رواية عشق لا يضاهي الفصل الثلاثمائة والخامس والعشرون
حين دوّى أمر **جاسر** في أذن **دينا** بأن تركع أمام **سيرين** شعرت كأن الأرض تميد تحت قدميها فحدّقت فيه بدهشة غاضبة بينما كانت قبضتاها تنغلقان بحدّة كأنها تحاول الإمساك بكرامتها قبل أن تتفلت من بين أصابعها… فلو لم يُنشر ذلك الفيديو المشؤوم الذي شوّه سمعتها بتدخل من **سيرين** و**نادر** يومها لما وصلت إلى هذا القاع. والآن—بعد كل ما مرّت به—ها هو **جاسر** في هيئة ظافر يطالبها بأن تضع جبينها أرضًا أمام من تعتبرهما سبب بلائها.
لكن ما إن عادت إلى دينا صورتها وهي في قبضة **ظافر** إلى ذهنها حتى خمدت مقاومتها إذ لم يعد لديها خيار آخر فتمتمت بصوتٍ واهن:
**”حسنًا… سأذهب إليها الآن.”**
لم تُدرك دينا كيف خرجت من القصر كأن قدميها سبقتا وعيها.
أما **جاكي**، التي تابعت المشهد في حيرة لم تستطع كبح سؤالها وهي تتبع **جاسر** بخطوات قلقة:
“سيدي… لماذا تجعلها تعتذر لسيرين؟ أنت لم تكن يومًا على وفاق مع السيد ظافر. هل أصبحت الآن حاميًا لزوجته؟”
ولم تكد تُنهي كلماتها حتى اجتاحها شعور ثقيل بالندم؛ فقد التقت بعيني **جاسر** الباردتين ذلك البرود الذي لم تعهده منه من قبل.
قال جاسر بنبرة لا تُخطئها الأذن:
**”أنت لا تعلمين شيئًا يا جاكي.”**
كانت تلك الحقيقة الوحيدة التي لم تستطع جاكي نقاشها؛ فماضي **جاسر** مع **سيرين** كان جزءًا من عالمٍ لم يُفتح لها بابه قط لذا اكتفت بالقول بحذر:
“سأطلب من أحدهم مراقبة دينا… والتأكد من أنها ستعتذر.”
أومأ جاسر بصوت خافت:
**”نعم.”**
ولم يمكث بعدها هو ولا جاكي طويلًا في القصر؛ فكلٌّ منهما غادره وهو يحمل في داخله ما هو أثقل من خطواته.
………
ما إن غادر **جاسر** و**جاكي** القصر حتى تسلّل **ظافر** و**ماهر** عبر الممر السري الذي كان ظافر قد شيده منذ سنوات… لم يتخيّل ماهر يومًا أن ذاك الممر الذي بدا آنذاك مجرد احتياط سيغدو اليوم طوق النجاة.
ورغم أن **ظافر** فقد شطرًا من ذاكرته إلا أن حدسه ما يزال يقوده؛ فقد شعر منذ عودته بأن في القصر وثائق خفية لم يمسسها أحد… لم يطُل بحثهما حتى عثرا عليها مركونة في مكانٍ لا يخطر على بال.
وفي طريق العودة سلّم ظافر الملفات إلى ماهر فارتبك الأخير وقال بصوتٍ خافت:
**”سيدي ظافر… أظن أنّ من الأفضل أن تراجعها بنفسك.”**
لكن ظافر أجابه بثقة ثابتة:
**”أنا أثق أنك لن تخونني.”**
انحنى ماهر احترامًا ثم شرع يقلب الصفحات. وما إن قرأ بضعة أسطر حتى اتسعت عيناه دهشة؛ فثروة ظافر الحقيقية كانت أضعاف ما كانت تبدو عليه… أصولٌ ممتدة في دول مختلفة واستثمارات لا تُحصى… بل إن شركة آل نصران بأكملها لا تساوي إلا جزءًا ضئيلًا من إمبراطوريته المالية عندها أيقن ماهر أنه اختار الرجل الصحيح ليكون سيده.
