رواية من اجلك ( جميع فصول الرواية كاملة ) بقلم اسماء ندا

رواية من اجلك الفصل الاول بقلم اسماء ندا



توقفت أمام تلك الأبواب المغلقة بجنزير حديد صدئ، أسترق النظر على الحديقة الذابلة شجرتها المتساقط أوراقها الجافة التي تغطي الأراضي تحتضن أتربة متراكمة لسنوات حتى الأبواب الداخلية للقصر، ذلك القصر الذي يقف بشموخ على الرغم من تهالك بنيانه، يسوده الصمت المقيت، والظلام يتسلل لأركانه الجوفاء من الحياة.

انتزعت ذلك المفتاح المعلق في عقدي الفضي على مدار سنوات مضت، برغم من استرجاع ذلك الصندوق ألا إني لم أتخل عن ذلك المفتاح، عاهدت روح أمي القتيلة قهرًا يوم رحيلي من ذلك القصر بالماضي عند أبوابه أنني سأعود وأتملكه، أنني سأكون سيد القصر ولن أترك قاطنيه يومها إلا ظلال يتهامس سكان البلدة قصص موتهم.

مدت يدي أدير ذلك القفل وأخرجه من السلسال ثم أدفع الأبواب المتعالية بقوة لتصدق مفاصلها تردد صوت مزعج لها بالمكان، وبعد أن باعدت تلك الأبواب أجبرت قدمي على السير إلى الداخل وعيني تدور بالمكان كأنها تبحث عن شيء افتقدته كان هنا، أصوات تكسر أوراق الشجر أسفل قدمي مندمجة مع صوت الرياح أعادت ذاكرتي إلى أيام قد خلت تحمل في طياتها ألم ذكرى سقوط أمي على ذلك الدرج مغطاة بدمائها وهي تشير في اتجاه المدخل الداخلي للقصر حيث كنت أقف وأنا ذو التسع سنوات تمسك بي عمتي وتثبتني بيداها كي لا ألحق بأمي، ما زلت أتذكر صوت عمي الهادر وهو يطردها ويلقي بها بالخارج ويردد.

 "مالكيش ولد؟ أنتِ مجرد جارية أخويا الله يرحمه اتمتع بيها وخلصت بموته."

لم تنهض أمي من سقوطها وتم الإلقاء بها في حاوية القمامة على مدخل البلدة، هذا ما قيل لي، وبعد أسبوعين من وفاتها أخذني عمي وألقى بي في دار للأيتام بعد أن قال لي إنني لست ابنهم ولا علاقة لي بعائلاتهم، وإنني خطأ وجرثومة يجب التخلص منها، لكن قبل انطلاق سيارته من القصر أسرعت إحدى العاملات وأعطتني ذلك المفتاح قائلة. 

"ارجع  وانتقم لأمك "

جلست فوق الدرج المؤدي إلى داخل القصر حيث كان آخر لقاء لي بأمي، وضعت يدي أتلمس تلك الأتربة وأدفعها بعيدًا بيدي، تنهدت وهمست قائلاً.

"كلهم خلصوا تحت رجلي، بيتوسلوا الرحمة اللي اتنزعت مني يوم فراقك."

زفرت الهواء من داخل رئتي بقوة ثم نهضت وصعدت الدرج ودفعت الأبواب الداخلية، وبعد خطوات كنت أقف بمنتصف الساحة الضخمة بنفس المكان، رفعت ذراعي إلى الأعلى وصحت بأعلى ما بي.

"فينكم؟ مين فيكم يقدر يخرجني؟ فين الجبروت والتعالي بتاعكم، نفعتكم فلوسكم؟ حماكم نفوذكم؟ أهو أنا خرجتكم من هنا مدلدلين بعد ما خليتكم تاكلوا في لحم بعضكم، وبعدين…."

