رواية حين تهاجر الروح الفصل الاول بقلم فراس النابلسى
كان الليل ممتدًا بلا نهاية، والبحر أسود كحبر انسكب في الأفق. الهواء بارد، رطب، يحمل معه رائحة الملح والخوف. القارب الخشبي يتمايل فوق الموج كريشة في مهب الريح، ومن حوله، كانت المياه تمتد بلا حدود، تبتلع الضوء واليقين معًا.
في مقدمة القارب، جلس سادن الطاهر، يضم سترته القديمة إلى صدره، كأنها كل ما تبقى له من وطنه البعيد. كانت عيناه تائهتين، تحدقان في الظلام، لكنه لم يكن يرى سوى صور متفرقة من ماضٍ لم يعد ملكه. شوارع مدينته، صوت أمه وهي تناديه عند الفجر، رائحة القهوة الممزوجة بصوت أبيه وهو يقرأ الجريدة… كلها أصبحت الآن مجرد ذكريات، وها هو الآن هنا، بين سماء بلا نجوم وبحر لا يعيد أحدًا.
"سنصل قريبًا…"
كان الصوت خافتًا، لكنه وصل إلى مسامعه رغم هدير الموج. التفت سادن نحو المتحدث، فوجد شابًا نحيلًا يجلس إلى جواره، وجهه شاحب، وعيناه تحملان مزيجًا غريبًا من الأمل والخوف.
قال سادن بصوت منخفض، كأنه يحدث نفسه:
"وهل تعرف إلى أين نحن ذاهبون؟"
ابتسم الشاب بمرارة:
"إلى حياة جديدة، على الأقل هذا ما أقوله لنفسي حتى لا أجن."
من الخلف، جاء صوت أجش لرجل في منتصف العمر، كان يرتدي معطفًا ممزقًا ويعتمر قبعة قديمة بالكاد تغطي رأسه الأصلع:
"حياة جديدة؟ هاها! لا تخدع نفسك، نحن مجرد أرقام، سنكون إما عبيدًا أو أشباحًا، لا أحد يكترث بنا."
تنهد سادن، لم يكن في مزاج يسمح له بالجدال، ولم يكن بحاجة إلى من يذكره بمدى هشاشة هذه الرحلة.
كانت هناك امرأة تجلس في زاوية القارب، تحتضن طفلتها الصغيرة بإحكام، كأنها تخشى أن تخطفها الريح. كانت الطفلة تبكي بصوت متقطع، وكأنها فقدت قوتها حتى في البكاء. نظر إليها سادن للحظة، ثم التفت إلى الشاب الجالس بجانبه وسأله:
"ما اسمك؟"
"مهيار."
"وماذا تركت خلفك يا مهيار؟"
ابتسم مهيار، لكنها كانت ابتسامة حزينة:
"كل شيء… وأنت؟"
أشاح سادن بوجهه بعيدًا، لم يكن لديه إجابة واضحة. أهو ترك وطنه؟ أم أن وطنه هو من تركه أولًا؟
الساعات تمر ببطء قاتل، والبرد يزداد حدة، لكنهم لم يكونوا وحدهم في مواجهة الطبيعة القاسية، بل كانوا أيضًا في مواجهة مخاوفهم التي بدأت تتسلل إلى قلوبهم كما يتسلل الماء إلى داخل القارب.
وفجأة، اهتز القارب بعنف، وتعالت الصرخات. نظر سادن إلى الأسفل، فرأى المياه تتسرب إلى الداخل بسرعة مرعبة. كان القارب يئن كأنه يحتضر، والموج يزداد جنونًا.
"القارب يغرق!" صرخ أحدهم، فبدأ الجميع يتحركون في فوضى عارمة.
"لااا! لاااا! بنتي! بنتي!" كانت صرخة الأم تزلزل المكان، فيما كانت الطفلة الصغيرة تصرخ هي الأخرى، لكن صوتها تلاشى وسط العاصفة.
أمسك مهيار بذراع سادن، صوته كان مرتجفًا:
"لازم نرمي حالنا قبل ما ينقلب القارب!"
لكن سادن لم يتحرك، كان عقله يعمل بسرعة جنونية، يبحث عن حل، عن معجزة، عن شيء يمنع الكارثة القادمة. لكنه لم يجد سوى العاصفة، والموج، والليل الممتد بلا نهاية.
وفجأة، شعر بشيء يسحبه للأسفل. كان الماء يبتلع قدميه، ثم ساقيه، ثم جسده كله… حاول أن يصرخ، أن يقاوم، لكن الظلام كان أسرع، والماء كان أقوى.
