![]() |
رواية من نبض الوجع عشت غرامي الجزء الثالث الفصل الثامن والعشرون بقلم فاطيما يوسف
كُفَّ عن العتاب يا ظالمي فقد أرهقتني ظنونك، وأثقلتني خيبات الحب التي لم تترك في قلبي إلا رماد الشموع والظلامِ، لقد سأم قلبي وتفتت شعور الخَيبة منك بين أضلعي، نام بعد أن تاب من عناد العشق وجُرحِه، وبعد أن صدق أن الألم قد هدأ أخيرًا؛ ولكنه خاب أمله ومنك اكتفى تجبُّرا، فكم ذاب هذا القلب في لهيب غرامك، وكم خبّأ وجعه وراء ابتسامةٍ باهتةٍ حتى اكتفى ولم يبقى إلا الملامِ،
بلا ورب الكون فقد منحتك أيها القلب أجمل ما في دنياي، ووهبتك راحة بالي وكل الأمانِ، وسلّمتك فرحي وسكوني، واحتويتك بين أذرع الشوق والحنانِ، وحينما أغمضت عينيّ على أملٍ ناعمٍ بقلبٍ ولهانِ، وظننت أن دنياي معك صارت ملك يميني وكياني ، وهنا حين أبصرتُ بعيني، لم أجدك، وجدت فراغًا يملأ المكانِ، ووحدةً تسكنني أنا وقلبي ووجداني،
والآن؛ أنا لا أبكي عليك أيها القلب؛ بل أبكي على حالي، على ما ضاع مني ولم يعود مهما طال الزمانِ، أبكي على قلبي الذي صدّق الوهم، وظنَّ أن الحُبَّ وطنٌ لا يُهجَر ولكنها كانت أوهامي.
بعد مرور يومين عاد "عمران" من المشفى ولكن مع المراعاة نظراً لوهن جسده من الحالة المرضية التي انتابته، كان في خلال تلك اليومين لم يوجه كلمة واحدة إلى "سكون" رافضا منها أي مساعدة لحالته معتمداً على حاله وعلى والدته، ومهما حاولت معه أن تتحدث فقط يصدها مرارا وتكراراً ولكن أمام الجميع أخواته ووالدته ووالدتها يحترمها بشدة ويعاملها بلين،
وداخلها ينهار بشدة من معاملته الجافة تلك بل ورفضه أن يصعد معها إلى شقتهم وحينها كانت ستعتذر له بِـجُلِّ كيانها،
كانت والدتها ترى حالتهم تلك هي و"زينب" التي فضلت الصمت وعدم التدخل بينهم تلك المرة، فتحدثت "ماجدة" إليه بوجه بشوش وهي تمد يدها بقطعة اللحم وهي تربت على كتفه :
ـ مد يدك يا ولدي وكل علشان جسمك يتقوَت، إنت خارج من دور صعيب الله لا يعيده، وربنا يبارك في عمرك وصحتك ويخليك لمرتك وولادك ولامك ولخواتك البنات .
وتابعت بنبرة مرحة كي تدخل السرور على قلبه:
ـ وأني كمان فوق البيعة يا حبيبي ولا معتعبرنيش زييهم عاد ؟
ابتسم بوهن وهو يمد يده يأخذ منها الطبق ووضعه على الوسادة جانبه:
ـ كيف يا أمي مش زييهم! ربنا العالم محبتك وتقديرك في قلبي كد إيه، تسلم يدك يا ست الكل هتعبك وياي .
تنفست براحة لتقول :
ـ تعب ايه يا ولدي! والله كنت همـ.ــوت من قلقي عليك وحالتي كانت مايعلم بيها إلا ربنا ومكنتش أعرِف أهدي حالي ولا أهدي مرتك اللي كان قلبها مخلوع عليك وهتبكي ليل نهار.
واسترسلت حديثها وهي تنظر إلى ابنتها المتلهفة على نظرة واحدة منه ولكنه بخل عليها بها، فأشفقت عليها :
ـ كانت معرفاش تنام ولا تاكل ولا تشرب، ولا تراعي ولادها، وكانت هتموت من القلق عليك ، معلوم ما انت عارف هي هتحبك كد إيه، ومكانتش طايقة كلمة من حد واصل .
نظر إليها وهو يبتسم بوجه باهت حتى لا تلحظ والدتها ما بينهم ولكن هيهات فالقلب فضَّاح حتى ولو لم يكن اللسان فصَّاح،
استغلت "ماجدة" انشغاله في الطعام واقتربت من ابنتها وهمست بجوار أذنها:
ـ اقعدي جار جوزك ووكليه بيدك علشان يشم ريحتك ويشتاق لك وقلبه يهدى من ناحيتك، استغلي وجودي وياكم بكلمة حلوة ونظرة لهفة وقرب غير مقصود وهو متربي مهيكسفكيش قدامي ، يالا قدمي وأني همسك موبايلي ومهركزش وياكم .
حركت رأسها بخوف وداخلها ينهار من تجنبه لها ناهيك عن نظرات الملام التى تقطع قلبها دون كلام منه، اقتربت منه واستمعت إلى نصائح والدتها وهي تبتلع أنفاسها بصعوبة وكأنها ستدخل امتحان للتو، ودقات قلبها تتسارع داخلها، أمسكت الملعقة وبدأت بالاقتراب من فمه وهي تردد بلسان خجل:
ـ استنى هوكلك بيدي، خليك مرتاح .
تناول منها الطعام على مضض ولكنه لم ينظر إليها ولم تلتقي عيناه بعينيها وصب كل نظراته على الطبق أمامه، لكنها فعلت مثلما نصحتها والدتها، حتى انسحبت "ماجدة" من بينهم حتى تترك لهم مساحة الاختلاء بحالهم علَّ الله يهدي قلوبهم ويصلح ذات بينهم ،
ما إن خرجت حتى تنفس هو بعدم راحة وحينما مدت يدها بالطعام من فمه أدار وجهه للناحية الأخرى بعيداً عنها دون أن يتفوه ببنت شفة فلم تستطيع الصمت هي أكثر من ذلك وتحدثت بنبرة هادئة وهي تستعطفه ومدت يده أسفل ذقنه وهي تجبره على النظر إليها:
ـ أول مرة يحصُل مشكلة بيناتنا وتهجرني بعيونك، وانت عارف اني مهتحملش اكده يا "عمران" واني فاضل لي تكة وأنهار جارك، أني عارفة غلطي وبعتذر عنيه بس أمانة عليك ما تبَعدش عيونك عني، أني هموت من جواي في اليوم ألف مرة .
