رواية من نبض الوجع عشت غرامي الجزء الثالث الفصل التاسع والعشرون 29 بقلم فاطيما يوسف


 رواية من نبض الوجع عشت غرامي الجزء الثالث الفصل التاسع والعشرون  بقلم فاطيما يوسف



التفتت "زينب" إليه واطلعت إليه بوجهها وما إن رآها حتى تحقق من ملامحها التي لم ولن ينساها يوماً من الأيام ليردد بصدمة:

ـ ياااه ، "زينب" والله زمان .

انصدمت هي الأخرى بعد أن تحققت من ماهيته لتنطق بذهول :

ـ"عماد" ايه اللي رجعك بعد الغيبة الطويلة داي كلاتها ، والله البلد كانت نضفت من يوم طلعتك منيها.


رفع حاجبه من ردها وردد بملام لم تهتز له:

ـ بقى دي مقابلتكم يا أهل العمدة لناس جاية لحد داركم! ده حتى المثل هيقول لاقيني ولا تغديني.


مطت شفتيها وهي تشعر بالضجر وهي تقف أمامه:

ـ لاه أصل انت معروف من زمان يا "عماد" ينطبق عليك المثل اللي هيقول؛ هياكلوا في الوعايا ويزفوها برجليهم، وأني كمان معنديش ضيافة لأمثالك .


نظر إليها من أعلى رأسها إلى أخمص قدميها نظرات تختلط مابين الإعجاب لقوة شخصيتها والضيق لعدم تقبلها له لينطق :


ــ لساكي يا زينب مهرة عفية وعنيكي فيهم قوة مشفتهاش في ست قبل كدة بالرغم من اني لفيت ودورت كتير وشفت ستات أشكال وألوان إلا انتِ عمرك ما طلعتِ من دماغي رغم السنين دي كلاتها .


اومأت برأسها وملامحها تنبض بالتساؤل قبل لسانها وهي تردد ببرود :


ــ وانت كويس بردك لساتك هتتكَلَم صَعيدي، بس قول لي ايه اللي حدفك علينا بعد السنين داي كلاتها وخلتنا نفسنا تجزع من طلتك اللي مش بهية ؟! 


ثم أكملت ساخرة منه :


ــ وخلاك تطلب تقابل العمدة، مع إنك يعتبر غريب ومش منينا؟

بس انت هتعرف منين العوايد والتقاليد وانت من زمان نافر وشادد حيلك وكاره مكانك وارضك وبلدك ؟!


نظر إلى ملامحها المحببة إلى قلبه بتمني ناطقاً بغزل قبل أن يجيبها:


ــ لساكي فرسة جامحة وعينك فيها قوة وحديتك وفَهمك وكلك على بعضك تركيبة عجيبة مبهرة لست مفيش منها اتنين في الدنيا ، وأنا من زمان هيعجبني قوتك قووي يا "زينب" .


زمت شفتيها بامتعاض من طريقته ونظراته ليكمل مجيباً إياها عندما رأى اعتراضها :


ــ خلاص ما تزوميش هرد عليكِ انا لو كنت قعدت هناك ما كنتش بقيت الباشا زي ما بينادوني دلوقتي، ما كانش بقى لي عزب واطيان هنا ولا كنت وصلت للي انا وصلت له ولو كنت رضيتي بيا زمان و اتجوزتيني بدل "سلطان" الله يرحمه حسب ما سألت وأنا جاي عن مين العمدة وعرفت،كان زمانك هانم من الهوانم اللي هيطلعوا في التلفزيون وهتبقي احسن منهم كمان .


رفعت حاجباها ساخرة باستنكار وهي تنظر إليه من أعلى لأسفل وكأنه رث وهبت به باندفاع وحدة مقصودين :


ــ وه هتقارن نفسك بمين انت يا حزين !

بـ"سلطان" سيدك وتاج راسك اللي شبشبه على راسك من فوق ؟!


و"زينب" الفرسة الجامحة ما كانتش هتحب غير " سلطان" ألف رحمة ونور في مرقده ولو رجع بيا الزمان ألف مرة مش هختار غير "سلطان" ، حتى لو انت عنديك من العزب والأطيان مال قارون بحالَه عمرك ما تملا عيني زي "سلطان" .


إستفزه برودها وحدتها فراح ينتقد أول شيء يرفضه تماما في ذلك المزيج الغريب من الهدوء والرقة والحدة لتلك الصعيدية الأبية التي ما زالت تعشعش داخله :


ــ "سلطان" مات يا "زينب" والحي أبقي من الميت وانتِ لسة صغيرة وجميلة وحلاكي يزغلل العين وحرام تدفني الجمال ده كله جوة عبايتك السودا وأنا عايزك ولسة رايدك وبتمناكي .


فور أن استمعت أذنيها لثرثرته ظهرت ابتسامة ساخرة على وجهها وإندثر خواء عيناها وتلك الغيرة الهوجاء على زوجها الراحل تبعثره محتلة ساحة عيناها لتنطق بشراسة جعلته يود أن يختـ.ـطفها معه أو أن يكـ.ـسر لها رأسها اليابس فهي الآن أصبحت خالية ولن يتركها وشأنها مهما كان ، 

كانت نظراتها مشتـ.ـعلة للغاية وذاك الرجل الستيني حب مراهقتها ينظر إليها بتلك الطريقة وكأنه يتـ.ـحرش بها :


ــ بقي أني "زينب سلطان المهدي" اللي رجالة قنا كلاتهم متاجيش ضافر منيه أبدله بيك انت يا "عماد" دي بعدك وفي أحلامك وفي خيالك .


واستطردت بشراسة أهلكته وهي تنظر إلى عينيه القوية بقوة مماثلة وكأن لسانها جيش مسـ.ـلح بالقوة :


ـ متفتكِرش اللي انت عمِلته فيا زمان لما كنت عيلة بت ١٥ سنة أني نسيتَه، لااااه عمري ما هقدر أنسي ندالتك وخستك، وانت كمان مش لازم تنسى انت خرجت من البلد مطرود انت وأمك بسبب عمايلك وبلاويك، مفهماش إيه اللي رجعك تاني، دي إنت كنت خارج بحكم عرفي من كبارات البلد، ازاي تتجرأ وترجعها تاني ؟


ذكرته بماضيه السئ في بلدته وللحق استطاعت أن تجعله يستشيط من الداخل ولكنه حاول رسم الثبات جاهداً أمامها لينطق بتعالي وكبرياء:

ـ شكلك انتِ اللي لسه مفكراني "عماد" الولد الغلبان ابن بياعة الجبنة والفطير!

