رواية عشق لا يضاهي الفصل الثلاثمائة والثامن عشر 318 بقلم اسماء حميدة


  رواية عشق لا يضاهي الفصل الثلاثمائة والثامن عشر 


كانوا يسيرون معًا فوق بساطٍ من الثلج الناعم، خطواتهم الثلاث تتناغم في إيقاعٍ واحدٍ كأنها أنغام أسرةٍ صغيرةٍ تتهادى في صمت المساء.

كان كارم يمسك بيد سيرين ودفء كفّها المبلل بعرقٍ خفيف يفضح ارتباكها… لم يُفلت كارم يدها إلا عندما وصلوا إلى مطعمٍ صغيرٍ يختبئ خلف زجاجٍ تتساقط عليه نُدف الثلج.

جلسوا إلى طاولةٍ هادئةٍ قرب النافذة بينما بادر نوح بدهائه الطفوليّ إلى منحهم مساحةً من الوقت فابتسم بخبثٍ لطيف وقال للنادل:

ــ “هل يمكنك أن ترشدني إلى الحمّام من فضلك؟”

وما إن غاب عن ناظرَيهما حتى بادرت سيرين بالكلام بصوتٍ مترددٍ يحمل نغمة اعتذار خجول:

ــ “أنا آسفة حقًا، نوح لم يقصد شيئًا، لكنه… لم يعرف معنى وجود أبٍ من قبل.”

كانت كلماتها تخرج ببطءٍ كأنها تخشى أن تجرحه غير أن كارم الذي لم يتزوج بعد لم يُبدُ أي ضيق بل ابتسم ابتسامةً هادئةً وقال:

ــ “في الحقيقة لم أجد في الأمر ما يُزعجني… بل أعجبني بعض الشيء.”

تنهّدت سيرين بارتياحٍ خافت كمن أزيحت صخرةً عن صدرها وللحظةٍ قصيرةٍ عاد السكون بينهما يحمل عبيرًا غريبًا من الراحة.

لكن كارم لم يستطع أن يُخفي ما يجول في خاطره فقال مترددًا:

ــ “سيرين… لماذا لم تخبريني أنكِ تعيشين مع ظافر؟”

وما إن تفوّه بالسؤال حتى شعر بالندم إذ لم يكن من حقه أن يتدخل في حياتها ومع ذلك خرجت الكلمات رغماً عنه.

أما سيرين فلم تُبدِ انفعالًا يُذكر بل روت له بهدوءٍ كيف استغلت علاقتها بظافر لتُجبره على الطلاق، وكيف هددتها شادية فيما بعد.
وبينما كانت تتحدث قطعها كارم متسائلًا وقد ركّز نظره عليها باهتمامٍ واضح:

ــ “ومن هو الرجل الذي قلت له إنكِ كنتِ على علاقةٍ به؟”

احمرّ وجهها على الفور وأخفضت بصرها في اضطرابٍ ظاهر ثم قالت بصوتٍ خافت:

ــ “لم أذكر أسماء… لكن ظافر ظنّ أنكَ أنت المقصود.”

شبكت أصابعها ببعضها كأنها تحاول كتم الارتباك بين يديها بينما ارتشف كارم مشروبه ببطءٍ وارتسمت على وجهه ابتسامةٌ ماكرةٍ أضاءت عيناه ببريقٍ من الدعابة وهو يقول في لهجةٍ خفيفةٍ رصينة:

ــ “هذا جميل… لقبٌ كهذا يمكن أن يكون نافعًا اليوم.”

تملّكت الحرجُ سيرين حتى أنها لم تعد قادرة على متابعة الحديث فنهضت مسرعةً تتذرّع بالقلق:

ــ “لماذا تأخر نوح في الحمّام؟ سأذهب لأتفقده.”

لكنها لم تكن تعلم أن الصغير كان يختبئ خلف المدخل طوال الوقت يراقب بفضولٍ طفوليّ حذر وما إن رأى أن الحديث قد انتهى حتى خرج بخفةٍ مصطنعة وقال مبتسمًا:

ــ “لقد عدت يا رفاق!”

ضحك الاثنان في الوقت نفسه فتبدّد التوتر الذي خيّم للحظات وعاد الدفء يملأ المكان. ومع وجود نوح غمرتهم بهجة خفيفة كأن الصغير يملك سرًّا في بثّ الحياة أينما حلّ.

بعد أن انتهوا من تناول الطعام ألحّ نوح على سيرين وكارم أن يذهبوا إلى صالة الألعاب… كانت الصالة مزدحمة بالألوان والضحكات، يعجّ المكان بالأزواج وأطفالهم والمرح يتطاير في الهواء كفقاعات صابونٍ لا تنتهي.

