رواية فاما اليتيم فلا تقهر الفصل الاول
دلفت ابتسام إلى غرفة النوم حيث يرقد زوجها، وأيقظته برفق حتى لا يفزع، وهمست بصوت متوتر:
ـ خطاب، اصحى يا خويا… اصحى… الله لا يسيئك.
فتح عينَيه بصعوبة، ونظر إليها بدهشة وهو يفركهما بتكاسل:
ـ في إيه يا ابتسام؟ بتصحيني ليه؟ هو النهار طلع؟
ابتلعت ريقها وقالت بتردد:
ـ لأ… بس في مصيبة حصلت… قوم إلحقني.
نظراتها القلقة وتوترها البادي على وجهها جعلاه ينتفض ذعرًا ويهب جالسًا:
ـ مصيبة إيه على الفجرية؟! حد من العيال جراله حاجة؟! انطقي… فزعتيني يا ابتسام!
سالت دموعها دون أن تشعر، وردّت عليه بصوت مشحون بالحزن:
ـ هويدا… صاحبتي برّه… شكلها بتموت… ومش عارفة أتصرف!
نهض مسرعًا من على الفراش وارتدى جلبابه وسألها:
ـ بتقولي هويدا؟! مش هي اللي هربت من أهلها؟ وجم سألوا عليها هنا وبهدلوا الدنيا؟… ودي إيه اللي جايبها؟! ولما بتموت، ما كلمتيش أهلها ليه؟ بدل ما نتدبس فيها؟
هزّت رأسها باعتراض وخوف، وردّت عليه بقلة حيلة:
ـ مقدّرش… لو بلغتهم هيقتلوها… هويدا حامل.
أمسك ذراعها وهزّها بقوة، وأردف بغضب:
ـ اتجننتي يا ابتسام؟! واحدة ماشية في الحرام، وعايزاني أفتح لها بيتي؟! عارف إنتِ بتحبيها… بس اللي عملته في نفسها وأهلها ميتغفرش. اتفضلي اطلعي لها وقولي لها تمشي بالحسنى… وعرفيها إنها مش مرحّب بيها.
ثم فجأة قال:
ـ استني…
فتح الدرج وأخرج مبلغًا من المال، وأعطاها إياه:
ـ اديها دول… تمشي حالها بيهم… ولو احتاجت حاجة، ادّيها… بس مقدرش أستقبلها في بيتي. دي شُبهة عليّ وعليكي… وأنا راجل بتقي ربنا في بيتي… وبخاف على أولادي وعليكي من السُمعة… يلا روحي… وأنا هتوضّى وأصلي الفجر وادعي لها.
لم ينتهِ من حديثه، إذ دلف إليهم طفلهما الأكبر "إيهاب"، ذو الثمانية أعوام، صارخًا:
ـ الحقّي يا ماما… الست اللي بره وقعت على الأرض… وبتطلع رغاوي من بقها… ودمها غرّق السجادة!
خرجت ابتسام مسرعة وخلفها زوجها، فرآ الطفل "بهاء"، ذو الخمسة أعوام، يجلس بجوارها يبكي محاولًا إفاقة المرأة.
جثت ابتسام بجوارها تحاول إفاقتها… بلا جدوى.
لم ينتظر خطاب طويلًا… حملها وخرج مسرعًا من الشقة، ووضع جسدها على الأريكة في السيارة، وانتظر زوجته التي تأخرت قليلًا وهي توصّي طفليها بعدم مغادرة الشقة.
أغلقت ابتسام بابها، وأسرعت وجلست على الأريكة تحمل رأس صديقتها على صدرها، وانطلق خطاب مسرعًا إلى المستشفى.
استقبلوها في الطوارئ… وأسعفوها حتى أفاقت. ثم خرج الطبيب إليهما يبلغهم:
ـ لازم توليد فوري… عضلة القلب ضعيفة… جاتلها ذبحة صدرية شديدة.
لم يكن بيد خطاب وابتسام إلا الموافقة لإنقاذها.
بدأت التجهيزات… وبعد نصف ساعة سُمع صوت وليدتها.
لم تمر دقائق، وخرج الطبيب قائلًا:
ـ للأسف… حالتها حرجة جدًا… لو طلعت عليها النهار، يبقى ربنا كتب لها عمر جديد… بس قدرنا ننقذ المولودة.