أغمض عينيه وهو يحاول كسر حاجز الصمت بينهم ، فمنذ أن فاق وهي تحاول مراضته بتلك الكلمات وهو صامت، لم يجيبها، كان بداخله حـ.ـرب ثائرة ولأول مرة داخله موجوع منها ولم يستطيع مسامحتها لينطق ببرود:
ـ أني خلاص شبعت ومعايزش وكل منك تاني، اطلعي لولادك .
انهمرت الدموع الصامتة من عينيها وهي تسأله بلسان يرجف وجعاً من وجعه منها لا من كلماته الثقيلة:
ـ كيف قدرت تُنطقها يا "عمران" ؟ كيف قدرت تعاقبني بصمتك المدة داي كلاتها ، اني متعوَدة على حسك هيرن في قلبي قبل سمعي ، كل ساعة والتانية، متعوَدة على كلامك وحنيتك وطيبتك وقلبك الكَبير الراقي متحرمنيش منيهم.
لم تجد منه ردا على توسلاتها وكلما مدت يده تلمس يداه نفر منها وأبعدها بعيداً عنه، كلما استدارت بجسدها لتواجه عينيه لم يطيق نظراتها وهم بعينه بعيداً عنها فتابعت بمحايلة:
ـ طب اعتبرني كيف "سكن" وإني بتك الكَبيرة وسامحني عن غلطي وإني وجعتك، انت عمرك ما تقدر تبعد عن بتك ولا تعاملها اكده واصل .
أجابها بنبرة باردة كبرود قلبه تجاهها بما يشعر به حقا الآن:
ـ ماهو اني أب جاحد وقاسي؛ علشان اكده ما مهسامحاكيش واصل ، وياريت تتجنبي الكلام معاي وكفاية اني مقدر انك أم ولادي وهعاملك زين قدام اللي حوالينا أكتر من اكده متحلميش.
أصدرت أنيناً وشهقات مرتفعة وهي مصدومة مما قاله لتمد يدها وتتمسك بيده وارتمت في أحضانه رغماً عنه ولكنه لم يده ولم يستقبل أحضانها لأول مرة، تمسحت بصدره وهي تردد من بين شهقاتها:
ـ لااااه ، يا "عمران" كله الا الكلمة داي اني أبقى ليك أم ولادك وبس، انت حبيبي وروحي ونفسي وعمري كلاته ، والله ما هتحمَل منك اكده واصل ، كلمتك وجعتني قووي وكأنك ضـ.ـربتني بسوط في صدري .
أغمض عينيه وهو يحاول بشتى الطرق أن لا يتأثر بدموعها ولا ضعفها، ولا حتى رائحتها وهي تتمسح بأحضانه، ولأول مرة لم يتمسك بأحضانها واستند برأسه على الوسادة من خلفه وردد بنفس نبرة البرود وبطريقة جافة للغاية لم تعهدها من قبل :
ـ التعامل مابيني وبينك بعد اكده مش هيوبقى غير علشان الأولاد ، خلاص اكتفيت منك وجع وخذلان، قدمت لك كل حاجة وضحيت بحاجات كَتيرة وقلت أني الراجل وأتحمَل ، وكنت دايما هحط لك قدام عيني فوق السبعين عذر كدهم عشر مرات، لكن من ساعة صوتك ماعلي علي قدام أمي وأهانتي كبريائي وجرحتي كرامتي يوبقى داي الناهية ما بيني وما بينك.
ثم نطق بما صدمها وجعل مقلتيها اتسعتا بذهول ودهشة:
ـ أني من النهاردة حرمتك علي، ولا هاكل ولا هشرب من يدك، ولا هيجمعني وياكي فرشة واحدة، أني خلاص اكتفيت وجع منيكي .
شهقت بصدمة وهتفت بذهول:
ـ لاااااه، ما مصدقاش اللي وداني سمعته !
هتحرم "سكون" عليك يا "عمران" كيف جالك قلب تفكِر فيها مش تقولها كمان ؟
ثم توسلته بدموعها قبل لسانها وهي تعاتبه:
ـ أني اكده هعيش زي الميتين يا "عمران" حرام عليك بجد، متعودتش منك القساوة داي، ممصدقاش اللي قلته، مقدراش أتخيلنا اكده أني وانت.
وتابعت بلهفة وهي تستعطفه:
ـ قول انك بتعمل اكده فيا علشان لساتك مجروح من كلامي!
أو قول انك هتعاقبني وهتخصامني وترجع تسامحني زي ما كنت هتعمل وياي علطول، لااااه يا "عمران" كيف تحرمني من حضنك ودفاك وهواك ؟!
ابتسم بسخرية وهو يجيبها على كلامها دون
أن يكترث لدموعها لأول مرة وكأن قلبه العاصي له ولكبريائة دوما قد تاب :
ـ ماهو علشان كنتِ دايما هتجرحي وانتِ ضامنة إني هسامح وهغفر وهرجع كماني أفتح لك دراعاتي واعتذر لك عن أخطائك ، كنتِ دايماً ضامنة انك هتدلعي وهتقسي وهتدوسي بقلب جامد وفي دماغك هتقولي؛ "عمران" قلبه طيب وهيعشقني وهيسامحني مهما أقصر ومهما أعمل، لكن خلاص تعبت من المِعافرة والمِناهدة معاكي، اني فشلت اني أكون راجل قدامك لدرجة تخليكي تحترمي جوزك أبو عيالك قدام نفسك وقدام ولادنا وقدام أمي وعلشان اكده هقول لك اني اكتفيت على اكده وبزيادانا نوجع بعض، ومتحاوليش تقربي مني نهائي، واتقِ شر الحليم اذا غضب .
كادت أن تتحدث وتعترض إلا أنه نظر إليها نظرات تحذيرية وهتف بإصرار وهو يستريح بجسده على التخت مغمضاً عينيه:
ـ لو سمحتي اخرجي عايز أنام ومش متحمل دوشة وصداع .
