رواية من نبض الوجع عشت غرامي الجزء الثالث الفصل الثلاثون 30 بقلم فاطيما يوسف


رواية من نبض الوجع عشت غرامي الجزء الثالث الفصل الثلاثون بقلم فاطيما يوسف




رأتها تُسحب، رأتها تُختطف، ورأت العالم كله ينطفئ دفعة واحدة،أحاط السواد بعينيها، وبدأت الأصوات تتلاشى، آخر ما شعرته كان رعشة خوفٍ وحشيٍّ يسري في عظامها، خوف أمٍّ تُنتزع منها ابنتها أمام عينيها بلا قوة ولا حيلة، ثم انزلقت بالكامل في ظلامٍ كثيف وهي تهمس كمن ينازع:


- يا رب... بنتي... بنتي...


كانت الأرض تحتهـا تهتزّ كأنّ العالم كله انكسر فجأة فوق كتفي "رحمة"، لم تستطع أن تستوعب للحظة ما الذي جرى، كلّ ما شعرت به هو حرارة الدم المنساب من جبينها، وارتجاف أطرافها اللتين لم تعودا قادرتين على حملها، كانت تقف ثم تسقط، وفي كلّ مرة تمتدّ يدها المرتجفة نحو الهواء كأنها تُمسك شيئًا غير موجود، لم يكن هناك إلا الفراغ، والشارع الخالي، وصوت بعيد لعربة مسرعة كانت قبل ثوانٍ فقط تحمل صغيرتها بعيدًا عنها،


ومع كلّ نفسٍ كانت تفقد جزءًا من روحها، كأنّ انفاسها تتحوّل إلى صرخات مكتومة لا يسمعها أحد، حاولت أن ترفع رأسها، فارتد الألم إليها كالسهم، لكنها قاومت، حاولت مرةً بعد أخرى، حتى استطاعت أن تزحف قليلًا على الأسفلت البارد، تضع يدها على الأرض وتمسح بقعة الدم التي سقطت منها، ثم ترفع يدها الأخرى إلى بطنها، كأنها تتحسس الأمان الأخير الذي تبقى لها،


همست بصوتٍ واهن، وكأن الكلمات خرجت من أعماق جرحٍ لا يلتئم:


ـ يا رب، يا رب، بنتي، "فيروز" ، أااااه، يارب احمي بنتي يااااارب.


كان دمها حارًا كالنار، يسيل على جانب وجهها، وينزل على عنقها، لكنّ ألم الجسد لم يكن شيئًا أمام الرعـ.ــب الذي ينهش قلبها، شعرت بصوت أشبه بالصفير يملأ رأسها، كأنّ العالم كلّه صار بعيدًا جدًا، والشارع يذوب في ضبابٍ ثقيل، ومع ذلك قاومت، مدّت يدها تتلمّس الأرض حتى وجدت الهاتف على بعد شبر منها، حاولت أن تسحبه، لكن أصابعها لم تطاوعها، كانت ترتجف بلا سيطرة، كأن العظام نفسها ترفض الانصياع،


ومع إصرارٍ مكسور، جرّت الهاتف نحوها، وضغطت الشاشة بباطن يدها لأن أصابعها لم تعد تعمل، الشاشة انفتحت، واسم "ماهر" يلمع أمامها كخشبة نجاة، لكنّ الرؤية كانت مشوشة، فاضطرت أن تقرّب الهاتف من وجهها حتى كادت الدماء تلمس حافته،


ضغطت الاتصال مرة، ثم مرتين، ثم ثلاثًا،


وفي المرة الرابعة، أجابها بعد خروجه من الحمام، وجاء صوت "ماهر" قويًا، ساكنًا، لكنه هذه المرة يحمل قلقًا مكتومًا حينما استمع إلى أنينها:


ـ يا "رحمة"، خير، لسه قافل وياكي؟ صوتك غريب اكده ليه؟


لم تستطع أن تتكلم في البداية، انحبست أنفاسها، وخرج منها صوت أشبه بالشهقة، ثم صرخة مبتورة:


ـ "ماهر" الحق بنتنا، خدوا، "فيروز" ، بتي اتخـ.ـطفت مني.


ساد الصمت للحظة، لكنه كان صمتًا من النوع الذي يسبق العاصفة، وكأنّ شيئًا في صوتها ضـ.ــرب قلبه مباشرة، عاد صوته إليها، لكنه لم يكن كما عرفته دائمًا، صار ثقيلًا، حادًا، عميقًا، يحمل رعب رجل ظنّ أنه قد رأى كل شيء في الدنيا ولم ير مثل هذا أبدًا:


ـ "رحمة" انتي بتقولي إيه؟! "فيروز" اتخـ.ـطفت كيف؟! اوعاكي هتكوني بتهزري ولا هتعملي مقلب كيف عوايدك، كله إلا الهزار السخيف دي.


صـ.ــرخت وهي تحاول أن تجلس لكنها تسقط مجددًا، يتناثر دمها على قميصها وعلى الأرض:


ـ أيوه، أيوه يا "ماهر" اتخـ.ـطفت مني والله العظيم ، ضـ.ــربوني ومقدراش أتنفس، "فيروز" يا "ماهر" هات لي بتيييي، كانوا تلاتة، لا أربعة، وأني، أني ما عرفتش أنقذ بتي.


ارتفع صوته لكنه كان يرتفع من شدّة الخوف وليس الغضب فقط:


ـ "رحمة" انتي فين؟! قولي المكان بالظبط.


أخذت نفسًا متقطعًا يشبه الاختناق، وحاولت أن تركز بعين واحدة لأن الأخرى بدأت تنتفخ من الضـ.ـرب:


ـ عند... عند آخر شارع السوق، جنب المدرسة القديمة، تعالى بسرعة، اني هموت، آاااه.


قال بصوتٍ عالي وهو يحمل أشياؤه سريعاً:


ـ اوعي تقفلي، اسمعيني زين، أني جاي حالًا، وعلى بال ما أوصل هيكون البلد كلاتها مقفولة، واللي عِمل كده مش هيطلع منيها حيّ.


ثم سمعته يصـ.ــرخ لأحد رجاله قبل أن يبتعد قليلًا عن الهاتف، لكنّ صوته كان واضحًا:


ـ اجهزو بسرعة، وانت كلم المقدم "حامد" وعرفه ان مراتي طلع عليها ناس ضـ.ــربوها وخطـ.ــفوا البنت خليه يقفل مداخل البلد ومخارجها من دلوك حالا، ما عايزش نملة تخرج ولا تدخل من البلد كلّاتها، ولا باب يعدّي.


وتابع بأمر للمهندس الذي يعمل معه :


ـ وانت يا باشمهندس خد اللاب وافتح الجي بي إس بتاع الحلق اللي في ودن "فيروز" وشوف مكانها والتتبع فين دلوك، بسرعة قبل ما يكتشفوا أي حاجة، أو يقلبوا البنت ويقلعوها كل حاجة هتلبسها، بسرعة ما فيش وقت. 


ثم عاد إليها، صوته مضطرب لكنه ثابت:


ـ رحمة، استحملي، ما تغمضيش عينِك، اسمعيني، العربية كان لونها ايه بالظبط؟ وماركتها، حاولي تخليكي معاي وتفتكري يا "رحمة" بسرعة. 


