رواية حب للبيع ( جميع فصول الرواية كاملة ) بقلم احمد فايز

رواية حب للبيع الفصل الاول بقلم احمد فايز




كان الليل هادئًا... هادئًا لدرجة تخيف، كأن المدينة بأكملها تنام مطمئنة، بينما هناك قلبٌ واحدٌ يصرخ في العتمة.

ركض هاني بجنون، الهواء يصفع وجهه لكنه لم يشعر بشيء سوى ضربات قلبه المتسارعة، كان الهاتف لا يزال في يده، يضغط عليه بقوة كأنه يضغط على آخر خيط يربطه بها.

– هاني... أنا مش قادرة أكمل خلاص،ولا قادرة أتخيل نفسي في حضن راجل غيرك…سامحني بس الموت أهون عليا. !

جملة واحدة كانت كافية لإسقاطه في دوامة من الذعر، لم يتوقع أن يصل الأمر لهذا الحد، لم يظن أنها ستنهار بهذه السرعة.

– هناء! لا لا أرجوكِ، استني، أنا جايلكِ حالًا!

الطريق إلى بيتها كان أطول مما تخيله، كل ثانية كانت تمزق روحه أكثر، وهو يصارع فكرة أنه قد لا يصل في الوقت المناسب.

دفع باب شقتها بجنون، كاد يخلعه من مكانه، عينيه بحثت عنها بهلع... ثم تجمد.

هناء كانت مُلقاة على الأرض، يدها متراخية بجانبها، وعلبة الدواء الفارغة بجوارها، لون وجهها شاحب، وشفتاها تتحركان ببطء كأنها تهمس بكلمات غير مفهومة.

– لاااا! هناء، افتحي عيونك! متسبنيش عشان خاطري عشان حُبنا، هنااااااء؟ 

اندفع نحوها، رفعها بين ذراعيه، قلبه يكاد يتوقف من الخوف، لم يكن لديه وقت للتفكير، حملها وخرج بها إلى الشارع، كأن عقله لم يعد يرى سوى طريق واحد... المستشفى.

---

داخل المستشفى

وقف هاني في الممر، يده ترتعش، أصابعه تمر فوق شعره بعصبية، كان يشعر أن الهواء حوله ثقيل، ثقيل جدًا لدرجة الاختناق، كل ما يسمعه هو أصوات الأجهزة، خطوات الممرضات، وصدى صوته وهو يصرخ باسمها قبل قليل.

بعد دقائق – بدت له كأنها دهر – خرج الطبيب، نظر إليه نظرة جامدة قبل أن يقول:

– إحنا لحقناها في آخر لحظة...! 

لم يسمع بقية الجملة، فقط سقط على الكرسي خلفه، يأخذ أنفاسًا مرتجفة، لحقوها... يعني مازالت هنا، مازالت تتنفس.

لكنه لم ينسَ... لم ينسَ أن السبب فيما حدث ليس فقط ضعفها، بل جشع أهلها، ظلمهم، وقراراتهم القاسية، قبضته تشدّدت، وفي عينيه وُلدت حرب جديدة...
هذه المرة، لن يسكت أبدًا.

***
وقف هاني في منتصف الممر، عينيه مشتعلة، أنفاسه تتلاحق كأنه خرج لتوه من معركة خسر فيها روحه. كان الغضب يسيطر عليه بالكامل، لكن خلف هذا الغضب... كان هناك خوف، قهر، وانكسار لم يسمح لنفسه بالاعتراف به.

شعر بيد تُربت على كتفه مرة أخرى، هذه المرة أقوى، أكثر ثباتًا. التفت ليجد" أحمد" صديقه الطبيب النفسي ملاذه في الأوقات العصيبه أمامه، نظراته مليئة بالهدوء، لكنه كان يفهم... يعرف تمامًا ما يدور في رأسه.

– هاني، انت لازم تهدى، الحمدلله قدر ولطف، أهم حاجة إنك أنقذتها في الوقت المُناسب. 

كاد ينفجر مرة أخرى، لكن أحمد لم يمهله الفرصة، جذبه نحوه فجأة واحتضنه بقوة  للحظة، حاول هاني المقاومة، لكنه كان مرهقًا... منهكًا لدرجة لم يستطع معها حتى التظاهر بالقوة.

انهارت يده المتشنجة على ظهر أحمد، وجسده ارتعش قليلًا.

– كُنت هخسرها  يا أحمد... كنت هشيلها جثة بين إيديا!

صوته خرج متحشرجًا، ضعيفًا رغم كل القوة التي حاول التظاهر بها.