أما في الخارج كانتا "ماجدة" و"زينب" تجلسان مع بعضهن ويبدو على وجههم آثار الحزن الشديد وتحدثت "زينب" باعتذار:
ـ حقك علي يا أم "مها" في الدعاوي اللي دعيتها على"سكون" قدامك ، أني أم وهو ولدي الوحيد ، سندي وعزوتي بعد ابوه الله يرحمه، مليش غيرَه، متحملتش وقعته من طوله قدامي، يعلم ربنا إن بتك غالية وأم أغلى الغاليين، لكن اني كنت في حالة خارجة عن وعيي وكنت لازم أفوقها لنفسها لأن حبها لولادها خلاها تفحشت واتجبرت على الاخر، ياما نصحتها وقلت لها بيتك وجوزك وهي من وقت ما خلفت ولادها وهي بقت بني آدمة غريبة ومهتراعيش حتى روحها، ومتقوليش ولدي مصبرش عليها، أني ولدي صبر صبر أيوب ويشهد ربنا .
تنهدت "ماجدة" بأسف على حال ابنتها وما جنته من تغيراتها النفسية بعد حملها وولادتها لتعاتب "زينب" :
ـ كيف بتي تُبقى اكده المدة داي كلاتها ومتعرفونيش ؟
كيف "عمران" اللي كان كل يوم والتاني ياجي يسأل عني وأسأله مرتك عاملة معاك ايه يا ولدي وكان هيرد انها زينة وست البنات ، طب هو معايزش يقول لي حاجة علشان محروج وخجلان يقول لي بتك فيها وفيها ، لكن إنتِ يا حاجة ليه مجتيش عرفتيني من أول سنة بتي هتهمل فيها نفسها وجوزها، هو أني مش أمها عاد علشان أعرِف بتي مالها وأعقلها وأوجهها للصُح وأرجعها عن الغلط!
تنهدت "زينب" بأسى وتحدثت بتعقل:
ـ أني عرفت حالتهم لحالي يا"ماجدة" وعمري ما كنت بتدخل بيناتهم واصل، عمري ما قلت لولدي اعمل ولا متعملش واشتكي ولا متشتكيش، كنت باعدة حالي عن مشاكلهم علشان عايزة أعيش ويا ابني وأحفادي في سلام وقلت هما كبار وأدرى بحالهم، ولما لقيت الحال زاد عن حده؛ قلت أنصحها كيف ما هنصح بناتي ، أوجِهها للمعقول والصُح من غير ما حد يسمع بينا ، لكن الظاهر إني كنت غلطانة، المفروض كنت جيت وحكيت بيني وبينك وانتِ كنتِ هتقدري على بتك وهتعرفي مفاتيحها عَنينا .
شعرت "ماجدة" بالاختناق الشديد وسألت "زينب":
ـ طب احنا في دلوك يا حاجة واللي حُصل حُصل ، دلوك "عمران" ما هيديهاش ريق حلو ونافر منيها خالص، ورافض الكلام وياها، هو ممكن يكون نفسه اتسدَت ناحيتها لما أهانته وما يرجعش زي ما كان وياها تاني؟
أما بالنسبة ليها فما تقلقيش من ناحيتها اني أعرِف أخليها ترجع زي ما كانَت تاني بس المهم دلوك "عمران" .
تنهيدة عميقة خرجت من صدرها وهي تجيبها بما لم تعلمه:
ـ والله ما عارفة اقول لك ايه يا "ماجدة"!
اني معيزاش اتحدت وياه واصل دلوك وهو لسه خارج من المستشفى بقى له يومين، ومريداش أفكِره باللي حُصل لحد ما يتعافى وبعدين هشوف دنيته فيها ايه؟ "عمران" ولدي في غضبه يتقال عليه؛ اتقي شر الحليم اذا غضب، ومن وهو طفل صَغير كان دايما يتغاضى عن أخطاء اللي حواليه لحد ما الكيل يفيض بيه وياهم وبعدها ما يعرِفهمش تاني واصل، مهما اللي حواليه حاولو يصالحوه، ومهما حاولو يتعاملوا وياه بيرفض تماما المعاملة معاهم، بس ان شاء الله مرَته وولاده غير.
انتابها الخوف من كلمات "زينب" لتقول بنبرة حزينة:
ـ ماهو سنين الصبر اللي صبرها كَتيرة قوي ومحدش هيعمل زييه اكده، ليه ما أخدش موقف من أول مابتي تاهت وانسحبت ويا دوامة ولادها، مش معقول راجل يصبر الصبر دي كلاته ؟
أجابتها "زينب" بما تعرفه:
ـ اللي أعرِفه إنه أول سنة كان ما هيطلبش منيها حاجة واصل وكان هيعذرها جامد، مخلفة تلاتة وكانت رافضة مساعدة من أي حد وكنت اقول لها هاتي واحد فيهم يبات وياي ووازني انتِ ما بين الاتنين وراعي جوزك، كانَت ترفض ومعيزاش حد ياجي ناحيتهم ابدا، وكانت عاملة عليهم كيف الكماشة، عرض عليها يجيب لها واحدة تساعدها فيهم على الاقل تغسل هدومهم، ترضعهم وياها، تراعي البيت معاها، وهي برده كانت هترفض لحد ما عدى أول سنة بعد ما اتمرمطوا جامد هم الاتنين، وهي وزنها نزل النص برده كانت هترفض أي حد يساعدها فيهم، كان هيطلب حقه مرة بالرضا، ومرة بالخصام، ومرات كَتيرة بالهجر، وهي مسحورة ومتاخدة ويا ولادها بالجامد، كان هيصبر عليها، ما كانش حابب انه يحكم حد من اهلها ولا إنه يخرج سر بيتَه برة علشان هو هيعشقها، لحد السنة ما بقت تمر ورا السنة وهو لسانه ما بطلش مطالبة بحقه وهي ما بطلتش تتعلق بولادها، لحد اللي حُصل ما حُصل، وولدي كمان طبعه هين لين ما يحبش الضـ.ـرب ولا الفضايح ولا إن حد يسمع بيه وخصوصاً لما يكون عاشق لمرته، ولا من النوع اللي هيجبرها على حضنه وسكنه ميقبلهاش على رجولته.