لكنّ "رحمة" كانت تبكي بحرقة، تبكي كما لو أنّ قلبها يُنتزع من صدرها قطعةً قطعة، كانت تتلمس الأرض محاولة أن تنهض، لكنها لا تستطيع، كلما رفعت نصف جسدها، سقط مرة أخرى، حتى شعرت بأن الدنيا تدور بسرعة مخيفة:


ـ اني ما كنتش مركزة مع أي حاجة غير مع بتي، هما كانوا تلت عربيات، اني خايفة قوي يا "ماهر" ، خايفة على بتي ما ترجعليش تاني. 


صـ.ــرخ بصوت منخفض لكنه مهتز:


ـ رحمة بالله عليكِ اهدي عاد، "فيروز" مهتقعدش وياهم ولا ساعة واحدة حتى. 


لكنّها لم تعد قادرة، انحنى رأسها على كتفها، وأصبح كلّ نفس يخرج منها كأنه آخر أنفاسها، وظلت ممسكة بالهاتف حتى سمعت صوت سيارة تتوقف فجأة، وصوت بابها يُفتح بعـ.ـنف، ثم امتدت يداه القويتان، رفعها "ماهر" من الأرض كما لو أنه يحمل شيئًا مكسورًا يخاف أن ينهار بين يديه، كان وجهه شاحبًا بطريقة لم يرها أحد عليه من قبل، عيناه جمرتان، لكنّ صوته حين نطق باسمها كان أشبه بصرخة مكتومة:


ـ "رحمة" قومي، خليكي قوية، ارجوكي عايز الحق بتنا .


كانت شبه واعية، وشبه غائبة، وبمجرد أن شعرت بيده عليها، انهار ما تبقّى من قوتها، وضعت يدها المرتعشة على بطنها، وصوتها خرج متحشرجًا، منكسرًا، يغرس الخوف في صدره:


ـ ولادي، يا "ماهر" ،ولادي هيروحو مني .


ضمّها إلى صدره بقوةٍ ، وكأنه يحاول أن يخبئ ألمها داخل ضلوعه هو، ثم أبعد وجهه قليلًا ليرى جروحها، فاشتعل شيء هائج بداخله، شيء لم يكن غضبًا فقط، بل كان قريبًا من الجنون:


ـ في حد فيهم اعتدى عليكي ؟


ابتلعت دموعها حتى كادت تختنق، ثم صاحت كأنّ عينيها تحترقان:


ـ الحق البنت الاول يا "ماهر" اني عايزة بتي ترجع لحضني، أه يا "فيروز" .


وفجأة، انقلب رأسها للخلف وسقطت بين ذراعيه مغشيًا عليها،صرخ باسمها لكنه كان يصـ.ــرخ في الفراغ:


ـ "رحمة" !


ثم نظر إلى مساعده الذي كان يفتح اللاب على مقدمة السيارة وهو بين نارين ، ابنته وزوجته التي تلتقط أنفاسها بصعوبة وكأنها الأخيرة:


ـ بسرعة يابني وصلت للمكان ؟


ردّ بصوت مرتعش:


ـ التحرك مش ثابت، بس واضح إن العربية بتجري على الطريق الصحراوي اللي بين القرى.


رفعها "ماهر" بين ذراعيه واتجه بها إلى السيارة، ووضعها بالمقعد الخلفي، ثم اتصل بأخيها وهو يقفل الباب بعـ.ــنف:


ـ "عمران" تعال فورا "رحمة" اتعرضت لحادثة ضـ.ـرب، واتكسرت ، والناس اللي هاجموها خطفوا "فيروز" ، وهات الدكتورة "سكون" وياك ضروري .


سمع صوت "عمران" المصدوم وهو ينطق بهلع:


ـ إيه؟! "فيروز" اتخـ.ــطفت؟!


أجابه على عجالة:


ـ أيوه، وتعال بسرعة، أني هسيب "رحمة" معاكم، و هروح أرجّع بتي حتى لو البلد كلاتها ولعت.


ثم أغلق الخط دون انتظار رد،


كانت "رحمة" تتأوه، نصف وعيها يعود ونصفه يغيب، تمدّ يدها تبحث عن الهواء، تبحث عن ابنتها، تبحث عن أي شيء يعيد لها الإحساس بالأمان، لكن كان كل ما تشعر به هو الظلام، الظلام فقط،


همست بصوت يكاد لا يُسمع، والدموع تختلط بالدم على خدها:


ـ "ماهر" أني خايفة على بتي.


انحنى فوقها وهو يقود، يده ترتجف على المقوَد، وصوته يخرج من صدرٍ يشتعل نارًا:


ـ ما تخافيش ،ولا لحظة أني معاكي، وأني هجيب بتي، ولو روحي آخر تمن .


لكنّها لم تسمعه، لأنّ بعدها بثوانٍ غلبها الإغماء مرة أخرى، وفي تلك اللحظة، كانت الأرض تهتز تحت سيارة "ماهر" التي انطلقت بسرعةٍ تكاد تكسر الطريق، بينما في داخله غضبٌ لا يشبه غضب الرجال، بل غضب أبٍ نُزعت فلذة كبده من بين يديه، وزوجٍ يرى المرأة التي يحبها تنزف بسبب قلوب جبانة،


وفي مكان آخر، كان حلق صغير في أذن طفلةٍ ترتجف، يرسل إشارة واهنة في فضاء النهار،


كانت السيارة تهتزّ تحت عجلات "ماهر" كما لو أنّها تمتزج مع نبض قلبه المشتعل بالغضب، كل ثانية تمرّ وكأنها قرن في جحيم الليل، والشوارع الفارغة أمامه تتلوّن بالأنوار الصفراء الكاذبة، الهواء كان يصفع وجهه، لكنّ شيئًا بداخله أكبر من أي إحساس بالبرد أو التعب، كان الغـ.ــضب المحترق الذي لا يهدأ، والقلق الذي ينهش روحه؛ "فيروز" ، ابنته، بين أيدي عصابة لا تعرف الرحمة:


ـ يا رجالة، امشوا وراي وركّزوا زين علشان ما يهربوش!


صـ.ـرخ "ماهر" في الهاتف، وصوت رجاله يردّ خلفه، حادًا ومتوتّرًا:


ــ أيوه يا باشا خلاص احنا وراهم بس لازم نتحرك بهدوء علشان ما يحسوش بحاجه والبنت تتعرض للخطر معاهم. 


كانت السيارة الأمامية للعصابة تتلوّى بين الطرقات الضيقة، تضـ.ـرب الرصيف أحيانًا، تلتف حول الحواري وكأنها تحاول الاختفاء من أعين كل من يلاحقها، ضغط "ماهر" على الدواسة أكثر، كأنّ كل جزء من جسده صار محركًا واحدًا، عينه لا تفارق الطريق، وأذناه تلتقط أي صوت غريب يشير إلى محاولة منهم للهرب أو التلاعب،


صاح أحد رجاله وهو يشير بيده المرتجفة إلى الطريق أمامهم، لكنه بالكاد يستطيع الكلام من سرعة نبضات قلبه:


ــ «تمام، روح على اليمين علشان نقطع عليهم الطريق بسرعة،


وفجأة، انطلقت السيارة الأمامية مرة أخرى، لكن هذه المرة بسرعة أكبر، تضرب الزوايا بحذر، تحاول الفرار بين الطرق الترابية، لكن "ماهر" كان أسرع، يتحكم بعربيتِه كمن يعرف كل عثرة على الأرض، كل حجر، كل خط في الطريق، والعصابة خلفه تشعر بأنّ الطوفان لا يرحم وقد تيقنو أنهم هما المرصدون ،


كانت الصراعات داخل السيارة الأمامية واضحة، أصوات صياح، أصابع تضغط على الفرامل والغاز، رؤوس تتقلب يمينًا ويسارًا، كل واحد يحاول السيطرة على الرعب الذي يتملكهم:


ـ انجز يا ابني انت وهو زود السرعة العربيات اللي ورا دي مش مطمئنة. 


