رواية شذرات الاماني (كامله جميع الفصول) بقلم ساره عبد المنعم


رواية شذارت الاماني الفصل الاول بقلم ساره عبد المنعم

إهداء إلى/

والداي (المسراج المنير) الذي أهتدي به في حلكة الأيام

الأشخاص الحقيقيين الذين لا تُغيرهم مواقف أو تُبدلهم ظروف

كل من علمني حرفًا ووقف جواري في الرحلة

إليكم أنتم..


 الشذرة الأولى

بنظرة حالمة وجهت بصرها نحو السماء، ورددت في ثقة قائلة:

ـ أعلم بأنك تسمعني يا الله، وتيمنًا بتلك الأمنية التي لم يلبث لساني يلهج بها، وعشت ما تبقى من عمري لأجلها، سأهبها لصغيرتي، علها تُحقق ما عجزت أنا عن الوصول إليه، أستودعك عند الله يا أغلى الأماني، أنتِ يا أماني.

ولم تمر سوى لحظات معدودة حتى هز صوت صراخها الأرجاء، فالتف الجميع حولها، وبدلًا من مساعدتها وإسعافها في الحال، حدثت مُشاجرة بين الحاجة فتحية (حماتها) وسعاد (أختها):

ـ أختي لن تلد سوى في المستشفى.

ـ وما بها القابلة؟ كل أولادنا جاءوا إلى الدنيا على يديها.

سعاد في انفعال:

ـ وكذلك أمي ماتت على يديها أيضًا، فوالله لن أسمح بتكرار ذلك الشيء مع أختي قط.

شهقت الحاجة فتحية في قوة، ورددت في غضب:

ـ وهل تظنين بأنني لا أخاف عليها؟ يهمني أمرها أنا كذلك، فهي زوجة ابني، والجنين في أحشائها سيكون حفيدًا لي.

احتدم الشجار بين الحاجة فتحية وسعاد، ولم تتنازل أي منهما للأخرى، وعلَاَ صوتهم على أنين السيدة هدى، ولسوء الحظ لم يكن زوجها (الحاج إبراهيم) بالبيت، فقد ذهب لشراء بعض المواشي لأجل مزرعته، لتستند زوجته على الجدار، تتحامل على نفسها مرتكزة عليه، ولحق بها الصغير حمزة (ابن أختها سعاد)، يبلغ من العمر 3 سنوات، ولكن الحنان في قلبه كان عظيمًا، ببراءة الأطفال أخذ يمسح عنها ذرات العرق التي تتساقط عن جبينها، ويربت عليها بكل حب، وهي تُجاهد لأجل صغيرتها، وتبذل أقصى جهدها لدفعها إلى الخارج، الشعور بداخلها يُحدثها بأنها ليست بخير، أخذت تُناجي الله وسط ضعفها، وترجوه أن يقر عينها برؤية صغيرتها؛ لتُظلم شمس الحياة عند سماع صراخها، فاضت الروح الطاهرة إلى بارئها، فأصبحت نظرتها الأولى لها هي الأخيرة.

  هدى.. أختي لا لا لا، انهضي حبيبتي أرجوكِ -

ارتمت سعاد فوق أختها، تتحسس نبضها في غير تصديق، وتحاول أن تعيدها إلى وعيها؛ ظنًا منها بأنها مغشيًا عليها، ولكن الحقيقة كانت مفجعة، صدمها الواقع من جديد حيث أعاد أمامها الموقف ذاته، ولاقت أختها نفس المصير؛ لتضمها بقوة إلى صدرها، وتغشى العبرات عينيها، حيث تدفقت منها كالشلال، وظلت متشبثة بها، ترفض إفلاتها رغم محاولات الحاضرين، دخلت في حالة صدمة، وكلما اقتربوا منها صرخت في وجوههم، حتى وصل إلى سمعها صوت بكاء الصغيرة، فانتبهت إليها، نظرت لأختها في أسى، واحتضنتها في ألم ثم تركتها برفق فوق التراب، تتوسده حيث سيضمها بعد قليل، وتلقفت الصغيرة من جدتها، وأخفتها بين ذراعيها كما فعلت مع فلذة كبدها (هدى) من قبل عند رحيل أمهما..

