رواية أجنبي الفصل الاول بقلم الهام رفعت
تأمُّل الغروب بعد انتهاء اليوم يختلف عن مراقبةِ الشروق، مُواعدتك لمن تحب تختلف عمّن لا تُحب، لا بل من تبغض. مَيل فؤادك للأشياء، لا يُقارَن بميلك وركضك خلف من تريد من الأشخاص. ففي الأولى تفقد اللذة بعد وقت بمجرد حصولك عليه، وماذا عن الثانية؟، هل يحدُث نفس الشيء؟. بالطبع يحدث في بعضِ الأحيان، إن لم تهوَى بحق.
أُناسٌ تغفا في أريحية، في جَمْعة، والآخر وحيد قد استوحش الحياةَ، فتجد نفسك قلِقًا، تختلس من الحظ ما تستطع، وتُجبّر به قلبك الشَقيّ..!
****
تركت ما بيدها ثم نهضت متجهة نحو باب شقتها، بعد أن قررت إشباع فضولها ومعرفة لمن هذه الضجة والثرثرة غير المفهومة. فتحت الباب في حذر وهي تراقب. لاحظت إحدى الجارات مع أخرى تسرد في حزن شيئًا ما قد حدث، أيضًا صعود وهبوط أشخاص من العمارة وخارجها في حالة فوضى تثير الريبة.
اقتربت السيدة زُبيدة منهن مدهوشة وهي تتساءل:
-خير يا جماعة، أيه اللي بيحصل في العمارة؟!.
نظرت لها السيدة أم محمود والتي بدورها شرعت في الرد والأسى يغطي صوتها:
-الست عواطف اللي ساكنة لوحدها في الدور اللي فوق، لقيوها من شوية مقتولة.
انتفض جسد السيدة زبيدة في زعر، جف حلقها من مجرد تخيُلها الأمر، ردد لسانها دون وعي:
-لا حول ولا قوة إلا بالله.
أضافت الجارة الأخرى موضحة:
-الواد حمامة المكوجي وهو طالع عند الحاج كامل لقي باب شقتها مفتوح والقفل مكسور، دخل ولقاها واقعة على الأرض وغرقانة في دمها.
استمعت السيدة لهن بقلبٍ واجف، وملأها الخوف، فقد خشيت أن يحدث لها مثل ذلك، وأثناء حوارهن استمعن لسيارة الشرطة بطنينها المعروف قد أتت، انتبهن لأحد الرجال يخاطب آخرين في حزم:
-كله ينزل، محدش يلمس حاجة الحكومة جت.
توجهت السيدة زبيدة لباب شقتها ثم واربته بقدر يسمح لها بالمتابعة لما يحدث. لمحت الشرطة تصعد للأعلى في جو يملأ القلب خوفًا، مما دفعها لتغلق بابها عليها.
سارت حيث كانت تجلس في الردهة، وفكرها مشغول بما حدث، وأخذت تخمن ما سوف يحدث آجلاً، جلست والخوف في عينيها اللامعة بالدموع، حدّثت نفسها:
-أكيد هيقبضوا على اللي متخاصمين معاها، وأنا إمبارح لأجل حظي المنيل متخانقة معاها قدام العمارة كلها.
بكت بحرقة وهي تتخيل مصيرها لما صار، وضجّت في بؤس:
-فينك يا حسين، فينك يا رامي، فينكم يا ولاد تشوفوا أمكم.......!!
****
انقمع على مصطبة رخامية في إحدى الزوايا أمام ساحة المحكمة؛ مبتعدًا قدر الإمكان عن أشعة الشمس التي أندت ثيابه بفضل عرقه الغزير. حيث وقف ينتظر المحامية لبدء الجلسة، وبالأحرى يستعد لمواجهة الاتهامات التي تقذفها زوجته عليه بالباطل، وبُهِت بالكامل، فقد آلمه قلبه من انقلابها المفاجئ عليه، واعتصر الغصة في حلقه ليُسيغ ما غص به من هموم..
اضطرب حسين فجأة إثر خبطة خفيفة على كتفه من الخلف، جعلته يركز انتباهه على الشخص، فإذا به شاب في مقتبل العشرينات، نهض يخاطبه في قلق:
-كنت فين دا كله؟، فكرتك مش جاي!
