رواية اشتد قيد الهوي الفصل الاول بقلم دهب عطية
الجروح القديمة تجف مع مرور الوقت تاركة ندوب كالوشوم تذكرنا بِمَا عاصرنا..أما الندوب التي يسببها الماضي توشم في الروح بجراح
لا تلتئم باقية و وجيعتها حية وكلما حاولنا النسيان داهمتنا بضراوة حتى في منامنا فكيف يكون الخلاص من قواتم الماضي والجروح الناتجة عنه !....
__
المقص يسير في إتجاه معين على حسب مقياس محدد يشق القماش بدقة وكأنه يعبر دروب الحكاية حكاية بدأت من هنا ثم تركت النهاية مفتوحة له
حتى يُخطّ هو بتفاصيلها ويضع نهاية تلائمه !
الصوت اشبه بقطرات مطر شديد يضرب نافذة زجاجية في ليلة عاصفة ، تتحرك الإبرة فوق القماش بايقاع لا يُخطئ وكل درزة تنتج خلفها شكلا متقن مستقيم يحكي عن صبر صانعها ومدى شغفه بحياكة الثياب بكل انواعها.....
على نحوٍ مفاجئ شعر بوخزة في يده فنظر جافلا الى ما يحدث ليجد الشفرة تعبر على يده بقسوة بدلا من القماشة التي كان
يحيكها منذ قليل...
المشهد تبدل بصورة دموية فأصبحت يده أسفل إبرة الحياكة تعبر بقسوة بين جلده
وهو غير قادر على رفعها وكأن جسده بأكمله شلَّ ،بينما الدماء تتدفق بقوة مفجعه وعينيه تعكسان الحدث بشعور الهول.....
وصوت المكينة مستمر صوتها يعلو....يعلو بصورة مفزعة وكأنها طبول الحرب تعلن انهُ إنتهى وستبتلع المتبقي منه تحت شفرتها المدببة !.....
ومن بين الكابوس الدموي اخترق أذنيه
صوتٍ مزعج هزلي يهتف بكلمات غريبة
جعلت حاجبيه ينعقدان منزعج من الصوت الذي أيقظه من كابوسه الدموي ؟!...
فلم يكن كابوسًا بل لحظات عاشها بنفسه
مع اختلاف التفاصيل !.....
صدح صوتٍ لبوق عالٍ مزعج مما جعله يفتح عينًا واحده ويسترق السمع الى مصدر الصوت
الذي ياتي من هاتفه كما توقع !!....
تافف وهو يغلق الهاتف ويستوي جالسًا على الفراش بآرق ينادي بصوتٍ حانق.....
"نهااااااااااااااااااااد..."
فُتح الباب وطلت شابة جميلة تنظر إليه بشقاوة قائلة.."بتنادي يابوب....."
سالها بغيظٍ.....
"انتي نهاد......نديلي الهانم التانية......"
امتقع وجه الشابة باستياء معترفة....
"الله بقا ماهي في الحمام وقالتلي روحيلوا
على انك أنا....هو انت علطول قفشنا كده
ياجدع أنت......إيه دا.. دي امك بتتلغبط بينا..."
تافف مزمجرًا......
"ندى.....انا على أخري......وصاحي قرفان...."
قالت ندى بتهكم...
"من امتى بتصحى رايق أصلا....."
ثم نظرت من الباب المفتوح وصاحت
"تعالي يانهاد.....لحسان مدخلتش عليه كالعادة..."
دلفت بعد ثواني من الباب شابة طبق الأصل منها متشابهان في الشكل والحجم يصعب التفريق بينهن ولكن المقربين فقط يجدون عدة اختلافات وفرق شاسع بينهن.....
"في اي يا أيوب؟....بتزعق ليه على الصبح؟..."
سألها أيوب وهو يبعد الغطاء عنه....
"مش انا قولتلك اظبطي المنبه قبل ما أنام.."
قالت نهاد ببراءة..... "وعملت كده فعلا....."
صدح الهاتف مجددًا بالنغمة السخيفة فاشار لها بنظرة حادة قائلا.....
"ودي نغمة تحطيها.....عشان تصحيني؟!..."
قالت بإبتسامة صفراء....
"دي النغمة اللي بحطها لنفسي....وبعدين مالوا
مارد وشوشني؟....."
"انا غلطان أصلا اني قولتلك اعملي حاجة....
بكلم عيلة...."قالها وهو يخرج من الغرفة متجهٍ الى الحمام.....
قالت من خلفه بترفع انثوي.....
"العيلة دي كلها كام سنة وتتخرج وتبقا
دكتورة قد الدنيا....."
ثم نظرت الى توأمها قائلة....
"بذمتك النغمة فيها حاجة ياندى...."
قالت ندى بمناكفة....
"بصراحة بصراحة....انتي مش نافعة في حاجة..."
صفعت كتفها قائلة....
"يعني انتي اللي نافعه اخر مرة ظبطي
ليه المنبه حطيتي سرينة المطافي...."
قالت ندى بفخر.....
"بس يومها صحي منطور من على السرير...افتكر البيت بيولع....."
إبتسمت نهاد وهي تتذكر الموقف لطالما كانا
مصدر ازعاج كبير لاخيهم الأكبر وكثرة مشاكلهن ومقالبهن السخيفة بنسبة له اما بنسبة لهن فهي الاظرف والامتع بينهن
"طب يلا نروح نساعد ماما لحسان تولع فينا
انا وانتي....."
سالتها ندى بتذكر....
"مش هتكلمي ابرار.... على خطوبة لمياء
عايزين نحضر لها....ونجيب فساتين.. "
سالتها نهاد بتشكيك....
"انتي معاكي فلوس؟!....."
هزت ندى راسها مصرحة ببساطه...
"لا ناخد من أيوب...."
رفضت نهاد بحرج قائلة بحزم...
"يابنتي خلي عندك دم هيكفينا منين ولا
منين.....كفاية درستنا اللي متكفل بيها من
يوم ما وعينا على الدنيا...."
زمت ندى فمها بوجوم....
"أيوا يعني احنا هنحضر بإيه...."
اخبرتها نهاد بجدية يشوبها الشدة....
"بالموجود....بالموجود ياندى.....يلا بينا عشان نلحق نفطر وننزل للجامعة..."
خرج أيوب من الحمام وهو يجفف وجهه بالمنشفة الملتفه حول عنقه راى والدته
تنتظره على طاولة الإفطار والفتاتان
ياكلوا واقفين على عجلة كالعادة....
قالت الأم بزفرة استياء....
"قعدوا كلوا.....اللقمة هتتهضم إزاي كده...."
اجابوا سويًا بنفسًا واحد.....
"متأخرين ولسه..... هنعدي على أبرار......"
"انتوا علطول متاخرين...."قالها أيوب وهو يميل على امه مقبل كتفها....
"صباح الخير يا صفصف......"
إبتسمت والدته(صفية)وقالت بمحبة...
"صباح النور ياحبيبي....اقعد افطر قبل ما
تنزل انت كمان....."
جلس أيوب مستجيبًا لها وهو يبدأ بتناول الفطور بينما جلست صفية بالقرب منه على
المقعد هامسة بحرج....
"أيوب كنت عايزة أقولك على ا....."
وقبل ان تكمل اخبرها وهو يمضغ الطعام
بهدوء..
"على الجمعية حطتها في درج الكومدينو...
انا عارف معادها.... بس اتأخرت اليومين دول
عشان اجمعها.... ما انتي عارفه السوق مريح
حبتين.... "
قالت صفية بعيون لامعة بالامتنان...