صـ.ـرخ أحدهم، لكن الآخر ردّ بعصبية:


ـ «اهدي، اهدي،لو زودنا السرعة اكتر من اكده هيوقعونا.


لكن كل هذا لم يكن كافيًا أمام عزيمة "ماهر"، كانت عيناه تتقدّان كالجمر، كل عضلة في جسمه تشدّ على المقود، كل نفس يخرجه كأنه يرسم الطريق أمامه بعصا من نار،


طريق ضيق، منعطفات حادة، سيارات متوقفة على جانبي الطريق، كل شيء كان عقبة، لكن "ماهر" كان يعرف كيف يحوّل كل عقبة إلى ميزة، كيف يجعل الخوف يعمل لمصلحته، كيف يحول كل ثانية من الضغط إلى خطوة نحو الانتصار:


ـ شوفوا، هما هينحرفوا ناحية الترعة، دوس على الفرامل بسرعة هخدهم من جنب، وانتم من جنب.


الرجال خلفه يقودون بتوتر، لكن كل واحد منهم يعرف أنّ قلبه مع قلب "ماهر"، أنّ كل حركة تحسب بدقة، وأن أي خطأ قد يكون النهاية،


والعصابة، رغم محاولاتها، كانت تقع في فخ الطريق الذي رسمه لهم، خطواتهم تتباطأ، السيارة تتمايل، وهم يصرخون في وجه بعضهم البعض، الرعب يسيطر على كل شيء، والأدرينالين يجعل أصواتهم أعلى وأكثر فزعًا،


ثم، فجأة، وفي لحظة حاسمة، ظهر "ماهر" على الطريق الموازي لهم، يعبر بين الأشجار ويضغط على السيارة بقوة، يقترب منهم كظلٍ لا يُرى، يضغط عليهم بلا رحمة، والضغط النفسي يتحول إلى قوة جسدية تسيطر على الموقف حتى أخيرا حاصرهم ونزل من السيارات هو ورجاله بالأسلحة، فكان عددهم هو من معه أكثر من خمسة عشر فرد، جعل من بالسيارة ينزلون من داخلها وهم يرفعون أيديهم باستسلام بعدما ضـ.ـرب "ماهر" عجلات القيادة الخاصة بسيارتهم بسلاحه، اما السيارتين الأخرتين قد رصدتهم الأجهزة الأمنية التي كانت تلحق "ماهر"، انطلق "ماهر" مسرعاً إلى السيارة وحمل ابنته الغافية من أثر المخدر وظن أنهم قد قتلوها:


ـ آه ياولاد ال.... عملتوا فيها ايييه، أني هخلص عليكم كلاتكم، مش هرحم واحد فيكم . 


ثم احتضن ابنته داخل أحضانه ولأول مرة يبكي وهو يناديها بحـ.ــرقة، لأول مرة يهتز الخط ويبكي على عزيزة عينيه وهو يكاد يسحق جسـدها الصغير بين ضلوعه:


ـ"فيرووووووووز" لاااااا ، متروحيش مني مهتحملش واصل، لاااااا ، يااااااارب، كله إلا هي يااااارب.


كان الليل كله شاهدًا على مطاردة لا تعرف الرحمة، مطاردة تقرع الأبواب في قلب العصابة قبل أن تطرق أعينهم، وتترك أثرها في كل جزء من الطريق الذي عبروه، وفي كل نفس من أنفاس "ماهر"، وفي كل دقة قلب تتعلق بفلذة كبده التي أُرهِقت على يد هولاء الأوغاد، فوجد حاله يُدخل ابنته داخل السيارة ويغلقها جيداً ، ثم رفع سلاحه وقام بضـ.ـرب أحدهم رصاصة في قدمه وهو يصيح بهم بغـ.ـضب جم وعينين تتقدان جمـ.ـراً:


ـ انطقوا عِملتوا فيها ايه قبل ما أدفنكم أحياء اهنع ومهخليش واحد فيكم سليم؟!


نطق أحدهم بهلع وهو ينظر إلى شريكه الملقى على الأرض ويصـ.ـرخ من ألم قدمه:


ـ والله يا باشا البنت سليمة مفيهاش خدش واحد، ده مخدر عادي جداً ينيمها بس .


حرك "ماهر" فوهة السلاح بجنون أمام رؤوسهم وهو يسألهم بشرار:


ـ انطق يا مجرم منك ليه مين اللي بعتكم علشان تخـ.ــطفوا بتي وان كذبتم هتموتوا النهاردة؟


أجاب أحدهم على الفور :


ـ "سليمان بيه هندي" هو اللي باعتنا يا باشا، بيقول إن فيه تار ما بينه وبين مرتك، وإن هي اللي وصلت أخوه لحبل المشنقة.


أمرهم على الفور وهو يبصق في وجههم بطريقة مقززة: 


ـ اتصل عليه فوراً ياجي وقول له كل شئ تمام ، وطمنوه إن البنت معاكم وشوف هيقابلكم فين ؟


ابتلع الرجال حلقهم بصعوبة بالغة ليردد بنفي:


ـ احنا كنا متفقين إننا هنودي له البنت لحد عنده .


أخرج طلقة عبرت بجانب أذن ذاك المجرم أرعبته وجعلت عينيه تتسعان بذهول وهو يأمرهم:


ـ شوف بقى اخترع له أي أسباب وياجي يستلم البنت بنفسه، قول له العربيات عطلت مرة واحدة، أو الرجالة اللي معاك خليوا بيك ، اي أسباب وهياجي اهنه يعني هياجي .


بالفعل انصاع إلى أوامره وهاتف كبيرهم وظل يقنعه بأسباب واهية حتى اقتنع، وماهي إلا دقائق معدودة جلس فيهم بجانب ابنته يحتضنها ويحاول إفاقتها ولكن دون جدوى فالمخدر كان قوياً، ولكن نبضها وأنفاسها منتظمين، حتى أتى كبيرهم كانا قد اختبئوا هو ورجاله حتى لا يهرب ويشك بأمرهم وما إن وصل هو ورجاله حتى أوقعهم "ماهر" في شباكه واستطاع تقيده من الخلف وهو يخـ.ـنق رقبته بين يديه آمرا إياه:


ـ خلي رجالتك يرموا سلاحهم ويقعدوا على الأرض، يا إما في لمح البصر هشيعك للي خلقك.


