رواية أنا لها شمس الجزء الثانى ( اذناب الماضي ) الفصل الثامن بقلم روز امين
هتفت المرأة بصياحٍ مرتبك وهي تراها تلف مقبض الباب إستعدادًا لفتحه:
-فيه حاجة لازم حضرتك تعرفيها قبل ما تدخلي مكتبك
نطقت جملتها بعد فوات الأوان،فقد تسمرت الأخرى بوقفتها وكادت مقلتيها أن تخرجا من عينيها وهي ترى إبنة عم زوجها تجلسُ بكل أريحية خلف مكتبها، إشتعل قلبها نارًا حين لفت نظرها تلك اليافطة الذهبية الموضوعة على مقدمة المكتب مدونًا عليها رئيس مجلس الإدارة«سميحة زين الدين»، ومازاد من حنقها وتعجبها هو حديث تلك المستفزة التي نطقت وهي تتحركُ يمينًا ويسارًا بمقعدها المتحرك:
-إيه رأيك في المفاجأة الحلوة دي؟
لم تستوعب ما تراهُ عينيها بعد، إتسعت عينيها بذهولٍ في حين ارتجف قلبها هلعًا حينما هاجمتها فكرة إذلال زوجها إليها واستبدالها بإبنة عمه في ذاك المنصب الذي سلمها إياه منذ سنواتٍ عديدة، نطقت والإرتيابُ يسيطرُ على كل ذرةٍ بجسدها:
-"سميحة!، إنتِ بتعملي إيه في مكتبي؟!
وتابعت والذهول وعدم الاستيعاب سيدا موقفها:
-وإسمك بيعمل إيه على يافطة مكتبي ؟!
-كان يا حبيبتي...نطقت الكلمة ببرودٍ قاتل لتتابع بطريقة استفزت الأخرى:
-كان مكتبك قبل ما أنا أختاره علشان يكون مكتبي
هزت رأسها بعدم إدراكٍ للموقف لتنطق بحيرة وتشتت ظهر بعينيها:
- إنتِ بتقولي إيه؟ومين سمح لك بكده؟!
أجابتها بتعاظم:
-إسمي وإسم عيلتي هما اللي سمحوا لي
وتابعت رافعة عنقها بشموخٍ وكبرياء:
-عيلة الزين
مازال التشتُت يشملها وفكرة أن فؤاد أتى بها كنايةً لها ولاستكمال عقابها المستمر هي المسيطرة على مخيلتها الأن، سألتها بصوتٍ خرج متلبكًا لصعوبة الموقف:
-فؤاد هو اللي عينك مكاني؟
مطت شفتيها للأمام وبلامبالاة نطقت نافية:
-فؤاد ملوش علاقة بالموضوع، ده حتى لسه ميعرفش إني جيت من دُبي.
سألتها بارتيابٍ:
-عمو علام؟
-ولا عمو علام، ولا حتى بابي ليهم علاقة بالموضوع
قطبت إيثار جبينها فتابعت الأخرى بحماقة:
- أنا اللي قررت أجي أشتغل في شركتنا، وبما إن الشركة شركة عيلتي، فاديت لنفسي الحق في إختيار المنصب اللي يلائم إسمي وإسم عيلتي
واسترسلت برعونة:
- والحقيقة ملقتش منصب في الشركة كلها أفضل من رئيس مجلس الإدارة
وهزت رأسها لتتابع:
-ما أنا أكيد مش هشتغل تحت إيدك يا مدام
تداركت الموقف وتحدثت باستهزاء:
-هو إنتِ طبيعية يا سميحة؟!
يعني إنتِ صحيتي من النوم فجأة كده لقيتي نفسك فاضية فقولتي تيجي تشتغلي في الشركة، لا ومن غير أي قرارات رسمية جيتي واستوليتي على مكتبي؟!