خرجت ممرضة تحمل الطفلة… ومن بعدها سريرٌ نقال يحمل الأم.
حين رأت ابتسام، أشارت إليها أن تقترب.
هرعت ابتسام إليها تبكي بحرقة:
ـ فداكي عمري يا هويدا… شدي حيلك… بنتك محتجاكي.
ردّت هويدا بصوت خافت:
ـ خلي بالك من بنتي… وبلّغي أبوها "ونيس"… قولي له… كل حبي وهبته ليه… ياريت يعرف يحب بنته قد ما حبيته.
أمسكت ابتسام يدها، وحثّتها على ذكر اسم الأب ومكانه:
ـ اسم "ونيس" إيه؟ ومكانه فين؟ وليه عملتي كده؟ كنت دلوعة العيلة… الكل يتمنى رضاكي… انطقي يا بنت الناس.
ابتسمت هويدا بتهكّم، وقالت بخفوت:
ـ أحلى أيام عمري كانت معاه… مش ندمانة… ولا خسارة فيه عمري… اسمه "ونيس م… م……"
وسقطت يدها جوارها… وخفتت أنفاسها… ففاضت روحها إلى بارئها.
انهارت ابتسام تبكي حسرةً على فراق صديقة عمرها الوحيدة.
بعد دفنها، الذي تكفّل به خطاب، عادت إلى بيتها تحمل المولودة… لا تعلم عن أبيها إلا اسمه الأول.
رآها الطفلان… فاختطف إيهاب الطفلة وقال:
ـ الله… دي جميلة أوي يا ماما… وبيضا كمان!… إيه اللي في كفها ده؟! حَسَنة… بس كبيرة أوي!
نظرت ابتسام إلى كفها بدهشة… وتذكّرت صديقتها وهي تقول:
ـ بموت فيه… في الشامة اللي بتزين كف إيده… كأنها بير مليان خير… وهيكون ليّا نصيب فيه.
وكأن الطفلة قد ورثت من أبيها نفس الشامة… لتثبت نسبها.
ابتسمت ابتسام بحزن… وقالت وهي تأخذ الطفلة:
ـ خدتي شامته… ومش عارفة تحملي اسمه… هنعمل إيه في البنت يا خطاب؟… قولّي.
نظر خطاب إلى طفليه بقلق من القادم:
ـ مش عارف أقولك إيه… بس مش قادر أتقبل دخول "بنت حرام" على بيتي… فيها خراب… والعياذ بالله.
نظر الطفلان إلى بعضهما، وسأل "بهاء" أخاه بحيرة:
ـ يعني إيه "بنت حرام"؟… هي حرامية؟
هز إيهاب رأسه:
ـ لأ يا عبيط… زي البنت اللي في الفيلم… ملهاش أب… ومامتها بتعمل حاجات وحشة مع الرجالة.
سمع خطاب وابتسام حديثهما… فنهرتهم والدتهم وقالت لزوجها:
ـ شُفت؟! خليت الولاد يقولوا إيه؟! اتقِ الله يا خطاب… دا إنت راجل حاجج بيت الله… بدل ما تقول "بنت حرام"… افتكر إنها يتيمة مقطوعة… وافتكر حديث النبي:
"أنا وكافل اليتيم كهاتين في الجنة"
وأشار بالسبابة والوسطى…
وربنا قال: (فأما اليتيم فلا تقهر)…
افتكر جميل هويدا… في بنتها!
مسح خطاب وجهه… ودمعت عيناه ندمًا:
ـ أستغفر الله العظيم… ليكي حق يا ابتسام… أنا غلطت… وانتي زوجة صالحة… أرشدتيني… خلاص… من النهارده "روح" هتبقى في كفالتي.
إيه رأيك في اسم "روح"؟
ابتسمت ابتسام بفرح… حمدت الله أن عوّض يتم الطفلة بزوجٍ تقي رؤوف.
ضمّ خطاب زوجته من كتفها، وشم الطفلة إلى صدره بحنان:
ـ نورت بيت أبوكي… يا روح قلبي.
نظر الطفل "بهاء" إلى الطفلة بغيظ… شعر أنها ستأخذ مكانه في قلب والديه… فطالعها وقال في سرّه:
ـ روح… بنت حرام…