بالفعل أمر رجاله أن يفعلوا كذلك وهو يشير إليهم بيديه فهو لا يستطيع الكلام و"ماهر" يخـ.ــنقه بشدة، وما إن رمى رجاله اسلحتهم حتى قيدهم رجال "ماهر" والتفو حولهم كشبكة العنكبوت، أما هو أدار ذلك المجرم إليه ودفعه بجبهته في رأسه، ارتدا على آثارها للخلف، ودفعه بأخرى في أنفه بقوة شديدة، ثم أمسكه من تلابيب قميصه وهو يردد له بفحيح:


ـ هو إنت قبل ما تبعت الأوساخ المجرمين يخطـ.ـفوا الأستاذة "رحمة" مش كنت تسأل قبلها هي متجوَزة مين يا غشيم؟!


دي إنت لعبت في عداد عمرك، وزي ما اخوك اتسجن، أني مش بس هسجنك؛ دي أني هوصلك لحبل المشنقة بيدي.


ولم يرى حاله إلا وهو يهوى عليه بلكمات عنيـ.ـفة والآخر لم يستطيع رد لكمة واحدة فـ"ماهر" كان مشاجراً قوياً بكنوز اللكمات لذلك الوغد ، وكاد أن يخـ.ـنقه بيده وقد بلغ الانتـ.ـقام والغضب ذروته حتى أقدم منه مساعده وهو يمنعه:


ـ بلاش يا باشا تضيع مستقبلك علشان كلب ميسواش زي دي ، خلاص الحكومة وصلت وهما يتصرفوا وياه، لازمن ناخد البنت علشان نوديها المستشفى نطمَن عليها .


ركله ماهر في جنبه ركلة شديدة وبصق على وجهه وهو يصيح به:


ـ دي أني هخليك تعفن في السجن، ومش هخلي عيونك تشوف النور تاني ولا انت ولا كل خواتك الباقيين،انت وقعت في يد من لا يرحم، اللي ما فيش محامي هيقدر يطلعك من اللي هدخلك فيه لو جبتَه من سابع أرض حتى، هوريك كيف تقرب من بنت الخط ومرته.


*******


قبل وقت قصير من وصول "ماهر" إلى ابنته


دخلت سيارة "عمران" و"سكون" المستشفى بسرعة، والأنوار البيضاء القوية تلسع أعينهم بعد ظلمة الطريق، لكن قلب "عمران" كان مشغولًا بخوف لا يهدأ، وكل مرة ينظر فيها إلى أخته "رحمة" وهي مستلقية على المقعد الخلفي، تشعر يده بأنها ضعيفة أمام ما حل بها،أما "سكون"، زوجته، فكانت مختلفة تمامًا؛ رغم الخوف، كان عقلها طبيًا، مركزًا، وتحركاتها محسوبة. فور نزول "رحمة"، أسندتها مع زوجها بين ذراعيها كأنها حقيبة ثمينة، وأشارت فورًا إلى الممرضات:


ـ على أوضة الرعاية فوراً فيها نزيف شديد، وكدمات شديدة.


انقلبت حالة الطوارئ في الغرفة؛ الممرضات هرعن، يجهزن المعدات، و"سكون" تشرح لهم بسرعة، وبصوت ثابت رغم القلق ماقرأته أمام السونار:


ـ الضربة على البطن قد تسبب صدمة رحمية أو نزيف داخلي، لازم نعمل فحص سونار فورًا، ونتأكد من نبض الجنين اللي جوه، الدم اللي نازل ممكن يكون من جروح خارجية بس، إحنا محتاجين تأكد من الضغط الداخلي والتروية الدموية للرحم، كل ثانية مهمة.


وقف "عمران" بجانبها، يراقب كل حركة، قلبه مشدود من الخوف وسألها بقلق على حال شقيقته وجنينها:


ـ "سكون" طمنيني هي ليه غايبة عن الوعي، وحالتها عاملة كيف ، والجنين أخباره ايه؟


ابتسمت له بابتسامة مشحونة بالطمأنينة والدقة العلمية:


ـ الحمد لله، اطمَن الرحم بتاعها قالبي، دي يعني إنه أقوى من أي صدمة خارجية، الجنين محمي جواه، الرحم القالبي في حاله وجود خطر على الجنين بيقلب الجنين لجوه علشان يحميه من أي خطر، ودي ميزة من عند ربنا سبحانه وتعالى، النزيف الخارجي يأثر على الأم بس، لكن الجنين جوه مأمون طالما نبضه طبيعي ونسبة الأوكسجين مستقرة الحمد لله.


استقرت "رحمة" على سرير الفحص برفق، وبدأت "سكون" بتوجيه الممرضات:


ــ حضّروا المحاليل الوريدية، شوفوا الضغط والنبض أول بأول، ركزوا على السونار، وراقبوا العلامات الحيوية علشان لو حصل أي هبوط مفاجئ، فورًا .


و"عمران" ، رغم أن قلبه يقطر خوفًا، لم يستطع إلا أن يلتقط الهاتف مرة بعد مرة:


ـ طمني يا "ماهر" قدرت توصل للبنت ولا لسه ؟


ردّ "ماهر" من على الطريق:


ــ عرفت المكان، بس لسه ما وصلت بالظبط، أهم حاجة "رحمة" خلى بالك منها واعمل اللازم ليها هي الاول والأهم وبعدين اللي في بطنها. 


أغلق "عمران" الهاتف، نظر إلى زوجته وهي تتابع كل تفاصيل حالة أخته، يحس بقوة داخلية تنساب إليه:


ـ اوعاكي هتكوني بتطمنيني وخلاص وهي مش زينة، حالتها وشكلها ميدلش على خير واصل يا داكتورة. 


ابتسمت "سكون" مجددًا، وهي تكمل تعليمات الممرضات بحزم وأجابته ببسمة رقيقة وهي تداوي جروح" رحمة" السطحية بمهارة:


ـ من زمان ما سمعتش منك لقب داكتورة، عموما مش علشان ما مارستش الطب من بقى لي كَتير اني نسيتَه، دي حاجة في قلبي وفي دمي، وما تقلقش عاد هتُبقى زينة، دلوك هندخلها على الآشعة علشان نطمَن اذا كان في كسور في اليدين أو الساقين وكمان هنعمل آشعة على المخ. 


وسط كل هذه الحالة الطارئة، كان قلب "عمران" يتنفس أخيرًا بعض الاطمئنان، وهو يرى أخته بين يدي "سكون"، الممرضة والدكتورة في الوقت ذاته، وهي تنقذ حياتها بروح علمية دقيقة ومهارة واضحة، بينما يظل هاتفه في يده يلتقط أي تحديث من "ماهر" كأنهما متصلان بسلسلة واحدة من الأمل والعزيمة، كل منهما يكمل الآخر في هذه المعركة من أجل "فيروز" ونجاة "رحمة"، وهو يربت على كتف "سكون" بنظرة ممتنة، لإنقاذها لأخته، وقد استطاعت بمهارة وقف النزيف الخارجي لها.