قال ظافر بهدوء وهو يستند إلى المقعد:
**”بإمكانك أن تتوقف عن العمل مع آل نصران وسنبدأ شركة جديدة… أريد أن أعدّ هدية تليق بسيرين وطفلي قبل قدومه.”**
كان ماهر قد اقترح سابقًا فكرة تأسيس شركة جديدة، لكنه ظنّ أن المال لن يكفي أما الآن—بعد أن تكشّفت الحقيقة—أصبح الأمر مختلفًا تمامًا فلو أُسست تلك الشركة لكانت ندًّا لشركة نصران وربما تفوقت عليها.
ردّ ماهر بحماسٍ لم يُخفه:
**”أمرُك سيدي.”**
ثم تابع طريقه وهو يشعر بأن المستقبل الذي ينتظرهما لا يقلّ عن إمبراطورية جديدة تُبنى من الصفر ولكن بقيادة رجل يعرف كيف ينهض من تحت الرماد.
في طريق العودة إلى المنزل كان **ماهر** يغلي حماسةً كمن يبشّر بفجرٍ جديد بينما ظلّ **ظافر** ساكنًا كعادته لا تهتزّ روحه لخبر تأسيس شركة جديدة إذ لم يعد يرى في الأمر ما يستحق الانفعال.
وما إن دوّى رنين الهاتف حتى خُيّل إلى ظافر أنّ المتصلة هي **سيرين** فانبسط وجهه على غير عادته، وسارع إلى الإجاب لكنّ ذلك البريق ما لبث أن انطفأ عندما سمع الصوت.
كان صوت **شادية** تحمل إليه نبرة مثقلة بالقلق:
“ظافر… أعتقد أنك اطّلعت على الأخبار مؤخرًا… أرجوك كن لطيفًا مع سيرين وابقَ إلى جانبها وإن احتجتما شيئًا اتصلا بي… لكن إياكما وكشف أمر **جاسر** إنه الوحيد القادر الآن على إبقاء العائلة متماسكة.”
ترددت شادية طويلًا قبل أن تتصل به ثم أردفت بنبرة حاولت إخفاء ارتجافها:
“أنت تعرف كيف كان جدك… لم يكن ليقبل أن يدير شخصٌ أعمى مجموعة آل نصران. لذلك… لم تكن أمامي خطة أخرى.”
كانت كلماتها صريحة:
العائلة، المساهمون، الجميع… لن يسمحوا لرجلٍ فاقد البصر أن يقف على رأس الإمبراطورية لكنّ المهابة التي أحاطت بظافر قبل الحادث جعلت الجميع يخشون التشكيك في هوية الرجل الذي ظهر أمامهم لذا صمتت الأصوات وانطوت الحقائق تحت عباءة الخوف.
استمع **ظافر** إليها ببرودٍ غامض، لا تشي ملامحه بما يدور في داخله ففقد الذاكرة لم يأخذ منه ذكاءه لكنه سلخ عنه مشاعره تجاه من حوله؛ حتى شادية التي كانت تُعدّ الأقرب إليه لم توقظ في نفسه شيئًا.
قال ظافر بهدوء لا يخلو من الصلابة:
“لا تقلقي… لن أكشف أمره.”
ثم صمت لحظة قبل أن يضيف بصوت جامد كحدّ السيف:
“لكنني أكره أن يأخذ أحدٌ مكاني سأستعيد هويتي… وإن عجزت فسأق.تله… لن أعيش في الظل مع سيرين إلى الأبد.”
ارتجفت شادية عند سماع تهديده الصريح فصرخت:
“كيف تقول هذا يا ظافر؟ جاسر أخوك!”
جاء رده بجبروته القديم كأن شيئًا من شخصيته السابقة عاد يتنفّس فيه:
“لهذا قلتُ إنني لن أفضحه.”
حاولت شادية أن تتمسّك بخيط الحديث لكن ظافر كان قد أنهى المكالمة بلا تردد ورغم أنها هي من اختارت استبداله إلا أنها أدركت الآن أن ظافر ما بعد فقدان الذاكرة بات أكثر رعبًا مما كان عليه سابقًا؛ فهو لم يعد يخشى فقدان أحد… ولم يعد يهتم بأحد.