 ماذا هناك؟ ولمَّ هذا الجمع أمام منزلي يا حسين؟ -

 .لا أعلم والله يا حاج إبراهيم، لعله خير إن شاء الله.

تسللت الريبة إلى قلب الحاج إبراهيم، وأول ما جال بذهنه زوجته هدى، فردد في خوف: 

 استر يا رب، يا رب سلم يا رب. -  

إحساس المرء لا يخيب، وقلوب الأحبة كاشفة، وكأنها تحمل أستار الغيب، عاد من منتصف الطريق؛ حيث شعر بغصة في قلبه، فلم يُكمل سفره إلى البحيرة لسوق المواشي، وحين سأله صديقه حسين أخبره بأنه قد نسي شيئًا، كان يصف حال قلبه، فهو لا يستكين إلا جوار الحبيبة، فما باله وقد رحلت! ركض مسرعًا نحو منزله، وفجأة سقط على غفلة، لم تستطع قدمه حملاه؛ وهنا كانت صدمته، استطاع التعرف على حذائها حين وقعت عيناه عليه بعد سقوطه على الأرض، قد كان هو من أهداه إليها، وعاد به المشهد حيث أومضت في حافظته الموقف، فاختطف له بضع لحظات معها:

ـ ما كل هذه الأشياء يا حاج إبراهيم؟ أ فكلما ذهبت إلى بلد بعيد أحضرت لي هدية منه؟

تبسم ضاحكًا من قولها، وأجاب:

ـ نعم عزيزتي، فأنا ليس لدى أغلى منكِ في هذه الحياة؟

احمرت وجنتيها خجلًا، وتعلق نظرها بالأرض من أسفلها، ليقترب منها، واحتضن وجهها الرقيق بين كفوفه، ورفع رأسها لأعلى على مستوى بصره حيث تعانقت النظرات، وتفوهت بلغة لا يفهمها سواها، ثم قال:

ـ ما زلت لا أنسى كم الصعاب التي مرت بنا حتى وصلنا إلى هنا.

تبدلت نظرتها إليه، وفي هذه اللحظة احتضنت هي وجهه، وهي تُردد في فخر:

ـ وأنا أيضًا أذكر كيف كان حبيبي بطلًا؟

قبل خمسة وعشرون عامًا...

خرج إبراهيم هائمًا على وجهه في الطرقات، ضاقت عليه الأرض بما رحبت بعد رفض الأستاذ إسماعيل له؛ لكونه فلاحًا، لم يُكمل تعليمه، وابنته طالبة جامعية، فكيف تتساوى الرؤوس؟ وكما شاع بيننا تحتاج الأنثى إلى من يعلوها قدرًا أو يُساويها في التعليم كي لا تتدخل بينهما الغيرة، ويفرض سطوته عليها، ولكن حكاية إبراهيم كانت مختلفة كثيرًا، أحب الدراسة منذ الصغر، ولطالما تمنى أن يصير طبيبًا، ولكن بعد وفاة والده، لم يكن أمامه بدًا سوى التفرغ للقيام بأعمال والده، وتولي دوره في القيام بتربية إخوته، ترك أحلامه جانبًا، ورغم صغر سنه وقف كالصخر أمام الرياح العاتية، يربت على كتف والدته في حنان، وهو يُردد في ثبات:

ـ لا تقلقي يا أمي، أبي ما زال حاضرًا، وإن غادرنا بجسده، إلا أن روحه ستظل جوارنا، يحرسنا أبي من السماء، قلبي يشعر بذلك يا أمي، فلا تخافي ولا تحزني.