                      *******


مضت ساعتان كاملتان كانت فيهما "رحمة" تحت الأجهزة الطبية، يجرون فحصًا دقيقًا على جميع أعضاء جسدها، وقد تبيّن وجود شرخٍ في ذراعها اليمنى فحسب، مع بعض الجروح السطحية الخفيفة في وجهها، وكانت "سكون" ترافقها في كل خطوة، تدخل معها كل أشعة، ولا تفارقها هي ولا "عمران" حتى أفاقت بحمد الله من غيبوبتها، بينما كان "ماهر" لم يعد بعد، وما إن فتحت عينيها حتى انهارت باكية وهي تسألهم بصوتٍ مكسور؛ كأن الدموع انفتحت من قلبها انفتاح السيل إذا هدم سدّه؛


ـ فين بتي؟ اني عايزة بتي، خطـ.ــفوا بتي مني يا "سكون"، خطـ.ــفوا بتي يا "عمران"، أني السبب، أني اللي عِملت فيها كل دي،


شغلي دمـ.ــر بتي وخلاهم يخطـ.ــفوها مني، آه يا "فيروز" هاتولي بتي. 


كانت "سكون" للمرة الأولى ترى "رحمة" تبكي وتنهار بذلك الضعف، فوقفت إلى جوارها تهدّئ من روعها، بينما كانت "رحمة" تضـ.ــرب وجهها وتشُدّ شعرها كالمجنونة، غير قادرة على احتمال فكرة أنّ ابنتها اختُـ.ــطفت منها، فحاولت تهدئتها بكل سبيل هي و"عمران"؛ كأن الألم نهرٌ جارف انفلت من عقاله في صدر "رحمة":


ـ اهدي يا "رحمة" ما تعمليش في حالك اكده بتك زينة قوي الحمد لله، وجايه مع ابوها دلوك، كفاية اللي فيكِ، اهدي يا حبيبتي "فيروز" بخير والله، وهتشوفيها وهتحضنيها، بالله عليكي بطلي بكا عاد.


والقول نفسه ردّده "عِمران" حتى رفعت "رحمة" بصرها إليهما بعينين يغشاهما البكاء، تمسح دموعها بكفّيها غير مصدّقة ما سمِعَته؛ كانت نظرتها كطفلة انتُزِعَ الأمان من قلبها، وكأن الحقيقة صفعةٌ باردة باغتت روحها في لحظة وهن:


ـ بجد اوعوا تكونوا هتقولوا اكده علشان تهدوني واصل، مش هطمَن غير لما تكلموا "ماهر" فيديو واشوف بتي بين ايديه .


سمع "عمران" كلامها فأخرج هاتفه واتّصل بـ "ماهر" اتصالاً مرئيًّا، وما إن فُتِح الخط حتى ظهرت "فيروز" في حضنه، ناول "عمران" الهاتف إلى "رحمة" وهو يقول لها ذلك الكلام، بصوتٍ يحمل رجفة اطمئنانٍ كان يبحث عنه قلبها:


ـ اها اتفضلي يا ستي علشان تعرفي اني ما هكذبش عليك عاد بنتك في حضن أبوها ومكلبشة بيدها اهي. 


وما إن أبصرت "رحمة" ابنتها في حضن زوجها حتى انفـ.ــجرت باكيةً بكاءً مرًّا، بعد أن عاشت أقسى الساعات التي قد تمتحن بها أمٌّ في الدنيا، ولمّا رأى "ماهر" انهيارها، حاول أن يُمسِكَ أعصابه المشتعلة؛ إذ إن ما يجتاح صدره هو ذات ما يجتاح صدرها، بل أشدّ، فمشاعر "ماهر" تجاه ابنته ليست كمشاعر الآباء، بل هي جرحٌ ينزف بدم القلب لا بدم الجسد، وكأنّ كليهما يقف على حافّة هاويةٍ واحدةٍ، تتقاذفهما ريح الخوف وتعيدهما يد الطمأنينة:


ـ خلاص يا "رحمة" اهدي عاد، "فيروز" معاي واللي عِملوا فيها اكده اتقبض عليهم، ارجوكي حاولي تهدي أعصابك علشان لما اجي بالبنت ما تشوفش حالتك داي، هي مهتتحمَلش كل اللي حُصل دي كلاته، كفاية اللي هي شافَته عاد.


ظلّ "ماهر" يسكّن روعها، وهي تأبى أن تُنهي الاتصال، متشبّثة بصورة ابنتها كأنّها طوق النجاة الأخير، حتى اضطرّ إلى إغلاق الخط، وبقيت "سكون" تُضمّد بقية جراحها بعنايةٍ رقيقة، ثم جذبتها أخيرًا إلى حضنها بحنوٍّ خالص، كأنها أمّها لا زوجة أخيها، محاولةً أن تبثّ في روحها شيئًا من الطمأنينة قبل أن تعود "فيروز" إلى أحضانها؛ فكانت كنسمةٍ تُداوي صدرًا أثقلته العواصف:


ـ تعالي في حضن أختك يا حبيبة قلبي، ربنا ما يحرمني منك يا "رحوم" ويقر عينك بجنينك وتمسكيه بين أحضانك، وما تشوفيش وحش فيهم ابدا، ابتسمي بقى عاد بزياداكي بكا علشان لما "فيروز" تاجي تلاقيكي زينة.


في تلك اللحظة كان "عمران" يبتسم لشقيقته بوجهه ، ولكن تبتسم عينيه بخفاء، وهي معلّقة بـ "سكون"؛ يرقب مهارتها كطبيبةٍ وقفت إلى جانب شقيقته وأنقذت الجنين بمهارة أدهشت حتى الأطباء الذين حضروا بعد أن أتمّت ما يلزم، وقد أثنوا جميعًا على براعتها، وتعجّبوا كيف لطبيبةٍ بهذا القدر من الاجتهاد أن تمكث في البيت وتعتزل طبّ النساء، وناشدوها أن تعود فورًا، وعاتبوها أن تُدفن موهبةٌ كهذه في العزلة،


وكان "عمران" ينظر إليها بنظرةٍ تجمع الفخر والوحشة والاشتياق وانهيار ما تبقّى من صلابته؛ يكاد يضمّها إلى صدره ليشكرها على ما فعلت لأخته، وليشكر القدر على وجودها بينهم في تلك اللحظة العصيبة،


وفجأة رفعت "سكون" بصرها، فالتقت عيناها بعيني "عمران" الغاضب عليها منذ أكثر من ثلاثة أشهر، ومشاعرها لم تكن بأخفّ من مشاعره؛ فقد اشتاقت إليه شوقًا ينهش القلب، وتمنّت لو ترمي نفسها في حضنه وتقول له؛ لقد تعلّمتُ الدرس حبيبي ،عُد إليّ عمراني ، كفاك هجرا وابتعاداً لقد اشتاقت بشدة، كانت نظراتها تنطق بذلك، غير أنّ كل محاولةٍ سابقةٍ للصلح صدّها فيها، فتحول الشوق في عينيها إلى حزن حاد قرأه هو بوضوح،


وهنا، وفي تلك الومضة التي مرّ فيها الحزن في نظرتها، قرّر "عمران" أن يكتفي بما كان من عقابه لـ "سكون" على جرح كرامته، وأن يكون هو هذه المرّة مَن يمدّ يده أولًا للوصال، ولكن بعد أن يعودوا إلى البيت.