رد الشاب في ود:
-مـ.. معقول أ. أتأخر عليك يا أسطى.. حسين.
ربت حسين على كتفه في عشم وقال:
-راجل يا حودة!
انتبه حودة للمحامية تأتي من بعيد فهتف في شغف:
-الـ.. أستاذة. نرجس.. وصلت
دنت نرجس المحامية منهما بطلعة نشيطة، خاطبت حسين في جَد:
-جبت الشهود يا حسين؟!
أشار على حودة قائلاً:
-جبت واحد بس، للأسف التاني جاتله أزمة قلبية وراقد في المستشفى.
رددت وهي متأففة:
-أزمة قلبية!
ثم وجهت بصرها لـ حودة ولم ترتاح لهيئته، زفرت بقوة قائلة وهي تتحرك لداخل مبنى المحكمة:
-يلا بسرعة ورايا، الجلسة شوية وتبدأ...!
لاحقـًا بداخل قاعة المحكمة، سرد حودة ما حدث بطريقة جعلت بعض الموجودين يضحك في صمت، والبعض الآخر وصل لقمة صبره في تحمُّل الاستماع أكثر له وهو يهتف متلعثمًا:
-وك.. ك.. كانت مراتـ ه مع قرايـ بـ ها بيحمـ... لوا العزال.. السـ ا عـ ة واحـ د ة بلـ ليل، وأنـ ا شاهد، شـ وفتهم بعيني.
وقفت المحامية نرجس تكز على أسنانها بقوة، فقد أثار ذاك الشاب حنقها أكثر من القاضي الذي يسأله. التفتت لـ حسين ترمقه في غيظ، تلومه أيضًا على شاهده غير المُفيد، وتمنت أن يأخذ القاضي بقوله، لذا هتفت توضح:
-الشاهد مش متخلف يا فندم، دا عنده صعوبة في النطق من وهو صغير، أرجو من المحكمة تاخد ده الاعتبار.
أومأ القاضي ثم فض الجلسة وقام بإعلان موعد للنطق بالحكم، حين غادرت هيئة المحكمة توجهت نرجس لجمع أوراقها، وحسين من خلفها يخاطبها:
-أيه اللي هيحصل بعد كده يا أستاذة؟!
صمتت للحظات فما حدث قبل قليل أغضبها، هتفت:
-أنا عملت اللي عليا، إنما سيادتك هتبوظ كل حاجة، جايبلي واحد مبيعرفش ينطق كلمتين على بعض وعاوزوه يشهد.
-ما هو ده اللي شاف كل حاجة.
تأملت عن كثب وجه حسين وأشفقت على حالته:
-إنت يا حسين بدون مبالغة حظك زفت، مراتك طفشت منك وسرقت جهاز البيت، والشهود اللي شافوا الواقعة، واحد على مشارف الموت والتاني أخرس.
تضايق حودة من وصفها له وود أن يعنفها؛ إلا أنها رحلت، ثم في جهامة ربت على كتف حسين يواسيه:
-غـ غصب عنـ ي يا أسطـ ي حسين، أنا جـ يت معاك وشهـ دت
تصنّع حسين الابتسام وهو يمدحه:
-إنت عملت اللي عليك يا حودة وأنا مقدر تعبك.
ثم تطلع حسين أمامه في شرود وما قالته المحامية يعود لمسامعه:
-أنا حظي وحش، الدُنيا مدياني ضهرها.....!!
****
انتظر فقط لوقتٍ قليل ثم وجدها تدلف مع بعض زميلاتها، ابتسمت حين رأته وفورًا كانت تستأذن منهن وتركض ناحيته، خاطبته في ود:
-استنيت كتير؟!
-لا مش كتير.
سارا معًا ناحية باب الجامعة وهما يتبادلان الأحاديث، ثم توجها نحو الحافلة، صعد رامي أولاً ليجد لها مقعدًا مناسبًا، حين وجد أحدهم شاغرًا دعاها للجلوس فابتسمت ممتنة، وقف هو أمامها وانطلقت الحافلة، وانقطع حديثهما..!