نظرت السيدة فتحية إلى ابنها نظرة ذات معنى، والدمع ينحدر من عينيها، فقدت عزها ودلالها، فالزوج سد منيع أمام عواصف الزمن، حتى وإن كان فظًا غليظ القلب، وما كان زوجها كذلك، فأخذت تبكيه ليل نهار، كبلها الحزن، ولم يُغادرها لحظةً واحدةً، حتى جاءتها والدتها (الحاجة وداد)، وصعقت ابنتها مما سمعته منها، تصرخ بها قائلة:

ـ كيف تقولين لي ذلك يا أمي؟ أ تظنين بأن محمد زوجي يُعوض؟ والله إني لأكاد أجزم بأنه ما من رجل مثله قط.

انهارت في البكاء، وأوقفتها الشهقات التي أخذت تزداد، حتى شعرت بالاختناق، وكأن جدران الغرفة قد أطبقت عليها، فسُحب الهواء من رئيتها، لتسقط فاقدة للوعي، انتفضت والدتها، وصرخت فزعًا، هرول إبراهيم إلى الداخل، يسألها في قلق عما حدث، فأجابته في هلع:

ـ أغثني يا بني، أمك سقطت أرضًا، ولا أعرف ما الذي أصابها؟ فاحضر لها الطبيب في الحال.

ركض إبراهيم نحو الخارج، وضربات قلبه تتسارع صعودًا وهبوطًا، سحابة تهطل فوق رأسه؛ بل من عينيه، لا يعرف أين يتجه؟ وقد أصبح الطريق أمامه ضبابيًا، لم يكد يفقد أباه، وأمه الآن تحت رحمة الله، وحده يعلم ما الذي أَلم بها؟

ـ إبراهيم .. يا إبراهيم ..

صوت من الخلف يأتيه، ميزته الأذن عند أول نداء، فكيف ينسى المرء خليله؟ وفي هذه اللحظة استسلم لضعفه، فإذ بحسين يسنده، وهو يربت على كتفه في حنان، يُشعره بأنه معه، فزفر الآخر في حرارة، ثم ردد والحزن يعتصر القلب قبل أن تُخبر به الشفاه:

ـ أمي متعبة للغاية في البيت، وأخشى أن أفقدها هي أيضًا.

ـ لا تقل ذلك يا إبراهيم، سيكون كل شيء على ما يرام، هون عليك يا صديقي.

سكت لهنيهة ثم أكمل:

ـ الله لطيف بعباده، وكن على يقين بأنه لن يتخلى عنك مهما حدث، وكل الأقدار خير..

فقاطعه إبراهيم:

ـ ولكنني ما زلت لا أستوعب موت أبي، فلن أحتمل أن تفجعني الأيام بمصاب والدتي.

اتصل شعور الصديقين، واتكأ إبراهيم على حسين، الذي أخذه إلى عيادة عمه (الدكتور فريد)، على الرغم من حدته معه بناءً على تعليمات زوجته (الدكتورة إيمان)، أستاذة في الجامعة، فتنظر نظرة دنيوية لعائلة زوجها، فهم دون المستوى، ولكوني زوجها معمي بحبها، يترك لها زمام عقله، فتوجهه كيف تشاء؟ 

-حسين! أنت هنا.. ما الذي أحضرك إلي؟

انهال عليه بالعديد من الأسئلة مع نظرته المرعبة له، يعلم بأن هناك من تُراقبه من خلال الكاميرات، فهي موضوعة في كل ركن واتجاه، وحتمًا قد رأته منذ بداية دخوله عبر الباب.

تبسم حسين ابتسامة الحزين، وهو يُجيبه في أسى:

-لا تخف يا عمي، لم آتيك طلبًا للمال؛ فأمورنا مُيسرة بفضل الله، ولكن لأجل صديقي إبراهيم.