أنا دلوقتي حاجة كبيرة قوي عينك متعرفش تشوفها ، واصل مع كبارات البلد اللي بتقعدي تتفرجي عليهم في التلفزيون، الوزراء واللي شغالين كلهم في البلد بحركهم بدماغي، فوقي يا "زينب" وسيبك من نبرة الكبر والعنتظة اللي لحد دلوقتي ماسكين فيكي وبيخسروكي كتير، الدنيا اتغيرت ، حتى بلدك دي انا أملك نصها عزب وفدادين وبيوت .


ضحكت ساخرة على تعاليه أمامها لترفع قامتها بشموخ وهي ترد على هرائه من وجهة نظرها:

ـ تصدِق يا "عماد" لساتي هشوفك عِفش كيف زمان ، ماهو اصل الحلو حلو لو هيصحى من النوم والعفش عفش حتى لو غسل وشه كل يوم، وانت ريحة الجِلَّة لسه مأثرة فيك .


ثم وضعت يدها على أنفها وهي تشعر بالتقزز منه لتكمل بمضض:

ـ حتى شماها دلوك ومقدراش نفسي هيطبق علي من ريحتها المعفَنة اللي أول ما شفتك افتكرتها ونَفسي غمَّت علي .


قام من مكانه بحدة ليردد بنبرة منفعلة للغاية من إهانتها له :

ـ ريحة مين يا بني أدمة انتِ! أنا بستعمل برفانات من أغلى وأفخم الأنواع اللي موجودة في العالم اللي عمرك ما تحلمي تشوفيها، شكلك انتِ عيشتك وسط الزرايب لحد دلوقتي هي اللي مخلياكي تشمي الريحة العفشة اللي هتتكلمي عنها، والزمي حدودك في الكلام معايا واعرفي انت بتتكلمي مع مين!


قامت هى الأخرى لتناظره بنفس حدته وبنفس القوة الشامخة وهي تنظر له نظرة مقززة من أعلاه لأسفله:

ـ هكون بتحدت ويا مين يعني، دي الغفير اللي حداي برقبتك، واللي لو سمعك وانت هتغلط في أم العمدة هياجي يعلقك كيف البهيمة المدبوحة ويسلخ فيك على كيفي لحد ما يبان لك صاحب، ولو ان انت هتلاقيك مليكش أهل ولا صاحب من الاساس، طول عمرك زرع شيطاني هتأذي اللي حواليك.


استشاط بغضب وتذكر من أربعة وأربعين عاماً ما حدث:

ـ شكلك مش قادرة تنسي زمان واللي حصل ولسة واجعك وحارقك قوي يا "زينب" .


غضبت بشدة واحتدت ملامحها وهتفت بنبرة يملؤها الغيظ ولكنها أفحمته:

ـ دي من رحمة ربنا بيا إنه بعدك عن سكتي وإني كنت من نصيب سيد رجالة قنا كلاتها ، ودلوك اتفضل اطلع برة نفسي جزعت من مقابلتك، وحاسة إني شفت قرف، واتفضل مطرود علشان مخليش اتنين غفرا يشيلوك مربعن يرموك في زريبة البهايم اللي أنضف منك.

اعتلى الغضب ملامحه وتهدج وجهه بالغضب الشديد ليهتف بحدة:

ـ هدفعك تمن الإهانة دي غالية قوي يا "زينب" إنتي وبلدك كلها وهخلي لسانك اللي بينقط سم ده يترجاني إني أرحمكم .


ألقى كلماته ولكن قبل أن يغادر هدرت به:

ـ دي عندها يا روح أمك، انت متقدرش تعمل حاجة ، حرق اللي جابو أمثالك .


ألقت كلماتها ثم بصقت خلفه بتقزز، وجلست مكانها وداخلها مشتعل بالنيـ.ـران، لذلك الأحمق وما ذكرها به من ذكريات مؤلمة للغاية تود أن تمحيها من ذاكرتها .


                ********

مر ثلاثة أشهر، في منزل "ماهر البنان" كانت "رحمة" قد رأت "كوكي" وهي تلعب تمارينها الرياضية المعتادة في حديقة المنزل، 

"فيروز" قد ذهبت أول يوم في السنة الأولى لها في المدرسة وهي لم تذهب إلى العمل اليوم فهي تشعر بالإرهاق، 

ما ان نزلت حتى ألقت تحية الصباح بمشاغبة معها كالمعتاد:


ـ صباح الخير يا "عمتي كوكي" كيف أحوالك ؟

اندهشت "كوكي" وتسائلت بتعجب:

ـ "عمتك" شو معناها هاد الكلمة يا "رحوم" اوعي تكوني استهزاء فيني والله كعادتك، نحنا الحمدالله اتصالحنا وبقينا كيف ما بتقولو زي السمن على العسل.


ضحكت "رحمة" ورددت من بين ضحكاتها:

ـ هي وصلت تعرِفي السمن والعسل كماني، هتصدقي بالله اني خايفة عليكي مني من كتر قعدتك وياي يا "عمتي" .


ثم ضربت على جبينها وأخبرتها:

ـ اصل عمتي داي لقب هتقولوا الست المتجوَزة لاخت جوزها عندينا اهنه هنقولها كتقدير منينا ليها، وانها تُبقى كيف عمتنا، ولو اني ما هحبش اللقب دي نهائي وهشوفه إهانة للزوجة ذات نفسها؛ علشان اني هعتبر الست واخت جوزها اخوات، ولابد انهم يتعاملوا على المبدأ دي، بس انتِ عارفة في القرى وكل الأماكن اللي زيينا هيتعاملوا بالمبدا دي.


ابتسمت "كوكي" لفهمها القليل لكلمات "رحمة" وسألتها وهي ما زالت مستمرة في رياضتها البدنية:

ـ وازاي ما هتحبيه وتنطقيه يا مرت أخي؟ الشي اللي ما تحبيه ما تقوليه ابنوب، اتعودي على هيك دوماً، أي حاجة متحبيهاش متعمليهاش ، باختصار كيف مابتقول الحكمة اعتزل ما يؤذيك .


أجابتها "رحمة" بعمق وهي تتحدث بمجمل عن الست المصرية بالعموم:


ـ تعرفي حدانا اهنه الست المصرية سواء كانت صعيدية أو مدنية مش هتعمل كل حاجة هتحبها، في حاجات كَتيرة الست هتنجبر عليها من واقع الحياة، بتضطر ان هي تتعايش فيها بسبب انها أم وزوجة وكتير كمان فوقيهم تُبقى عاملة،

عكس الراجل لما هيحب يعمل شيء هيعمله في أي وقت لانه ما عندوش الالتزامات اللي حدا الست، وخصوصاً إن في رقبتها أطفال هي مسؤولة عنيهم وعن احتياجاتهم، وكمان بتبقى مسؤولة عن أمها وابوها، ولو عند خواتها مشاكل هتقف جارهم كماني ،باختصار الست المصرية آخر حاجة تفكر فيها هي نفسها، وممكن كمان ما تلاقيش وقت تفكِر فيه في نفسها وفي اللي هتحتاجه وفي اللي هيسعدها لدرجة انها الوقت اللي هتشرب فيه مشروبها المفضل بيبقى أسعد الاوقات عنديها لما تُبقى لوحدها ودي نادر لما يحصُل .