"ان شاء الله ربنا يخليك ليا ويرزقك من فضله....وتفضل سندنا وضهرنا.....معلش انا متقلة عليك بس انت عارف لم نقبضها
هتسد من اللي علينا..."
قال أيوب بتفهم حاني.....
"متشليش هم يا صفصف......مستورة والحمدلله....."
"احنا ماشيين....."
تحركا التوأم نحو الباب فقال أيوب بتشكيك
وهو يوقف تحركهن.....
"ماشيين كده من غير المصروف...تتحسدوا
ولا تكونوا بتحوشوا من ورايا ؟!...."
استدارت اليه ندى قائلة بتنهيدة..
"ياريت دا حتى الموصلات غليت والشاورما
في العالي....."
لكزتها نهاد بنظرة صارمة....فتراجعت ندى
قائلة بصعوبة....
"قصدي مستورة........ والحمدلله....."
أشار لها أيوب وهو يخرج المال من جيبه....
"تعالي ياحاجة مستورة خدي مصروفك...."
تقدمت ندى منه سريعًا تخطف الاورق
من يده......
"حبيبي من يد ما نعدمها.....عقبال ماتنزل بالزيادة......"
بدأت تعد المبلغ قائلة بلؤم....
"هي صحيح هتنزل امتى؟!....."
هز أيوب راسه مبتسمًا...
"أهوه ادعيلنا بتساهيل....."
قالت صفية بتوبيخ....
"من يومك ياندى لمضة وعينك فرغه....
مجتيش حاجة جمب نهاد...."
قالت ندى بملامح متجهمة....
"ايوا قعدي دفعيلها...دفعيلها...ماهي الدكتورة
لكن انا مش عجابكي....الكلية بتاعتي مش جايه معاكي سكه...."
لوت صفية فمها مصرحة.....
"ولا عمرها هتيجي ياختي قال رسامة قال
بعد دا كله.....ترسمي لوح ومليه اوضتك
كركيب.."
قالت ندى بفخر وهي تدس الاموال في
جيبها....
"الرسم ده فن هادف....بالك انتي لو اتعرفت يام أيوب.....هكسر الدنيا هيبيعوا لوحاتي في
افخم المعارض في مصر وبرا مصر....."
قالت امها متنهدة..... "طيب ام نشوف....."
نظر ايوب الى نهاد بمزاح...
"وانتي مش ناوية تيجي تاخدي مصروفك
يامارد وشوشني...."
"ما خلصنا بقا ياايوب....."قالتها نهاد بحرج
وهي تقترب منه وتاخذ المال....
"خلصنا فعلا...اللي يطلب منك حاجة تاني.."
ثم مسك نصف البيضة المسلوقة وقضم منها
ليشعر بشيءٍ مطاطي أسفل أسنانه أخرج ما بفمه بملامح منكمشة بالقرف ليرى بين اصبعه صرصور أسود لعبة مطاطية الملمس......
"ندااااااااا...........نهااااااااااااا........."
وجدهن يخرجوا من باب الشقة بسرعة خائفين منه.....
فضحكت والدته وهي توقفه عن اللحاق
بهم.....
"خلاص يا أيوب.....سيبهم لما يرجعوا انا
هشدلك ودانهم....."
زمجر بحنق من افعالهن
الشيطانية.....
"عيالك خدوا عليا أوي...."
لكزته امه بمحبة قائلة....
"ياواد بيحبوك....وبيحبوا ينكشوك....هما ليهم مين غيرك بعد أبوك الله يرحمه.....دا انت اخوهم... وابوهم.... وصحابهم.....ربنا يخليك ليهم يابني..."
مالى على يد امه قائلا بحنو....
"ويباركلي فيكي يا صفصف....وميحرمنيش
منك ابدا...."
فإن سألتني وماهي أثمن الأشياء لديك
أخبرك أمي...
وماذا بعد ؟!....
وجه امي... ضحكات امي... حضن أمي
دعاء أمي.....وجود امي....امي هي الحيآة
وانا مستمر لأنها بها.....
................................................................
خرج من باب الشقة وهبط على السلالم المتهالكة وهو يمرر اصابعه على شعره الأسود الغزير ويطلق صفير من بين شفتيه بلحنًا شعبيًا قديم.....
"سي أيوب.....الحمدلله اني لحقتك...."
اليوم بدأ بوجه السيدة (هنادي)يتوقع انه سيكون يومًا حافل في العمل مابين جدال
الزبائن على عشرون جنيهًا خصم على قطعة
ملابس او ضريبة سيدفعها لرجال الحي
حتى يتركوا له البضائع يبيعها بسلام......
نظر اليها بعيناه السوداء عيون رغم حدتها
تلمع بالعبث الصريح....
وكأنه لا يفعل شيءٍ إلا اللهو مع جنس
حواء....
لكن في الحقيقة حياته رتيبة لا يعرف من النساء إلا والدته والتوأمان والسيدة هنادي
بالطبع...
وقف أمامها بطوله الفارع والجسد الرياضي
شاب يضخ رجولة وشباب في كل شبرًا منه
فـتذوب تلك السيدة الاربعينيه مسلمة الرايا ؟!....
"صباح الخير ياست هنادي....."
"صباح الورد يا أجمل ما رأت عيني...."
قالتها هنادي بإبتسامة لعوبة وعيون ترسل
رسائل غرامية وقحة....
ابتسم أيوب وهو يعرف ان أزمة منتصف العمر تخرج عليه هو دون غيره !.....
"خير ياست هنادي.... في حاجة اصل انا متأخر....."
قالت بصوتٍ ناعم مائع....
"انت علطول متأخر كده... ما تدخل اعملك
لقمة...."
رفض دون النظر اليها....
"كلت مع امي واخواتي.....ربنا يجعله عامر.."
قالت السيدة بصوتٍ متلجلج وكأنها
تألف حكاية للتو.....
"طيب انا كنت عايزاك...تشوفلي حد يصلح التكييف ما انت عارفني وحدانيه واخاف
اجيب حد هنا وانا لوحدي.... فقولت لو تعرف حد مضمون تيجي وتوقف معاه.... "
اوما أيوب بغلاظة....
"من عنيا ياست هنادي....انتي زي امي...."
رفعت شفتيها للأعلى...... "أمك ؟!!!...اخص عليك....."
أخبرها أيوب بلؤم....
"مش قصدي في سن....قصدي معزتكم واحده......دا انتي اللي مربياني...."
"مانا لو مربياك مش هتقول كده.. عمتًا انت
الخسران....."
اغلقت الباب في وجهه دون مقدمات فرفع
أيوب حاجبه وعلت ملامحه امارات الضجر
الى متى سيتحمل تقلّبات السيدة هنادي
وحركات الاغواء التي تصيبة بالاشمئزار
منها ومن العالم أجمع.....
هل نهايته ستكون مع السيدة هنادي بعد
كل هذا الصبر ؟!....
أدار محرك السيارة الصغيرة النصف نقل والتي تحمل بضائع الملابس الذي يقف بها في احد الاسواق المعروفة بالقرب من موقع البحر.....
فتح الباب قبل ان تنطلق السيارة واستقل
بجواره شابٍ أسمر البشرة نحيف الجسد وسيم الملامح بشعرٍ أسود غزير يلامس مؤخرة عنقه فيجعل من هيئته الفوضوية سارق محتال....أو قاتل مأجور...
في النهاية هو كاشخاص معينة لا تود ان تصادفهم في الحياة مرتين فرؤيتهم غير
مريحة للنفس.....
