رواية عشق لا يضاهي الفصل الثلاثمائة والسابع عشر
لم تغادر **سيرين** المنزل إلا بعد أن أنهت محاضرتها المعتادة على **ظافر**.
كان يستمع إليها في صمتٍ أشبه بالاستسلام يتركها توبّخه كما تشاء دون أن يُظهر أدنى غضب… بل يكتفي بأن يرفع وجهه نحوها بعينيه الداكنتين العميقتين اللتين لم تعودا تبصران لكنهما ما زالتا تحملان ملامح براءةٍ تُربكها ورغم علمها بحقيقة عماه إلا أن القلق كان يتسلّل إلى قلبها كلّما نظرت إليه.
في تلك الأثناء كان **نوح** لا يزال في المشفى وقد بلغه من **زكريّا** خبر إقامة **ظافر** مع **سيرين** وأنه فقد بصره بعد حادثٍ مؤلم بل وتجرّأ أحدهم على انتحال شخصيّته.
قال **نوح** غاضبًا:
> “يستحق كل ما حدث له.”
وردّ عليه **زكريّا** من الطرف الآخر من المكالمة بنبرةٍ باردة:
> “نعم، إنها العدالة التي يصنعها القدر….”
تنهد **نوح** طويلًا ثم أضاف بأسفٍ صادق:
> “المؤسف أننا لم نكن نحن من نفّذ تلك العدالة.”
وبينما كان صوته يخفت وردته فجأة خاطرة فأسرع يقول:
> “زاك، اسمع… **السيد كارم** سيزورني اليوم مع أمي… أريدهما أن يكونا معًا… ما رأيك؟””
كان الأخوان يعلمان تمامًا ما الذي تعنيه تلك الفكرة؛ فـ **كارم** على عكس **ظافر**… لم يعبث يومًا بقلوب النساء وكان في طفولته صديقًا مقرّبًا لـ **سيرين** يعرفها كما يعرف نفسه ويحمل لها تقديرًا خالصًا لا تشوبه مصلحة بل إن **نوح** كان يدرك جيدًا مدى محبة **فاطمة** لـ **كارم** وتقديرها له.
سكت **زكريّا** للحظاتٍ يزن الأمور بعقله الهادئ ثم قال مترددًا:
> “وهل تظن أن أمّك سترضى بهذا؟”
ابتسم **نوح** بثقةٍ لم تخفَ في صوته:
> “بالتأكيد سترضى… هي معجبة بالسيد كارم أصلًا فقط تخجل من إظهار ذلك… لا تقلق سأهتم أنا بجمعهما اليوم.”
أجابه **زكريّا** بهدوءٍ مقتضب:
> “حسنًا… افعل ما تراه مناسبًا.”
بعد أن أنهى **نوح** المكالمة استلقى على سريره يتأمل سقف الغرفة البيضاء وقد غمره شعورٌ بالملل والانتظار الطويل.
كانت عقارب الساعة تمضي ببطءٍ ثقيل حتى حلّت الظهيرة وجاءت **سيرين** برفقة **كارم** كما وعدت وبمجرد أن لمحها نوح بدا كطفلٍ يستعيد أنفاسه بعد غياب أمه طويلًا يتمتم بخجلٍ صادق:
> “أمي… لماذا لا تسمحين لي بالبقاء معكِ؟ أشعر بالوحدة هنا أفتقدكِ أنتِ و«زاك»… وحتى جدتي.”
لمّا وقعت عينا **سيرين** على نظراته الضعيفة المبللة بالدموع ذاب قلبها كما الثلج تحت دفء الشمس فانحنت نحوه بحنوّ وقالت بصوتٍ مرتجف بالعاطفة:
> “آسفة يا حبيبي… لكن الطبيب قال إنك بحاجة للبقاء هنا حتى يراقب حالتك جيدًا قبل العملية.”