كانت "كوكي" تنظر إليها بدهشة وقرأت الوجع في معالم وجهها وسألتها بتوجس:


ـ وعلشان كده كنتي عايزة تحققي ذاتك، وبتفري في كل الأوقات من حياة الست اللي هتحكي عنها دي، ودايما عايزة تبقي ناجحة بل وتحققي نجاحات تفوق الرجال؟


تنهدت بحزن عميق لتخرج مافي صدرها من صراعات:

ـ بالظبط اكده لكن طبعا علشان أني أم ومسؤوله من بيت وزوج وعِندي طفلة محتاجة رعايتي، وقصرت في حقها كَتير ما قدرتش اني اخسر حياتي كأم وكزوجة مقابل اني أبقى ست ناجحة مصر كلها بتتكلم عن نجاحها، اني كنت شايفة حالي اني هبقى حاجة كَبيرة، وكنت عايزة الناس كلاتها تعرِف مين هي "رحمة سلطان المهدي" اللي وجهت الشلل والعجز وبقت أشطر محامية في جمهورية مصر العربية ،وكمان تُبقى صعيدية، بس لقيتني هنجح نجاح مبهر وان الناس هتتكلَم عني في حاجة وهخسر قبالها أهم حاجة في الدنيا، إني أم وزوجة، وبعد صراعات كَتيرة مع قلبي وعقلي لقيت إن اللي كسب الصراع دي جواي وكان الأقوى؛ الغريزة اللي جوة كل ست مهما نجحت وهي إني زوجة وأم، وقررت اني أخلي مهنتي الأساسية رعاية بنتي وجوزي وبعدها أشتغل على مهلي، لقيت إن السعادة في حضن بنتي، وفي ضحكتها اللي هتخلي قلبي يرفرف من جواي، وفي راحة بالي أني وجوزي لما هياجي علينا آخر الليل وهو هياخدني في حضنه وهيبوسني من راسي ويقول لي؛ تعبتي قوي النهاردة يا حبيبتي ويفضل يطبطب علي، وعرفت وتيقنت إن كل ست مهروسة في دوامة الحياة داي ايه اللي هيصبرها وهيخليها تصحى تاني يوم تكمل مشوارها بكل نشاط.


دق قلب الأخرى برهبة لما تستمع إليه من همسات "رحمة" لتسألها:

ـ ياه كان صراع قوي وشديد جواكي وغير شكل يا "رحوم" أنا حسيت جواتي بالخوف من اللي جاي، حسيت ان تجربتك وصراعك مع عقلك وقلبك وبنوتك وأخي حاجة مش سهلة ابنوب، احكي لي هل كل ست لما تكون مسؤولة مثلك هتتحط في كل المواقف والصراعات دي؟


تنهدت "رحمة" بارتياح ونصحتها بقلب ومشاعر صادقة:

ـ كل ست فينا حياتها والبيئة اللي هتعيش فيها مختلفة عن التانية تماماً، وعلشان الحياة داي تنجح لازمن الست تفضل ست ومن أول ما تبدأ حياتها الزوجية متعملش غير اختصاصتها كأم وزوجة فقط، متعودش الراجل اللي معاها من أول يوم على التواكل عليها، لازمن الزوجين يكونوا شريكين في كل حاجة في بيتهم ، يعني الراجل يقوم بدور القوامة كراجل في بيته وزوجته وولاده ، والست تبقى أم حنينة، وزوجة تدلع وتطبطب على زوجة، لازمن الطرفين يحاولوا إنهم يسعدوا نفسهم من غير ما حد فيهم يضحي بسعادته علشان التاني، لازمن العلاقة تكون بينهم قايمة على الاحترام، وإن واحد فيهم قصر في احترام التاني لازمن وقتها يكون في مقاومة شَديدة من الطرف اللي اتظلم انه يرجع حقه بكل احترام، واكده هيُبقى في توازن في العلاقة، صدقيني خدي مني النصايح علشان اني اتعذَبت كَتير بسبب دماغي وتفكيري والأزمة اللي مريت بيها هي اللي وصلتني للحالة داي، وما تعلمتش بسهولة وما فوقتش إلا على كلمة؛ انتي طالق، الكلمة داي هزتني من جواي وعذبَتني بدرجة ما تتخيليهاش، وحسيت إني خسرت كيان عظيم وهو بيتي وأمومتي وزوجي علشان كيان قليل وهو شغلي، اللي مسيري في يوم من الأيام هتعب منيه وهحتاج استريح مش هلاقي الكيان العظيم اللي يحتويني لأني أني اللي فرطت فيه بكل سهولة، يا ريت تكوني فهمتيني بجد علشان في حياتك اللي هتبنيها تعرفي تختاري كويس وتتعلمي من تجارب اللي حواليكي. 


ارتمت "كوكي" في أحضانها لتشكرها بامتنان:

ـ بتشكرك أختي "رحمة" على كل هاد النصايح العظيمة، والله بتستاهل تدرَس في الجامعة، قديش محظوظة إني ربنا جمعني بأخي وفيكن كلياتكن، حسيت وياكم بالدفا والعيلة اللي عمري ما حسيت فيهم ابنوب، ولما أمشي وارجع لبلدي هكون سايبة قطعة من قلبي هون معكن، قديش حبيتكن وحبيت ريحتكن وحتى مناغشتك إنتي وياي كتير راح اشتاق لها.


أبعدتها "رحمة" عن أحضانها وهي تمسح دمعة هاربة من عينيها تأثراً بكلامها لتردد بخفة محاولة تلطيف جو التأثر بينهم:

ـ وه على ريحتك العِفشة داي يابت أبوكي طبقت على أنفاسي مطيقهاش.


ضحكت الأخرى لتقول باندهاش مغلف بالدعابة اكتسبته من المكوث كل تلك المدة المنصرمة مع تلك الـ"رحمة" :

ـ والله إنك ما الك حل "رحوم" كيف هتقولي على ريحتك هاد اللفظ شو ايه امبلا "عفشة"!