وحتى ان كانوا ابرياء من هذه الاتهامات
يظل المظهر الخارجي العملة التي تشترى
في عالمنا !......
"اتأخرت عليك ابو الصحاب....."
رد أيوب على مضض....
"علطول متأخر عادتك ولا هتشتريها...."
أشار له صديقه بنزق....
"طب اطلع بينا يلا خلينا نلحق نفرش
البضاعة.....ربنا يتوب علينا...."
انطلق أيوب بالسيارة قائلاً....
"بكرة يتوب...نجمع بس فلوس السفر
وساعتها ربنا هيكرمنا من وسع...."
مط الاخر فمه هازئًا....
"موت ياحمار.....منين واللي جاي على قد
اللي رايح.....انت بس لو تسمع مني...."
نظر له ايوب بحدة وضاقت عيناه
بالشك....
"تاني يا سلامة....ناوي تمشي في العواء تاني..."
هتف سلامة محاول التأثير عليه....
"والله العظيم الشغله دي بيجي من وراها احلى فلوس طلعتين بس....طلعتين بس
يا أيوب ونجمع فلوس السفر ونسافر
وسنتين وتبعت لأهلك يعيشوا معاك
ونسيب البلد اللي مبقاتش بتاعتنا
دي ياجدع...."
رفض أيوب بتعنت قائلا...
"مش هعمل كده....مبأكلش امي واخواتي حرام.....وبعدين انت مش توبة ووعدتني
إنك مش هترجع للسكه دي تاني...."
هتف سلامة بتنهيدة طويلة تحمل أطنان
من الأماني المعلقة....
"أصل في سبوبة لوز اللوز....وعايزك معايا..."
قال أيوب بنبرة مبهمة....
"قولي بس هتروح فين....وهتعمل إيه وملكش دعوة بالباقي....."
اتسعت عينا سلامة مبتهجًا.....
"بجد هتيجي معايا ؟!!..."
اوما أيوب قائلا بصدق....
"لا هبلغ عنك ياحلاوة.....عشان السجن يصلح
حالك طالما انا فشلت....."
انطفأت ملامح سلامة ولوح بيده
مغتاظ.....
"ياعم ليه السيرة دي....خلاص انا توبة أصلا.."
نظر له أيوب بشك متوعدًا....
"والله ما باين وشكلك لسه ماشي في السكة
دي....بس انا مصيري قاطع عليك وساعتها
ورحمة ابويا والعيش والملح اللي كلناه ما هرحمك وقتها......"
اشاح الآخر بعيناه للنافذة.....
"طب بص قدامك خلينا نوصل بالسلامة
الأول....."
وقفت السيارة في احد الأسواق الشعبية المعروفة والقريبة من البحر تشم رائحة
الليود والهواء المنعش هنا.....
بدأ أيوب وسلامة بفرش البضائع في المكان المخصص لهما ثم تم وضع تسعيرة بمبلغ
مناسب يجذب الزبائن والعرض كالعادة
لديهم هو (أوكزيون..)
معروف في السوق ان ( أيوب عبد العظيم)
أفضل بائع وافضل عروض تاتي من خلاله
وانه لبق في التعامل مع السيدات وله سحرٍ
خاص عليهن......
بدأ الصياح على لقمة العيش وهو يرفع
السترة الشتوية للمارة قائلا....
"أوكزيون ياهانم......اوكازيون يابيه....بمتين
جني.......الجاكت ده بمتين جني.....اتفرج
وشوف العروض عند أيوب عبد العظيم
ملك العروض...."
اتت واحدة من الزبائن تسأله وهي تلمس الملابس المعلقة أمامها...."بكام ده...."
أجاب بصبرٍ..... "بمتين ياست......"
قالت المرأه بنصح....
"مش غالي.....طب وعشاني...."
أجاب أيوب بالجمل التي اعتاد قولها منذ
ان وقف في السوق....
"من غير فلوس...بس الحته دي لو روحتي
جبتيها من برا هتلاقيها باربع نمر...."
"بجد طب اشوفها....."قالتها المرأة وهي ترتدي السترة وتنظر للمرآة المجاورة الى صورتها
المنعكسة عليها....
وظل أليوم يسير بهذا الشكل ما بين زبونة
وأخرى واقناع تلك والفصال مع ذاك حتى
ينتهي اليوم الطويل برجلا مجهد محطم
من العالم والجميع.....
وعجلة الحياة تدور بلا توقف ونحن نسرع الخطى خلفها لاهثين وراء لقمة العيش
فلا تسألني عن الأحلام ففي بلادنا الحلم
الوحيد الذي نسعى إليه هو الستر.....
...............................................................
أصبحت الأيام تعاد في حياتها كمسلسلًا تلفزيونِ قديم حفظت حلقاتُ على ظهر قلبها ولكنه يظل المفضل لديها فهي تكره كل ماهو
جديد غريب.... متمسكة بزمن ولى من حولها كم ولى عمرها معه وغزى الشيب شعرها ورسم الزمن خطوطٍ عريضة على وجهها المنير....
لكن عينيها تلمع بالحياة والحنان..الحنان الذي
اغرقت به أولادها واحفادها من بعدهم فكانت
الأم في جميع مراحل حياتها عمود البيت المسؤولة كما يراها الجميع....
"الفطار......صالح يلا يابني الفطار
اتحط......"قالتها بقنوط وهي تجلس
منتظرة مجيئه.....
خرج ابنها....هذا ولدها الثاني والوحيد بعد وفاة أخيه الأكبر.....رجلا في سن الثلاثة
والاربعون عام....
كبير عائلته بعد موت والده واخيه منذ سنوات
رجلا يشع هالة من الرجولة شكيمة ووقار
طويل القامة ضخم البنية وعريض المنكبين
له عينين خضراوان حادتان ورثهما عن والدته شعر أسود غزير يغزو الشيب بعض الخصلات المتفرقة ، ولحيةٍ مشذبة تزيد ملامحه الرجولية شموخ وجاذبيةٍ
مضاعفة.....
"يلا ياصالح....كل ده بتكلم في التلفون..."
قالتها السيدة (أبرار) صاحبة الوجه البشوش
والابتسامة الحانية...
سألها وهو يتخذ مقعدًا.....
"انتي عارفه الشغل عمره ما خلص.....فين
ياسين مطلعش معاكي برضو ؟!..."
قالت متنهدة بحسرة....
"نايم.....رجع النهاردة وش الفجر....."
تافف قبل ان تصل اللقمة الى فمه تركها
وهو يسألها بملامح ممتعضة.....
"تاني ؟!!....وليه مرنتيش عليا كنت نزلت
كسرت دماغه...."
نظرت له والدته بعتاب....
"تاني ياصالح....هتبقا انت والأيام عليه
يابني...."
على صوته نسبيًا وهو يحاول التحكم
في غضبه....
"انا والأيام اي بس ياحاجة...امتى هيعقل
ويطلع الهبل ده من دماغه...."
قالت والدته بحنانها الفطري....
"غصب عنه انا عذراه....هو اتصرف ياحبة
عيني بقلبه....حنين وهي استغلت ده..."
علت الصدمة وجه صالح وتشدق
بازدراء....
"وهو أول مرة يتلدع منها....ما يامه عملت
فين وفي أبوه....."
اسبلت اهدابها تنظر للطعام بشهية
مفقودة فمرارة حلقها تقتل اي رغبة
الآن.....
