رواية عشق لا يضاهي الفصل الثلاثمائة والسابع والعشرون
وقف **ظافر** عند المدخل يستمع إلى حديث الحاضرين في الخارج… لم تتغير ملامحه إلا أن أذنيه اكتسبتا لونا محمّراً يوحي بالغضب الكامن في صد.ره ومن ثم أومأ إلى الحراس الشخصيين قائلاً بصرامة:
“اذهبوا، وأجيبوا أولئك النسوة.”
هزّ كل واحد منهم رأسه بسرعة مطيعًا ثم انطلقوا لتنفيذ أوامره.
بعد لحظات بدأت النساء الأكبر سنًا يحاولن تقديم خطيبات محتملات إلى كل حارس وكل واحدة منهن تبتسم بخجل وتحاول لفت الانتباه.
لقد عاشت **فاطمة** في منطقة نائية بمقاطعة سان وكان السكان المحليون قد سمعوا بأن **سيرين** ابنة صاحبة عمل فاطمة قد توفيت في حادث قبل أن يتضح لاحقًا أن الأمر كان مجرد سوء فهم.
لم يكن أحد يجرؤ على الاقتراب من **فاطمة** أو السؤال عنها ليس تكبراً بل لأن **ظافر** قد جاء قبل خمس سنوات مع مجموعة كبيرة من رجاله واستجوب العديد من الجيران بطريقة صارمة.
لفترة طويلة ظنّ الجميع أن **فاطمة** وعائلتها أساؤوا لشخصية مهمة فابتعدوا عنها وارتعبوا من التواصل معها عند عودتها… حينها، لم يجرؤ أي منهم على رفع رأسه أو النظر مباشرة إلى **ظافر** عندما سأل عن **سيرين** و**فاطمة** ولهذا لم يتمكنوا من التعرف عليه… أما اليوم فلما رأوا **فاطمة** و**ظافر** معًا لم يسعهم إلا أن يلقوا نظرة خاطفة ممتزجة بالخوف والفضول.
شعر أهل القرية في بادئ الأمر بالأسى تجاه **ظافر** لكن حين رأوه عن قرب تبدّل شعورهم إلى إعجاب خالص؛ فقد رأت عيونهم رجلاً وسيماً مهذباً فأدركوا أن **سيرين** أحسنت الاختيار بل إن بعضهن همسن ساخرات:
*”ربما ليس العمى أمرًا سيئًا… فلن يتمكن من الخيانة على الأقل!”*
وبعد أن انفضّ الجمع وعاد الهدوء إلى المكان رجع **ظافر** و**فاطمة** إلى غرفهم. كانت أذنا ظافر لا تزالان متورّدتين لا غضبًا هذه المرة بل خجلًا ممتزجًا بالرضا؛ فالنداء الذي رمت به فاطمة أمام الجميع—”صهري”—ظلّ يتردّد في صدره كنبضة دافئة لا يريد لها أن تخمد.
أما **فاطمة** فلم تستوعب بعد كيف استطاعت امرأة عجوز أن تتجرأ على رجل بقدر وهيبة ظافر لم يخطر ببالها أن تدخّلها ذاك أنقذ إيلي من مصيرٍ كان قد يُنهي حياتها في لحظتها على يد ظافر أو أحد رجاله.
قال ظافر بهدوء:
“لقد أرسلت شخصًا ليبحث عن مقدمة رعاية جديدة.”
اكتفت فاطمة بهمهمة متعبة إذ كان جسدها لا يزال منهكًا بعد ثورتها المفاجئة في الخارج ومع ذلك تماسكت وقالت بصوت يحمل الغضب:
“لا تظن أنني سامحتك لأنني وقفت إلى جانبك اليوم… أنت لا زلت زوج **سيرين** وهذا وحده يكفيني كي أظل غاضبة… أنا فقط لا أحتمل أن أرى غرباء يستغلون زوج ابنتي.”
توقّف ظافر عند كلمة واحدة: **سامحت**.
بدا المعنى أكبر من مجرد عتاب وأعمق مما تظنه هي نفسها.
كان **ماهر** قد أخبره بجزء من ماضيه مع سيرين لكنه—بدافع الولاء—أخفى الكثير من الأخطاء التي ارتكبها ظافر قبل أن يفقد ذاكرته إذ لم يعرّفه ماهر إلا على الصورة الأجمل من قصتهما: كمحاولاته لكسب رضاها، شراء منزل عائلتها، اقتناء آثار والدها، وإعادة تأسيس مجموعة تهامي… أما ما عدا ذلك فقد دفنه ماهر في صمت.
تردّد ظافر لحظة ثم سأل بصوت خافت يشوبه الشك:
“فاطمة… هل لي أن أعرف لماذا تكرهينني بهذا القدر؟ ماذا فعلتُ في الماضي؟”
حين بلغ سؤال **ظافر** مسامع **فاطمة** انفجرت الكلمات من صدرها كما لو كانت محتجزة منذ سنين… لم تستطع كبت غضبها فأزاحت الستار عن كل الطرق التي أهمل فيها **سيرين** وظلمها دون أن يدري.
قالت بصوت متحشرج:
“ألا تعلم؟ في ذلك الوقت لم تكن سيرين تعرف شيئًا عمّا اقترفته أمها **سارة** وأخوها **تامر**! اندفعت في زواجٍ خدّاع حملت فيه وحدها وصمة الاحتيال وتحمّلت التنمر بصمت بلا سند ولا كلمة تدافع بها عن نفسها.”
تنهدت بمرارة وأضافت:
“ما زلت أذكر تلك الليلة… حين ابتلعت سيرين زجاجة كاملة من الحبوب فقط لتقطع صلتها بسارة… وأنت كنت تظن أنها ستبيع نفسها لرجل عجوز مقابل ثلاثمئة مليون دولار!”
ثم هزّت رأسها بأسى:
“الطبيب قال يومها إنه لا يوجد موت بلا ألم وأنه لا أحد يستطيع أن يغادر الدنيا بسهولة فكيف بفتاة مثل سيرين… فتاة كانت ترتجف من وخز الإبرة أن تصل إلى هذه الدرجة من اليأس؟”
لم يكن **ظافر** يدرك أن ذاكرته—الضعيفة والمتكسّرة—قد أعادت تشكيل ماضيه بصورة أكثر رحمة مما كان… تذكّر حنان سيرين لكن عينه الداخلية حجبت عنه قسوته عليها.
وفجأة مرَّ تيار حاد في رأسه كأنه سكين يشق جمجمته… الذكريات المتناثرة راحت تضرب جدران عقله محاولة الخروج لكن فاطمة لم تلحظ اضطرابه ومضت في حديثها:
“كنت أعيش هنا وحدي… وكلما جاءت سيرين لزيارتي تحدثت عن لطفك، عن اهتمامك… وأنا كنت أعلم أنك لم تكن لطيفًا لا يومًا ولا لحظة… أنتما لم تكونا متوافقين من الأساس.”
اغرورقت عيناها بالدموع ورفعت بصرها إليه كمن يلقي آخر ما يملك:
“الآن صار كل شيء واضحًا وأنا في نهاية عمري… لا سبب لدي لأكذب عليك… أرجوك يا ظافر دع سيرين تذهب… **كارم** رجل طيب وحين كنّا في الخارج كان يعتني بنا كابن بار… ستجد معه سعادتها… بلا خوف، بلا دموع.”
ثم خفضت عينيها وهمست:
“اتركها تختار حياة تستحقها.”