بعد عدة دقائق توقفت الحافلة حيث موقف السيارات، لركوب مواصلة أخرى، فلبُعد الجامعة عن البيت يضطرا للركوب مرتين. وهنا يمكنهما التحدث، فسوف يجلس بجانبها، حيث حين ركبا الـ (الميكروباص)، سارع رامي في التحدث معها قائلاً:
-بدأت انزل شغلي على النت، وفيه ناس عجبها اللي بعمله.
نصحته في محبة:
-الطريق ده أخرته وحشة، وفيه ناس بتستغله غلط.
-أنا عارف ربنا كويس، وكمان هعمله للناس اللي تستاهل، ودي حاجة بفهم فيها وبعملها بحب.
ابتسمت ورد له وهتفت:
-ربنا يوفقك، إنت ذكي وشاطر، أنا زمايلي مصدقوش إن الفيديوهات بتاعتك تركيب من الاحترافية اللي بتعملها.
بدا عليه قلة الحيلة وهو يقول:
-المهم إن فيه فلوس باخدها وبتساعدني في مصاريف الجامعة، مش معقول هشيّل حسين همي، هو مش ناقص، كفاية اللي هو فيه.
انجلى التكشُّر على تعابير ورد وهي تتذكر حالة حسين المتدهورة بسبب زوجته وما فعلته معه، وبدأت في الشرود والتفكير فيه حتى وصل (الميكروباص) بهما للحي، وترجلا منه.
وهما يقفان منتصف الطريق لاحظوا رجال الشرطة هنا وهناك، فأصيبت ورد بالدهشة واستفهمت:
-أيه اللي حصل، الصبح كانت الحارة رايقة؟!
حين تمعنت النظر فيما يحدث تابعت:
-دول عند عمارتكم يا رامي
قلق رامي وأسرع خُطاه ناحية العمارة، وبالطبع لم تتركه ورد وسارت خلفه لتفهم الموضوع.....!!
****
في منزل حُسين..
بات في موضع لا يُحسد عليه، فالمشاكل تتراكم عليه من حيث لا يدري، فلم ينتهِ بعد مما كان فيه، لتأتي والدته بالأفظع حين أخبرته. وجًه حسين نظراته إليها وعاتبها:
-يا أمي كذا مرة أقولك ملناش دعوة بحد، أنا لسه جاي من المحكمة، هروح تاني في قضية تانية.
هبت تدافع عن نفسها:
-أنا معملتش حاجة، الكلب بتاعها قارفني وقولتلها هـ...
ترقًب حسين بقية حديثها الذي بترته، وقرّب وجه نحوها ليسحب الكلام منها، فتابعت في تردد:
-قولتلها هقتلك الكلب.
-تقومي تقتليها يا أمي!
صاح حسين بذلك في تيه من أمره، فاغتاظت والدته منه وهتفت لتُعنفه:
-إنت شكلك اللي هتلبسني مصيبة، هو أنا أقدر أقتل فرخة يا بختي المايل إنت.
-أومال خايفة كده ليه وبترتعشي؟!
سألها متعجبًا من أمرها، فردت في أسى:
-ما هما ممكن يتهموني بقتلها، أصل محدش اتخانق معاها غيري
انتبها الاثنان لولوج رامي ومعه ورد، فجذّا حديثهما، وجلست السيدة دون كلمة.
تساءل رامي في فضول وهو يقترب منهما:
-أيه يا حسين، الحكومة في العمارة ليه؟
خطف حسين نظرة لوالدته التي أخفضت رأسها، ثم رد عليه باقتضاب:
-دا الست عواطف اللي فوقنا لقيوها مقتولة
كغيرهم ممن استمعوا للخبر، أصبحوا في حالة صدمة وقلق معًا، فاستفهمت ورد بحالتها المفزوعة:
-مين دا اللي قتلها؟!
تردد حسين في الإسهاب في شرح الأمر؛ أو من عدمه، رد في عدم اهتمام مصطنع:
-منعرفش حاجة، لسه الحكومة هتبحث وتعرف....!!
****
-هيروح فين اللي عمل كده، مسيره يتقبض عليه!