"كله عند ربنا.....حسبي الله ونعم الوكيل
فيها.....انا خايفه يعمل حاجة في نفسه..."
سالها صالح بقلق....
"انتي متاكدة انه مش بيشرب حاجة ؟!.."
اومات برأسها بتوتر ملحوظ...
"اه.....هكدب عليكي ليه...."
نظر لها صالح بقوة يترجاها بصبر
نافذ.....
"يا أمي.....لو في حاجة انا إبنك... وانا مكان
أبوه هنا....خلينا نلحقه...."
هربت من عيناه مجددًا....
"دماغك متروحش لبعيد هو بس بيشرب
سجاير...."
عقب مرتابًا... "سجاير ؟!......متاكده ؟!..."
"هكدب يعني ياصالح اخص عليك..."
هتف صالح بعقلانية.....
"مش قصدي انك بتكدبي بس بيسهر فين
كل يوم وبيعمل إيه....طالما هي سجاير
بس ؟!..."
"مع ناس صحابه...."
ثم نظرت له وقالت برجاء حاني...
"راضيه ياصالح...وخليه يرجع يشتغل تاني
معاك في المصنع دا ماله برضو يابني وورث
ابوه....ليه فيه زيك تمام...."
اهتز فك صالح وأوشك على الانفعال
فرمقها بعتاب قائلا.....
"كلامك محسسني اني واكل حقه...ما على
يدك آخر مرة اتصرف من دماغه وسحب
مبلغ وادهالها.....
"مش حرام هي الفلوس دي بتيجي من
الهوا...."
قالت والدته برفق....
"عندك حق هو يستاهل كل اللي يحصلوا...بس
كفاية كده دانتوا بقالكم شهر مش بتكلموا بعض......راضيه ياصالح... وخليه يرجع يشتغل
في المصنع تاني معاك.... "
رفع حاجبٍ مكفهر..... "انا اللي أرضية ؟!...."
اومات بتأكيد....
"ومالوا دا ابن أخوك.....وصغير...."
جاشت مراجل صدره وهو يخبرها من بين
أسنانه....
"ياسين مش صغير يا امي...دا عنده خمسة
وعشرين سنة انا وانا في سنه كنت متجوز
ومعايا أبرار.....
" فبلاش تبرري ليه الغلط عشان هو سايق
فيها معايا وانا زهقت...."
نادت برجاء.... "ياصالح....."
"أجلي الموضوع يا أمي انا متأخر وعندي
شغل....."
نهض من مكانه ولم يضع لقمة في فمه فمعدته
امتلأت كالعادة بالحديث عن ابن أخيه الطائش
والذي كثرة اخطأه عنده ولم يعد يتحمل يكفي
همومه هو ومشاكله التي لا تنتهي.......
"اي يابو الكباتن....واقف كده ليه...لحقت
تفطر....."
رن هذا الصوت الانثوي الرقيق فأشرق صدره
بألوان الطيف كالعادة عند سماع صوتها...
الشيء الوحيد الذي يجعل للحياة معنى
أبرار صالح الشافعي....
ابنته الوحيدة حبيبة قلبه والهدية التي أنعم
الله عليه بها.....والامانه التي تركتها أمها في
حوزته ورحلت !.....
اقتربت منه ابنته صاحبة التسعة
عشر عامًا ، شابة جميلة تنطق عينيها السوداوان بالحياة والشقاوة لمعتهما قوية
تسحر المطلع فتجعلك تريد ان تحلق في
سعة فضائها....
ابتسامتها تقطر شهدًا زوجهها مشرق بملامح صغيرة تجمع مابين الطفولة المتشبثه بها
بقوة الى الانوثه التي طافت عليها مزيج
رائع بين كلاهما يجعل جمالها مميز
منفرد...
ارجعت خصلة من شعرها الأسود الناعم للخلف وهي تقول....
"ماشي من غير ما تديني مصروفي ؟!.."
غضن وجهه بسأم وزم فمه قائلا....
"وانا اللي بقول أبرار اتغيرت وبقت
خايفه على ابوها ينزل من غير فطار...."
قالت بغلاظة ثقيلة...
"أكيد مش هيحصلك حاجه....انا مبفطرش
من ساعة ما تولدت أصلا...."
نظر لها قائلا بتقريع.....
"ماعشان كده...بروح المستشفيات في نصاص
الليالي اعلقلك محاليل....اقعدي افطري... "
قالت وهي تمرر يدها على معدتها الصغيرة
المختفيه اسفل ملابسها....
"بس انا مش عايزة افطر...معدتي بتوجعني
لما باكل الصبح....."
قالت والدته بأمر...
"تعالي يا أبرار وبطلي دلع...."
تاتأ أبرار وهي تدبدب على الأرض بسأم...
"ياتيته مية مرة اقولك اسمي بيري...بيري
انتوا مصعبنها ليه...انا من ساعة ما وعيت
على الاسم ده وانا بقولكم اسمي بيري...
دلعي بيري...."
قالت والدته بشفاه مقلوبة....
"دا دلع ماسخ...وبعدين أبرار مش عجبك ده على أسمي !...."
اومات وهي تؤكد بحزن....
"شوفتي على أسمك...يعني قديم...قديم اوي
انا عايزة اغيره...."
نظرت الى والدها فسالها بمزاح خفي...
"وعايزة تسمي نفسك إيه بقا ياست بيري.."
قالت بخيلاء وهي تبعد خصلاتها
للخلف مستعرضة.... "هسمي نفسي إشكي...."
ضربت والدته يداها ببعضهما قائلة
بتوبيخ.....
"اكتر من كده ؟!!..دا انتي مش مبطلة شكوة...."
فلتة الضحكة من صالح بينما نظرت لها أبرار
بملامح مصدومة قائلة بضيق....
"شكوة إيه ياتيته...بقولك إشكي..إشكي ناز.."
برمت والدته فمها قائلة بملل....
"ونبي أسمك برقبة الإسم المكعبل ده...اسكتي
وتعالي كلي...لحسان يغمى عليكي تاني..."
زفرت ابرار وهي تنظر الى والدها الذي ربت
على وجنتها قائلا بأمر حاني....
"كلي كويس وخدي علاجك......ماشي ياحبيبتي...."
"حاضر....."
ثم رأته يخرج مبلغ من المال كما طلبت منه
فقالت بشجاعة وهي ترمي قذيفة عليه
غير متوقعه...
"بابا عايزة أجدد باقة النت..."
"دي تالت مرة يا أبرار ؟!...."
قالها صالح وهو ينظر لها بعدم رضا....
قالت ببراءة مؤثرة على قلبه....
"يا بابا مانا شغلي كله عليه...وانت
عارف الدارسة والجامعة... "
اوقفها صالح بقنوط.....
"هشش خلاص....الكلمتين اللي مش حافظه
غيرهم.....هشحنه لما انزل عايزه حاجة تانيه...."
"عايزة حضن وبوسه.....يا احلى اب في
الدنيا...."قالتها وهي تلقي نفسها في
احضانه تشبع حاجتها منه فهو لها
كل شيءٍ منذ ان وعت على الحياة
اصبح لها الأب والاخ والصديق....
أم حنان الأم فالجدة (أبرار) لم تبخس في مشاعر الامومة معها يومًا لكنها في اعماقها مزالت تتجرع مرارة اليتم.....
فالأم لا تعوض وإن آتى مكانها ألف يظل شعور
الحرمان يحوم بين ثنايا الروح والقلب يرنو شوقًا وحزنًا الى تلك المشاعر الخاصة التي
يحظى بها البعض.....