كادت "ماجدة" أن تتحدث إلا أنها التفتت هي و"زينب" إلى خروج "سكون" من غرفة "عمران" وهي تبكي وتجري مسرعة ناحية الأدراج إلى شقتها دون أن تلتفت إليهم، فتنهدت كلتاهن بحزن شديد على حالها وحال "عمران" لـتربت "زينب" على ظهرها مرددة بنصح:
ـ قومي اطلعي لها وخديها في حضنك وهديها وعرِفيها الصُح والغلط، وعرِفيها انها لازمن يكون عنديها صبر على غضـ.ــب جوزها زي ما هو صبر عليها سنين لازمن هي كمان تصبر لحد ما يعدوا ازمتهم داي على خير، بتك محتاجة دلوك النصح بالحنية واللين ما عايزاش الشدة واصل، حاولي تطمنيها علشان قلبي هيرتاح من تلا جوزها وربنا يهدي الحال ما بينهم يا رب، ونزلي لي العيال يقعدوا وياي اتوَحشتهم كَتير .
تركتها "ماجدة" وصعدت إلى ابنتها وما إن دلفت إليها حتى وجدتها تبكي بشدة، بل وتنتحب بشهقات مرتفعة وهي تحتضن أبنائها الثلاث الباكين بجانبها، ففتحت أحضانها للصغار وهي تقبلهم من رأسهم آمرة إياهم:
ـ انزلوا يا حبايبي لتيتة "زينب" هتعمل لكم حاجة حلوة؛ وهي قالت لي ابعتيهم علشان اتوحشتكم قوي وما تبكوش ابوكم هيبقى زين.
وتابعت وهي تنظر إلى "سكون" بعيناي حذرة كي تهدئ من بكائها أمام الصغار:
ـ ماما هتبكي بطنها هتوجعها وانتم عارفين هي كد ايه ما هتتحملش الوجع عاد.
هنا نطق "سليم" ببراءة وهو يشعر بالخزي من حاله:
ـ هو ابوي زعلان مني يا ستي علشان ضربت زَميلي واتخانق هو وماما وراح المستشفى بسببي، أني زعلان من حالي يا رب اموت.
هنا تحركت "سكون" وهي تجذبه إلى أحضانها برعب لما قال، ناهرة إياه:
ـ بعد الشر عنك يا "سَليم" ما تقولش اكده يا حبيبي، بابا تعب شوي، جات له أزمة سكر وهيُبقى زين، ما تدعيش على روحك تاني يا حبيبي، علشان اكده بابا هيزعل منيك صوح.
اندفعت "سكن" الصغيرة لتقول بتمرد على ما قالت والدتها وهي قد فهمت ما حدث فعقلها واستيعابها أكبر من سنها بكثير :
ـ وليه ما هتقوليش الحقيقة يا ماما لـ"سَليم" إن هو السبب في اللي حُصل لابوي لولا انه اتغشَم على زميله وعارض كلام ابوه قدام الخلايق وما رضيش يتأسَف عن غلطَه من الاول، وعصب أبوي وخلاه يُضـ.ـربه وعِمل مشكلة بيناتكم، لازمن "سَليم" يعرِف إنه غلط غلط كَبير علشان ما يعملش اكده واصل مرة تانية، وكمان "سَليم" أخوي هيغشَم ويانا في كلامه أني و" سيف" وكنت هقول لك على طول وانتِ كنتِ هتقولي معلَش لحد اللي حُصل ما حُصل والطوبة وقعت في المعطوبة.
كادت "سكون" أن تهدر بها الا أن "ماجدة" قالت سريعاً بدلاً عنها:
ـ خلاص يا " سكن" يا حبيبتي انزلي دلوك وبعدين هنشوف الموضوع دي وانت يا "سَليم" انزل اعتذر لابوك وحب على راسَه واعترف بغلطك وهو هيسامحك طوالي، وما تعملش اكده تاني يا ولدي، إنت راجل وِلد راجل، والراجل ما يعملش الغلط ولا العيب واصل، الراجل مش بدرَاعَه واستقواه على خلق الله؛ الراجل بهيبته واحترامه لحاله، وإن الكل لما يشوفه يتمنى قعدته وجلسته من وشه السمح مش من فتونته، يلا يا حبايبي انزلوا علشان ستكم "زينب" مستنياكم تحت.
استمع الأطفال إلى نصائحها ونزلوا إلى جدتهم وما إن خرج الصغار حتى عادت "سكون" إلى بكائها مرة أخرى، ففتحت والدتها يديها بالأحضان إليها فارتمت الأخرى وهي تشهق بشدة مرددة من بين بكائها المرير:
ـ تعالي في حضني يا بتي ابكي لما تخلصي بكا هتحدت وياكِ، ساعات البكا هيريح القلوب التعبانة، عيطي يا بتي وخرجي كل اللي في قلبك من قهر على حالك واللي وصلتي له.
تمسكت "سكون" بأحضان والدتها وهي تتمسح بها باحتياج شديد إلى حنوها وإلى دفء يديها التي تحتويها بحنان ورعاية لتقول بروح منهكة:
ـ أني موجوعة قوي يا أمي، ما فيش حاجة في الدنيا تقدر تهدي النـ.ــار اللي في قلبي، مش هتصدِقي "عمران" قالها لأول مرة، "عمران" حرمني عليه وقال لي حتى اللقمة ما هاكلهاش من يدك، أني عِندي الموت اهون يا أمي من إن "عمران" يعمل فيا اكده، كلامَه قطعني من جوايا فتافيت، وخلاني كارهة نفسي واتمنيت الموت، خلاني احس إن الخلفة كانت نقمة علي مش نعمة، أني حاسة اني اتحسدت اني وعيالي وجوزي والناس ما سايبانيش في حالي وعينيهم علي وعلى حياتي وعلى ولادي اللي من يوم ما جبتهم ما اتهنيتش يوم وياهم.