إلتفتت بجوارها وتحدثت بحدة إلى مديرة مكتبها المرتبكة لتلقي عليها باللوم الشديد:
-وإنتِ كنتي فين يا أستاذة، وإزاي تسمحي لها هي أو أي حد يدخل مكتبي في غيابي
وأشارت على ذاك الصندوق الموضوع أرضًا والذي يظهر منه بعض أشيائها الخاصة بالعمل كالاوراق واللافتة المدون عليها نقوش حروف أسمها، وبعض الأشياء الأخرى لتصيح بحدة أرعبت المرأة:
-لا وكمان تلم حاجتي بكل وقاحة وتركنها، وكأنها طلعت قرار بإقالتي.
بجسدٍ يرتجف كانت تتابع "عالية" ما يحدث لتنطق متلبكة وهي تفرق كفيها ببعضيهما من شدة توترها:
-ملحقتش والله يا افندم، والهانم كانت جاية ومعاها الـ bodyguard بتوعها
هتفت إيثار بسخطٍ وعينين تطلق شزرًا:
-ده شغل فتونة وبلطجة بقى
-إحترمي نفسك وإتكلمي عني كويس قدام سكرتيرتك... نطقتها "سميحة"بعدما هبت واقفة وهي تخبط على سطح المكتب بكل قوتها لتتابع بتعالي وكبرياء:
-ومتنسيش إنك بتكلمي بنت أصحاب الشركة، أنا اللي إسمي على إسم الزين
وبإشارة من سبابتها استكملت باستهانة وهي ترمقها بنظراتٍ تقليلية لشأنها:
-لكن إنتِ،تطلعي مين؟!
وتابعت باستنكارٍ ودونية:
-إنتِ مجرد باراشوت على العيلة، وإوعي تفتكري إنك علشان إتجوزتي فؤاد علام وجيبتي منه ولاد تبقي خلاص إرتقيتي وبقيتي من العيلة، مهما وصلتي في عيلة الزين فاأنتِ في الآخر هيفضل إسمك" إيثار الجوهري"
بغرورٍ تلاعبت باليافطة الخاصة بها وباتت تُحرك أناملها فوق حروف إسم الزين لتتابع مسترسلة بتفاخرٍ وتصرفاتٍ لا تليقُ سوى بطفلةٍ بمرحلة المراهقة:
-مش إيثار الزين.
هزت الأخرى رأسها مستنكرة جميع ما يحدث لتنطق بذهولٍ من تصرفات تلك الفاقدة للحكمة والعقل الرشيد:
-لا، إنتِ أكيد مش طبيعية، أنا هكلم أنكل أحمد حالاً ييجي يوقف المسخرة اللي بتحصل دي
انتهت من حديثها لتمد يدها داخل حقيبة اليد لإخراج هاتفها الخاص ليقاطعها ذاك الصوت الذي صدح ساخرًا من خلفها:
-إيه الصياح والدوشة اللي على الصبح ده يا مدام، الموضوع بسيط ومش مستاهل تدخلي أحمد باشا أو غيره فيه
وأشار على شقيقته المبتسمة بتشفى وتحدث بإبتسامة طفيفة ظهرت بجانب ثغرة:
-دكتور "سميحة" شافت إن ده الوقت المناسب اللي لازم تيجي شركة عيلتها وتشتغل فيها وتحمي مالها بنفسها
وتابع بطريقة مستفزة:
-وإنتِ عارفة "سميحة" دقيقة وذوقها صعب ونادرًا لما حاجة بترضي ذوقها
وتابع باستهانة ولامبالاة:
- هي دخلت كل مكاتب الشركة وعلى فكرة أولهم مكتبي، لتقولي إننا مستقصدينك، لكن من بين الكل معجبهاش غير المكتب ده.
بقوة وتحدي أجابتهُ بحنكة أرادت بها إحراجه والتقليل من مهنيتهِ:
-أولاً أنا إسمي أستاذة إيثار مش مدام، مدام دي تقولها لي حضرتك وإحنا قاعدين نشرب مع بعض القهوة في جنينة أنكل أحمد، لكن أنا هنا أستاذة إيثار رئيس مجلس إدارة الشركة
وتابعت متهكمة:
-الشركة اللي حضرتك والدكتورة قلبتوها لقهوة بلدي، الأستاذة قررت فجأة تيجي تشتغل، لا ومن نفسها إختارت الوظيفة والمكتب ولا كأننا قاعدين في سويقة بيديرها تاجر في سوق العبور، مش شركة انترناشيونال وتعتبر من أكبر شركات الإستيراد والتصدير في الوطن العربي كله.