"ماشي يابكاشه....نازله الجامعه؟...."
سالها والدها وهو يفصل العناق بينهما فاومات
بتأكيد....
"اه نهاد وندى......هيعدوا عليا....."
"طيب خدي بالك من نفسك كلميني
لما تنزلي...."
"عيوني يابو الكباتن...."
نظر الى امه قبل ان يرحل....
"عايزه حاجة يا أمي...."
"لا ياحبيبي.....في رعاية الله...."
عندما أغلق صالح الباب خلفه نادت جدتها
عليها بنظرة معاتبه....
"يلا يا أبرار تعالي افطري...."
"مش عايزة ياتيته...."
"هتاكلي غصب عنك قعدي عشان العلاج
اللي بتاخديه...."
قالتها بأمر حازم....فرضخت أبرار على مضض..
وقبل ان تأكل أبرار قالت الجدة بغيظ
وهي تلكزها.....
"بقا مش عاجبك أسمي...طيب يا أبرار عارفه
ورق العنب اللي كنت ناويه اعملهولك...مش
هعمله....."
نظرت لها أبرار بقوة مضحكة....
"لا متهزريش انا نقطة ضعفي الورق العنب..."
لوت الجدة فمها وهي تنظر الى جسد حفيدتها النحيفه...نحافة توجع القلب...
"اللي يسمعك يقول إيه البت اكيله اوي....
مش شايفه جسمك راح في داهيه إزاي...."
قالت أبرار بترجي....
"ياتيته بقا متغيريش الموضوع...عايزة ورق
عنب...."
نظرة لها الجدة بلؤم قائلة بعد تفكير....
"انا ممكن اعمله وانسى كلامك البايخ عن أسمي.....بس بشرط...."
قالت أبرار بإبتسامة واسعه...
"عيوني ليكي قولي ....."
قالت الجدة بحنو....
"تنزلي تنادي على ياسين يطلع يفطر
معانا...."
انكمشت ملامحها وغابت الإبتسامة عن
شفتيها وهي تصيح برفض قاطع....
"لا....مش عايزه أكل ورق عنب....انا هطلب
بيتزا....."
"كده يا أبرار.....انتي يابت...."
راتها تبتعد عنها بضجر وهي تمتم بصوتٍ مسموع.....
"استحالة انسي....انتي جايه تحطي النار
جمب البنزين.....لا ابعديني عنه دا عيل
تنح....."
عادت الجدة تناديها بلوعة....
"يابت يابرار.....يابت......طب تعالي افطري..."
قالت وهي تغلق باب غرفتها....
"نفسي اتسدت اكتر ماهي مسدوده...قال
نادي ياسين يفطر قال....."
"ماشي يا أبرار....راسك ناشفه زي ابوكي..."
ثم وضعت يدها على خدها تنظر الى الإفطار بحسرة، والذي لم يمسسه أحد بسبب إختيارها لأحاديث لا تصلح وقت تناول الطعام !....
"والفطار ده هيروح فين...كله غضب
عليه كده....."
...............................................................
تسير في الشارع من زقاق الى اضيق منه بجسدًا مجهد وساقان تتحركان بصعوبة اهلكت نفسها في العمل ككل يوم حتى تحصل على القليل... القليل الذي يسد احتياجتها هي وابنتها.... وامها.....
"شروق...."
توقفت عن السير مستديرة بكليتها الى مصدر الصوت لترى السيدة ( ام سمير) جارتها الودودة....
الود الزائد عن حده متحولًا الى فضول لعين يشعرها بالاختناق وعدم الارتياح بالحديث معها...
"عاملة اي ياشروق...عاش مش شافك يابت ولا كاننا جيران....."
بداية الاستطلاع والتدخل فيما لا يعنيك تبدأ بمقدمة ودودة عن كيف الحال....لماذا أنت
مختفي عن الكرة الأرضية هل تسافر الى
المريخ بين الحين والآخر لذلك لا نراك
معنا !!...
ابتسمت شروق بصعوبة تخبرها بوئام
زائف.....
"اهوه الدنيا تلاهي ما انتي عارفه الشغل...عامله إيه ياخالتي ام سمير...."
ضاقت عينا السيدة بمناورة تسألها...
"الحمدلله...هو انتي بتشتغلي إيه ياشروق محدش يعني يعرف لحد دلوقتي...بتشتغلي إيه ؟!....."
أصبح الجو خانق مع كثرة الأسئلة الغير
مجبورة على اجابتها.....ومع ذلك تماسكت
بزمام الصبر قائلة بهدوء....
"واقفه في محل عطور....تحبي اديكي العنوان..."
لمعة عينا السيدة الفضولية....
"احب أوي....فين بظبط....."
"في سموحة....."قالتها شروق في اجابة مختصرة وغير محددة......
ظهر الحنق على وجه السيدة فقالت باهانة
مستترة....
"فين في سموحة.....سموحة كبيرة وكلها محلات...وعماير برضو..."
رفعت شروق حاجبًا محتد تسألها بعينين تنفثان نارًا.....
"تقصدي اي يام سمير....."
تراجعت السيدة عن المتابعة وخشت ان تتلقى
حتفها بسبب لسانها السليط....
"ولا حاجة....المهم امك عاملة إيه....وبنتك... "
مطت شروق فمها مجيبة.....
"الحمدلله....كلنا بخير......"
سالتها السيدة بفضول....
"مش بتروحي زيارة لجوزك...."
رمقتها شروق بتحذير..... "قصدك طليقي..."
قالت الاخرى بلؤم.... "يووه نسيت انك خلعتيه......"
اهتز خصر شروق بانفعال ملحوظ وقالت
بنقم.....
"خلعاه من تلات سنين وكل ما تقبليني
تكرري كلامك.....يكونش الزهايمر جالك وانا معرفش..."
قالت السيدة بخوف....
"بعد الشر عليا ان شاء الله عدويني...."
تاففت شروق وهي تنوي المغادرة فاوقفتها
أم سمير قائلة بلوعة زائفة....
"بس برضو البت بنته ولازم يشوفها...."
ردت عليها شروق بدفاع....
"البت بنتي.... ومصلحتها انها تبعد عن أبوها ومصايبه....."
علت الدهشة وجه السيدة قائلة بحيرة...
"يالهوي ياشروق اللي يسمعك كده يقول كرهتيه...دا كان حب عمرك يابت دا انتي وقفتي قصاد ابوكي الله يرحمه وامك عشان تجوزيه....."
ضاق صدرها مع تذكر الخيبة الكبرى التي اختارتها بملء ارادتها كالحمقاء ركضت خلف الحب حتى جرفها الى الهاوية دون رحمة ......
قالت بنبرة نادمة تقطر قهرًا.....
"كنت مغفلة....عيلة ومش عارفه مصلحتي...ياريتني سمعت كلامهم
مكنش ده بقا حالي...."
قالت السيدة بشفقة عليها...
"حنش كمان كان بيحبك ويتمنالك الرضا ترضي...بس هو اللي كان ماشي ورا شيطانه ومطوعه..."
التوى فكها بالمًا وهي تشعر بانها تمضغ الكلمات بقسوة كالحصى.....
"وخدت إيه من الحب غير وجع القلب والدماغ دا انتي كنتي بتطلعي على صوتنا يام سمير تحوشيني من تحت أيده.....بهدلة ومرمطه ومن النيابة دي للنيابة دي والبت
على دراعي بلف بيها..."