أخذت "ماجدة" أنفاسا عميقة وهي تحاول تهدئه أعصابها الثائرة من الداخل على حال ابنتها وتفكيرها وما آلت إليه وهي لم تكن تعلم عنها أي شيء غير أنها بخير، فدوماً كانت تسألها على حالها وتعرض عليها المساعدة وهي كانت تطمئنها أنها بخير دائما، فقالت بنبرة هادئة حانية:
ـ شوفي يا حبيبتي كل الناس هتفكِر ان اللي هي فيه حسد كل لما يحصل لهم مشكلة هيرموا أخطائهم على الحسد، انتِ ولا بتخرجي ولا بتروحي شغلك ولا بتخرجي بعيالك وانتِ وهما محبوسين في قمقم، وحتى هترفضي إن جوزك يخرجكم كلاتكم زيكم زي أي عيلة هتخافي عليهم من الحسد كيف ما هتقولي،
اللي حُصل لك يا بتي قلة تدبير منك وقلة استخدامك لعقلك، حرمانك من الخلفة سنين ربَّى جواكي رعب على ولادك إنك ما تعرِفيش تجيبي غيرهم تاني، واتوجعتِ كَتير على ما جبتيهم فدي خلاكي هتمسكي فيهم بيدك وسنانك وما عايزاش أي حد يساعدك فيهم مع إن حملهم تَقيل عليكِ لدرجة أهملتي صحتك وجوزك، وولادك ما خرجوش للعالم اللي برة كفاية إنهم يعرِفوا يتعامَلوا مع اللي حواليهم حتى الحضانة أول ما راحوها كنتي هتقعدي قدام الباب لحد ما يخلصو وتاخديهم وياكي وتمشي، وياما قلت لك اللي هتعمليه دي غلط لازم تفوقي يا بتي لنفسك ولجوزك ولعيالك، ارجعي شغلك يا "سكون" وسيبي عيالك يتعلَموا ويعرِفوا المواقف بنفسهم، سيبي ابوهم يتعامَل وياهم وادي له مساحة انه يربيهم وياكي، أني شايفة يا بتي إنك انت الغلطانة في كل اللي اتحكى منك ومنيهم، لازمن تطلعي من القوقعة داي وترجعي شغلك وتسيبي حماتك تساعدك في تربية ولادك وتسيبي جوزك يعلمهم غلطهم لو غلطوا، اوعاكي تعترضي على حكم اب على ولاده وخصوصاً لما يكون زي "عمران" حنين ومتربي وهيخاف على ولاده وضحى بسعادته وهناه علشانهم.
هزت راسها بموافقة على كلام والدتها لتنطق بقهر:
ـ حاضر والله يا أمي هسمع كلامك بس المرة دي "عمران" ما طايقش يبص حتى في وشي، عمر ما حُصل بيناتنا اكده مهما كنا نتخانَق أو مهما كان يخاصمني عمره ما قدر يقول لي الكلمة اللي قالها لي داي، أني حاسة إن دي القشة اللي نهت ما بيني وما بين "عمران" ، حاسة إن عمرَه ما هيسامحني ولا هيبص في وشي تاني، انتِ ما شفتيش كان هيتحدت وياي كيف! أول مرة من يوم ما عرفته من 12 سنة أشوفَه بالحالة داي، ويتعامَل وياي بالقساوة داي، أني حاسة إن أني خسرته يا أمي، آااه أني بموت من جواي هو لو فضل يتعامَل وياي اكده ده ومصمم على اللي في دماغَه الموت عِندي اهون.
طمئنتها والدتها بما لم تتيقن منه ولكن علَّ كلماتها تريح صدرها:
ـ ما تقلقيش يا بتي تبات نـ.ــار تصبح رماد والقلب الطيب مهما حُصل عمرَه ما يتجبر ابدا، وأني وياكي و"عمران" هيقدرني وهيحبني واني والحاجة "زينب" هنطيب خاطره من ناحيتك، بس انتِ ما تبطِليش محاولات، مهما نفرك قربي، مهما حاول يبعدك عنيه كلبشي فيه بيدك وسنانك، الست مننا يا بتي ما تستغناش عن راجلها وخصوصي لما يكون زي "عمران" راجل ومتربي وهيحبك وهيراعي بيتَه وعيالَه، لازمن تتحمَلي أي حاجة منيه زي ما هو اتحمَل كل اللي عِملتيه وياه سنين وسنين، مهما شفتِ منيه غضب او كلام قاسي أو نظرات جحود علشان يكرهك فيه ولا كانك شايفة حاجة، اركني كرامتك دلوك على جنب زي ما هو ركن رجولته وكرامته كَتير عشان خاطرك، وان شاء الله كل حاجة هتُبقى زين وعال العال، بس أهم حاجة يكون دي درس يعلَمك كيف تحافظي على بيتك وعيالك بالحكمة والوعي، مش انك تنسائي ورا تعلق مرضي ما هيفيدكيش بحاجة وهيخلي ولادك ما نافعينش في أي حاجة واصل ،
ربنا يهدي لك الحال يا بتي انتِ وجوزك وعيالك ويبعد عنكم النفس الاماره بالسوء ويهدي قلبك ويهدي جوزك ويبارك لك فيه، يلا قومي علشان تنزلي لولادك وتشوفي الناس اللي هتاجي تزور جوزك ما تفوتيهوش لحاله واصل مهما قال.
********
ـ هتصدقي لو قلت لك إن المكان هنا مريح وجميل ويهدي الأعصاب ويخلي الإنسان المريض يشفى، أنا حاسس ان انا شايف النهاردة الدنيا بعين تانية خالص، حاسس ان انا اتولدت من جديد، شايف الزرع الأخضر أخضر، شايف الشمس بلونها الدهبي، سامع العصافير وهي بتزقزق في غصونها بعد ما كانت الدنيا كلها بلون واحد كلها سودا في عيني، انا مش مصدق نفسي إن أنا شفيت من اللي أنا كنت فيه، وبقى لي شهر مبطل وصحتي رجعت زي ما كانت وأعصابي المهزوزه قويت .
ابتسمت براحة لأول مرة منذ أن دخل في وحل ذاك المخدر، لأول مرة منذ سنوات عانت فيهم بشدة وذاقت فيهم مرار القهر والمر والبكاء المتواصل ترتاح، لتقول براحة :
ـ ياه يا "مكرمي" أنا مش مصدقة نفسي إن الكابوس ده خلص وانك رجعت لي تاني سالم غانم صحتك وعافيتك، انت متعرفش أنا قد ايه عانيت من غيرك وليك ومعاك .
وتابعت بعيناي دامعة :
ـ أنا اتبهدلت أوي يا "مكرمي" ، شفت اللي محدش شافه وانت مغيب في الشرب والمخدرات.
تمسك بيديها واحتضنهم بين يديه وهو يعتذر لها بصدق وعيناي يملؤها الخذلان:
ـ معلش حقك عليا يا حبيبتي، اوعدك اني عمري ما هخذلك تاني ، أوعدك إنك هتشوفي إنسان تاني، ناجح، ابص لمستقبلي بعد كده ولحلمي اللي طول عمري بحلم بيه وعمري ما هرجع للي كنت فيه ده تاني وهعوضك عن كل لحظه وجع والم عشتيها بسببي انا خلاص اتعلمت الدرس كويس وعمري ما هضعف تاني بعد اللي انا شفته، انا شفت الموت بعنيا يا "نور" .