وأنا حاسة حالي جوات حضنك هشم حالي فيكي؟


ضحكت "رحمة" ورددت بنفس روح الدعابة:

ـ لااا، الريحة علي غير، أني "رحمة سلطان" أي حاجة تُبقى حلوة وزينة علي وهي نفسها تُبقى على غيري؛ عفشة، هتصدقي نفسي اتعالَج من الفشخرة الكذابة بحالي داي، محداكيش علاج ليها يا عمتي ؟


ضحكت الأخرى من قلبها لكلمات تلك المشاغبة ومناغشتها الجميلة معها لتمد يدها إليها آمرة إياها:

ـ قومي "رحوم" يالا فيني نلعب وياكي رياضة الصباح، التمارين الرياضية جميلة جداً ، هتجدد نشاطك وهتخلي المزاج المتعكر يروق، عودي نفسك عليها هتحبيها وهتفك التشنجات اللي هتلازم العضم وتصيري أحلى وأجمل ولو إنك جميلة ومتل القمر.


خمَّست "رحمة" في وجهها وقالت بخفة:

ـ وه الله أكبر علي هتحسديني على جمالي إياك ، اشحال ما كنتوش انتو اللبنانيات واخدين نص الجمال لحالكم، دي يوم دخلتك علي قهرتيني وخصوصي لما كنتي هتقولي لأخوكي "تؤبرني" وقتها كنت عايزة انط في كرشك .


شهقت الأخرى على صراحة "رحمة" لتقول بدلال وهي تصطنع الهدنة:

ـ وعلى ايه كروش وقروش "رحوم" ما محبة إلا بعد عداوة، الله يخلي لك أخي ويحفظكن ويبعد عنكن الأذى، يالا نبلش في التمارين ، يللا هوب، واحد، تنتين، تلاتة .


بدأت "رحمة" ممارسة التمارين الرياضية معها لأول مرة، وفي تلك اللحظة عاد "ماهر" وهو يحمل معه "فيروز" وقد عادت من اليوم الدراسي الاول لها، وهي في أحضان أبيها الحنون الذي يقبلها كل ثانية من وجنتيها المحمرتين، ورأى ذاك المشهد من بَعيد، 

ولكن ما جعله ألقى ابنته وجرى سريعاً هو رؤية تلك الــ"رحمة" وهي تضع يدها على جبينها وتترنج ويبدو أنها تشعر بالدوار الشديد، 

وحينما وصل إليها كانت قد وقعت مغشياً عليها، اقترب منها وهو يشعر بالهلع الشديد عليها محاولاً إفاقتها هو و أخته، ولكن لم تفيق فحملها سريعاً وصعد بها إلى غرفتهم وهاتف الطبيبة أن تأتي على الفور، 

حاول إفاقتها مراراً وتكرارا لحين مجئ الطبيبة وبالفعل استطاع وما إن فتحت عينيها سألته بنظرة مشوشة وهي مازالت تشعر بالدوار:

ـ ايه اللي حُصل؟

داعب خصلات شعرها وهو يجيبها:

ـ وقعتي من طولك أغمى عليكي، مالك يا "رحمة" حاسة بايه يا حبيبتي؟


أجابته بوهن :

ـ معرفاش حاسة بدوخة شديدة وبطني هتتقطع. 


أتت الطبيبة وقامت بفحصها جيداً وبعد الفحص الدقيق وضعت سماعتها الطبيبة في حقيبتها لتخبرهم بابتسامة :

ـ متقلقوش يا جماعة كله خير بإذن الله ، المدام حامل وهتجيب نونو صغنون، بس هي عايزة تهتم بحالها شوي، ولازمن تروح للدكتور تتابع معاه . 


كان وقع الخبر عليهم مشوبا بعدة أحاسيس، وكلهم في كفة وإحساس ذاك الـ"ماهر" في كفة أخرى، فقد تسلّل الخبر إلى قلبه كأنه نورٌ مفاجئ اخترق صلابته؛ شعر كأن الدنيا اتّسعت فيه فجأة، وكأن رجولته التي طالما حملها بثباتٍ صامت انتفضت الآن بفرحٍ لا يشبه فرح الرجال العاديين، أحسّ بأن "رحمة" تُمنَح له من جديد، ليس زوجةً فقط بل حياةً تُعيد تدوير نبضه، فاختلط في صدره العشق بالامتنان، والقوة باللين الذي لا يُظهِره إلا لها، وفي تلك اللحظة، أدرك أنّه لم يكن ينتظر طفلًا فحسب، بل كان ينتظر تأكيدًا جديدًا أن هذا البيت ما زال ممتلئًا برزق الله ودفء القدر، وابتسم ابتسامة خافتة، ابتسامة رجلٍ اشتدّت الدنيا عليه كثيرًا، فاختارته هي ليُولد له حلمٌ آخر ، 


تركهم الجميع وودعت "كوكي" الطبيبة بعد أن باركت لـ"رحمة"، وأخذت "فيروز" كي تعتني بها، اقترب منها وهو يمد يده إليها يساعدها على القيام قليلاً، ثم احتضن وجنتيها بنعومة وهو يبارك لها بعيناي متلهفة:

ـ مبروك يا أجمل مامي، هتجيبي نونو تاني يا صغنن، اني حاسس بسعادة كَبيرة قوي . 


قبلت يديه المحتضنة لوجنتيها المتوهجتين من اقترابه، وهمساته الرقيقية، ولمساته الحانية، وهي ترد مباركته بعيناي تلمع بالعشق وحاوطت رقبته بكلتا يديها:

ـ الله يبارك فيك يا أبو العيال، اكيد مستريح دلوك.


ثم استندت برأسها على صدره لشعورها بالدوار وهي تداعب وجنته بأصابعها وسألته بنعومة:

ـ مبسوط يا "ماهر" بالخبر المفاجئ دي ؟


لف خصلات شعرها يلويها بين أصابعه وهو يجيبها ويحكي سعادته الغامرة:

ـ ياسلام، وأي انبساط يا "رحمتي" ،اني علشان هعشقك فهحب عيالي منيكي، وكمان اني عايز يُبقى ليا عيال كَتيرة وعزوة. 


وتابع بعيناي تلمع بالشغف:

ـ يعني عايز أخت لـ"فيروز" علشان ماتُبقاش وحيدة، وعايز ولدين كمان علشان يكونو عزوة خواتهم قبل ما يبقو عزوتي. 


شهقت بصدمة من كلامه وأمنياته وابتعدت عن صدره ورفعت رأسها وتعمقت النظر داخل مقلتيه ونطقت بعيناي متسعتين:

ـ بقى عايزني أخلَف دول كلاتهم، طب وهعملها كيف داي وأني فرهدت من اول ما عرفت اني حامل؟ شكلك مفكر نفسك متجوز مازنجر!


داعب أرنبة أنفها وسحبها لصدره مرة أخرى ليشاغبها كعادته:

ـ يا صغنن انت بطل وقدها، أني هعرِفك زين اكتر ما هتعرِفي حالك، هتقدري تعملي كل حاجة، ما حدش هيعرِف يعملها زيكي يا "رحمتي"، توكلي انتِ على الله وهاتي لنا المرة داي توم، اني عارف زين اني اشتغلت الفترة اللي فاتت عال العال ممكن كمان تكوني حامل في توم.