ضحكت ضحكة مريرة تعبر عن مدى سذاجتها
وثقتها في شخصًا شقي يتقامر مع الشيطان
ويضع حياتهما رهن المخاطر والتي لا تنتهي
ابدًا معه.....
"وكل مرة يوعدني انه هيبطل عواء وهيمشي عدل ميعديش شهر واسمع مصيبة جديدة عملها ولفي ورايا تاني ياشروق من المحكمة دي للمحكمة دي وتحيلي على المحامي الفلاني ده... وبوسي ايد آمين الشرطه ده......اسكتي يام سمير سبيني حطه جوايا وسكته....."
تنهدت السيدة تنهيدة كبيرة ثم سألتها
بفضولًا لا ينضب.....
"وتفتكري هو هيسكت بعد ما كسبتي قضية
الخلع ؟!....."
تشرست الكلمات على شفتيها وهي
تقول بعنفًا......
"اعلى مافي خيله يركبه....معدش فارق معايا
رجوعي ليه بموتي....الحمدلله اني خلصت
منه.....وبنتي هربيها لوحدي وهكبرها
وهطلعها أحسن من وهي معاه...."
صعدت الى الطابق الثاني فتحت باب الشقة بالمفتاح....ثم نزعت الدبوس من وشاح رأسها فانسدل شعرها الأسود منساب بنعومة خلف ظهرها...
نظرت للمرآة المنعكسة لصورتها وشردت بُنيتاها الغائمة بالحزن للبعيد تفكر في
حديث أم سمير
هل حقًا سينتقم منها (حنش) عند خروجه من السجن مزال الوقت مبكرًا للخروج لماذا تفكر في شيئًا سابق للأوان.....
سمعت نشيج خافت يأتي من غرفة أمها فهوى
قلبها ارضًا بقلق وهي تقترب من الغرفة بخطوات متعثرة بالخوف لترى ابنتها الصغيرة تخرج والدموع تغرق مقلتاها....
اقتربت منها شروق وجثت على ركبتاها أمامها
في مستواها تسالها بلهفة....
"مالك ياملك؟.....في إيه؟...."
قالت الصغيرة بنبرة متقطعة بالبكاء.....
"تيته مش بترد عليا ياماما.....فتحه عينها بس مش بترد....."
توسعت عينا شروق وشعرت بان خفقات قلبها
توقفت ربما توقف الزمن عند حقيقة ملموسة
تصديقها يعد نهاية محتومة لا مجال للتغير
أو التنائي عنه.....
"انتي بتقولي إيه ياملك ؟!...."
سألتها شروق برهبة والدموع تجريان على وجنتاها بعدم تصديق ونظرات تتنقل بين ابنتها وباب الغرفة الموارب.....
خلف الباب أمها....او ربما جسد أمها فقط....حتى التأكد من الأمر يتطلب منها شجاعة عظمة....
"انا روحت جبتلها الماية زي ما قالتلي رجعت
لاقتها كده....."
قالتها ابنتها (ملك)بنشيج مؤلمًا فـطفلة التي اتمت التسع سنوات من عمرها تعيش أول صدمة وحقيقة في الحياة.....الموت
الموت الحقيقة التي مازلنا نستنكر وجودها بيننا ونراها أبعد من الوصول إلينا حتى تصفعنا على حين غرة ونجد انفسنا عرضة للمواجهة الكبرى...
نهضت شروق بهلع وبقلب يرتجف بزعر فتحت
الباب تقطع الشك باليقين....
"امه....."
كانت اخر كلمة نطقت بها قبل ان تقع ارضًا صارخة صرخة الفقد....صرخة اتت من الأعماق تتمزق معها احبالها الصوتية مثلما تمزق قلبها من هول الصدمة
اخذها الموت دون وداع مسبق.....أو نهاية يدركها العقل.....
حتى نهايات الموت أقرب للخيال فهو شيءٍ غير متوقع إلا بعد الحدوث !.....
............................................................
"الشاي ياسي أيوب...."
اتت عليه شابة قصيرة القامة نحيفة الجسد ترتدي عباءة سوداء تخفي جسدها ووشاح تلفه حول راسها بطريقة محكمة......
اخذ أيوب منها الكوب قائلا بود...
"تسلم ايدك ياعزة.....عقبال ما نشرب شربات
فرحك..."
"ادعيلي الاقي ابن الحلال اللي يستتني ويرحمني من المرمطة....."قالتها بصوتٍ
مجهد مشيرة على ناصبة الشاي التي
تعمل عليها لتعيل نفسها.....
فهي بمفردها في هذه الحيآة اتت الدنيا مسئوله عن نفسها منذ ان كانت طفلة
وفي الشارع عمل المرأة يصبح كساحة
حروب مبطنه فأنت مطمع للجميع وكذلك
مصدر للسخرية والاهانة من البعض الآخر....
قال أيوب بمودة.... "ان شاء الله....يجي....."
أقترب سلامة منهما قائلا بعد ان وضع باقي العدة في السيارة بعد ان إنتهى أليوم
الحافل بالعمل والصياح في السوق....
"أيوب انا قفلت....عايز حاجة تانيه...."
سأله أيوب متعجبًا....
"مش هتروح معايا.....اخدك على سكتي..."
"لا انا هروح اسهر مع ناس صحابي..."ثم
نظر الى عزة قائلا بملاطفة....
"ازيك ياوزة......"
ردت عزة مبتسمة.....
"ان شاءالله تسلم...ياسي سلامة......بخير
الحمدلله.....فوتكم بعافية..."
"استني خدي الكوباية....."اوقفها أيوب وهو ياخذ رشفة من كوب الشاي الساخن ثم اعاده
الى الصنية ومعه ثمن المشروبات الساخنة
التي شربها طول اليوم.....
قالت عزة بحرج.... "بزيادة دا ياسي أيوب....."
ابتسم ايوب ببشاشة....
"ولا زيادة ولا حاجة.. يلا على اكل عيشك..."
عندما ابتعدت غمز له سلامة قائلاً بمكر...
"إيه..... الصنارة غمزت....."
نظر له ايوب مستنكرًا.....
"هتغمز مع عزة ؟!!!.... دي عندي زي نهاد
وندى.... ربنا يصلح حالها....."
تم سار نحو السيارة استقلّ مقعد القيادة
قائلا بتذكر....
"يلا نتقابل بكرة الصبح.... عايزين نعدي على
مصنع الملابس الأول.....صالح الشافعي كلمني وعايزني معرفش عايز إيه....."
"ماشي بكره نشوف....."لوح له سلامة بالوداع
ثم سار عكس الاتجاه بينما أنطلق أيوب بسيارته مغادرًا.....
اثناء القيادة وعلى الطريق السريع ، طريق مظلم شبه منقطع حدث المتوقع من سيارته
الخردة المتهالكة من كترة الاستعمال فقد وقفت فجأة....
"انا عارف يوم مش باين من أوله...مش اصطبحت بوش الست هنادي....."
ترجل من السيارة زافرًا بغضب وهو يفتح
صندوق السيارة الأمامي ويفحص أين العطل
فمن كثرة أعطال السيارة أصبح خبير في
الإصلاح خصوصًا في الطوارئ المشابهه
كالان مثلا......
طريق مقطوع وهو واحدُ مع سيارة خردة معطلة.....
"امال لو مكنش عليكي قساط كنتي عملتي
فيا إيه...."
حدث السيارة وهو يجز على أسنانه محاولا
اصلاحها حتى يصل لاقرب ميكانيكي فيبدو
ان العطل أكبر من المستطاع فعله....