كان ذلك رد الحاج منصور الذي يُبدل ثيابه على سؤال زوجته عن جريمة ليلة أمس. رتبت السيدة هنية ملابسه بالخزانة وهي تردد ما يقوله أهل الحي:
-بيقولوا القاتل سرق فلوسها ودهبها، بس فيه حاجة تحيّر.
قالت جملتها الأخيرة في استنكار، لتتابع مرمى حديثها بـ:
-لو قاصد يسرقها بجد، كان وهو بيقتلها كمل جميلُه وسرق الدهب اللي لبساه، معقول مخدش باله وهو بيقتلها.
انتاب الحاج منصور الحيرة أيضًا، لكن للحظات قليلة، حيث هتف في ضجر:
-ملناش دعوة طالما أحنا بعيد، قومي جهزي الغدا زمان بناتك رجعوا..
هتفت لتُصدمه بما علمت به:
-ملناش دعوة إزاي، دي أختك امبارح متخانقة معاها، مش بعيد يتهموها...!
في غرفة البنات..
-الناس ملهاش سيرة غير الجريمة اللي حصلت
خاطبت رشا الابنة الصغرى أختيها، ومن الواضح عدم مبالاتهن بالأمر، حيث انشغلت الأخت الكبرى شهد بالعبث في أغراض حقيبتها، كذلك ورد التي تقف أمام الخزانة تبدل ثيابها، وحين انتهت التفتت لـ شهد تتحدث معها:
-عملتي أيه في موضوع عادل، قولتي لبابا رأيك؟
تأففت شهد بصوت مسموع، ومن هيئتها أبانت عدم رضاها عن الأمر. ابتسمت ورد في تهكم وتابعت:
-كنت عارفة إنك مش هتوافقي، أنا عارفة إنتِ عاوزة عريس عامل إزاي.
لم تعلق شهد واكتفت بتجاهلها، وذلك لم يزعج ورد، التي قالت وهي تغادر الغرفة:
-يلا علشان نجهز السُفرة!
حين خرجا أختيها، تركت شهد ما بيدها، وبدا فكرها مُترع بأمرٍ مُغاير، ما جعلها لم تبالِ بحديث أختها معها، وبحنكتها سيّجت ما مرت به اليوم في المشفى بتعامُلاتها السابقة في أمورٍ كهذه، حدّثت نفسها في جموح:
-فيها أيه لو عملت كده، على الأقل هطلع بقرشين حلوين....!!
****
في صباح اليوم التالي..
لخوفه الشديد على والدته ومحبته الجارفة لها، أخذها بنفسه لمخفر الشُرطة، وأخبرتهم السيدة بكل ما لديها من أقوال، وتم إخلاء سبيلها بمحل إقامتها.
عاون حسين والدته على هبوط الدرج، فنظرت السيدة زبيدة حولها متضايقة من نفسها، خاطبت ابنها نادمة:
-سامحني يا حسين، عُمري ما اتخيلت إنك في يوم تاخدني من القسم
-فيه أيه يا ماما، هو أنا مخرجك من قضية لمؤاخذة.
استنكر ما تقوله، فوقفت السيدة محلها وعلى طلعتها شيء من الخوف:
-ممكن القاتل ده يرجع ويفكر يقتل حد تاني، ومش بعيد أكون أنا، ما أنتوا كتير بتسبوني لوحدي.
ضم حسين والدته لأحضانه وهتف:
-ربنا يحميكِ يا أمي، دا أنا أقلب الدنيا لو حصلك حاجة.
أخذ حسين والدته في سيارته البسيطة للغاية، وانطلق بوالدته حيث بيتهم...!!
****
في الورشـة..
مر قُرابة الأسبوع ولم يتناسى أحد ما حدث؛ رغم عدم ذكرهم للأمر، وبمعنى آخر التهوا في أشغالهم، فالتفكير في هذه الجريمة يثير الخوف في نفوسهم. بالأخص حسين الذي خرج لعمله اليوم وترك والدته، فقد ظل فكره مشغول بها، كون القاتل لم يتم كشف هويته بعـد.