دفعته بقبضة يدها الصغيرتين على صدره لتنعته بالوقاحة كعادتها :

ـ وه! انت سافل على فكرة، ووقح كماني .


تمسك بقبضة يديها يقبلها بنهم :

ـ مش ملاحظى ان كل شوي هتقولي لي يا وقح! واكده عيب هتغلطي في ابو عيالك يا "رحمتي"، والحكم عليكي هيبقى صعيب قوي وما هتقدريش عليه يا بت "سلطان" بعدي عن سكة الخط علشان انتِ مش كده واصل .


اتسعت مقلتيها من سعادته لمجرد معرفته فقط بخبر حملها:

ـ قوام خليتني أم عيالك مرة واحدة وأني لساتي في الشهر الاول أو التاني بالكَتير! امال لما أخلَف هتعمل ايه وانت ما مصدقش حالك من دلوك؟


أمسكها من يدها وأوقفها أمامها وحملها من الأرض ودار بها في غرفتهم بهدوء كما الفارس الذي يداعب فرسته الجامحة كي يسترضيها مما راق لها دلاله:

ـ تعرِفي حاسس في اللحظة داي اني املك سعادة الكون كلاتها يا "رحمتي" ، حاسس اني عايز أفضل في حضنك أحكي لك عن مدى اشتياقي للحظة داي، ما رايدش أطلعك من حضني واصل وأفضل أحكي لك طول الليل عن الحاجات اللي نفسي أعملها مع ولادي لما يوصلوا بالسلامة وهشوفهم يكبرو قدام عيوني، واتجمع وياهم على طبلية واحدة وانتِ القمر وسطهم وهم بالنسبة لي النجوم اللي هيحاوطوا القمر.


ثم أنزلها أرضاً بهدوء ونزل بقدميه أرضا لمستوى بطنها واحتضن خصرها بين يديه وقبَّل بطنها وكأنه بتلك الحركة يقبل جنينه، مما جعل "رحمة" تتأثر بفعلته تلك ، فلم تكن تتوقع أن يكون سعيداً بذاك الخبر بتلك الدرجة، فلأول مرة تراه كما الطفل الصغير، فلمعت عينيها بعشق وهي تخلل أصابعها بين خصلات شعره بحنو ثم قالت بفخر لوجود ذاك الفارس في حياتها:


ـ عمري ما ندمت انك انت الراجل الاول والأخير في حياتي، كل مرة هبص لك فيها واطلع لملامح الرجولة اللي هتبان في ملامحك وتصرفاتك هحس بالفخر والعزة إني مرتك، كد إيه أني ست محظوظة يا "ماهر" .


التفت إليها أخيرًا، وبدا في عينيه شيءٌ لم تره منذ زواجهما خليطٌ من الامتنان، والفرح، والخوف من شدّة الفرح نفسه،

رفعها ببطء ناحية الأريكة وجلس أمامها، يضع كفّيه على ركبتيه، يحدّق في وجهها طويلًا، كأنه يقرأ ملامحها من جديد،

ثم قال بصوتٍ منخفضٍ يحمل ثقل رجولته وهدوء يقينه:

– تعالي هنا يا حبيبي، علشان قعدتك اكده غلط .


اقتربت منه بلا تردّد، أجلسها في حضنه برفق، وأسند جبينها على كتفه للحظات قبل أن يُمسك بيديها بين يديه:


– انتي عارفة إن الخبر دي، هزّني؟

هزّني بمعنى الكلمة، لأن دي اختبار جَديد من ربنا سبحانه وتعالى في حياتي وحياتك، بس أكيد ربنا بيزود الميثاق الغليظ ما بيني وما بينك بالاولاد، ودي معناه إن وجودنا مع بعض أحسن حاجة ليا، حسّيت إن ربنا رجّع لي حاجة كنت فاكرها اتأخّرت، وحسّيت إنك بتكبّري بيّا مرّة تانية.


رفعت رأسها تنظر إليه، وابتسامة خجولة تتشكل على شفتيها:

– ياه لو كنت أعرِف إن إحساسك هيُبقى اكده وانك هتفرح قوي اكده كنت عِملتها من زمان. 


ضحك من أعماقه، ضحكة قصيرة متفاجئة، ثم أمسك خدها براحة كفه الكبيرة:

ـ "ماهر البنان" ماهيفرحش بس دلوك؛

دي أني قلبي وقع جوّا صَدري يا "رحمة" ،

وقع جامد، لدرجة حسّيت إني محتاج أقعد دقايق أفهم أني مبسوط ولا تايه ولا إيه؟

بس في الآخر طلعت تايه ودايب فيكي.


ابتسمت وهي تطرق بنظرها، كأن الكلمات تزيدها خجلاً، وهي تحرك يدها على بطنها برعاية وكأنها تحنو عليه ليس لأجل أنه جنينها فقط ولكن لأجل معشوقها أولاً:

– ربنا يقومّني بالسلامة يا حبيبي ونفرح بشوفته أو شوفتها.


شدّ يدها لصدْره أكثر:

ـ يقومّك، ويخلّيك، ويحفظك إنتي و اللي جوّاكي، أني مهسيبكيش لحظه، ولا هسيب تعبك يعدّي عليكي لوحدِك.


سكت لحظة، يمرر أصابعه على شعرها ببطءٍ يفضح كل ما لا يجيد قوله،

ثم رفع وجهها إليه، ونبرته تلين شيئًا لم تألفه إلا في تلك اللحظات النادرة التي يتجرّد فيها من هيبته:


– انتي واعية زين إن وجودك في حياتي هو اللي معدّل الدنيا في عيني؟


شعرت بأن أنفاسها تضيق من شدّة المعنى، وقالت بصوتٍ خافت:

ـ ياحبيبي روحي وعمري انت. 


مال عليها قليلاً، ملامحه تقترب منها كما لو أنّه يضمّها بالكلام قبل اللمسة:

– وأخيرا، بقيت أب من تاني.


أسند جبينه لجبينها، يغلق عينيه وكأنه يشكر الله في صمت ثم همس:

– نامي يا "رحمتي" الليل دي أول ليلة في عمر جديد وكلّه منك.

ساد الغرفة صمتٌ خفيف يشبه الهدوء الذي يسبق المطر، وكانت اللمبات الجانبية تبعث نورًا دافئًا يُلقي على ملامح "رحمة" ظلًا من الحياء ووهجًا من الدفئ، أمّا " ماهر" ، فكان ينظر إليها نظرة رجلٍ تهاوت منه الحدة، ولم يبقَ فيه سوى رجلٍ ذاب قلبه على امرأةٍ تحمل داخِلها جزءًا منه، فأعاد احتضانها بطريقةٍ أكثر عمقًا، ذراعه خلف ظهرها، ويده الأخرى على رأسها تُنزِلها إلى صدره كأنّه يقول لها دون كلام؛ هنا مكانك؛ هنا بيتِك.