-اللي اتعمل ده عيب كبير في حقك قبل ما يكون في حق الدكتورة يا باشمهندس... قالتها وهي ترمقهُ باستنكار وتابعت بقوة وثبات:
-أنا هروح مكتب أستاذ "أيهم"، عشر دقايق أرجع ألاقي كل حاجة رجعت زي ما كانت في مكتبي، وإلا تتحملوا نتيجة اللي هعمله
احتدم داخلهُ وأضرمت نيران الحقد قلبه ليصيح بأعين تطلقُ شزرًا:
-إنتِ بتهدديني؟! شكلك نسيتي نفسك ونسيتي إنتِ واقفة قدام مين؟
هتفت بثباتٍ أشعل داخل كلاهما:
-إنتِ اللي نسيت نفسك ونسيت صلاحياتي اللي أسندها ليا أصحاب الشركة وأكبر مساهميها
وقبل أن يبادر بالرد قطع هتافاتهم دخول السيد"عزمي" المحامي الذي تحدث قائلاً بهدوء:
-سيادة المستشار فؤاد باشا معايا على التليفون وعاوز حضراتكم
صمت الجميع ليفتح الرجل مكبر الصوت ويظهر صوت ذاك القوي ثابتًا كجبالٍ عاتية:
-باشمهندس بسام،المهزلة اللي عندك دي تنتهي حالاً،والدكتورة تلم حاجتها فورًا وترجع المكتب زي ما كان بالظبط، وتتفضل تروح على بيتها.
إشتعل داخل بسام من إسلوب نجل عمه الحاد والذي أشعره أنهُ تليميذًا فاشل يعنف من قِبل معلمهُ، لتهتف تلك التي أسرعت متلهفة إلى الهاتف تحت ولع قلب الأخرى:
-أنا جاية أشتغل في شركة عيلتي يا فؤاد
وتابعت بصوتٍ متأثر وكأنها تشتكية مما أضرم نيران الغيرة داخل قلب خليلة الروح:
- يعني معملتش جريمة علشان مراتك تكلمني بإسلوب مُهين قدام السكرتيرة بتاعتها
برغم إفترائها الكاذب عليها إلا أنها إتخذت الصمت ملاذًا أمنًا وتركت ساحة الحرب لفارسها المغوار ولتنتظر لترى ماذا هو فاعلاً لأجلها، قطع صمتها هتاف ذاك الثائر وهو يقول بصوتٍ استطاع إخراجهُ متزنًا عاقلاً كي لا يقع في شرك تخطي الأصول:
-بالنسبة للشغل فمحدش معترض على وجودك، مع إني مستغرب وجود دكتورة ناجحة في مجالها زيك في شركة إستيراد وتصدير؟!، بس ما علينا
وتابع صارمًا:
- لكن الشغل ليه أصول واحترام يا دكتورة،كان لازم تبلغيني الاول أو تبلغي الباشمهندس أحمد، وبعدها نعمل إجتماع مجلس إدارة ونتناقش في الوظيفة اللي تليق لك وتقدري تنتجي فيها بيما يفيد الشركة ويضيف لها
ثم استرسل لائمًا بدهاء أوقعها في شِرك الخطأ:
-لكن سيادتك تخطيتي كل الأصول واختارتي منك لنفسك أعلى منصب في الشركة، وكمان المكتب،
بدأت وتيرة صوتهِ تعلو ليتغللاها الحدة والغضب:
- إنتِ والأستاذ بسام تعديتوا حدوتكم وتعديتوا عليا لما حطيتوا مراتي في الموقف السخيف ده قدام الموظفين
وأكمل موجهًا بتهديدًا مباشر تحت راحة قلب إمرأته:
-وعند مراتي حطوا ألف خط أحمر، لأني ممكن أتلاشى أخطائكم في حق رئيس مجلس الإدارة وأعتبره تفكير غير متزن في لحظة طيش منكم، لكن أي حد هيحاول مجرد بس المحاولة بالتجاوز في حق مراتي، هيشوف مني معاملة أقسم بالله هتقهره وتكرهه في اللحظة الغبية اللي فكر فيها يقرب منها، والكلام موجه للكل مهما كان هو مين
برغم حزنها العميق وجرحها الغائر من تصرفاتهُ معها مؤخرًا إلا أن حديثه ودفاعهُ الجسور عنها أمام نجلي عمه، وإفشال مخططهما بغزو مكانتها وزعزعة عرشها الذي صنعته بجدارة حنكتها في إدارة الأمور، جعلت قلبها يلينُ وتشعر بنشوة هزت كيانها بالكامل، لطالما كان لها السند والجدار الصامد، رجلها القوي بطلها المغوار المستعد دائمًا بتقديم روحه فداءًا لأمانها وأمنها، تنهدت براحة وبلحظة خمدت نيران جسدها المستعرة وكأن كلماتهُ نزلت على قلبها بردًا وسلاما.