وهو في أوج انهماكه في تصليح إحدى السيارات، رن هاتفه المحمول، ترك ما يفعل وسحب قطعة القماش يمسح يده.
لم يصدق عينيه وهو يرى اسم زوجته على الشاشة وتتصل به. ابتسم متأملاً أن تخبره برجوعها عمّا تفعل، ثم أجاب في انشراح صدرٍ عليهـا..
-منى!، أنا مش مصدق إنك...
لم تجعله يُكمل وصلة محبته وشوقه لغيابها، فقاطعته بنبرة جعلته يمحي آماله:
-أنا بكلمك علشان ماليش في جو المحاكم، وعاوزين نخلص الموضوع من غير شوشرة.
غصّ من كلامها الموجع وكبت مشاعر استيائه، رد:
-إنتِ اللي سرقتي كل حاجة في الشقة، وروحتي بلغتي إن أنا اللي واخدهم، إنتِ اللي بدأتي
ردت بطريقة فظة فاجأته منها:
-شوف يا حسين، إحنا مش لبعض، وحياتي معاك مش هقدر استحملها.
-وتلت سنين حب، راحوا فين؟!
سألها بنبرة لائمة، ظنها سوف تلين قلبها؛ لكن صدته في تجبُّر:
-كلام فاضي، أنا لازم أعيش مع اللي يقدر يحقق كل اللي أنا عاوزاه، وإنت على قدك، وكنت غلطانة.
أغمض عينيه وقد اعتصره قلبه من حديثها، ودون أن يستمع أكثر أغلق الهاتف. ثم تفاجأ بمن خلفه وكان قد استمع دون قصد لحديثه، تدخل الحاج طه وقال مترددًا:
-معلش إني بدخل، إنت صعبان عليا يا حسين يا ابني، هي باعتك وسرقت بيتك اللي تعبت علشان تجهزه، دي ميتبكيش عليها.
-أنا لسه بحبها.
فشل حسين في تخبئة ما يضمره للأخيرة؛ رغم ما اقترفته بحقه، فنصحه الحاج طه:
-الحب مش عيب، بس فكّر في مصلحتك، لازم تشوف مستقبلك، مش هتفضل قاعد كده تندب حظك.
أومأ حسين في طاعة ليخبره بأنه سيفكر بالأمر، فابتسم الحاج له وتساءل:
-العربية بقت جاهزة؟!، أصل ورايا مشوار كده....!!
***
ولجت الغرفة خلف أختها وهي ترمقها في خبث، فقد كشفت أمرها من حديثها عن ابن العمة وتدخلها في مشاكله. جلست ورد على المكتب الصغير بالغرفة تجمع بعض كُتبها الخاصة، ولم تلاحظ دُهمة نظرات أختها نحوها، حتى نطقت الأخيرة:
-إنتِ عاوزة أيه من حسين؟!
انصدمت ورد من سؤال أختها غير المريح، استفهمت:
-قصدك أيه؟
-قصدي واضح يا ورد، مالك ومال حسين، دا واحد متجوز، وممكن يرجع لمراته.
لم تأنس ورد بحديث أختها، وفطنت معرفتها بميلها إليه، ابتلعت ريقها تبرر:
-كل الحكاية إن حسين طيب واللي عملته مراته حاجة ميتسامحش عليها، دي هانته ومش أول مرة.
تهكمت شهد من ردها ولم تقتنع بالتأكيد، في ظل اهتزاز نظرات ورد، التي أعربت ما بداخلها. دنت منها شهد وعليها علامات من الود، وحملت نبرتها التعقّل وهي تخاطبها:
-ورد، ابعدي عن حسين، بابا بيشوفله حل ويمكن يرجع لمراته، حسين بيحب مراته وكلنا عارفين ده، ووقتها هتخسري.
تأثرت ورد بكلام أختها، ولتبعد شكوكها فيها كذبت:
-على فكرة إنتِ فاهمة غلط، هو علشان واقفة جنبه هتفكري كده
تركتها شهد ولم تضغط عليها، فقالت في لُطف:
-أنا بس بقول كده علشان إنتِ أختي الصغيرة، ولسه مش عارفة حاجة، أنما أنا كبرت ومر عليا كتير
لم تعلق ورد واكتفت بالنظر إليها، فتوجهت شهد لتحمل حقيبتها و(كيس) كبير نسبيًا لونه أسود، غير معلوم ما به، قالت لتودعها:
-أنا هروح المستشفى، طلبوني من شوية.