أحمد ظل ممسكًا به، لم يتركه، لم يقل كلمات فارغة عن أن الأمور ستكون بخير، لأنه يعلم... يعلم أن الألم لا يزول بالكلام، لكنه على الأقل يمكن تقاسمه.

– إنت عملت اللي عليك... لحقت هناء في آخر لحظة، وده الأهم دلوقتي.

أغمض هاني عينيه بقوة، يحاول استجماع شتاته، لكن قلبه كان لا يزال ينبض بجنون.

– أنا مش قادر أستوعب... لو كانت راحت مني، كنت هعيش ازاي؟ كنت هسامح نفسي ازاي؟

أحمد أبعده قليلًا، أمسك بوجهه بين يديه، ونظر إليه مباشرة:

– مفيش (لو)... انت لحقتها، والحياة لسه قدامكم. لكن دلوقتي، لازم تهدى، علشان تكون جنبها لما تفتح عينيها، تلاقيك جمبها، صدقني دا هيفرق معاها جدًا. 

أخذ هاني نفسًا عميقًا، يملأ رئتيه بالهواء، يحاول تصديق أن الخطر قد مرّ. وأن هناء... لا تزال على قيد الحياة. 

لكن رغم ذلك، لم يكن قادرًا على تجاوز شيء واحد…

***

بعد قليل – مواجهة مع أهلها_

وصل أهل هناء إلى المستشفى متأخرين، وعندما رأى هاني شقيقها الأكبر، كان الانفجار حتميً،  اندفع نحوه بعنف، وعيناه تشتعلان بغضب كاد يحرق المكان بأكمله.

– إنت السبب! إنتوا السبب في اللي حصل!انتحرت بسببكوا وبسبب ضغطكوا عليها. 

أمسكه أحمد سريعًا محاولًا تهدئته، لكن هاني دفعه برفق واستمر في صراخه:

– لو كان حصلها حاجة... كنت هخليكوا تدفعوا التمن غالي!

شقيقها، الذي كان دائمًا متماسكًا ومتسلطًا، لم يجد ما يقوله، نظر بعيدًا، لكن هاني لم يكن بحاجة لإجابات.

– أنا كنت هشيلها جثة بين إيديا بسبب تعنتكم وغباءكم! بتحسبوا الجواز بالعافية؟ الحب بيتباع ويتشترى عندكم؟!

حاولت والدتها التدخل، لكن هاني قاطعها بنبرة مليئة بالقهر:

– والله لو حصل لها حاجة كنت بلغت عنكم بتهمة العنف الأسري والإجبار على الزواج! كنت هخليكم تدفعوا التمن في المحكمة بدل ما تدفعوه في حياتها!

ساد الصمت... القاسي، الثقيل، الخانق، لم يجرؤ أحد على الرد، لأن الحقيقة كانت أقوى من أي مبررات.

وقف أحمد بجانبه، لم يتكلم، فقط كان هناك، يشهد على هذه اللحظة، ويدعم صديقه ولو بالصمت.

أما هاني، فكان قراره قد اتخذ... لن يسمح لأحد أن يتحكم في حياتها بعد الآن.

***

كان الصمت يخيم على الأجواء… صمت ثقيل كأن الزمن توقف، وكأن الأنفاس احتبست في الصدور، لا شيء سوى صوت عقارب الساعة يطعن الفراغ بصوتها الرتيب.

وفجأة، انفتح باب الغرفة، وخرجت الممرضة تتلفت بعينيها قبل أن تقول بصوت هادئ لكنه حمل بين طياته زلزالًا:

– مين فيكم هاني؟ المريضة فاقت وعايزة تشوفه.

شعر وكأن صدره انفجر بضربة واحدة، دفعة قوية جعلت الدماء تتدفق بجنون في عروقه، وتوجه نحو الغرفة بخطوات متعثرة كأن الأرض لم تعد قادرة على حمله.

دفع الباب ببطء، ووقع بصره عليها… هناء، مستلقية على السرير، شاحبة كأن الموت كان يغازلها ثم تراجع في اللحظة الأخيرة، عيناها واهنتان لكنهما ما زالتا تبحثان عنه.

"هاني..."

خرجت باسمه وكأنها تنتشله من بحر مخاوفه، فتقدم نحوها مسرعًا، لم ينتظر، لم يفكر، فقط أمسك يدها بحنان كأنها شيء هش يخشى أن ينهار بين أصابعه.

– أنا هنا ياحبيبتي، ومش هسيبك أبدًا… فاهمة؟ حتى لو هحارب العالم كله عشانك، حتى لو هبيع اللي قدامي واللي ورايا… فداكي، فدا روحك، فدا نبضة قلبك ياقلبي. 

