رواية ذاكرة مستأجرة الفصل الاول بقلم فهد محمود
في زاوية مقهى هادئ، جلست ريم تراقب فنجان القهوة أمامها دون أن تمسه. يداها متشابكتان فوق الطاولة، وعيناها تحملان بريقًا من التردد… ومن الحزن.
أمامها جلس الموظف المسؤول عن العملية، رجل في منتصف الأربعينات، بملامح جامدة كوجه ساعة قديمة لا تتوقف عن الدوران. وضع أمامها جهازًا صغيرًا، ثم أخرج أوراقًا رسمية، وبدأ يتحدث بصوت رتيب:
الموظف: "السيدة ريم، هذه هي الوثائق الرسمية للموافقة على نقل الذكرى. توقيعك هنا يعني أنك تتنازلين عنها بالكامل، ولن تعودي قادرة على استعادتها، حتى لو دفعتِ ضعف المبلغ لاحقًا."
ريم لم ترد، فقط حدقت في الأوراق أمامها. أن تبيع ذكرى… أن تمسح لحظة كانت جزءًا منها… فكرة لا تزال تثير في داخلها إحساسًا بالتمرد، ولكن الواقع كان أقوى.
الموظف (ببرود): "لستِ ملزمة، لكن القرار يجب أن يُحسم الآن. العميل ينتظر."
رفعت ريم عينيها إليه، تتأمله للحظة، وكأنها تبحث عن ذرة تعاطف في ملامحه. لكنها لم تجد شيئًا.
ريم (بهمس): "هل تعرف ما هي الذكرى التي سأبيعها؟"
نظر إليها الموظف بلا اكتراث، ثم قال وهو يشير إلى الجهاز:
الموظف: "لسنا معنيين بالمحتوى، نحن مجرد وسطاء. لكن العميل… يعرف كل شيء."
ارتجف قلبها للحظة. هي تعرف لمن ستُباع هذه الذكرى. شخص لم تتوقع يومًا أن يكون مهتمًا بماضيها. شخص كان ينبغي أن يكون أبعد الناس عنها.
التقطت القلم ببطء، وأمام أنظار الرجل الذي لا يعير مشاعرها أي اهتمام، وقّعت.
عندما انتهت، دفع الموظف الأوراق نحو حقيبته، ثم ضغط على زر في الجهاز أمامه، وقال بنبرة آلية:
الموظف: "تم تأكيد النقل. الذكرى أصبحت ملكًا للعميل الآن."
ريم (بصوت مرتجف): "وهل… هل يمكنه الشعور بها؟"
الموظف (ببرود): "سيعيشها كما لو كانت له تمامًا. اللحظة، الإحساس، وحتى النبضات التي شعرتِ بها وقتها."
شعرت بشيء ما يُنتزع من داخلها، وكأن جزءًا منها تلاشى. لكنها لم تكن تعلم أن هذا لم يكن مجرد بيع لذكرى… بل كان بداية شيء لم تتوقعه أبدًا.
ساد الصمت للحظات. ريم لم تحرك يديها عن الطاولة، وكأنها تحاول أن تستشعر الفراغ الذي تركته الذكرى الراحلة داخلها. هل ستشعر بفقدانها؟ أم أنها ستختفي كما لو لم تكن يومًا جزءًا منها؟
نهض الموظف من مقعده بعد أن تأكد من انتهاء الإجراءات، وأعاد الأوراق إلى حقيبته بعناية مهنية باردة، ثم قال دون أن ينظر إليها:
الموظف: "تم تحويل المبلغ إلى حسابك. الصفقة انتهت."
حركت رأسها ببطء، كأنها تستوعب أنه لا يوجد شيء يمكنها فعله الآن. لكنها لم تستطع منع نفسها من السؤال، رغم أنها كانت تخشى الإجابة:
ريم (بصوت خافت): "من هو العميل؟"
نظر إليها الموظف أخيرًا، وللمرة الأولى منذ جلوسه معها، لاحظت وميضًا طفيفًا من الفضول في عينيه. لكنه لم يجب فورًا، بل ابتسم ابتسامة باهتة، وقال وهو يغلق حقيبته:
الموظف: "تعتقدين أن الإجابة ستغير شيئًا؟"
شعرت بقلبها ينقبض، لكنها لم تتراجع. نظرت إليه بثبات، فتنهد وكأنه يمنحها معروفًا، ثم قال ببطء:
الموظف: "العميل هو فارس الجارحي."
اتسعت عيناها في صدمة حادة، وشعرت بقشعريرة باردة تزحف عبر عمودها الفقري.
ريم (بذهول): "مستحيل…"
لكن الموظف لم يضف شيئًا آخر. ألقى عليها نظرة أخيرة قبل أن يغادر المقهى، تاركًا إياها وحدها وسط ضجيج أفكارها.
فارس الجارحي.
الشخص الذي كان ينبغي أن يكون آخر من يهتم بماضيها. الرجل الذي أغلق كل الأبواب في وجهها ذات يوم…
لماذا اشترى ذكرى تخصها؟ ولماذا الآن؟
أحاطت أصابعها بفنجان القهوة، لكن السائل داخله كان قد برد تمامًا… تمامًا مثل الذكرى التي لم تعد لها، بل أصبحت الآن ملكًا لرجل لم تتوقع أبدًا أن يدخل حياتها مرة أخرى.