في ذلك الوقت كانت "زينب" قد علمت بكل ما جرى، ولكن بعد أن وصل "ماهر" إلى "فيروز" وضمّها إلى صدره ، آثروا ألّا يقلقوها وهي ما تزال في الطريق إليهم، وكانت أفكارها تمور في رأسها، تتقاذفها الهواجس يمنةً ويسرة، وهي تحدّث نفسها بقلقٍ مكتوم:


ـ يا ترى يا "عماد" انت اللي عِملتها العملة المهببة داي في بتي وحفيدتي؟! ما انت راجل واعر وما هتختشيش من رب ولا عبد، الله الوكيل لو طلعت انت اللي عِملتها لا هفط في كرشك يا مؤذي بالقوي ومهخليكش تتهنى في حياتك.


وبقيت "زينب" على حالها، وقد هوى قلبها إلى قدميها خوفًا ووجلاً، فهي لم تُخبر أحدًا بلقاء "عماد" ولا بما قاله لها؛ لأنّ "عمران" لو علم بما تفوّه به، لربّما طاشت عقول رجولته وغضبه ولم يتردّد في إطلاق النار عليه، وهي لا تريد الأذى لابنها، ولا أن يُذكر اسمها في فتنةٍ لا تُحمد عواقبها، وحين وصلت أخيرًا إلى المستشفى، صعدت إلى ابنتها تركض كمن تُطاردها النيران، مذعورة لا تكاد تلتقط أنفاسها، وما إن بلغت "رحمة" حتى فتحت ذراعيها لها، وارتمت في حضن أمّها، تبكي بحرقة، والاثنتان لا ينقطع بكاؤهما،


فأخذت "زينب" تهوّن عليها وترقّق صوتها، تطبطب على ظهر "رحمة" بيدٍ ترجف، وتسكب على قلبها سكينةً علّها تُطفئ نار الذعر المشتعلة فيه:


ـ الحمد لله يا بتي قدر ولطف، الحمد لله بتك رجعت لك بالسلامة، خلاص ما تبكيش عاد، بس خبريني يا بتي مين اللي عِملها العملة المهببة داي وطلع عليكِ وخلاكِ بالشكل دي عاد؛ وخـ.ــطف بتك اللي ينـ.ــشلو في يدهم؟


أجابتها "رحمة" من بين شهقاتها المكتومة وهي تتوسد صدرها وتتمسح به كالقط الوديع:


ـ دول ناس كنت همسك قضية ضدهم واخوهم اخد مؤبد بسببي، وكان هيهدَدني، لكن أني ما كنتش حاطة خوانة وقلت من حرقته على اخوه هيقول الكلام دي، فضل مرقد لي الشهور اللي فاتت داي كلاتها لحد ما عِمل عملتَه. 


ارتعدت "زينب" من داخِلها، وفجأة أخرجت "رحمة" من حضنها، وضـ.ـربت على صدرها بعنـ.ــف، لتفرغ ما في قلبها من استياء وغـ.ــضب تجاه تصرّفات "رحمة" في عملها، التي سبق أن حذرتها منها مرارًا:


كان صوتها يعلن عن ثورة محتدمة لا يُردّ لها صدى:


ـ لاه، لاه، بزياداكي عاد يا بت بطني الشغلانة المهببة داي، اللي كانت هتخسرك روحك وحياتك وبتك لا قدر الله لو كان جوزك ما لحقهاش، ياما حذرتك بدل المرة ألف وقلت لك ما توقفيش في وش النار وتعملي حالك قوية وهتتحمَلي لهيبها، مهما كان انتِ ست وكل ست مننا لها قوة احتمال، واللي انتِ فيه دلوك غلط عليكي، كنتي هتخسري حياتك واللي في بطنك وبيتك لولا ستر ربنا المرة داي، ما هتعرفيش المرة الجاية لا قدر الله هيحصل ايه؟ انتِ نجحتي بما فيه الكفاية بزياداكي عاد وتسيبيها الشغلانة داي واصل، واهو ربنا سترها المرة داي.


كانت "رحمة" تُفكّر في كلام أمّها، وتوازن بين ما دار في ذهنها منذ أن تولّت تلك المهنة، وهي عاجزة عن الشعور بالراحة أو التمتّع بحياتها مع زوجها، أو مع ابنتها، أو حتى في بيتها، كما حال أي امرأة تعيش صراعات دائمة بين مكتبها وقضاياها، وبين واجباتها كزوجة وأم،كانت تكرر هذه الأفكار ألف مرة في ذهنها، متخيّلة عودتها إلى بيتها سالمَةً، وابنتها بين ذراعيها، إذ كانت التجربة بالنسبة لها قاسية إلى أقصى الحدود، وموقفًا لن تنساه طوال حياتها،


وأخيرًا، عاد "ماهر" بصحبته، ومعه الفتاة، وما إن دخلت حتى اندفعت لتنهض بلهفة، لكن "سكون" منعتها نظرًا للمحلول في يدها،


كانت " فيروز" انذاك قد فاقت وغسل "ماهر" وجهها، وغيّر ملابسها، فركضت إلى حضن أمّها، تقبّلها من رأسها وهي تقول ببراءة:


ـ مامي وحشتيني، بابا جه اخدني من الاشرار اللي كانوا هيخـ.ــطفوني، وصحيت لقيتني في حضن بابا حبيبي، قولي لي يا مامي انتي عاملة ايه، الناس الاشرار ضـ.ــربوكي جامد.


كانت "رحمة" تحتضن ابنتها بشدّة، تضغط عليها بكل قوة، وتقبّلها من رأسها وكل إنش في وجهها ويدها، بينما كانت تمسح عنها الخوف والوجع، محاولةً طمأنتها،


وفي تلك اللحظة، حين سمع "ماهر" ابنته تتحدث عن ضرب "رحمة" وإهانتها، غمض عينيه، وصرّ على أسنانه بغضب شديد، غير مصدّق ما جرى لزوجته وابنته، متفـ.ــجّرًا بالغضب وكأن قلبه كبركان على وشك الانفجـ.ــار، والرغبة في الانتـ.ــقام تتأجج داخله،حاول "ماهر" أن يسيطر على أعصابه، وترك "رحمة" لتنفرد بحضن ابنتها، ثم سحب "عمران" خارج الغرفة، سائلاً عن حال "رحمة"، ومطمئنًا على صحتها وعلى الجنين الذي في بطنها، كمن يخفف عن قلبه وطأة الصدمة بقوة الحماية والعناية:


ـ طمني يا "عمران" "رحمة"؛ عاملة كيف؟


هل في كسور في جسمها؟ وكمان الجنين اللي في بطنها اخباره ايه؟


آزره "عمران" وهو يربت على ظهره مطمئناً إياه:


ـ ما تقلقش عاد "رحمة" زينة عِندها شرخ في دراعها اليَمين، والجروح كلها سطحية، والحمد لله كان في نَزيف خارجي و"سكون" عِملت اللازم ووقفت النَزيف، والجنين بفضل ربنا حماه جواها وما فيهوش أي حاجة اطمَن يا "ابو فيروز" ، الحمد لله غمة وانزاحت وربنا ما طولش علينا فيها.


ثم تابع باستفسار:


ـ طمني انت عِملت ايه ويا شوية المجرمين دول؟! كنت اكسر لهم عضامهم قبل ما تسلمهم وما تخليش فيهم حتة سليمة واصل الكلاب دول.