غادرت شهد وتركتها تفكر في حوارهن، وعلى النقيض فقد قلقت ورد مما قالته لها أختها، رددت في وجل:
-معقول يرجع مراته بعد اللي حصل بينهم......!!
****
على المائدة، كانت تهتم به أكثر من السابق، تجعله بقدر الإمكان لا يتضايق ببُعد زوجته عنه، فهي والدته ومَن تدرك بمفردها ما يَمُر به ابنها الآن.
فكرت السيدة زبيدة في شيء، واعتزمت إخباره ريثما يفرغ من طعامه. في حين التفت حسين لأخيه رامي يسأله مهتمًا:
-مبقتش تطلب مني فلوس زي الأول يعني، أوعى تكون مكسوف مني!
ابتسم رامي من لُطف أخيه قائلاً:
-أنا عارف بتتعب قد أيه، حتى بعد ما اتجوزت وإنت بتصرف علينا.
-دا واجبي، وإنتوا في رقبتي.
ربتت السيدة على ظهره مسرورة بكلامه، بينما هتف رامي موضحًا:
-أنا دلوقتي بعمل شغل على النت وبيدخلي مبلغ يكفيني
-يكون حاجة محترمة يا رامي.
بسبابته نصحه وحذّره حسين في ذات الوقت، فأكد رامي له:
-طبعًا، دا شُغل فوتوشوب وتركيب فيديوهات، وعجبت كمان الأجانب، لدرجة واحد منهم بيكلمني ومعجب بيا قوي
تفاخر حسين بأخيه وأسعده ما يفعل، بينما قالت الوالدة بمناشدة:
-ربنا يحميك يا حبيبي، إنت وأخوك، والله وعرفت أربي
مررت نظراتها عليهما في تباهٍ، ثم نهض رامي كونه لديه بعض المهام الدراسية ثم غادر حيث وجهته، فجاء وقت فتح السيدة الحديث مع ابنها حسين.ترددت في البداية؛ لكن ماذا عساها أن تفعل، تشجّعت وخاطبته:
-أنا مش عاجبني حالك ده، لازم تلتفت لنفسك.
أدرك حسين مقصدها قائلاً:
-إن شاء الله الموضوع هيتحل، فيه ناس بتدّخل في الموضوع ومنى هترجع.
-إنت شاغل بالك لسه بيها، يا ابني حرام عليك نفسك.
نهرته بطلعة غاضبة من محبته الزائدة للأخيرة، فنظر حسين لوالدته جاهلاً مرمى كلامها. قالت السيدة في حزم:
-إنت لازم تتجوز.
ابتسم بسخرية من اقتراحها هاتفًا:
-حتى لو اتجوزت، ما خلاص يا أمي، الشقة اللي كنت فيها بقت فاضية من كل حاجة.
-منها لله الحرامية دي هي وأهلها، قعدت أقولك اتجوز معايا هنا.
وجدت السيدة نفسها تعكر مزاجه أكثر من اللازم، فغيّرت طريقتها للهدوء وابتسمت قائلة:
-بس إحنا فيها، هجوزك واحدة هتعيش معانا هنا، وهي منا وعلينا.
قطب جبينه مترقبًا مَن تقصد، وأسدلت السيدة الستار عمّن أرادتها زوجة له، هتفت في حماس:
-أيه رأيك في شهد بنت خالك، فكر ومتستعجلش.....!!
***
كان لتلبية ندائه غرض آخر من جانبها، وذاك ما دفعها لتركض هكذا مستجيبة له في التو، وقطعت المسافة بين منزليهما في ذات الحي في غضون ما يقارب الدقيقة. وحين شرعت في صعود الدرج للشقة توقفت في المنتصف فجأة مُغتمة، وقد ذابت أمانيها، وذلك حين رأت أمامها من تتوقت لرؤياه يهبط الدرج أمامها، ثم تنهدت في يأس..
