحاجات الخاصة دي.
هبّت من مكانها واندفعت بكلماتها الغاضبة:
_ دا أخويا مش واحد غريب! كان لازم أعرف كل حاجة. إنك تخبي على مراتك دي عدم ثقة في… إيه اللي حصل بعد ما عرفت ولا حاجة؟
لم يكترث لحديثها، كل انتباهه كان لفستانها. اقترب منها وقال:
_إيه اللي انتي لابساها دا؟ انتي مابتحرميش!
نظرت للفستان ثم إليه ببرود:
_ آه، مابحرمش… إيه، هتقطعه؟ أقطعه ولا يهمني. هلبس غيره. الحفلة كلها بنات، يعني مالوش لزوم اللي هتعمله.
انحنى يخطف هاتفه ومفاتيحه وتحرك للخارج دون أن يرد عليها.
ألقت مابيديها بالمرآة وصرخت بعد خروجه، بصوت مليء بالغضب والاستفزاز.
بعد فترة، ارتفعت الضحكات بين الفتيات وصدحت الأغاني، وتحول المنزل إلى بهجة وحركة.
بالخارج، جلس إسحاق مقابل إلياس وأرسلان:
_ إلياس، أنا بعاملك كأخ، وربنا أعلم بغلاوتك عندي. عندي سؤال واحد، جاوبني عليه، علشان بعدها أعرف إحنا هنمشي إزاي.
استمع إلياس بتركيز، وقال متسائلًا:
_رفضك لحمزة… علشان مستقبله، ولا علشان فرق السن؟
ابتسم إسحاق بتأني:
_ حمزة ابني يا إسحاق، وأنت عارف دا… مش عايزه يندم، أنا مجرب إحساس الندم.
تقدم إسحاق بجسده يستند على الطاولة:
_ يعني انت موافق على حمزة، ولا شايف إن فرق السن للبنت؟
_ لا… مش علشان فرق السن، انت عارف سبب الرفض.
_ تمام، قالها، وأخرج ورقة ووضعها أمام إلياس.
رفع إلياس الورقة وقرأ ما دوّن بها، ثم رفع عينيه إلى إسحاق:
_إزاي دا حصل؟
_ هو أنا قليل يا بني؟
_ حاشا لله… مقصدتش، بس أنا حاولت.
عاد إسحاق بجسده وقال:
_ منكرش إني تعبت في الموضوع دا، بس المهم وصلت لنتيجة مرضية.
_ يعني إيه؟
_ بص، أنا جبت التاريخ كله، وحتى القضايا اللي انت عملتها ضد راجح، وانك المسؤول عن حبس رانيا ورؤى، وخليتهم يعملوا تتبع سير لطارق… بقالهم فترة شغالين. منكرش خوفت من طارق، بس طلع تمام. واللي ساعدني في دا كله راكان البنداري. هو فيه مشكلة؟ إن شاء الله نلاقي لها حل.
_ اللي هي… تساءل إلياس.
_ اللي اتعمل دا حاليا لحمزة، قدام إن شاء الله نحاول نطعن علشان الولاد فيما بعد، يوسف وبلال.
_ يعني…؟
سحب إسحاق نفسًا عميقًا وزفره:
_ يعني وافق بقى ياخي، خلي العيال تفرح. كل حاجة بقت تمام، وأحضرت لك ورق مختوم كمان. واللي متعوفوش… استقال وكان هيسيب الشغل. شوف بقى، وانت لسة مصر.
_ خلاص… سبني أفكر وأرد عليك.
_ لا والله… بعد كل اللي قولته.
_ إسحاق باشا، لازم أتأكد… متزعلش مني. مش عايز أجني عليهم فيما بعد.
تطلع إسحاق إلى أرسلان الذي أومأ له:
_ خلاص يا عمو، ما قالك سيبه يفكر وإن شاء الله خير. المهم، حمزة فين الأيام دي؟
_ في الشغل، هيجي بكرة على الفرح. كان نفسي أفاجئه ونلبس دبل، بس أخوك دماغه ناشفة.
_ حلو يا إلياس، الفرح موجود ليه لا؟
_ مينفعش يا أرسلان… فرحة بنتي تكون خاصة ببنتي، مينفعش.
_خلاص اللي يريحك يا إلياس، فكر ورد علي… لازم أقوم بقى الوقت اتأخر.
بعد الانتهاء من هذه الليلة، قامت بنزع فستان حنتها مع دخول رحيل:
_ عروستنا عاملة إيه؟
_ كويسة الحمد لله… هو أسر لسة زعلان؟
مسدت على خصلاتها بحنان:
_بكرة يهدى… ماتنسيش، اللي عملتيه مش سهل.