ثم مد يده ومسح دمعتها الهاربة من مقلتيها العسليتين وهمس :
ـ خلاص بلاش دموع من النهارده انا عايزك تستعدي لمرحله جديده في حياتنا عايزك تكوني مبسوطه دايما عمري ما هزعلك تاني عمري ما هخلي عيونك الحلوين دول يبكو مش عايزه اشوف غير ابتسامتك بس يا نوري اللي كانت بتنور لي الكون واللي فيهم بتبان غمازاتك اللي بتأثرني.
وتابع بنبرة حالمة :
ـ ما تتصوريش حضنك وحشني قد ايه؟ قربك كمان وحشني، انا لما خرجت من السجن كنت عامل زي المجنون لما ما لقيتكيش، كنت عايز أخرج أرتمي في حضنك أول حاجة، كنت عايز أشتكي لك اللي أنا شفته وعانيته، يمكن ربنا مقدر لي الوجع اللي أنا عشته ده كله، علشان لما أفوق منه أحافظ على نفسي وعلى صحتي وعلى وجودك في حياتي، إحنا عايزين نرجع لبعض ونتجوز تاني والمرة دي هحافظ عليكي لا ده انا هتكحل عليكي برمش عيني.
ابتسم وجهها ابتسامة رقيقة داعبت القلب والروح، جعلت قلبه ينبض فقط من مجرد بسمة صافية ارتسمت على وجهها، ليهتف مداعباً إياها بأكثر ما يعجبها منه في غزله لها:
ـ ياه خدودك بيحمرو وبينوروا لما بتبتسمي ، عليا النعمة من نعمة ربي إنك أجمل وأرق بنوتة قابلتها في حياتي يا نور القلب والروح.
تآكلت شفاها السفلى بخجل من غزله وتلك حركتها المعتادة فعلتها حينما يداعبها بكلماته الرقيقة لتهمس هي الأخرى بنعومة ورقة:
ـ والله وحشني كلامك وحشني صوتك وانت هتتغزل في نورك يا كابتن قلبي، فاكر الكلمة دي ؟
ضغط على يديها التي تسكن يديه بشوق ولهفة :
ـ ومين يقدر في يوم ينسى الكلام اللي كان بيتقال للكابتن صدقي وحشني قوي الملعب والكوره والمرمى وحشني نفسي زمان قوي تفتكري هقدر ارجع تاني املك المرمى زي ما كنت ولا انا كده خلاص؟
شجعته وهي تردد بتحفيز وأمل :
ـ ومين قال انك مش هتقدر ترجع! لعلمك المدرب بتاعك لحد آخر لحظة كان مكلمني قبل ما اجي هنا وقال لي ان هما محتاجينك وإنهم مش لاقيين زيك، وانك لازم تتعالج وهو هيقف جنبك وهيرجعك النادي تاني، واداني رقمه الخاص علشان اكلمه في أي وقت لما ترجع، وكان عايز هو بنفسه يشرف على علاجك لأنك اديت للنادي كتير قوي، ما تخافش يا "مكرمي" ربنا هيبقى معاك لان اللي انت كنت فيه ما كانش بمزاجك، دي مؤامرة حصلت لك، ربنا ينتقم من اللي عمل كده، وعلشان ربنا سبحانه وتعالى بيعوض المظلوم كان دايما سايب مكانتك في قلوب مدربينك واصحابك وهم مفتقدينك جدا علشان كده لازم نرجع.
وتابعت بخوف وهي تومئ برأسه للأسفل :
ـ بس في حاجة مخوفاني في الرجوع؛ ان اللي كانوا بيلفوا حواليك اول ما يشوفوك يرجعوا تاني يضغطوا عليك ونرجع لنقطة الصفر، ده اللي مخليني مش عايزه امشي من هنا ومخليني كارهة الرجوع للمكان تاني، انا مش بحبطك والله بس ده خوفي عليك انك تضيع مني تاني بعد ما لقيتك يا "مكرمي" .
تنهد بحزن شديد لخوفها وطمئنها تلك المرة بقوة كي يجعل قلبها يستريح :
ـ ما تقلقيش يا حبيبتي أنا بأكد لك إني عمري ما هرجع للضرب تاني، وعمري ما هفكر اخلي حد يأثر عليا مهما كان، أنا خلاص توبت واتعلمت الدرس كويس قوي، اتعلمته بوجع وندم وتكسير لأعصابي وجسمي ولحياتي، أنا اتدمرت تدمير الفترة اللي فاتت دي كلها اللي عمرها ما هتطلع من دماغي، ودايما هيبقى شريط الوجع اللي عمري ما هنساه علشان ما ارجعلوش تاني قدام عيني، صدقيني المرة دي غير يا "نور" ، المرة دي أنا عندي قوة وإرادة إني أواجه لو اتعرضت لأي ناس من اللي كانوا بيخلوني أعمل كده، هعرف أواجههم كويس قوي، ما تقلقيش يا حبيبتي انا عايزك بقى تطمني، كفاية قلق، وكفاية وجع، وكفاية دموع، احنا من حقنا نفرح بحياتنا مع بعض إحنا ما فرحناش خالص.
تنهيدة حارة خرجت من صدرها وابتسمت لهم الحياة أخيرا لتردد بسعادة غامرة وقد جاء ببالها فكرة مجنونة:
ـ طب أنا عايزة أعمل فرح علشان انت عارف ان احنا ما عملناش فرح واتجوزنا بكتب كتاب وخلاص، وكمان عايزه الفرح يبقى هنا في المكان ده، اللي اتولدنا فيه من أول وجديد، عايزة ابدأ معاك حياتنا الجديدة وسط الخضرة الجميلة دي اللي بتدينا أمل مجرد ما نفتح عيوننا عليها، تخلي الكون في عينينا حاجة تانية خالص ايه رايك؟
راق له فكرتها ليشجعها :
ـ تمام يا ست البنات أنا عيني ليكي خلاص نعمل فرح هنا، ونعمل كل حاجة نفسك فيها، بس جناب العمدة يقوم بالسلامة ويرجع للمزرعة تاني، واتكلم معاه في الموضوع ده، هو كان عرض عليا اني اشتغل معاه هنا كحارس أمن على المزرعة كلها بس انا صراحة ما ليش في الحوار ده، فهقول له على كل اللي احنا اتفقنا عليه، وإن احنا هنرجع ونفسنا نعمل فرح هنا وهو أكيد مش هيمانع، لأنه راجل محترم جدا وكويس، بس ربنا يشفيه وأول حاجة هنعملها الفرح على طول علشان انا مشتاق لنوري.