أخذت عيني عمه تجول يمينًا وشمالًا، وهو يُردد في ارتباك:

-وماذا الذي قد يُريده مني صديقك ذاك؟

فتدخل إبراهيم موضحًا:

- حضرتك طبيبٌ، وأمي حالتها سيئة للغاية؛ ويجب عليك أن تأتي معي الآن لإنقاذها، فأسرع أرجوك.

كاد الدكتور فريد أن يتحدث لولا أن قاطعه حسين بكلمات يعلم مدى تأثيرها عليه:

-لديه المال يا دكتور فريد، أعلم بأنك لا تفعل شيئًا بالمجان.

سكت لبرهة ثم وجه نظره إلى إحدى الكاميرات، وكأنما يُحدثها:

-ولا تقلقي يا زوجة عمي، لن آتي إلى هنا ثانية دون ميعاد سابق، وقد لا تطأ قدماي ذلك المنزل قط، فوالله لولا صديقي لما خطوت بتلك الخطوات إلى هنا.

خلف الشاشات أطلت ابتسامة صفراء من ثغرها، فكل شيء يسير فوق هواها، زوجها كعرائس الماريونيت، مسلوب الإرادة ولا يعصي لها أمرًا، فرقت الجمع الكريم منذ قدومها، وتبخر شمل الأحبة، حتى الأم حُرمت من ابنها، فكان الألم جزاء إحسانها، وتتذكر كيف جاءت ردة فعلها، أخذ المشهد يقترب حتى أصبح حاضرًا.

-ابني يا إيمان.. هل من المعقول أن تحرميني منه؟

أجابتها والغرور يملأ فاهها:

-دكتورة إيمان .. لا تتجاوزي حدودك معي أو تنسي الألقاب بيننا.

دارت الدنيا من حول السيدة آمنة، لا تُصدق ما تسمعه بأذنيها، فلم تقو قدماها على حملها، وخاصةً بعد قدومه من الخارج، ودون أن يفهم شيئًا وقف جوار زوجته، وهو يُحدج والدته بنظرة نارية، وخرجت من فاهه ألفاظ نابية، فجاءت فجيعتها لا تُحتمل، أصابها الشلل، وكادت أن تأسرها زوجة ابنها في إحدى الغرف، وهو لا يُحرك ساكنًا، حتى جاء عبد الحميد، حملها بين ذراعيه، وصرخ بهم قائلًا:

-لا أدري حقًا أي قلب تحملون في صدوركم، ولكني والله سأقف لكم بالمرصاد، لن أتركها هنا بين يدي معدومي رحمة مثلكم، هي والله لم تُخبرني بأنها قادمة إلى هنا.

ثم نظر لها بلوم، والدمع يترقرق في عينيه بعد ما رأه كالشلال ينهمر من مقلتيها، وبنبرة حانية مُغلفة بالحزن قال لها:

-كيف طاوعك قلبك لتتركيني يا أمي؟ ابنك بحاجة إليكِ يا نور عيني، وإن ضاقت به الأحوال، ولم يعد لديه زاد يكفيكِ، سأنهش من لحمي وأعطيكِ يا حبيبتي، أنا وابني وزوجتي فداكِ والله يا أمي.

أخذت السيدة آمنة تُقبل ابنها (عبد الحميد) في حب ممزوج بالندم، فهي والله لم تترك بيته بإرادتها، فعلت ذلك كي تُريحه من مسئوليتها، فما يأتي به يكفيه هو وزوجته وابنه بالكاد، ولم ترد أن تُثقل عليه أكثر، على الرغم من منع سحر لها، فهي تُحبها كأم لها، لم تر فيها قط الحماة، وكانت هي أيضًا خير زوجة ابن لها، أسندت رأسها على كتف ولدها، تُخبئ وجهها بين أضلعه، فذهب بها بعيدًا حتى توارى عن أنظارهم، وقد حُفرت تلك الحادثة في ذاكرتهم.