حين وصل إليها خاطبها في هدوء:
-صباح الخير يا ورد!
لمحت في عينيه ضيق واغتمام كبيرين، وسريعًا ما تفهّمت سببه، ردت ببسمة صغيرة:
-صباح الخير، إنت خارج ولا أيه؟
قال بضيق صدر:
-أيوة، المحامية طالبة تشوفني ضروري.
لعنت بصوت مسموع وهي تذم زوجته علنًا أمامه:
-منها لله، كل اللي إنت فيه ده منها، هو فيه واحدة تطول تبقى مراتك، دا إنت سيد الناس.
ابتسم في امتنان وقال:
-ربنا يجبر بخاطرك يا ورد
لم تتمادى ورد أكثر؛ كي لا تلفت انتباهه بمدى اهتمامها به؛ أو أنها تكن له شيء ما، ثم وعيت له يخاطبها:
-يلا سلامُ عليكم!
-وعليكم السلام!
قالتها في ود وأعينها كانت تتابعه أثناء مروره من جوارها؛ مكملاً هبوط الدرج، فزفرت في ضيق وغمغمت:
-وأنا اللي جيت جري علشان أشوفك، تقوم تمشي!
تباطأت بعكس السابق لتتابع تدرجها للأعلى وهي تجر أذيال الخيبة. وفور وصولها للشقة مرقت على الفور، حيث تركت عمتها الباب مفتوح. أثناء تقدمها للداخل وجدت عمتها على طاولة الطعام ومعها سيدة تبدو غريبة عن المنطقة، لم تستفهم عنها وبالأحرى لم تهتم، فلا شأن لها، بل خاطبتهن وهي تتحرك ناحية إحدى الغرف:
-سلامُ عليكم، صباح الخير يا عمتي!
انتبهت لها العمة وردت بإشراقة:
-صباح الورد يا ورد!
ثم عادت العمة تولي انتباهها للسيدة، همست لها في شغف:
-يلا كملي شايفة أيه قدامك؟!
تمعنت السيدة النظر للفنجال وركزت نظراتها جيدًا، قالت بنبرة مريبة:
-ابنك أهو ظاهر قدامي مهموم، وفيه واحدة واقفة قدامه، باين هي السبب في ضيقته دي.
شهقت السيدة وهي تقول في خوف:
-يا حبيبي يا ابني، منها لله تلاقيها مراته، أشوف فيها يوم.......!!
****
جلست ورد على مقعد مجاور لـ ابن عمتها رامي، الذي يقاربها في العُمر، والذي بدوره هو من طلب مجيئها، قالت وهي تحدق بشاشة الحاسوب:
-يعني هو قالك إنه جاي قريب؟!
رد في تأكيد وهو يشير لها للرسائل المتبادلة بينهما:
-قدامك أهو كلامه معايا، خلاص قرر ينزل يزور مصر.
تهللت ورد وظهر ترحيبها بذلك، هتفت:
-والله وهيبقى عندنا أصحاب أجانب، لا وهيجوا عندنا كمان.
ثم صفّقت مُعربة عن فرحتها الكبيرة، فقال رامي بطلعة مكتربة:
-وإنتِ يعني شايفة البيت يليق قوي بحد، أنا خايف يطفش لما يجي ويشوف العيشة دي.
هتفت في استنكار شديد:
-هو دا اللي عندنا، إحنا مقولنلوش إننا عايشين في قصر.
نظر لها رامي في قلقٍ وقال:
-طيب وماما وحسين، تفتكري هيخلونا نستقبل حد هنا، دا العيشة على القد؟!
لم تفكر في ذلك من قبل، كونها تفهمت العكس، قالت:
-المفروض دا أجنبي، يعني هيكون معاه دولارات، دا هو اللي هيصرف علينا.
رد معترضًا وقد اندهش من تفكيرها:
-دا ضيف عندنا يا ورد، مينفعش اللي بتقوليه ده.
تجاهلت ورد كل ذلك ولم تبدي اهتمام، بل صبت كامل فضولها وهي تستفهم:
-طيب ما بعتلكش صورة ليه، هموت وأشوف الأجنبي ده......