                ********

ـ تعالي يا "سكن" قولي لي عايزة تلبسي ليه وتتشيكي رايحين فين عاد وأني أمكم معرفاش؟ وكمان "سيف" و"سَليم" هيلبسو هدومهم وهيستعدوا للخروج؟


أجابتها "سكن" وعيناها تتلألآن فرحًا، تُلحّ عليها أن تُسرِع في ارتداء ثيابِها، راحت تركض في الغرفة بخِفّة طائرٍ يستعجلُ التحليق، تُخرج ملابسها وحذاءها الرياضي، وتلوّح بهما لأمّها كأنّها تستعجل الفرح قبل أن يفلت من بين يديها، كانت خطواتُها تدقُّ أرضَ الغرفة كخفقاتِ قلبٍ صغيرٍ ينتظرُ لحظةً طال شوقه إليها، وكأنّ السعادةَ نفسها تُطارِدها في أرجاء المكان، تخشى أن تُمسكَ بها فتتأخّر:

ـ وه يا امي لساتك هتسألي عاد؟ كانك ما هتعرفيش ولا ابوي خبرك قبل سابق وانت ما هيفوتكيش فايت عاد! دي متفق معانا من بقالَه سبوع انه هيخرجنا ويفسحنا النهاردة وهيودينا المول الكَبير اللي مليان ألعاب وكمان هيشتري لنا حاجات كَتيرة وكل اللي هيعجبه فينا هيجيبها له. 


وتابعت بعيناي تلمع بالشغف:

ـ كان متفق ويانا لو جبنا الدرجات النهائية في التقييمات الشهرية هيخرجنا واني وخواتي عمِلناها وانتِ عارفة يلا بقى لبسيني بسرعة علشان بوي قال لي لو اتاخرتي مش هاخدك ويانا وهتخلي "سيف" و"سَليم" يشمتوا فيا عاد.

كانت "سُكون" تُصغي لكلمات ابنتها وقلبُها يتمزّق في أعماقها؛ فـ"عمران" لم يَعُد يُلقي لها بالًا كما كان، مهما بذلت مِن جهدٍ في مُراضاته، ومهما حاولت أن تُصالحه، فلا حياةَ لِمَن تُنادِي، أرهقها جفاؤه المُستمر، وحدته التي أحاطها بها كطوقٍ من صقيع، وعقابه الذي طال على غير ما كانت تتوقع؛ إذ لم يخطر ببالها يومًا أن ييأس "عمران" منها إلى هذا الحدّ، حدّ يُطفئ نور الرجاء في صدرها،

ألبست "سكن" ثيابها، ثم عقدت العزم على الذهاب إليه لتُحادثه؛ فقد نَفِد صبرُها، ووصلت إلى حافّةٍ لم تَعُد تقوى بعدها على الاحتمال، كانت تمضي كأنّ قدميها تسيران فوق رمادِ قلبٍ مُشتعل، وكأنّ الحزن يجرُّ ظلَّه الطويل خلفها أينما اتّجهت، فلا مفرّ منه ولا مهرب، 

دخلت إلى الغرفة حيث كان "عمران" قد خرج لتوّه من الحمّام، ما زال أثرُ الماء يلمع على كتفيه، ولم يكن يرتدي سوى سرواله، فوقف أمامها بهيئةٍ أربكت أنفاسها فكان عاري الصدر، وأيقظت شوقًا حاولت طَمره طويلًا، اشتاقت إليه حدَّ الوجع، ولم تَعُد تقوى على عقابه ولا على بُعده، وحين وقعت عيناها عليه بهذا الشكل ابتلعت أنفاسها بصعوبة، وكأن صدرها ضاق بما فيه من حنين،


وقبل أن يمدّ يده إلى الباب أو يفكّر في الخروج، سارعت إلى إغلاقه بالمفتاح وأخفته في صدرها، فالتفت إليها، وردّ على طريقتها ببرودٍ مُتعَمّد، كعادته معها في الآونة الأخيرة، برودٍ كان كريحٍ صامتةٍ تطفئ ما تبقى لها من صبر،كانت واقفة أمامه كغصنٍ أثقلته الرياح، تحاول الثبات ولا تقوى عليه، والهواء من حولها يضيق كضلعٍ انحنى على قلبٍ يختنق بالشوق، لينطق هو ببرود دون أن ينظر إليها وهو يجلب قميصه كي يرتديه:

ـ خير، في حد قال لك إني رايد أطلع لطلتك البهية، ولا هتفكري شغل العيال اللصغيرة اللي هتعمليه دي وانك تقفلي الأوضة وتخبي المفتاح إني هضعف قدام طلة السفيرة عزيزة.


كادت عينيها أن تدمع من حدته وبروده معها بل وقسوته واقتربت منه وهي تسأله بنبرة حزينة لم تؤثر به لأول مرة :

ـ من ميته بقيت قاسي قوي اكده؟

بزياداك قسوة على "سكون" يا "عمران" متخلنيش أشك فيك وفي عشقك ليا، متخلنيش أحس ان قصة حبنا كانت سراب ومجرد خناقة قلت فيها كلمتين غصب عني واني خارجة عن ارادتي ومدرياناش تخليك تقسى وتبعد وتجرح كل المدة داي.


رفع "عمران" حاجبه بسخرية من اعتراضها، وضحك ضحكةً استهزاءً على كلماتها، ثم اقترب منها، ونطق بقوةٍ لأول مرة أذهلتها، وكان نظره في عينيها أشد تأثيرًا حتى شعرت وكأنها ترى "عمران" كما لم تره قط من قبل، ولا تخيّلت أنها ستشهد تلك النظرة في حياتها:


ـ خلينا نبدل الأدوار انتِ تستنيني، لكن اني مهرجعش أبدا، دوقي من نفس الكاس اللي كنت هتعيشيني فيه ليالي طويلة والله ما عارف عددها، هتعرفي كتر البكا هيعلم القسوة، ولو سمحتي يا ريت نقفل الكلام في الموضوع دي مرة تانية، خلاص اني قفلت منك عاد .