أجابه "ماهر" وهو يتنهد بارتياح على حالة "رحمة" وجنينهم:


ـ وانت هتفكر اني ما كنتش هعمل اكده؟


لولا اني راجل قانون وهعرِف القانون زين كنت شيعتهم القبر لكن الموت خسارة فيهم.


تنفّس "عمران" و"ماهر الصعداء، فالحمد لله، اجتازت الأزمة بسلام، وكلّ منهما يغوص في ذهنه ألف سيناريو ، متخيّلًا ما كان سيحدث لو لم ينقذ زوجته وابنته في الساعات الأولى من اختطافها، وكيف كانت حالتهم ستصبح؟


ثم دخلوا إلى "رحمة"، وأخذت "زينب" "فيروز" خارج الغرفة لتُحضّر لها الطعام، بينما قرّر "عمران" العودة هو و "سكون" إلى المنزل للاطمئنان على الأولاد، طالما أن "ماهر" و"زينب" موجودان إلى جانب "رحمة"،


وأول ما جلس "ماهر" إلى جانبها، أمسك بيديها، واحتواها بين كفوفه كمن يضم روحه كلها، وقبّل يديها ورأسها، فتركت نفسها له، وارتمت في حضنه، وبدأت تبكي بحرقة على المأساة التي عاشتها هي وابنتها، بينما هو كان بعيدًا عنهم، فربت على ظهرها مُهدئًا لها، محاولًا تخفيف وقع الصدمة على قلبها:


ـ خلاص يا "رحمة" الحمد لله عدت على خير، البكا ميهيمحيش اللي حُصُل عاد. 


وتابع بعينين لائمتين رغم حالتها الصعبة ولكن ذاك "ماهر" لن يترك أمراً بسيطا وشأنه حتى يفرغ ما في صدره:


ـ أظن شفتي بنفسك اللي حُصل، وافتكري تحذيراتي ليكي وقتها وكأني وقتها كنت هشوف السيناريو دي قدام عيوني ، كنتي هتفكِري إني عايز أحجر عليكي وعلى نجاحك ، للأسف احنا في مهنة الوحوش اللي مهيرحموش، لازمن تُبقى عينك في وسط راسك دايماً، لازمن ميبقاش ليكي دراع يتلوي، وأني استكفيت مناهدة وصراعات وتعب معاكي وليكي يا "رحمة"، سنين بناهد معاكي ومع دماغك واصرارك على إنك تخالفي طبيعية الست اللي ربنا خلقنا عليها.


وتابع بحزن شديد وهو يضع رأسه بين يديه :


ـ حاسس إن السعادة والبيت الحنين مش مكتوبين لي، أني اتهزيت من جواي يا "رحمة" لتاني مرة، أولها لما خسرت بتي الأولى، وتانيها لما التانية اتخـ.ـطفت، وانتي كمان هلكتي روحي معاكي، وخلاص مبقتش متحمَل .


أجهشت في بكائها المستمر على حالتهم وعلى ما وصلا إليه، واعترفت له لأول مرة من بين شهقاتها:


ـ أني عارفة انك تعبت وياي واتحمَلت اللي مفيش راجل يتحمَله، شيلتني وقت عجزي جوة عينيك من غير ما تكل ولا تمل، كبرتني في شغلي ورفعت بيا في السما وكنت هتحميني من ورطات كَتيرة كنت هقع فيها، وساعدتني كَتير إني أبقى الديفا "رحمة سلطان المهدي" ، وكنت هتتحمَل اهمالي فيك وفي بتنا وفي حقك كزوج، أكرمتني وصنت عشرتنا ولحد دلوك.


ثم ابتلعت حلقها بمرارة كمرارة الصبار وأكملت بروح منهكة وهي تدلي عليه قرارها الأخير بعد معاناتها الشديدة:


ـ وعلشان اكده بزياداني عاد استموات لحالي ولبتي وإرهاق لحياتنا سوا، النجاح في شغلي كان هيخسرني ولادي، وحياتي، وأني زيك بالظبط محتاجة إني أرتاح، محتاجة ألمكم في حضني وأحس بدفاكم حواليا، محتاجة أحس إني ست زي كل الستات هتقعد في مملكتها تلم جوزها وعيالها في حضنها وتوكَلهم من يدها، خلاص يا "ماهر" حقك علي قهرتكم .


اندهش "ماهر" من قرارها الغير متوقع ليرفع رأسه متسائلاً إياها بذهول:


ـ إنتي هتتحدتي صوح يا "رحمة"؟!


هتسيبي شغلك ومكتبك وتعبك السنين داي كلاتها؟


مدت يدها إليه فاحتواها بين كفاي يديه وأجابته بتأكيد:


ـ والنجاح والشهرة والمجد جنو لي إيه غير البكا والحسرة وضياع شبابي، وعيالي، وراحتي ، وهناي، وصحتي، وداي كلاته كوم؛ وراحة بالي اللي مهتهناش عليها ولا لحظة بسبب توتري كوم تاني، ولا بعرِف أتجمع مع خواتي، ولا أشوف صحابي، ولا بقيت عارفة أعيش، نفسي بجد أحس إني ست زيي زي أي ست يا "ماهر" .


على حين غرة سحبها إلى أحضانها وكاد أن يسحق عظامها بين يديه من شدة احتضانه لها مما استمع إليه منها، وهو يهمس بصوت أجش خشن جانب أذنها:


ـ حمد لله على السلامة يا ام "فيروز" ، حمد لله على السلامة يا صغنن، عوداً حميداً أيتها الرحمة، تعبتيني، وهلكتيني، وجننتيني، وطلعتي روحي، ودوبتي أعصابي معاكي يابت "سلطان" .


ما كان منها إلا أنها شددت من احتضانه وهي تتحسس رقبته بشغف وسألته بنبرة رقيقة ناعمة:


ـ لأول مرة هتقول لي يا "أم فيروز" أول مرة أسمعها منك يا "ماهر"!


احتضن وجنتيها بين كفاي يديه وأسند جبهته بجبهتها مرددا بغرامه المتيم بها:


ـ علشان لأول مرة هحس إنك فعلاً تستحقي إني أنطقها لما انتي بنفسك حستيها يا رحمتي.


ـ معرفاش لو اني كنت أغمى علي ومكلمتكش كان زمان بتنا راحت ؟


ـ هششس، خلاص يا بابا انسي اللي حُصل وبعد اكده أني بنفسي اللي هجيبها وأوديها مدرستها.


ـ الحمد لله انك موجود في حياتي، اني من غيرك انت و"فيروز" اموت ومعرفش أعيش.


ـ اممم... بلاش نجيب سيرة الموت عاد يا بت "سلطان" بزيادانا أكشن، أني عايز اتنفس أنفاسك واحس نعومتك بهدوء .


ـ تعرِف انت في عيوني دلوك وشايفاك سوبر مان بس ملكي أني وبس.


ـ ياه سوبر مان مرة واحدة! لاااه ؛ اكده كَتير علي يا صغنن.


ـ انت بطلي الأول والأخير، الشجاع اللي اللي جه أنقذ الأميرة من الوحوش.


ـ لااااا، احنا اتطورنا خالص وبقينا نتحدت كيف أميرات ديزني، وبصراحة إنتي مفكيش حتة سليمة دلوك تتحملني، خليكي مشغلة وضع الديفا لحد ما تخفي وبعدين نشوف موضوع الجميلة والوحش دي عاد .