مدّ **نوح** يده الصغيرة نحوها مستغيثًا بالعطف:
> “إذن، هل يمكنكِ أنتِ والسيد كارم أن تأخذاني للعب قليلًا؟ فقط اليوم…”
لم تستطع **سيرين** أن تقول «لا»… التفتت إلى **كارم** بنظرة ملتمسة وقالت بهدوءٍ:
> “هل أنت مشغول هذا المساء؟”
ابتسم **كارم** وهو يربت على كتف الصغير قائلاً:
> “أبدًا… يسعدني أن أكون رفيق لعبه اليوم.”
أشرق وجه **سيرين** بابتسامة امتنانٍ خافتة:
> “شكرًا لك، كارم.”
بعد أن تحدثت سيرين مع الممرضة ساعدت **نوح** على ارتداء ملابسه ثم خرج ثلاثتهم إلى الهواء الطلق.
كان اليوم مشمسًا رغم برودة الرياح والممر الطويل أمام المستشفى بدا وكأنه طريقٌ نحو عالمٍ آخر.
فجأة توقف **نوح** عن السير وعيناه معلقتان على مشهدٍ بسيطٍ لكنه هزّ كيانه — أبٌ يحمل ابنته على كتفه بينما تمسك الأم بيده وتضحك بخفوتٍ رقيق.
ظلّ الصغير صامتًا للحظة ثم قال بصوتٍ مترددٍ تغلفه غصّة طفولية:
> “أمي…”
انحنت **سيرين** نحوه بقلقٍ وحنان:
> “ما بك يا نوح؟”
رفع نظره إليها وقال ببراءةٍ موجعة:
> “أنا أيضًا… أريد أبًا.”
تجمدت سيرين في مكانها وقد باغتتها كلمات نوح كصفعةٍ لم تكن في الحسبان إذ لم يسبق لطفليها أن تحدثا عن هذا الأمر وكأن جملته الصغيرة فتحت جرحًا كانت تخشى النظر إليه… تسارعت أنفاسها وتكاثف الحزن في صدرها كغيومٍ مثقلة بالمطر لا تدري كيف تجيبه أو كيف تُسكن ذلك الشوق البريء في عينيه.
وبينما كانت غارقة في حيرتها مدّ نوح يده الصغيرة نحو كارم وقال بمكر طفوليّ محبب:
“أمي، هل يمكن للسيد كارم أن يصبح أبي؟”
تجمدت ملامح سيرين وانتقل وجهها من لون الحزن إلى حمرة الإحراج لكنها حاولت أن تتدارك الموقف وقالت بصوتٍ مرتجف:
“نوح، لا يمكننا أن نقول هذا…”
لكن كارم لم يُمهلها لتُكمل فقد حمل الصغير بين ذراعيه برقة، وابتسم قائلاً:
“سيرين، لا تقلقي… هو فقط يعبّر عمّا في قلبه… لا تحرميه لحظة فرح.”
ازداد وجهها توهجًا وعيناها تتفاديان نظراته بينما ضحك نوح وهو يحتضن عنق كارم الصلب قائلاً بفرحٍ غامر:
“بابا! أخيرًا أصبح لي أباً… لم تأخرت يا أبي!”
ردّ كارم بصوتٍ دافئٍ يحمل شيئًا من العتاب والحنين:
“أنا آسف يا صغيري… لقد تأخرت ولكنني عدت إليك.”
كانت سيرين تسير بجوارهما، ينهشها شعورٌ مرير بالذنب. كم مرة حلمت أن يعيش طفلاها هذا الدفء؟ كم مرة تمنت أن يُمسكا يد أبيهما؟
قطع نوح صمتها وهو يقول بعفويةٍ تُذيب القلوب:
“أبي، أمسك بيد أمي حتى لا نضيع أبدًا.”
توقف كارم لحظة وقد أذهلته براءة الطلب ثم التفت نحو سيرين… التقت عيناهما فبدت على وجهها حمرة الخجل كأن الكلمات عرّتها من كل دفاعٍ… خشي كارم أن ترفض فبادر بخطوةٍ جريئة وأمسك بيدها برفقٍ ثابت قبل أن تنبس بحرف.
كان ذلك التماس الصامت بين أيديهم كعهدٍ غير منطوق من قِبل كارم… مزيج من الحنين، والحيرة، والدهشة الجميلة التي لا تفسير لها.