كان وقع كلامه كصاعقةٍ تزلزل صمت قلبها، وعينيها كمرآةٍ انعكست فيها حرارة شعوره وكبرياؤه، لتختلط المشاعر فيها بين رهبةٍ وشغفٍ لا يضاهى، لتقترب منه ومنعته أن يكمل ارتداء قميصه وهي تتمسك بياقته وكأنها لم تصدق ولم تستوعب وقع كلماته الشديدة على قلبها العاشق وعقلها المتهمين به:

ـ ليه هتحاسبني على غلطه اعتذرت لك عنيها بدل المره ألف وانت قبلت اعتذاري وكنا كويسين، ليه هتربط القديم بالجَديد واني اتعاقبت عنيه، اكده قمة الظلم منيك ليا. 


ثم دفعته بقبضة يديها في صدره ولكنه اهتز جسده من لمسة يدها المفاجئة له، فأغمض عينيه وتمسك بيدها ناطقاً بتحذير :

ـ متحاوليش تلمسيني تاني ولا تقربي مني،

مطايقش لمستك عاد، اتكلَمي واعترضي من بَعيد لبَعيد، وانجزي ارمي اللي في صدرك وهمليني مفاضيش ليكي عاد .


لم تعد قادرة على احتمال أسلوبه أو كلماته، فإذا بها تهوي في نوبة بكاءٍ شديدةٍ، غير قادرة على ضبط أعصابها أو استيعاب معاملة "عمران" الجديدة لها، فلم يبق أمامها سوى البكاء لتفريغ كل طاقتها،

أما "عمران" فوقف أمامها متأملاً جرحه منها، متأملاً بكائها الذي مزق قلبه، مفكرًا كيف يمكن أن يتعافى من كلماتها؟ وكيف يقترب منها بعد أن ألمّ بها كليهما؟ ظلّ الاثنان واقفين في حيرة حتى سمعا طرقات أطفالهم على الباب، يتعجلون خروج والدهم، فحاول تهدئة أعصابها لتكبح بكاءها حفاظًا على أن لا يسمع أحد من الأولاد، وعرض عليها :

ـ ممكن تبطلي عياط وتبطلي شغل العيال اللصغيرة دي! الاولاد مستنييني برة، ولو حابه تيجي تخرجي مع ولادك ما عِنديش مانع بس يا ريت تحاولي تقصري الكلام ما بيني وما بينك، واظن احنا متفقين على إننا نكون أسوياء قدام الولاد . 


لم تعد قادرة على احتمال طريقته وبروده وجمود قلبه معها، فأمسكت بنظره بعينين محمرتين، وشرعت تقول له ما حُبِس في قلبها طيلة هذه المدة من ألمٍ واحتقان بسبب معاملته وجفائه المستمر،

كانت كلماتها كالسهم المحروق الذي يخترق صمت صمته، ونظراتها كالسحاب المشتعل بالغضب والحنين معًا، تعكس ثورة مشاعرها المكبوتة:

ـ ما عايزاش اروح وياكم في حتة، ولا رايدة منيكم حاجة، يا رب اموت علشان تستريح مني، أني دلوك اللي ما هسامحكش على معاملتك وياي يا "عمران" ، وما هسامحكش على انك هتحاسبني على اني كنت متعلقة بولادي تعلق مرضي وانت بذاتك اكتشفت دي فيا، حاجة ما كنتش عارفاها وهتقعد تحاسبني وتعدي لي القديم والجديد، روح اخرج مع ولادك وسيبني اهنه لحالي مع ألف سلامة. 


ألقت كلماتها وفتحت الغرفة وخرجت منها وهي تحاول أن لا تظهر بمظهر الباكية أمام أولادها، ثم احتضنتهم و قبلتهم بحنو ونصحتهم :

ـ خلوا بالكم من حالكم يا حبايبي وما تغلبوش بابا وارجعوا لي بالف سلامه عايزاكم ما تتشاقوش وتضـ.ــربوا بعض علشان بابا ما يزعلش منكم يا حبايب وتروحوا وترجعوا بألف سلامة. 

هنا سألتها "سكن" وهي تلاحظ أن هيئتها على غير عادتها من عينيها الحمراء:

ـ مالك يا ماما إنتي كنتي هتبكي عاد ؟


ابتلعت أنفاسها بصعوبة بالغة وأجابتها باختصار وهي تحاول تداري عينيها عنها:

ـ ما فيش حاجة يا حبيبتي، يلا عشان ما تتاخروش عاد . 


خرج إلى الأطفال فاستقبلوه بالأحضان والترحاب، واستقبلهم هو الآخر وفتح لهم ذراعيه وهو يقبلهم جميعا بابتسامة حانية وصافية، قرأتها تلك الـ"سكون" فاغتاظت بشدة لمعاملته الحنونة الطيبة مع أبنائه وقارنتها بمعاملته السيئة لها فاشتعل صدرها بالنيـ.ــران، فدخلت إلى غرفتها تبكي بشدة على حالها وما إن اطمئنت إلى خروجهم حتى نزلت إلى "زينب" التي ما ان رات وجهها وعينيها المحمرتين من شدة البكاء حتى قالت وهي تشير إلى المقعد على الأريكة بجانبها :


ـ تعالي يا بتي اقعدي جاري واحكي لي مالك شكلك بكيانة لما شبعانة؟

وكأنّها ضغطت على زرّ الوجع في داخلها، فعادت إلى البكاء مرّة أخرى، فانفرجت ذراعي "زينب" لها، تضمّها محاولةً تهدئتها، ثمّ سألتها،

وكانت شهقات "سكون" تتساقط في حضنها كحطام موجٍ يرتطم بصدر الصخر،

كأنّ قلبها نافذةٌ اشتدّ عليها المطر، لا تملك إلا أن تُشرِعها للبكاء حتى يهدأ العاصف في داخلها :

ـ اهدي يابتي، ما فيش حاجه هتتحل بالبكا عاد اهدي واحكي لي مالك؟ 


حاولت "سكون" تهدئة حالها لتقول من بين شهقاتها المرتفعة بشدة:

ـ اني حاسة اني حياتي خلاص اتدمـ.ــرت وما هعيشش يوم حلو تاني، "عمران" خلاص ما عادش يحبني وغضبان علي غضب السنين، ما هتشوفيش نظرته الجامدة الباردة ناحيتي عمرَه ما عِمل وياي اكده، عمري ما شفت منيه القساوة داي في التعامل، أني حاسة اني خسرته، وخسرت حياتي معاه، وخسرت كل حاجة، أكيد ربنا غضبان علي، وأكيد استجاب لدعاويكي وانتي هتتحسبَني علي وانتي قلبك محـ.ــروق، ودعوة الحما في السما .