في بيت الحاج محمد النجار..

جاء الجيران على إثر صراخ الجدة، ما زالت ابنتها فاقدة للوعي، ولا تعلم لمَّ تأخر إبراهيم؟ ولا تهتدي لأي باب تطرق؟ وقد كام زوجها يغنيها عن العالمين جميعًا، ولكن رب الرحمة يُقدر ويلطف، هب لنجدتها كل من وصل إليه صوتها، وجاء ابن عمها (رحيم) على عجل رغم بعد المسافة بينهما، يقع بيته في أول القرية، وهم في أخرها؛ ولكن للقلب أمور لا يفهمها العقل والجسد، ولا يعلم بأنه السبب في ما حدث معها.

-رحيم .. أنت هنا .. ساعدني يا بني .. 

هبت السيدة وداد واقفة ما أن رأته أمامها، وكأن السكينة عادت إليها برؤياه، على الرغم بأن ابنتها لم تعد إلى وعيها بعد، إلا أن اطمأنت لوجوده، ملامحه توشي به وكذلك الخوف المنطلق في عينيه يتحدث بالكثير، وفي هذه اللحظة جاء إبراهيم مع صديقه حسين، والطبيب من خلفهم، فأفسح الحاضرون له الطريق حتى أصبح على مقربة منها، طلب منهم الخروج ليفحصها، استجابوا لطلبه على الفور، وألسنتهم تلهج بمختلف الدعوات لأجلها، كم يحبونها! وشعور الآسف يعتمل داخل صدورهم، ما زالت زهرة في ريعان شبابها، وفقدت أنيسها.

انفرجت أسارير الحاجة وداد حين سمعت قوله, وصاحت في غير تصديق:

ـ حامل! ابنتي حامل غير معقول!

الطبيب في ثقة:

ـ نعم, وفي الشهر الثالث من الحمل, ويبدو بأنها قد تعرضت لضط عصبي شديد, مما أدى إلى انخفاض الدورة الدموية, فسقطت فاقدة للوعي و..

ـ هل ستكون بخير يا دكتور؟

قاطعه رحيم في قلق, ولم يُخف عليه ارتباك الحال وزيغ العينين, ربت على كتفه في لطف غير مسبوق منه, ولكن من يدري لعله كان يحمل يومًا بين جنباته قلب إنسان, ولا بد بأن هناك حكاية خلف ذلك التحول.

ـ ستكون بخير إن شاء الله, ويجب عليك أن تهتم جيدًا بصحتها وغذائها منذ الآن.

وجه جملته الأخيرة إليه بنبرة اختلفت كثيرًا عن الأولى, وكأنها لامست عنده جرحًا قديمًا, ثم اختفى من أمام ناظريهم في الحال بعد ما أعطاه روشتة الدواء, ولم ينتظر حتى يأخذ حسابه, مما جعل الريبة تتسلل في قلب حسين, وهمس بخفوت:

ـ كيف ذهب عمي بهذه السهولة؟ لا يُشبه ذاك المرء الفظ الذي أعرفه, فهو لا يفعل شيئًا دون مقابل, ويتحرك دومًا لأجل المال.

ـ ماذا تقول يا حسين؟

انتبه إبراهيم إليه, ولكن لم يسمعه, ليقول له الآخر:

ـ لا شيء يا صديقي, هيا بنا الآن نذهب لشراء الدواء.

ـ أعطني الورقة يا عم رحيم بعد إذنك, أخشى أن تُغلق صيدلية الدكتور محجوب, وحينها لن أتمكن من إحضار العلاج لأمي.

شدَد رحيم على يديه, يُشعره بحنان الأب الذي فقده منذ أسابيع, ولكن إبراهيم كان صغيرًا على فهم مدلول ذلك, والآخر يُردد:

ـ لا تخف يا إبراهيم, أي شيء ستحتاجونه يا بني, سأكون أنا له مُجيبًا.