صمت بعد لحظات أطلق ضحكات متعالية وهو يسير باتجاه الدرج الداخلي للقصر، تسلق الدرج ومع كل خطوة ينحي من أمامه الأتربة وبيوت العناكب التي كانت قد عششت في الأرجاء، وتعود ذاكرته لنسج ذكريات طفولته الجميلة التي سرقت منه.

ما إن وصل إلى الطابق الثالث حيث كان جناح والده ووالدته يستحوذ على ذلك الطابق بالكامل، فتح الباب على مصراعيه، وانتشرت أشعة الشمس والأضواء تملأ المكان وصوت ضحكات طفل بالسابعة يتردد وهو يهرول بالمكان وبين يديه طائرة خشبية، وتقف سيدة في منتصف العشرينات قرب النافذة تبتسم وتنظر للطفل ثم ينتقل نظرها إلى خارج النافذة تراقب شيئًا ما، يدها تتمسك بالستائر الحريرية خضراء اللون تشبه عينيها، تدندن بين الحين والآخر بكلمات أغنية قديمة.

" يا ابو الطاقية القطيفة مين شغله لك، شغلط بيها البلد ولا انشغل بالك ….."

تقترب منها سيدة بالأربعين من العمر ترتدى ملابس خاصة بالخدم وتقول 

"يا بنتي ، لحد إمتى هتفضلى كده مستنية رجوعه، إنتي ما أكلتيش من الصبح وده خطر على صحتك وصحة اللي في بطنك."

تلتفت السيدة وهى تبتسم وتقول 

" اكل اذاى بس يا داده، المفروض كان يرجع  من ساعة ولسه مجاش " 

ليرتفع  صوت سيارة  تدخل الى ممر القصر فتنظر السيدة من النافذة وهى تضحك وتقول 

" وصل ، بابا جه يا ادهم، تعالى ننزل ونستقبله " 

تسرع السيدة وتحمل الطفل بين ذراعيها وتمر كسراب من بين أضلعي، أفتح عيني التي غمرتها الدموع وأنظر من حولي ولا أجد سوى الرماد المحروق المنتشر بجميع أنحاء الطابق، فأسقط على ركبتي وصوت صيحات الألم يخترق صدري، أسقط مغشيًا علي، ليعود عقلي مرة أخرى بالزمن ولكن ليس بالكثير، فقط الثامنة عشرة سنة، كنت في ذلك العمر لا يسمح لي بالإقامة داخل الملجأ واضطررت إلى الإقامة في الشوارع، أنام أسفل الكباري، وأتقاسم الطعام مع كلاب الشوارع، يحترق قلبي بذكرى أمي ولا أستطيع معرفة أي شيء عن والدي فقد أجبرت لثلاث سنوات تحت التعنيف المستمر من قبل مسؤولي الملجأ على تكرار اسم ليس اسمي وعدم ذكر اسمي الحقيقي أو ذكر اسم أمي حتى أصبحت ليس عندي القدرة لتذكر اسمي الحقيقي أو اسم والدي.

في الشارع تعرفت على بعض الشباب الأكبر والأصغر مني، ولأنني أتمتع بجسد قوي ودهاء كما أطلق عني من قبل المعلم (الرجل الذي يوفر لنا مكانًا للمبيت والعمل) فقد اختار لي أن أكون أحد حراسه وعلمني استخدام الأسلحة البيضاء، وسرقة السيارات، وقد أطلق علي اسم الداهية لأنني من اقترحت على المعلم تفكيك السيارة المسروقة وبيعها قطع غيار ومعادن، وعدم بيعها كاملة في سوق السيارات المسروقة أو المكن (الموتوسيكلات) المسروق

وقد أصبحت الذراع الثانية للمعلم لأنني دافعت عنه في شجار ذات مرة وقتلت الشخص المعتدي بالرغم من كونه أضخم مني بثلاثة أضعاف جسدي فهو كان في الثلاثين من العمر وأنا فقط بالتاسعة عشرة.


تعليقات



×