وفجأة توقفت خطوات نوح عند لعبةٍ مخصّصةٍ للأزواج يعلوها دمية باندا ضخمة تبتسم بعينيها السوداوين.

هتف بحماسةٍ لا تُقاوم:

ــ “أمي! أبي! أريد تلك الباندا!”

رفعت سيرين بصرها إلى حيث يشير ثم ابتسمت بخفةٍ لا تخلو من حرجٍ وهي تقول لكارم:

ــ “احمله، سأذهب لأستفسر عن اللعبة.”

هزّ نوح رأسه بحماسٍ جامح وهو يردد:

ــ “نعم، نعم!”

اقتربت سيرين من المنصة وسألت الموظف بأدبٍ رقيق:

ــ “عذرًا، هل هذه الباندا المعروضة للبيع؟”

ابتسم الموظف وقال بأسفٍ لطيف:

ــ “آسف يا سيدتي إنها جائزة اللعبة وليست للبيع.”

ترددت لحظة ثم أخرجت بطاقتها المصرفية ومدّتها إليه بثباتٍ مدهش:

ــ “هل يمكنك أن تجعلها كذلك مقابل عشرة آلاف دولار؟”

تسعت عينا الموظف دهشةً لكنه أمسك البطاقة على الفور وقال مرتبكًا:

ــ “سأستأذن رئيسي فورًا يا سيدتي.”

وبينما كانت سيرين تنتظر جوابه لمحت من بعيد نظرة كارم المتمعنة ممزوجة بابتسامةٍ صغيرةٍ لم تفهم معناها تمامًا… لكن في عينيه كان شيءٌ يشبه الإعجاب.

في تلك اللحظة تجمّد نوح في مكانه مذهولًا وقد اتسعت عيناه دهشةً وهو يرى والدته تعرض المال مقابل الباندا المحشوة وقد بدا عليه الغضب الطفولي الممزوج بالغيرة كأنه لم يحتمل فكرة أن تتصرف كما تشاء دون الرجوع إليه.

التفت نوح نحو كارم بجدٍّ مصطنع وقال بصوتٍ خفيضٍ فيه مكر الطفولة:

ــ “سيدي كارم ألا ترغب في كسب قلب أمي؟”

فهم كارم المعنى في الحال وابتسم بخفةٍ لا تخلُ من الدهشة ثم رفع نوحًا بذراعٍ واحدة بينما أمسك بالهاتف في اليد الأخرى وأجرى اتصالًا هاتفيًا قصيرًا.

ــ “أريدك أن تشتري صالة الألعاب في مقاطعة سان حالًا وسجّلها باسمي وتأكّد أن يكون رقمي هو رقم المالك الجديد.”

لم تمضِ سوى دقائق حتى خرج أحد الموظفين من المكتب يعبث بشعره توترًا وهو يتحدث بسرعةٍ في الهاتف… وفي نفس اللحظة على الجانب الآخر رنّ هاتف كارم برقم غير مدرج ضمن جهات اتصاله فأجابه بنبرةٍ هادئة لا توحي بشيء من الانفعال متوقعاً فحوى المكالمة قبل أن يتحدث مهاتفه:

ــ “لن أبيعها ولو دفعت مئة مليون دولار أخبرها أن السبيل الوحيد للحصول على الدمية هو أن تفوز باللعبة بنفسها.”

انتهت المكالمة وعادت سيرين بعد قليل بخطواتٍ مثقلة وخيبةٍ ترتسم على وجهها… جلست إلى جانب نوح وقالت بنبرةٍ فيها رجاء:

ــ “نوح هناك دمى باندا كثيرة مثلها على الإنترنت… ما رأيك أن أشتري لك واحدة منها؟”

لكن الطفل عبس ورفع رأسه بعنادٍ مؤلم وصوته يتهدج بالشكوى:

ــ “لم تعودي تحبينني يا أمي… كل الآباء يحاولون الفوز بالجوائز لأطفالهم إلا أنتِ… كنت أعلم أنني لست ابنكِ الحقيقي، زاك هو ابنك فقط…”

تجمدت الكلمات على لسانها وقد ارتعش قلبها في صدرها ولم تجد جوابًا سوى نظرةٍ ممتلئة بالحيرة والذهول تتساءل في صمتٍ مرير:

كيف له أن يقول هذا؟ وكيف لطفلٍ صغيرٍ أن يحمل كل هذا الألم؟


تعليقات