ذهب رحيم لإحضاره, ووقف إبراهيم مشدوهًا, منذ وفاة والده لم يجد تلك المعاملة اللطيفة, يتعامل معه القادمون, وكأنه رجل آسن, ويجب عليه أن يتولى المسئولية كاملة الآن, شاهدت والدته ما حدث, فقد بدأت تستفيق, وعلى الرغم من أن جرحها ما زال حديثًا, وقد يُبرر ذلك شدة انفعالها عند سماع قول والدتها, إلا أنها الآن ستبدأ في التفكير به لأجل أولادها, وذلك الصغير الذي هو على وشك القدوم.

ـ إبر..ااا..هيم .. تعال إلى هنا يا حبيبي.

هرول إبراهيم نحوها, وارتمى فوقها كالطفل الصغير, اشتاق إلى أحضان أمه, وقد غابت عنه لدقائق معدودة, فما باله بتلك الساعات الماضية التي مرت عليه كَدِهور في ثقلها, وبدا الحمل عليه شديدًا, لاتُعينه ضعف بنيته على حمله, وكيف له بالقيام بأمور الفلاحة؟ فكان ذلك مما جعل والدته تحسم أمرها, ووقع قرارها عليه كالصاعقة.

ـ رحيم قد أخبرتني أمي بطلبك للزواج مني, وها أنا ذا الآن أُخبرك بأنني موافقة.

تفوهت بتلك الكلمات بغتة ما أن رأته أمامها, حيث عاد وهو يحمل بين يديه الدواء لأجلها, ولعله سيكون جديرًا بحمل تلك المسئولية معها, ولا يضطر فلذة كبدها (إبراهيم) إلى تكلف أمرًا فوق طاقته. 


**********


تنقشع غشاوة الماضي, ويعود بنا الزمن إلى الوقت الحاضر, حيث الحاج إبراهيم مرتكزًا بجسده على الأرض, والدمع ينحدر من عينيه كالشلال, كلما حاول النهوض سقط, وانخلعت عنه عباءته, وكأن الأرض تدور من حوله, وزعزعت استقرار الحياة في نظره بتلك الفاجعة, التي لا يقوى قلبه على احتمالها.

ـ يا حاج إبراهيم .. على مهلك .. ستأذي نفسك..

لم يُبال بكلمات حسين (صديقه), ظل يتعثر وانكب على وجهه عدة مرات, حتى أصابته الخدوش في بعض أجزائه, وتخضبت أنفه بالدماء يسيل منها دون انقطاع, وما أن وصل إليها استسلم لهزيمته, وضمها إلى أحضانه في ألم, وهو يصرخ بصوت مكتوم, ضربه رحيلها في مقتل, وأخذ يُناديها في استنكار:

ـ هدى .. يا هدى .. عودي إليَ يا حبيبتي أرجوك, لمن تتركيني؟ فلا قوة لي والله على العيش من دونك.

يد حانية تربت على كتفه من الخلف, وصوت مألوف يُهدأ من روعه:

ـ أمر الله يا بني, اللهم لا اعتراض, وإنا لله وإنا إليه لراجعون.

في تلك اللحظة أدرك الواقع, فقد كان يظن بأنه داخل كابوس مفزع, ويُحاول جاهدًا الخروج منه, ولكن كلمات والدته أصابت الهدف مباشرة, مرر أنامله فوق وجهه يمسح عنه الدمع, ثم نهض وهو يحملها بين ذراعيه في ثبات, وتوجه بها إلى الداخل, ولحقت به بعض السيدات المتطوعات في القرية للقيام بتكريم الموتى من غسل وتكفين لوجه الله تعالى, وقالوا عنها الكثير من المحاسن مما شهدوه أثناء ذلك, وتم تشييعها إلى مثواها الأخير, احتضنها التراب دون استئذان, ولم يمهل زوجها حتى يشبع منها, أو سمح لها بصنع بعض الذكريات مع صغيرتها, التي أصبح اليتم عنوانًا لها منذ الصرخة الأولى.