تعرق جبين"بسام" خجلاً من حديث فؤاد،كم شعر بالتذلُل والتصغير وما زاد من قهرته هو تهديده المباشر وإظهار ندالته هو وشقيقته بهذا الكم من الوضوح،كاد أن يتحدث فقاطعه حديث تلك الحانقة التي تحدثت بتبرمٍ طفولي:
-أنا رصيت حاجتي في المكتب وخلاص يا فؤاد، وأظن مش من الذوق إنك تخرجني من مكتب أنا إختارته
وتابعت تذكرهُ بغرورٍ:
-وياريت متنساش إن دي شركة عيلتي،يعني أقل تقدير ليا إني أختار المكان اللي هقعد فيه
بهدوء ما قبل العاصفة تحدث:
-أنا مبعدش كلامي مرتين يا دكتورة
وتابع متجاهلاً عن عمد:
-باشمهندس "بسام"،المهزلة دي تنتهي حالاً
-حاضر يا سيادة المستشار...نطقها بخنوعٍ مجبر ومشاعر التذليل تشمل روحه،فتابع فؤاد بكل صرامة:
-أنا هقفل علشان عندي شغل ومش فاضي للمهاترات الفاضية دي، عشر دقايق وهتصل بيك يا" بسام"، علشان تقولي إن كل حاجة رجعت لوضعها الطبيعي
بصعوبة اخرج كلماتهِ عنوةً عنه:
-تمام يا سيادة المستشار، شوف شغلك واطمن.
أغلق الهاتف ونظر لشقيقته متجاهلاً إيثار ونظراتها الحادة الموجهة إليه:
-لمي حاجتك في البوكس وأنا مستنيكِ في مكتبي يا سميحة، في أقل من عشر دقايق تكوني عندي
-بسام... قالتها باعتراض وعيني راجية تطالبهُ بالوقوف بجانبها ضد تلك الغريمة،فتجاهل إشارات عينيها وتحدث بعدما أدار ظهره متوجهًا إلى مكتبه:
- هطلب لك قهوتك معايا، متتأخريش علشان متبردش.
بالكاد نطق كلماته وتحرك بخطواتٍ مسرعة تدل على مدى اشتعال قلبه، أما هي فنظرت على تلك التي تربع ساعديها على صدرها وترمقها بنظراتٍ شامتة وابتسامة نصر مرتسمة بجانب ثغرها، نطقت الأخرى بغلٍ ظهر من نظراتها الحادة:
-الموضوع ما انتهاش لحد هنا
بدأت بلملمة أشيائها وقامت بوضعها داخل الصندوق باضطرابٍ منفعل وبعدما انتهت حملته بين يديها لتتحرك باتجاه الباب لكنها توقفت لتقول بحدة:
-المكتب ده خلاص، بقى بتاعي، وبكره هفكرك.