ـ طب بقول لك ايه ؟


ـ قولي يا حظي .


ـ هحبك، وهعيش وأني هحبك، وهموت وأني هحبك يا "أبو فيروز" .


                ********


في الخارج قبل مغادرة "سكون" و "عمران" المشفى قابلها أحد أصدقائها القدامى الذي ما زال يمارس مهنته إلى الآن وما إن رآها حتى أسرعت قدماه إليها ليلقي عليها تحية السلام بوجه بشوش:


ـ ياه الدكتورة "سكون" حدانا اهنه في المستشفى العام! والله ما مصدق! كيفك يا داكتورة ؟


كان "عمران" يقف بجانبها بتحدث بالهاتف وما إن استمع إلى أحدهم يحادثها وينطق إسمها حتى برزت عروق رقبته ونظر إليها بعينين متسعتين أرعبتها بشدة، لترد على الفور مبادرة زميلها :


ـ الحمد لله يا دكتور.


أتى "عمران" ووقف بجانبها ومد يده سكنت يداها وأغلق كفه عليها بشدة لدرجة أنها توجعت، ولكنها كتمت وجعها وعرفتهم على بعض:


ـ جوزي باشمهندس "عمران" ، ودي الداكتور "مهاب" كان زميل دراسة وعمل.


ابتسم "عمران" بسماجة وهو يرحب به:


ـ يا اهلا بالداكتور "مهاب" تشرفنا .


رد زميلها بوقار:


ـ يا هلا وغلا فيكم، طب ما تاجو تشربو قهوة في مكتبي ، وكمان نتكلم شوي ونحاول إن الداكتورة ترجع شغلها، المستشفى اهنه محتجاكي يا داكتورة، قسم النسا في عجز جامد، وحرام تضيعي مجهود سنين تعب وبهدلة وتوقفي شغلك .


اجاب "عمران" بدلاً عنها وهو يستشيط من داخله من حديث ذاك المهاب معها ولم يتحمله:


ـ إن ان شاء الله مرة تانية يا داكتور متشكرين على العزومة بتاعتك، معلَش مستعجلين علشان الاولاد في البيت لوحدهم، وان شاء الله موضوع الشغل ده هنفكِر فيه بعدين.


أخذ "عمران" كف يدها بين يده وخرجا من المستشفى، وكانت يداها تؤلمها من شدة قبضة "عمران" عليها،


وما إن وصلا إلى السيارة، ففتح لها الباب ودخلت، ثم جلس هو في مقعده، وهي تفرك يديها محاولة تخفيف وطأة قبضته الشديدة عليها،وبعد أن ركب لامته بلغة العتاب الممزوجة بالحرقة:


ـ على فكره كنت هتكسر كف يدي بين ايديك ليه دي كلاته يعني ؟


أجابها بغيرة شديدة:


ـ الاستاذ كان واقف يتكلم وياكي بعشم وكانكم كنتم طول سنين دراستكم هتعرفوا بعض على الاخر! منين جاب العشم دي كلاته يا داكتورة بعد السنين دي كلاتها ؟


كانت "سكون" في أعماقها تبتسم ابتسامة خفيّة، إذ رأتْ شرارةَ الغيرةِ تتّقد في عيني "عمران" كجمرٍ اشتعل بعد طول خمود، لكنّها كتمت فرحتها بين أضلاعها، وأخفت نبضها المرتجف، ثم رفعت طرفها إليه تسأله بمكرٍ رقيق لا يخفى على بصيرته،وكأنّ قلبها في تلك اللحظة فانوسٌ مضيءٌ لا يريد أن يُظهِرَ نورَه، وكأنّ نظرتها إليه سهمٌ مغموسٌ بالشوق أطلقته دون أن يراها أحد :


ـ عادي زميل دراسة وعمل لمدة سنين قبل سابق ،فاكيد لما هيشوفني مش هيتجاهلني عاد، كانك هتغير وغيرة شَديدة كمان، واظن اللي بينفر مرته وما هيحبش يشوفها، ولا هيطيق لمستها يُبقى ما بيحبهاش والغيرة اللي هتفط من عينيك هتقول غير اكده واصل ؟


ويدي اللي كانت هتنكسر في يدك ولحد دلوك هتوجعني من ضغطك عليها هتقول غير اكده ؟


ما إن سمع "عمران" كلمةَ أنّه لا يحبّها تتسلّل من فمها، ورأى القهرَ يطلّ من عينيها، والإحساسَ الموجِع الذي أورثَه بُعدُه في قلبها، حتى ارتجف قلبه في أعماقه، ولزم الصمتَ طوال الطريق، وحين وصلا، فتح لها باب السيارة، وأمسك بيدها بقوّةٍ خفيّة، وصعد بها دون أن يُلقي نظرةً واحدة على أطفالهما الذين كانوا مع جدّتهم "ماجدة" في الداخل، وكانت "ماجدة" تقف خلف النافذة، تراهما وهما يمشيان متشابكي الأيدي، فدبّ في روحها خيطُ أملٍ رقيقٍ بأن علاقة ابنتها وزوجها ستنهض من جديد، فاحتضنت أحفادها بدفءٍ يشبه حضنَ العمر، أمّا "عمران"، فأخذ "سكون" وصعد بها إلى غرفتهم، وأغلق الباب، وحاصرها بين الباب وذراعيه، ونظر إليها نظرةً لم ترها منذ بداية الخصام؛ نظرةُ شوقٍ ولهفةٍ تكاد تُقسِمُ أن قلبه عاد يستفيق إليها.


وخفق قلبها بين ضلوعها كطبول حربٍ تستعدّ للاشتعال، وتسارعت نبضاتها حتى كادت تلتهم أنفاسها، وهي تبتلع روحها من شدّة قربه ونظرته ومحاصرته لها،


حتى اقترب منها، وفكّ حجابها برفقٍ يشبه اعترافًا صامتًا، ومرّر أصابعه بين خصلات شعرها كأنّه يلمس وطنًا غاب عنه طويلًا، ثم همس في أذنها بصوتٍ يحمل رغبةً واحتياجًا حارًّا كالعطش الذي وجد ماءه أخيرًا :


ـ وحشتيني. 


تخلخلت أعصاب "سكون" من شدّة قربه، فهي الأخرى اشتاقت إليه شوقًا يكاد يمزّق الصدر، حتى كادت تلقي بنفسها في حضنه وتعترف باحتياجها إليه اعترافًا لا يستطيع هو حتى تخيّله،


وقفت أمامه عاجزةً عن التماسك أمام نظراته الساخنة، وأنفاسه التي تلفح عنقها، وراح يحتضن وجهها بين يديه كمن يخشى أن يفلت منه كنزه الأخير،


وفجأةً اقترب من شفتيها ليذوق شهد رحيقهما الذي افتقده حتى جفَّ قلبه من العطش، وكان ناقوس البعد قد بلغ حدَّ الخطر في قلب "عمران"، فلم يعد قادرًا على الاحتمال،


وقبل أن تلامس شفاهه شفتيها، وقبل أن تكتمل لحظة العودة، حدث ما لم يكن في حسبانه، وانشقّت اللحظة كغمامةٍ مزّقتها صاعقة مباغتة ....

الفصل الواحد والثلاثون من هنا


stories
stories
تعليقات