يجلس الحاج إبراهيم أمام باب البيت واضعًا رأسه على يده, والهم قد أثقله, فبأي قلب سيدلف إلى الداخل, وقد ذهب سنا نورها, وأظلمت الدنيا من حوله, فجاء صديقه حسين مواسيًا:

ـ هون عليك يا صديقي, فهي والله ليست بدارنا, وكل الأحباب راحلة, عسى الله أن يجمعنا بهم في الدار الآخرة.

الحاج إبراهيم, وقد خالطت نبرته البكاء:

ـ قلبي انكسر يا صديقي, وانقصم ظهري, فوالله لم تكن مجرد زوجة, بل خليلة روحي وحبيبة فؤادي, آمنت بي حين كان مستقبلي مظلمًا, رأت النور بداخلي, بل هي من أوجدته منذ مجيئها, وأنت تعلم كم كانت حكايتنا مُعقدة! وعلى الرغم من ذلك ساندتني ووقفت معي في وجه الصعاب, فتجاوزناها معًا, ولولاها لما وصلت إلى ما تراه لدي الآن, كدت أفقد كل شيء في لحظة غادرة.

استشعر حسين عظم الألم في قلبه، فآثر الصمت، لا يُسعفه القول، ولن تُجدي في تلك الحالة كلمات العزاء، فوضع يده على كتف صديقه في حنان؛ ليُكمل قائلًا:

ـ والله لقد أصبحت حياتي خواء، لم يعد لدي ما أعيش لأجله، ويا ليت الموت يتخطفني الآن، فألتقي بها في دار البقاء، حيث لا رحيل ولا فُراق.

ـ وماذا عن سعيد وتلك الصغيرة التي جاءت حديثًا إلى هذه الحياة؟

خرج ذلك السؤال بتلقائية من حسين، فإن كان قلبه يتقطع على صديقه، إلا أن حال أولاده مُثير للشفقة أكثر منه، فقد أصبح هو بمثابة الأم والأب معًا بالنسبة لهم، وأنى له أن يتخلى عن دوره بهذه السهولة؟

ـ سيرسل الله إليهم من يعتني بهم، لن تتوقف الحياة بالنسبة لهم عند فقداننا.

نظر له حسين بلوم، ما لبث أن انتقل إلى نبرته، وهو يقول:

ـ كيف تقول ذلك يا صديقي؟ أنت خير من يعلم بأن الأم والأب لا يُعوضون.

عادت به تلك الكلمات إلى الماضي، فتذكر ما كان في طفولته، ورآه أمام عينه رأي عين، كم كان صغيرًا وقتها! ولا يعرف شيئًا بعد عن صعاب الحياة، ولكن الأحداث باغتته؛ ليكبر قبل أوانه، ظن بأن العم رحيم سيكون بمثابة أب ثانٍ له، وجاء الواقع صادمًا بشكل لم يتوقعه.

ـ ولكنك أخبرتني بأن ستكون خير معين لي أنا وأبنائي.

ضحك رحيم باستخفاف، وهو يقول بنزق:

ـ وهل أنتِ ساذجة إلى هذا الحد كي تُصدقيني؟

نظرت إليه شذرًا، والشرار يتطاير من أعينها، وظهر جليًا في نبرتها:

ـ لا، لست بساذجة والله، ولم أكن أعلم بأنك ماكرٌ إلى هذا الحد، وعزائي الوحيد بأنني فعلت ذلك لأجل صغاري.

ـ لمَ لا تعطينَّي حقوقي إذن؟

سألها في حدة, لتُجيبه في ثبات:

ـ لأنني لا أُحبك، وما زلت على العهد مع زوجي الراحل، وسأظل كذلك حتى ألقاه عند رب العالمين.