أومأت بحزن وتسائلت:
_ وبابا يا ماما… هيفضل زعلان مني؟
ضمّت وجهها تمسح دموعها:
_ مفيش أب بيزعل من ولاده… هو من الخوف عليكي. ياله… نامي، بكرة الفرح… عايزاكي منورة.
دارت بعيناها بالغرفة:
_ بلال أخد هدومه ولا هيجي هنا؟
_ معرفش يا ماما… بس سمعت شمس بتقول إنهم في بيت عمو إلياس بيحتفلوا هناك.
_طيب، نامي ومتفتكريش في حاجة… وتأكدي كل حاجة قدر ونصيب.
بغرفة يوسف، ظلت تنتظر رجوعه حتى قرب أذان الفجر.
رفعت الهاتف وحاولت مهاتفته، لكن الهاتف مغلق.
اتصلت بأخيها:
_ أيوة يا بلال… يوسف عندك؟
_ لا… روح على بيته من ساعتين كده. أنا وأسر بس اللي في البيت عندي.
_ تمام.
نهضت واتجهت لتضع روبها فوق فستانها، وتوجهت إلى سيارتها. دقائق معدودة حتى توقفت أمام منزلها.
صعدت إلى الغرفة… دلفت للداخل ووجدته غارقًا في نومه.
نزعت روبها واقتربت منه، جلست بجواره تمسح على خصلاته.
فتح عينيه نصف فتح وهمس باسمها بصوت مبحوح.
انحنت لتقبله:
_ آسفة…
سحبها إلى أحضانه:
_ نامي… وبكرة نتحاسب.
ضحكت وتسللت إلى حضنه، وهي تنظر لعينيه المنغلقتين:
_ عارف حسابي معاك هيبقى إزاي؟
فتح عينيه كما لو أفاق بعد غرقه في النوم:
_ آه… قولي لي… هيكون إزاي؟
دنت لتهمس له ببعض الكلمات، ليسحبها لأحضانه وهو يضحك بصوت مرتفع:
_ ودي أعملها إزاي يا مجنونة؟
_ معرفش… ابحث وشوف، المهم تتصرف.
دفن رأسه بصدرها:
_ تمام… هسأل في السوق.
لكزته بغضب:
_ بتتريق!
رفع رأسه:
_ أنتي هبلة يا بت… مش لما نجيب واحد علشان تجيبي توينز… أنتي جاية تطفشي النوم من عيوني؟
_ لا… علشان وحشتني وجاية أصالحك.
صمت ينظر إليها نظرات عاشقة، ثم رفع كفه يتخلل خصلاتها:
_ وانتي كمان وحشتيني أووي.
_ ما هو باين… ضيعتِ الليلة في الكلام.
برقت عيناه بصدمة من كلماتها:
_ بت… انتي شاربة إيه؟
اعتدلت على ركبتيها وصاحت به:
_ يوسف… أنا بتكلم بجد… عايزة أحمل في توينز!
بعد يومين، وهو اليوم المقرر لحفل الزفاف، صعدت إلى غرفتها بعد الانتهاء من الزفاف بمساعدة رحيل
_اي حاجة تحتاجيها كلميني على طول
_ماما انتي ليه بتقنعي نفسك انه جواز حقيقي
_ياله حبيبتي لازم انزل.. جلست على الفراش تنظر اليه بسخرية، فلقد كان مزينًا لمثل هذه الليالي، نهضت من مكانها وتحركت
تقف أمام المرآة تنظر الى زراير الفستان المغلقة من الخلف في محاولة لفتحها، ولكنها لم تستطع
استمعت الى طرقات على باب الغرفة
_بقالك ساعة بتعملي ايه، افتحي الباب، مش قولت ممنوع تقفلي الباب
لمعت عيناها بالدموع، لفشلها لمدة اكثر من ساعة في محاولة خلع فستان زفافها، دفع الباب بقدمه مع صرخاته باسمها، خوفا
ان تكون اذت نفسها، اتجهت للباب وقامت بفتحه، توقف
بانفاس مرتفعة، ينظر اليها بتقييم
انتي كويسة
بكت بصوت وقالت
مش عارفة اخلع الفستان
جز على اسنانه واقترب منها، مع تراجعها للخلف، ود لو اطبق
على عنقها
بقى انا برة هتجنن عليكي، وانتي غبية بتعيطي علشان مش
عارفة تخلعي الفستان، ما يو لع الفستان
صمت بعدما ادرك ما تعنيه كلماتها
يعني ايه مش عارفة تخلعي الفستان
نظر الى طول السحاب المغلق فوق زراير، ثم برقت عيناه
سايبة فساتين مصر كلها وجايبة خط بارليف، انا عارف اخرة
الجوازة دي العباسية ان شاء الله هو انا اه محترم بس مش
قوي