نطقت إيثار بابتسامة مستفزة أشعلت قلب الأخرى:
-على ما أظن فؤاد باشا أمرك ترجعي المكتب زي ما كان
بنفس الإستفزاز ردت عليها:
-رجعيه إنتِ والسكرتيرة بتاعتك
وتوقفت لتتابع باستفزازٍ أكثر:
-،ولا أقول لك،سيبي كل حاجة زي ما هي في البوكس،لإني مش مطولة
وانطلقت للخرج مسترسلة:
-كلها يوم ولا أتنين بالكتير وراجعة لك.
-سخيفة...كلمة نطقتها إيثار وهرولت باتجاه الباب تصفعه بكل قوتها خلف "سميحة" مما زاد من احتراق قلبها أكثر،تطلعت إيثار بحقدٍ إلى أشيائها الملقاه بصندوقٍ جانبي ورفعت كفيها لأعلى ثم هدلتهما باستسلام،وتحركت باتجاهه فسبقت الفتاة خطواتها لتلتقطهُ بين يديها ثم وضعته فوق سطح المكتب الخشبي وتحدثت وهي تفرغ ما به لتعيد كل شيءٍ لقواعده:
-أنا هرجع كل حاجة مكانها يا مدام
وتابعت باعتذارٍ بالغ وعينين آسفتين:
-أنا آسفة، والله ما عرفت أعمل أي حاجة
تنهدت لتجيبها بهدوء:
-إنتِ معملتيش حاجة علشان تعتذري عليها يا "عالية"
وتابعت وهي تهز رأسها:
-"بسام" شكله أعلن الحرب عليا،وجايب أخته علشان تساعده في استفزازي ووقعي في الغلط.
-متقلقيش حضرتك،سيادة المستشار في ضهرك ومش هيسمح لأي مخلوق يمسك بأي سوء،وأدينا شوفنا اللي حصل من شوية
على ذكر قاتل كبريائها أصيب قلبها بخيبة الأمل، فبرغم كل ما حدث ونصرتهُ القوية لها، إلا أنه لم يقم بتوجيه ولو كلمةٍ واحدة لرد إعتبارها أمام منافسيها، تطلعت لحقيبتها ونظرت بشاشة الهاتف أملاً بأن يتواصل معها ويطمئنها بكلماته التي لا يضاهيها شيء.
على الجانب الأخر، مازال واقفًا أمام النافذة الزجاجية العملاقة ينظر على حديقة الفندق المقيم به،فمازال متواجدًا بحجرته بعد، حيث كان يرتدي ثيابه استعدادًا للهبوط إلى مطعم الفندق لتناول وجبة الإفطار قبل ذهابه للعمل المكلف به، وعلم من خلال مصادره الخاصة بالشركة ما حدث من إبنة عمه، فأسرع بالإتصال الفوري بالسيد "عزمي" محامي الشركة وطلب منه الذهاب بالهاتف إلى حلبة الصراع الدائرة، نظر بشاشة هاتفه ونظر على نقش اسم معذبة فؤاده، فكر بأن يتحدث إليها ليغمرها بمشاعر الإحتواء كي يزيل عن قلبها ما حدث، لكن كبريائهُ أبى أن يتنازل وقرر المضي للأماء بخطة تهذيبها، زفر بقوة وتحرك إلى الفراش ليلتقط حلة البدلة وتحرك مهرولاً للخارج بعد ارتدائها ليبدوا أنيقًا للغاية.
༺༻༺༻٭༺༻༺༻
على الجانب الأخر من الشركة، تحديدًا بمكتب بسام الزين، تقف تلك المستشاطة تدور حول نفسها بجنون لتنطق بحدة أظهرت كم غضبها الكامن بالداخل:
-بقى أنا يتعمل فيا كده على إيد الشرشوحة دي يا بسام!
وتابعت وهي تشير على حالها:
-أنا، سميحة الزين، إبن عمي ينصر عليا واحدة فلاحة ويخرجني من المكتب علشانها؟!