ربّتت "زينب" على ظهرها برفق، وهي تحاول أن توضّح لها شعورها وما ينعقد في صدرها تجاهها، وتسعى لتهدئتها من جهة زوجها، وتعقلها أكثر؛ فهي تؤدّي ما عليها، وهي أيضًا تريد لابنها استقرارًا مع زوجته، ولا سيّما أنّها ستشهد وجعه كل يوم، وسيُقطِّع قلبها تقطيعًا،

وتعلم أنّه هو الآخر لا يقوى على بُعد زوجته عنه، غير أنّه يكابر، تشدّه كرامته المكسورة، ويعصِف به كبرياؤه ورجولته التي جُرِحت على يديها، كانت كلمات "زينب" تنساب إليها كنسيمٍ يُطفئ حريق الصدر:

ـ يعلم ربنا يا بتي اني كل يوم هدعي لك انتِ وجوزك يألف بين قلوبكم، ويهدي حالكم، واليوم اللي دعيت عليكي فيه قلبي ما طاوعنيش، وفضلت طول الليل اقول يا رب ما تستجيب، ربنا العالم اني هحبك كد ايه؟ وهعتبرك كيف "رحمة" و"حبيبة" بناتي، كل الحكاية اني عايزاكي ما تيأسيش، اني عارفة ولدي زين، هو في غضبَه غشيم وخصوصي لما يكون مكاوم في قلبَه مواقف كَتيرة ما يقدرش يتخطاها بسهولة، اصبري يا بتي والصبر آخره جبر، علشان ولادك وبيتك وحياتك يستحقوا منك انك تدافعي عنهم بيدك وسنانك، واني من كفة وانتِ من كفة تانية لحد ما الميزان يتعدل، ووقتها انتِ وهو تخلي بالكم من بيتكم ومن عيالكم وتكونوا اتعلمتوا الدرس زين، عايزاكي ما تاخديش قرار في وقت غضب، واني وياكي بقلبي وروحي، وما هبطلش زن على ودان "عمران" أني رايدة لولدي الخير والاستقرار، وانه يعيش حياته زيه زي أي راجل، "عمران" يا حبة عيني معاشش يوم حلو كل حياته صراعات.


تنهدت بوجع مازال يسيطر على حياتها مع عشقها وروحها، من يوم أن تزوجته وهي لم تهنئ بحياتها معه، صراعات كَثيرة ومطبات تقضم الظهر مرت بهم وهم صابرون، ما عليها غير أنها ستسمع إلى كلام" زينب" ما عليها سوى التحمل والانتظار إلى أن يعود معشوقها إلى أحضانها.


                *******


كان الطريق هادئًا حين خرجت "رحمة" تمسك يد "فيروز" الصغيرة، تضمها إلى صدرها بخفة أمٍّ تنتزع يومها من بين فكوك الإرهاق. جلستا في السيارة، وانطلقت "رحمة" عائدة وهي تشعر أنّ الدنيا اليوم أكثر لينًا من المعتاد، رنّ الهاتف، فتفتحت ابتسامتها تلقائيًا، فهي تعرف رنة "ماهر" حتى قبل أن يظهر اسمه، فتحت الخط وقالت بنبرة دافئة مشاغبة:


 ـ أيوه يا سي "ماهر" جبت البنوتة الحلوة، ورايحين نعدّي نجيب شوية حاجات وراجعين على طول.

 جاءه صوته الحاسم الممزوج بخشية لا يعلنها عادة:

 ـ طوّلي بالك وانتي سايقة، ما تجريش يا "رحمة" ، خلي بالك من نفسك ومتسوقيش بجنون كعادتك.

ابتسمت وهي تميل برأسها كأنها تراه أمامها:


 ـ يعني خايف عليّا أني ولا على اللي في بطني؟ ولا على بتك اللي قاعدة جاري دلوك ؟


ردّ بجديته المحبّة: 


ـ خايف عليكم كلاتكم حتة مني، ماتتهوريش في الطريق وخلِّي بالك.


 أغلقت المكالمة وقد بقي الأمان متعلقًا بصوت الرجل الذي دائمًا تحتاج حنانه، ثم التفتت إلى "فيروز" تمازحها: 


ـ ها يا ستي، طمنيني يومك كان عامل كيف في المدرسة؟ ونجيب شوكولاتة ولا حاجة تانية؟ 

ضحكت الصغيرة ببراءة ،لكن لحظتهم لم تعش طويلًا،فجأة ظهرت سيارة سوداء إلى جانبها كأنها خرجت من الفراغ، اقتربت بجنون حتى التصقت تقريبًا بسيارة "رحمة"، تجمّد الدم في عروقها، وشدت يدها على المقود حتى شعرت بتنميلٍ في أصابعها، همست وهي تلتفت نحو ابنتها: 


ـ اقعدي تحت، اقعدي وماتتحركيش!

 حاولت الانعطاف، لكن سيارة أخرى ظهرت من الخلف، وثالثة جاءت من الجانب الآخر لتغلق عليها الطريق تمامًا، أخذت أنفاسها تتسارع، والخوف يعلو في حلقها. صرخت "فيروز": 


ـ مامااا!!

 دفع الصوت قلب "رحمة" للارتجاف، فانطلقت بالسيارة في محاولة للهروب، ارتطم طرفها بسيارة العصابة بعـ.ــنف، لكن الحصار كان محكمًا، توقفت سيارتها فجأة عندما انزلقت إحدى سيارات العصابة أمامها، ثم نزل أربعة رجال كأنهم وحوش مدرّبة على الخـ.ــطف، حاولت "رحمة" عدم فتح بابها وهي تصرخ بأعلى ما تستطيع:


ـ بعـدوااا عنينا، بعدوا عن بتي يا ولاد الكلــــب!

 لكن يدًا قوية سحبت "فيروز"، وذراعًا أخرى جذبت "رحمة" من حجابها، ساقطة على الأسفلت، فضـ.ــربوها ضربات عنـ.ــيفة في الوجه أربكت بصرها، وأخرى في بطنها حتى شعرت أنّ الهواء يُنتزع من رئتيها، ثم ركلة جعلت أذنيها تطنّان، حاولت أن تزحف نحو ابنتها، وكانت "فيروز" تصرخ وتخدش الهواء بصوت يشقّ القلب، لكن رجلًا جرّ الصغيرة داخل السيارة، بينما أمها تتحطم على الأرض،


 مدت "رحمة" يدها المرتجفة نحو ابنتها وهي تصرخ بصوت يخرج ممزقًا:

– "فيروووز" … "فيروووووز" !


 رأتها تُسحب، رأتها تُختطف، ورأت العالم كله ينطفئ دفعة واحدة،أحاط السواد بعينيها، وبدأت الأصوات تتلاشى، آخر ما شعرته كان رعشة خوفٍ وحشيٍّ يسري في عظامها، خوف أمٍّ تُنتزع منها ابنتها أمام عينيها بلا قوة ولا حيلة، ثم انزلقت بالكامل في ظلامٍ كثيف وهي تهمس كمن ينازع:

 – يا رب… بنتي… بنتي…

الفصل الثلاثون من هنا


stories
stories
تعليقات