انتفخت أوداجه، وكاد أن يفقد أعصابه بضربها، إلا أنه تراجع في اللحظة الأخيرة خوفًا على حدوث مكروه للجنين بأحشائه، بل لأجل محبتها في قلبه، فهو لم يخدعها بوعوده السابقة، إلا أنه أراد إزعاجها فقط حين غلبت عليه حاجته إليها، ما أصعبه من شعور على المحب حين تكون حبيبة الفؤاد بجواره، ولا يأتيها.

صفق رحيم الباب بقوة، وذهب إلى الخارج، ففوجئ بإبراهيم يقف أمامه، وينظر إليه في غضب، يبدو وأنه قد استمع إلى حديثه مع والدته، تشاجر معه لأجلها، فما لبث أن أوقعه أرضًا، فشجت رأسه، وتركه مضرجًا في دمائه، أصبح يمثل بالنسبة إليه وحش كاسر، فحزن رحيم من نفسه، لا يدري ما الذي أصابه في هذه الليلة؟ والتي هي من المفروض أن تكون من ليال الهناء والسعادة، لم يمر على زواجه سوى بضعة أيام، ولكن الرياح جاءت بما لا تشتهيه السفن.

-إبراهيم .. حبيبي .. ما الذي حدث معك؟ ولمَّ لم تُناديني؟

تسأله في لهفة ممزوجة بالخوف، إلا أنه حاول طمأنتها:

-أنا بخير يا أمي، لا تخافي، لقد تعثرت قدماي، ففقدت اتزاني.

-هيا بنا لنذهب إلى الطبيب.

-لا يا أمي، أنا بخير، وابنك سيكون رجلًا يا أمي، والله لن أخلف لكِ وعدي.

انعكس الحزن في عينيها، إذن فقد استمع إبراهيم لما حدث، وتعلم بأن الأمر سيكون وقعه أليمًا على قلبه، وهي التي ظنت بأنها تفعل ذلك لأجل سعادته، إلا أن رحيم لم يكن ذلك النبيل الذي تمنته، لا يُفكر سوى في نفسه، وخدعتها والدتها بكلامها المعسول عنه، فاجتاحها الندم، وأحاط بها من كل اتجاه، ولا تعرف ماذا هي فاعلة بشأن رحيم؟، زاد الطين بلة بزواجها منه، فنظرت إلى الأعلى في ألم، وكأنما تُخاطب السماء، والدمع يهطل بغزارة من مقلتيها، زفرت في يأس، وهي تُردد في قلة حيلة: 

-يا رب.

لم تمض سوى ساعات معدودة، وجاءها الخبر الأليم، أُصيب رحيم في حادث، حيث كان يقود بسرعة جنونية، وانقلبت به السيارة في إحدى الترع، وتم نقله إلى المستشفى العام في حالة حرجة، ولا يتوقف عن ترديد اسمها، يطلب رؤيتها هي وولدها، وما أن ذهبت إليه، وقفت قبالته، اعتذر منها في ندم:

-سامحيني يا أم إبراهيم، يعلم الله كم أحببتك، ولكن لم يمهلني القدر لأُصلح خطئي في حقك، فاغفري لي، وتذكريني دومًا بالخير، هنيئًا لك يا محمد، طبت حيًا وميتًا، فقد رزقك الله بزوجة مخلصة مثلك.

كان يُجاهد لإخراج الكلمات من فاهه، وكأنها تحشرجت في حلقه، ثم وجه كلماته الأخيرة إلى إبراهيم، فكم تمنى أن يكون أبًا صالحًا له! ولكن ساقه الغضب، وأعماه الغرور، فجاءت هكذا نهايته، فاضت الروح إلى بارئها، وشاع في القرية بأن أم إبراهيم نذير شؤم على كل الرجال، فاعتزلها القوم، ولم يعد أحد يجرؤ على الاقتراب من بيتها.

الفصل الثاني من هنا
 

تعليقات



×