رفع الهاتف على اذنه قائلا بعد ان فتح
الخط....
"اي ياسطا.....العربية عملتها تاني....وفي
حته مقطوعة....."
التوى فك أيوب ساخطًا منه....
"هو إيه اللي عملتها إزاي...عملتها على جمب
متصحصح معايا....العربية عطلت بيا مش
راضيه تتحرك تعالى وهات عدتك ولا هات
حد يسحبها وانا هحاسبك..."
"ماشي ياحلاوة متتاخرش...."أغلق الخط ثم
وضع السجارة في فمه مشعلها وهو يزفر
دخانها بتعب ناظرًا الى السماء السوداء
الامعة بالنجوم والأرض الواسعة أمام
عيناه....
ليت الطريق في حياته واسعًا وممتد كهذا المكان يشعر انه يختنق كل يوم عن السابق وكأنه يعيش في ثقب إبرة كل شيءٍ محدد بصورة تجعلك تعيد حساباتك بالهروب من
هذا الوطن
ربما الهجرة تأتي بالنفع ويدخر الأموال ويعود
لفتح باب رزق افضل من الوقوف في الشوراع
والصياح على قروش في زمانًا باتت الألف جنيهًا لا تساوي شيءٍ !!.....
شعر بالملل من كثرة الوقوف والتفكير ففتح مذياع السيارة يسمع اغنيته المفضلة للمطرب
المفضل لديه.....
"كل ما تعطل اديها حكيم....."
قالها بيقين وهو يشعر ان أغاني حكيم وضجيج الموسيقيّ الناتج معها ينهي
ضجيج أفكاره لبعد الوقت....
أنتبه أيوب لسيارتان تسيران بسرعة كبيرة أمامه ثم توقفا على نسبة بعيدة منه لكن تلمحها عيناه التي رأت رجال مفتولين العضلات يخرجوا شخصٍ من السيارة
الأخرى التي داهماها منذ لحظات....
اتضح ان الشخص امرأة تصيح فيهما بعناد
ان يتركوها.....
أغلق أيوب المذياع وسحب عمود حديدي
من العدة واقترب من موقعهم بخطوات حذرة.....
سمع احد الرجال يخبر المرأة المقيدة بين
يداهم.....
"الباشا عايزك.......تعالي معانا... "
رفضت وهي تصرخ بجنون....
"مش جايه معاكم في حته...ابعدوا عني...
سبوني.....سبوني.....سيبوا دراعي..."
حاولت التملص منهم بكل قوةٍ تمتلكها لكن
القوة الجسمانية لدي الرجال تفوقها....
فبدأت تصرخ معافرة بين أيديهم حتى
يحلوا وثاقها وكان هذا مستحيل....
"مش عيب تستقوى على واحده ست..."
قالها أيوب وهو يظهر لهما من العدم لذا
جفل الرجال لبرهة مما جعلها تخلص
نفسها باعجوبة من قبضة أيديهم....
"اتكل على الله ياجدع انت.... لحسان الجاي
مش هيعجبك...."
اردف أيوب بجسارة..
"ولا هيعجبك ياحلاوة...."
"انتي كويسه ياست...." سالها أيوب وهو يستعد بالعمود الحديدي.....
اومات المرأة براسها وعينيها الرمادية تحكي
قصة ماساوية عاشتها للتو....أو منذ مدة !!...
أقترب منه أحد الرجال ينوي البطش به
فرفع أيوب الحديدة وضرب بها عدة مرات في
اماكن متفرقة من جسد الرجل حتى انبطح عند قدمه فاقد الوعي.....
ام الثاني فاخذ ضربة واحده ثم مسك العمود الحديدي بيد... وباليد الحرة مسك ذراع أيوب يشل حركاته ودفاعه فلم يجد أيوب إلا افضل سلاح يستخدمه ف الأوقات الحرجة كـالان.....
خبط راسه براس الرجل خمس مرات متتالية
بقوة فوقع الرجل فاقد الوعي وجرح أيوب
رأسه جرح سطحي.....
بصق أيوب عليه وهو يمسح الدماء من
راسه.....ثم رفع عيناه عليها بانفاسًا عالية
متحشرجه بعد ان خرج للتو من معركةٍ
غير متكافئة.....
ظهرت أمامه تلك المرأة والتي دقق فيها
عن كثب الآن، شابة جميلة بعيون رمادية
بشرة بيضاء وشعر تندمج خصلاتُ الناعمة
ما بين الاشقر والبني صانع مزيج رائع
مع ملامحها الانثوية......
قصيرة القامة قليلا اتضح هذا عندما وقفت امامه على بعد خطوات.. رشيقة القوام ترتدي ملابس فخمة أنيقة....ان كل مابها يحكي عن ثراء وفخامة.....من أول عبق عطرها الذي داهم انفه منذ ان اقترب من هنا حتى
ملابسها ونظرة الاستعلاء...
عفوًا هل تنظر إليه بتعالٍ بعد ان أنقذ حياتها
ام يتوهم الأمر ؟!....
"شكرًا.....اتفضل...."
الان تأكد انه لا يفتري عليها ؟!...
رفع أيوب حاجبيه سائلا وهو ينظر الى المبلغ
التي تقدمه إليه....
"اي ده ؟!...."
قالت بترفع....
"دي حاجة بسيطه بعد اللي عملته...."
نظر للأموال باستخفاف....
"بس انا معملتش كده عشان اخد دول..."
"عايز اكتر......استنا...."قالتها وهي تتجه الى
سيارتها اوقفها أيوب قائلا بنفاذ صبر....
"استني انتي....انا عملت كده عشان دا الصح
الرجولة والشهامة بيقوله كده....ومينفعش
أشوف موقف زي ده واسكت...."
سالته بتململ....
"يعني مش هتاخد الفلوس...."
صرح برفض قاطع..... "لا طبعا...."
لوحت بيدها بغيظ قائلة بتكبر....
"انت هتشيلني جميل ولا إيه....خد عرقك وخلصني...."
امتقع وجه أيوب وفارة الدماء في
عروقه.....
"دا انتي قليلة الذوق بقا...."
اتسعت عينيها الرمادية بصدمة....فاقترب هو منها خطوة فتراجعت للخلف خطوتين فصاح
ايوب متجهمًا.....
"هو محدش علمك في البيت الأصول...ولا
إزاي تتعملي مع الناس....سبوكي كده ترازي
في الخلق وتشتري وتبيعي فيهم ..."
فغرت شفتيها بصدمة أكبر..... "افندم......"
ضرب أيوب على صندوق السيارة الفارهة بعصبية قائلا.....
"افندمين تلاته....اركبي عربيتك واتكلي على
الله لحسان يفوقوا ويقوموا عليكي وساعتها
والله ما هلحقك تستاهلي اللي يجرا فيكي.."
أدار وجهه عنها فصاحت بشجاعه من خلفه
تزجرة بغضب.....
"انت بتشتري وتبيع فيا بتاع إيه ياجدع انت
تكونش واصي عليا....وبعدين انا مطلبتش
مساعدتك انت اللي اتحشرت...."
"انا اللي اتحشرت ؟!....."استدار إليها جاحظ
العينين بغضب هائل منها فاغلقت فمها بيدها كطفلة اخطأت دون قصد.....
قال أيوب بعد لحظتين من الصمت والنظر
اليه بطريقة ارعبتها منه خصوصًا انها تقف
في طريق شبه مقطوع والسيارات نادرًا ما
تمر به....