تأملته بعينين غارقتين في الدموع، لكنه لم يمهلها لترد… ملامحه تحولت في لحظة، عيناه امتلأتا بالغضب والخذلان.

– ليه يا هناء؟ ليه عملتي كده؟!

اهتزت شفتاها، لكنها لم تجد ما تقوله، كيف تبرر وجعها؟ كيف تشرح له أن الحياة أغلقت أبوابها في وجهها فلم ترَ إلا هذا الطريق؟

لكنه لم يكن بحاجة لإجابات، كان يرى كل شيء في عينيها، وكان هذا أكثر ما يؤلمه.

–  اللي أنتِ عملتيه ده حرام، فاهمة؟ أنتِ كنتِ هتموتي كافرة، عارفه يعني إيه؟كنتِ هتقابلي ربنا إزي؟! حتى لو عشاني، حتى لو الدنيا ضاقت، حتى لو كنتي شايفة إن مفيش حل… مفيش حاجة في الدنيا تستاهل إنك تخسري ربنا وأخرتك عشانها !

صوته كان يرتجف، ليس غضبًا فقط، بل خوفًا… خوفًا مما كان يمكن أن يحدث، خوفًا من فكرة أنها كادت تختفي من حياته للأبد.

أمسك يدها بقوة، كأنه يريد أن ينقل إليها نبضه، أن يثبت لها أنها لا تزال هنا، أنها لم تفقد كل شيء.

– اوعديني، ياهناء… اوعديني إنكِ متعمليش كده تاني، أبدًا! مهما حصل، مهما كان اللي واقف قدامنا، حتى لو الدنيا كلها حاربتنا… أوعي تفكري تغضبي ربنا عشان أي حد، حتى أنا.

رفعت عينيها إليه، نظراتها كانت مزيجًا من الندم والرهبة… كأنها استيقظت من كابوس لتجد نفسها على حافة هاوية، لكن هناك يد امتدت لها في آخر لحظة.

دمعة ثقيلة سقطت من عينها، تهادت ببطء كأنها تحمل معها كل الألم الذي راكمته بداخلها، قبل أن تهز رأسها بخفوت وتهمس:

– بوعدك، ياهاني… عمري ما هعمل كده تاني.وهطلب من ربنا يسامحني على غبائي وتهوري، وادعيلي كتير، ربنا يغفرلي ذنبي وجهلي. 

ابتسم رغم الدموع التي لم تفارق عينيه، ابتسم رغم كل شيء… لأنه شعر للمرة الأولى أن الأمل لم يخذله، وأنها… لن تتركه أبدًا. 
شدّ هاني على يدها برفق، وكأنه يحاول أن ينقل إليها بعضًا من دفء قلبه، بعضًا من يقينه بأن كل شيء سيكون على ما يرام. صوتُه جاء هادئًا، لكنه مُفعم بالثقة:

– ربنا غفورٌ رحيم يا حبيبتي، توبي إليه توبةً نصوحًا، وإن شاء الله يتقبّل.

رفعت هناء عينيها إليه، نظراتها تائهة بين الندم والراحة، وكأنها لم تكن تتوقع أن تجد يدًا تُعيدها إلى الحياة بعدما ظنّت أنها فقدت كل شيء، الدموع ما زالت تُغلّف مقلتيها، لكنها لم تكن دموع ضعف هذه المرة، بل دموع إدراك… إدراك بأنها كانت على حافة الهاوية، وأنه أنقذها في اللحظة الأخيرة.

– هاني… أنا كنتُ ضعيفة.

هزّ رأسه نافيًا، اقترب منها أكثر، ومسح على شعرها بحنان كأنه يربت على روحها قبل أن يهمس:

– كلنا بنضعف، لكن الأهم أن ننهض من جديد… والمهم الآن أنكِ معايّا، ومش هسيبك أبدًا.

صمتٌ ثقيل خيّم بينهما، لكنه لم يكن صمتًا فارغًا، بل كان مُحمّلًا بالكثير… بالحب الذي لم ينكسر رغم العاصفة، بالخوف مما هو قادم، وبالأمل الذي بدأ يُضيء ولو بشعاعٍ خافت.

نظر إليها بعينين صادقتين، قبل أن يقول بصوتٍ يحمل بين حروفه عهدًا لا رجعة فيه:

"الحياةُ ستُحاربنا كثيرًا، لكنني أقسم… أنني لن أتركَ يدكِ أبدًا، حتى وإن اضطررتُ لقتال العالم بأسره". 
تعليقات



×