ـ قلب نورك يا حبيبها وعمرها وكل حاجة حلوة ليها .
و ها هو الأمل ينبعُ من شقوقِ الانكسارِ كضوءٍ يتسلّلُ إلى روحٍ أرهقها المسير، فيعيدُ إليها نبضها الأول،وتجيءُ النجاةُ كنسيمٍ باردٍ بعد قيظٍ طويل، تمسحُ عن القلبِ غبارَ الخيبات وتغسلُ جراحه، وحين تنقشعُ سحابةُ الوجع، ترى الحياةَ ورديّةً كأنها تُمنحُ لك من جديد، ألينَ وأبهى ممّا كانت،وتدرك عندها أنّ كلَّ انتكاسةٍ لم تكن سقوطًا، بل طريقًا خفيًّا يقودُكَ إلى ذاتٍ أقوى وأشدِّ إشراقًا.
******
ـ أنا مش فاهم ايه اللي جرى لك انت كنت كويس كل لما اصلحك تنتكس تاني؟
ثم صاح بصوت عالي يملؤه الغضـ.ـب:
ـ "فريدة" تعالي دلوقتي حالا.
كانت تراقبه من بعيد وهو يجلس أمام الروبوت يحاول أن يجعله يتحدث معه كما كان يفعل ولكن دون جدوى فهو كلما عالج عيوبه كلما كانت "فريدة" تهلكه أكثر من ذي قبل، حتى أنه أتى بجسم جديد وفعلت معه كما فعلت مع الجسم الذي قبله كما أمرتها الطبيبة، حاولت تهدئة أعصابها المتوترة من صياحه وغضبه الشديد البين على معالم وجهه وصوته العالي وملامحه المتهجمة كي تستطيع مواجهته، ثم تحركت بخطواتها حينما صاح باسمها مرة اخرى وتقدمت إليه وهي تجلس بجانبه، وداعبت خصلات شعره بأناملها بحنو شديد، وسألته بنبرة رقيقة هامسة :
ـ مالك يا حبيبي صوتك عالي وانت هتنادي علي ايه اللي مضايقك احكي لي؟
تململ برأسه بين يديها بضيق شديد ليجيبها وقد أصابه الضجر:
ـ انا نفسي أعرف ايه اللي بيحصل لماما لما بكون نايم ببقى سايبها كويسة اصحى الاقيها مش بترد عليا خالص، مع إني ببقى سايبها كويسة!
قولي لي يا "فريدة" انتِ بتعملي حاجة فيها ولا بتزعليها علشان خاطر آجي اكلمها الاقيها فاقدة النطق بالشكل ده ومش راضيه تفتح خالص؟
ارتعبت "فريدة" من نبرته ومن صوته الغليظ وعينيه الزائغتين وهو يسألها، فحاولت تهدئه داخلها بشدة وأجابته بثبات انفعالي دربتها الطبيبة عليه:
ـ هو انا باجي ناحيتها واصل يا "فارس" علشان تتهمني الاتهام الشنيع دي .
وتابعت بنبرة قوية وهي تذكره بماهية ذاك الجهاز:
ـ انت تعرِف إن هي جهاز والدَكتورة عرفتك كل حاجة، عايزاك تقتنع إن عمر الجهاز ما هيحل محل بني آدم، انت لازم تفوق لنفسك وليا ولبتنا، وتعرِف ان احنا هنحبك وما لناش غيرك، لازمن من جواك تتخلص من وجود جسم معدن يحل محل والدتك ألف رحمة ونور تنزل عليها.
رمقها بغضب شديد من عسليتيه المشتعلتين :
ـ انتِ اكيد بتغيري منها علشان هي بتهتم بيا اكتر منك، وعلشان أنا بحبها اكتر ما بحبك علشان كده بتحاولي تبوظيها .
رددت بنبرة شديدة وهي تحاول إيقاظه من تلك الدوامة :
ـ اني عمري ما هغير من حاجة ملهاش روح ولا نفَس واني عارفة انك بتحبني اكتر إنسانة في الدنيا بحالها، وعارفة كمان انك عمرك ما تقدر تستغنى عني، لازم تفوق يا "فارس" من الوهم الكذاب اللي انت عايش فيه، وبعدين لو هي ناصحة كيف ما بتقول اسالها مين اللي عِمل فيكي اكده؟ أو راجع أجهزة التصنت اللي انت حاططها فيها وشوف هتلاقي ايه؟
اني الحقيقية، أني اللي هحبك اكتر حد في الدنيا، أني اللي وجودي جنبك حقيقة ملموسة ومسموعة، اني اللي هتشم ريحتي وهتحس بملمسي، اني كلك يا "فارس" لازم تفوق لازم تفوق.
اقترب منها واحتضنها من كتفيها مرددا بتيهة:
ـ بس هي كده هتزعل مني اني ما تمسكتش بيها لآخر لحظة وما حافظتش عليها صدقيني أمي وأنا عارفها كويس نفسها بتصعب عليها.
اكدت له مرارا وتكرارا كي لا تجعله ينسى بل ويفيق من تيهته :
ـ تعرِف يا "فارس" هي زعلانة عليك دلوك وروحها هتحس بوجعك وتوهانك وهي في قبرها بين أيادي الله، وعمرها ما هترتاح طول ما انت ما هترضاش بقدر ربنا وحكمته في انه اخدها لعِنده، لازمن تفوق وتعرِف إن كل أقدار ربنا سبحانه وتعالى لينا خير مهما كنا شايفينها كل الشر، لازمن يا "فارس" تقتنع ان هي ماتت.
وعند تلك الكلمة الأخيرة دلف إليهم آخر شخص توقعت أن يصل إليهم وهو يردد بسخرية:
ـ ايوه لازم تقتنع إن "عبير" ماتت يا بني ادم يا مريض، انت لازم تفوق لنفسك، انا مش فاهم "عبير" كانت بتربي وتدلع وتدادي لحد ما طلعتك عيل لسه ما اتفطمتش منها حتى بعد ما ماتت، فوق لنفسك ياض والله انا جوايا بيقول لي إنك بتمثل.