"انا هروح اجيب مايه افوقهم ونعيد من
الأول ولو شوفتيني هوبت ناحيتك ابقي
تعالي حاسبيني....."
لمح في سيارتها زجاجة ماء ففتح الباب واخذها مستعد للتنفيذ فمسكت الزجاجة
بقلب مذعور وهي تمنعه....
"انت بتعمل إيه...."
ظلت يدها متعلقه بزجاجة وهو كذلك وشنت حرب شعواء من النظرات المستمرة بينهما...
وعندما رأت التحدي والجدية مرتسمة على
ملامحه سالته ببلاهة....
"انت بتكلم بجد ؟!..."
هتف أيوب بتهديد صريح....
"أمال بهزر.....هتمشي ولا افوقهم ونعيد تاني.."
جزت على اسنانها وهي تسحب زجاجة
الماء منه....
"همشي وبمزاجي على فكرة........"
سمعت فجأة صوت نباح ياتي من الطريق المظلم فعادت بعينيها الرمادية اليه بخوف......
"اي الصوت ده ؟!..."
"سلعوة......"
تشدقت بصوتٍ مرتجف.... "إيه سلعوة ؟!....."
مط أيوب فمه هازئًا....
"خايفه من إيه...هو انتوا مش من نفس السلالة...."
نظرت اليه بضيق بالغ.... "أحترم نفسك يـا......"
القى عليها إبتسامة سمجة ملوح لها وهو يبتعد عنها متجهًا الى سيارته البعيدة نسبيًا
عنها.....
"أيوب.....أيوب عبد العظيم....اتمنى مقبلكيش
تاني..... نهائي.......طريقك أخضر...."
صاحت في الهواء الطلق بحرقة....
"قال انا اللي هموت واقبلك تاني....في
داهيه....."
استدار أيوب ونظر لها بقوة مما جعلها تفتح
باب السيارة سريعًا وتدير محركها ثم تنطلق بها بعد لحظتين...
"جبانة....."
قالها أيوب وهو يتابع السير نحو السيارة
رافع الهاتف على اذنه...
"انت فين ياسطا.....بقالي ساعتين مستني..."
هناك صدفة تجمعك بمن تحب وصدفة تجمعك
بروحك الغائبة وصدفة أخرى أشد وطأةٍ تكن بداية أنقلاب حياتك راسًا على عقب !...
................
تشعر بانها تسير وحيدة في درب مظلم ، لغم بالمخاطر والاوجاع درب يتغذى على روحها يمتص صبرها ويهلك العزم داخلها...
ان تستشعر بدنو الخطر في كل لحظة تمر من عمرك ، ان تحيا شعور الهلع في كل ثانية تحسب عليك....ان تستمر مدرك ان الموت قريبًا منك ينتظرك بلهفة.....على بعد خطوة
منك رَهنُ إشارة....إشارة واحد وسينهي
المتبقي منك.....
وما تبقى مني إلا رفات.....صدقًا أصبحت بقايا
لجثه مهشمة تنتظر تصريح الدفن ؟!
دلفت الى (الفيلا)فاستقبلها الصمت والاضاءة
الخافته في احد الجوانب.....
سارت بساقان رخوتان واكتاف منحنية بتعب
مثقلة بالهموم....صدرٍ ضاق بصورة مؤلمة ومشاعر تختلط بالقلق من القادم وعقلا ضاع في دهاليز الماضي والحاضر...
فـحتى الحاضر أصبح موحش بالمخاطر والكلمة التي ترددها دائما
لماذا ؟!...
لماذا حدث هذا معها..ولماذا تدفع ثمن ذنب
لم ترتكبه ولا حتى باحلامها......
"نـغـم......"
توقفت قبل ان تصعد الدرج مسحت دموعها
سريعًا مرتديه قناع الهدوء مع إبتسامة لم
تلامس عينيها الرمادية....
استدارت الى والدها لتراه يجلس على المقعد
وبين يداه كتاب قد تركه للتو ونزع النظارة
الطبية وهو يشير لها بالاقتراب...
"اتأخرتي ليه يـانـغـم....برن عليكي تلفونك
مقفول....."
سالها والدها وعيناه تدقق النظر بها بقلق
ملموس فمنذ شهرين وهما يعيشا كابوس
لا ينتهي.....
سحبت نفسًا طويلا مرتجفًا وهي تقترب
منه تدعي المرح بالقول...
"ابدًا يابابا الشغل في الشركة طول شوية
ما انت عارف..."
"العزبي اتعرضلك تاني ؟!...."
طرح والدها هذا السؤال بعد ان رأى شحوب وجهها الملحوظ وعينيها المنتفخة من كثرة
البكاء....
هربت من نظراته القوية وهزت راسها بنفيًا
"متأكدة ؟!...."
بهدوء سألها وبنفس الهدوء اجابت
"أكيد....مش معقول هيقدر يعمل حاجة بعد
محضر عدم التعرض اللي عملناه فيه...."
تافف والدها قائلا بسخط....
"وتفتكري هو بيأثر فيه حاجة...انتي بتخبي
عليا ليه....اتعرضلك صح.. "
لم تجد ردًا إلا دمعة فارة من عينيها انها تكبح
جموح انهيارها....ضعفها....انهزامها أمام والدها
وامام الجميع...
تمثل انها الأقوى وقادرة على الصمود لكن في
الحقيقة انها أضعف من مواجهة هذه النكبة
وحدها....
"لازم تسافري يانـغـم....مفيش حل تاني..."
آتى صوت والدها يحثها على هذا الحل الذي
يجد فيه الملاذ لهما.....
قالت بنشيج....
"ليه ههرب انا معملتش حاجة..."
احتقن وجه والدها معاتبًا إياها بضيق...
"عارف...ومش محتاج تاكدي عليا كل شوية
إنك بريئة.....انا عارف بنتي كويس....بس انا مش هضحي بيكي...شكري العزبي اتجنن
بعد موت ابنه...ومبقاش في حاجة قادرة
توقفه..."
قالت بتهرب رافضة الأمر....
"انا ممنوعه من السفر وانت عارف...التحريات
لسه شغاله والقضية متقفلتش..."
هتف والدها بصلابة جادة.....
"تتقفل وقت ما تتقفل انتي ملكيش دعوة مش حتة رسالة هي اللي هدينك.... انا
هعمل مكالماتي وهسفرك في اسرع
وقت...."
سالته بضياع طفلة...
"وانت يابابا.....مش هتسافر معايا...."
"مش هينفع انتي عارفه انـ....."
قاطعته بوجع نطقت به عينيها قبل
صوتها.....
"عارفه شغلك وحياتك....وانك عايز تموت
في بلدك....بس انا عادي أموت بعيد عنك..."
صاح والدها بحزن دفين....
"نـغـم....بلاش تصعبيها...انا خايف عليكي..."
قالت نـغـم باهتياج....
"انا مش مجرمة عشان أهرب...انا مقتلتوش
ولا كنت السبب في موته...."
سالت دموعها بغزارة وعلت انفاسها بشكلا ملحوظ موجع ، ورجفة جسدها المنفعل
مرئية أمام عيناه التي لمعة بالدموع وهو
يناديها بصوتٍ خافت باكٍ.....
فما باليد حيلة...فهو عاجز عن مساعدة ابنته
الوحيدة وعاجز عن منع هذا المختال من السير خلف شيطانه....شيطان سيجعل من ابنته ضحية ثانية.....فهي بريئة من كل ماهو منسوب إليها وياليت العزبي يدرك هذه الحقيقه الظاهرة للاعمى....
"تعالي...."