قبل أن يفقد وعيه، لمح يدًا تمتد نحوه، يدًا لم يكن يعرف إن كانت تنقذه… أم تسحبه إلى الأعماق.
كان الماء يعانق جسده كوحش مفترس، يلتف حوله، يسحبه نحو الأعماق، فيما كانت الرؤية تزداد ضبابية. سادن لم يكن يشعر بجسده، فقط إحساس غامر بالبرودة، وهدير الماء يملأ أذنيه كضجيج لا يتوقف. حاول تحريك يديه، قدميه، لكن جسده كان ثقيلاً كصخرة تهوي بلا نهاية.
في لحظة ما، لم يعد يقاوم. شعر وكأن جسده يتخلى عنه، عقله ينسحب، روحه تنفصل عن كل شيء… هل هذه النهاية؟
لكن فجأة، اخترق الظلام ضوء خافت، ووسطه، كانت اليد لا تزال ممدودة نحوه. يد قوية، قبضتها حازمة، أمسكت بمعصمه بقوة، وسحبته للأعلى. شعر بجسده يتحرك، يعود إلى السطح، إلى الهواء، إلى الحياة.
"مسكني منيح! لا تترك إيدك!"
كان الصوت رغم اضطرابه مألوفًا. حاول سادن أن يفتح عينيه، أن يرى من الذي يسحبه، لكنه كان بالكاد يلتقط أنفاسه. شعر بالماء يندفع من فمه، بالسعال يمزق صدره، وبالهواء يعيد إشعال الحياة في رئتيه. وعندما تمكن أخيرًا من رفع رأسه، رأى وجه مهيار، شاحبًا، متعبًا، لكنه كان ممسكًا به بإصرار.
"يا مجنون، كنت رح تغرق! شو كنت مفكر حالك؟ حوت؟"
حاول سادن أن يتحدث، لكن صوته كان غارقًا مثله. كل ما استطاع فعله هو أن يتمسك بمهيار، فيما كان الموج يدفعهما للأمام، نحو بقايا القارب المحطم، حيث كان بعض الناجين يحاولون التمسك بأي شيء يبقيهم على السطح.
كانت العاصفة قد بدأت تهدأ قليلًا، لكن المياه كانت لا تزال غاضبة، تتلاطم كأنها ترفض أن تتركهم وشأنهم. استطاع سادن أن يرى بعض الأشخاص متمسكين بحواف خشبية مكسورة، وجوههم مرهقة، عيونهم مليئة بالرعب والضياع.
التفت مهيار حوله، يبحث عن شيء يساعدهم على الطفو، ثم لمح بقايا أحد المقاعد الخشبية من القارب الغارق، سبَح نحوه وسحبه بصعوبة، ثم دفعه نحو سادن:
"مسك هاد! إذا ضلينا هيك رح نموت من التعب!"
تمسك سادن بخشب المقعد وهو يلهث، ثم نظر حوله مرة أخرى. لم يرَ المرأة التي كانت تحتضن طفلتها، لم يرَ الرجل العجوز، ولا الشاب الذي كان يتمتم بالدعاء. لم يرَ سوى البحر، واسعًا، مظلمًا، يبتلع كل من لا يستطيع النجاة.
"وين البقية؟" سأله بصوت بالكاد خرج من بين شفتيه.
لكن مهيار لم يجبه. كان وجهه شاحبًا أكثر من ذي قبل، وعيناه تحملان إجابة لم يكن يريد قولها.
سادن بلع ريقه بصعوبة، ثم تمتم:
"ما حدا طلع غيرنا؟"
لم يكن بحاجة لسماع إجابة. الصمت كان كافيًا.
مرّت ساعات طويلة، أو هكذا شعرا بها. كان الوقت بلا معنى، والماء يحيط بهما من كل الجهات، لا يوجد شيء سوى الأفق الفارغ، ولا شيء يدل على أن هناك أرضًا قريبة.
كان مهيار يحدق في السماء، وقد بدأ صوته يضعف:
"إذا متنا هون، يا ترى حدا رح يعرف عنّا؟"
سادن لم يجب. لم يكن يعرف ما يمكن قوله في لحظة كهذه. لكنه شعر بأن الكلمات، حتى لو قالها، لن تغير شيئًا.
وفجأة، قطع أفكاره صوت محرك بعيد. رفع رأسه بسرعة، وأخذ يحدق في الأفق. لم يكن متأكدًا في البداية، هل كان يهذي؟ هل خُيّل إليه أنه يرى شيئًا؟
لكن لا… لم يكن وهْمًا.
في الأفق، كانت هناك أضواء… وسفينة تقترب.