كان هذا الصوت أكثر صوت يبغضه ولا يريد أن يسمعه في حياته، أكثر صوت سبَّب له البؤس والمرض والانفصام، وعكَّر حياته ومزاجه وجعله يكره الحياة، ويكره نفسه، ويكره كل شيء، فقام من مكانه وغضب الكون يسيطر عليه وهو يقترب منه؛ ولكن قبل أن يلمسه كانت "فريدة" قد سبقته ووقفت بينهم وهي تردد لذاك الدخيل عليهم :
ـ انت ايه يا بني آدم انت، بعد عنينا بقى، مالك ومالنا، مليكش صالح بينا عاد، ايه اللي هيفكرِك بينا كل مرة والتانية، دخلتك خـ.ــراب علينا، مالك بيه؟ كفايه الحالة الشينة اللي انت وصلت ولدك ليها، انت السبب في كل اللي حُصل له، انت السبب في حرمانه من حضن امه، وتعـ.ــذيبها وتعـ.ــذيبه هو كمان من وهو طفل، حسبي الله ونعم الوكيل فيك بزياداك عاد بعِّد عنينا بقي.
صاح هو الآخر بها دون أن يكترث لغضب ابنه ولا لهيئته المذرية ولا لمرضه:
ـ وانتِ مالك ايه اللي يدخلك ما بيني وما بين ابني، إنتِ آخر واحدة تتكلمي، أنا اصلا ما كنتش راضي عن الجوازة دي من الأول علشان عارف انك هتسحبيه لهنا، وعارف إنك عاملة زي التعبان بالظبط بتحاولي تكرهيه فيا اكتر ما هو كرهني .
هنا هدر به "فارس"وهو يشعر بالبغض الشديد تجاهه:
ـ انا اللي مش فاهم انت ازاي شايف ان هي سبب في اني بكرهك، إنت دمـ.ــرت حياتي ودمـ.ــرتني من زمان قوي من وانا كنت صغير وبعدت عنك وسبت لك الدنيا باللي فيها وعن الوساخة اللي انت عايش فيها وتجارتك المقرفة ولحد دلوقتي بتطاردني، وقلت لك مش عايز أي حاجة منك ولا من فلوسك، انت اللي مش قادر تفهم انك المدمـ.ــر الوحيد لكل اللي حواليك ابعد عني بقى وما تجيش هنا تاني.
تحدث إليه بنبرة مستكينة وهو يصطنع الاحتياج له:
ـ انا جاي لك من آخر الدنيا ابوك يا "فارس" بيقول لك إن هو محتاجك، انا خلاص ما بقتش قادر على الشغل وبطلت التجارة اللي انت بتتكلم عنها وعايز اعيش معاك واربي أحفادي منك انا ما ليش غيرك ضهر وسند.
اندهشت "فريدة" من استكانته وخنوعه بتلك الدرجة ولكن عند ابنتها ستقف له حد السيف لتنطق بنبرة تحذيرية:
ـ اوعاك تفكِر اني هصدق الوش الطيب اللي هتركبه ده حذاري تقرب من بنتي وتفتكر نفسك جدها بحق بحقني مش هسمح لك تحط ولادي فيما بعد انهم هيبقوا احفادك والحوارات الهبله اللي في دماغك دي ولادي خط احمر وجوزي كمان ما لكش صالح بيه ارجع لمكانك والاصورك ولحياتك وما لكش صالح بينا علشان انا عمري ما هعتبرك جد ولادي لانك راجل مؤذي ومخيف.
وجد أن ابنه لم يعترض على حديث ابنه فأشار بسبابته إليها مرددا بما صدمهم:
ـ أنا بقى مليش كلام معاكي تاني، أنا عارف إن ابني مريض نفسي ومش في وعيه، وعلشان كدة مش هروح لابوكي ولا حد من عيلتك أنا هروح لكبير بلدكم العمدة بتاعكم وهقول له على كلامك ده ، وانك عايزة تحرميني من حفيدتي وانك مكرهة ابني فيا وهشكي له وهنشوف.
كاد أن يغادر إلا أن "فارس" أوقفه محذراً إياه:
ـ ماتروحش لحد وياريت تبطل فضايح بقى هي ملهاش دعوة باللي بيني وبينك، ابعد عننا بقي وسيبنا في حالنا ، احنا عايشين هنا محدش سمع بينا، أنا لحد دلوقتي مراعي بس إن اسمك أبويا ومش عايز أقل منك وانت في بيتي .
زم شفتيه بغضب شديد وتوعد لهم:
ـ طيب تمام هنشوف.
وتركهم وغادر المكان وهو ينتوي الذهاب إلى العمدة، سأل السواق الخاص به حتى وصل إلى دوار العمدة، حتى وصل أخيراً وأبلغ الحارس بأنه يريد زيارة العمدة فدخل "محروس" إلى الداخل وهو ينادي على "زينب" :
ـ يا حاجة "زينب"، يا أم العمدة "عمران".
أذنت له بالدخول:
ـ بس يا واد بطل هيضة وصوت عالي، العمدة تعبان ومعايزش وش .
تحدث وهو يخبرها:
ـ فيه غريب برة رايد يقابل جناب العمدة.
ـ غريب! غريب مين يا واد ، العمدة تعبان ومهيقدرش يقابل حد .
حرك رأسه وهو يعرفها بما قاله:
ـ الغريب هيقول إنه عايز العمدة في أمر هام وضروري ولازمن وحتماً يقابل جناب العمدة.
تنهدت بضيق لتأمره أن يمشي أمامها :
ـ طب تعالى نشوف أمر الغريب دي، العمدة تعبان.
خرجت معه إلى المضيفة وأمرته أن يأتي بالغريب للداخل، فخرج إليه وأحضره وحينما دلف ألقى السلام:
ـ السلام عليكم يا أهل الدار .
التفتت "زينب" إليه واطلعت إليه بوجهها وما إن رآها حتى تحقق من ملامحها التي لم ولن ينساها يوماً من الأيام ليردد بصدمة:
ـ ياااه ، "زينب" والله زمان .
انصدمت هي الأخرى بعد أن تحققت من ماهيته لتنطق بذهول...