توقفت عن دورانها الجنوني لتتطلع على ذاك الجالس خلف مكتبه يتناول قهوته بهدوء وكأن ما حدث لا يعنيه من قريبٍ أو بعيد، هتفت بسخطٍ وهي ترمقهُ باستغراب:
-إيه البرود اللي إنتَ فيه ده، قاعد تشرب قهوتك ولا على بالك، أختك إنطردت من المكتب يا بني أدم، طلعت منه شايلة حاجتي على إيدي زي ما دخلت
أجابها بصوتٍ مستكين:
-أنا قولت لك من الأول إن اللي إسمها إيثار محتاجة تخطيط بدهاء، علشان نعرف نكسرها ونظهر للعيلة كلها إنها متستاهلش ثقتهم فيها، لكن إنتِ اللي أصريتي على دخلتك الهبلة، واللي نزلت من قيمتنا قدامها وقدام عزمي والسكرتيرة بتاعتها.
كان بسام قد تحدث عبر الهاتف منذ عدة أيام إلى شقيقته المتزوجة حاليًا من أحد أفراد العائلة وأصبح لديها إبنتان،والمقيمة بدولة الأمارات العربية، وطلب منها العودة والإستعانة وبأن تنضم إليه بفريق العمل بالشركة كي يكونا معًا فريقًا متحدًا ضد إيثار، ويحاولا إيقاعها في الأخطاء الإدارية لظهورها بشكلٍ غير لائق لإدارة الشركة، وبناءًا عليه ستُسحب منها الصلاحيات التي كُلفت بها وتنتقل إلى "بسام"
أشار لشقيقته لتجلس قائلاً:
-إهدي وإقعدي إشربي القهوة بتاعتك وخلينا نفكر بالعقل، وبلاش حركات الجنان بتاعتك دي
ضيقت بين عينيها ليتابع هو:
-علشان نمشي في السليم ونبعد الشكوك من حوالينا لازم تنسي موضوع المكتب ده خالص، وأنا قولت لك الكلام ده من الأول
أقبلت على المكتب لتدق بكفيها بقوة على سطحه لتهتف من بين أسنانها بغيظٍ أظهر كم الغل بداخلها:
-على جثتي أسيبه للفلاحة دي يا بسام،يا هاخد المكتب ده، يا هاخد روحها قصاده.
إلى هنا لم يعد يحتمل غباء شقيقته، فهب واقفًا ليصيح بعينين تطلقُ شزرًا:
-بقول لك إيه، يا تعقلي وتبطلي الجنان بتاعك ده وتتصرفي زي البني أدمين، يا تتفضلي ترجعي لحياتك في دُبي تاني وتسبيني أدير معركتي بنفسي
إعتدلت بوقفتها لتهتف معترضة وهي تفردُ ذراعيها:
-يا سلام، لعبة أنا بقى في إيدك يا باشمهندس، تجي لي لحد عندي وتطلب مساعدتي، وبعد ما أخد أجازة من شغلي وأوقف حياتي كلها وأرجع أنا وجوزي وولادي وأجي لك، بكل بساطة تقولي إرجعي مطرح ما جيتي
نطق بحدة مماثلة:
-أنا من الأول قولت لك تسمعي كلامي ونخطط للموضوع صح، لكن إنتِ مُصرة تمشيها خناقة ستات تافهة
وتابع بما ذبح روحها:
- مش قادرة تنسي إنها خطفت منك حبيب القلب اللي عمره ما حس بيكِ أصلاً.
-بسام،خلي بالك من كلامك،إنتَ كده بتهيني... نطقتها بوجعٍ ووغزة ظهرت بعينيها، ليتابع هو توبيخًا متجاهلاً ألمها:
-عاوزاني أكلمك إزاي،ده إنت بغبائك عرضتينا لموقف مؤرف، خلتيني واقف زي التلميذ الخايب اللي المدرس أخده غسيل ومكواة قدام باقي الفصل
حاول السيطرة على حاله قدر المستطاع لينطق مسترسلاً بهدوء بعدما سيطر على إنفعالاته:
-إقعدي، إشربي القهوة وخلينا نفكر ونشوف الخطوة الجاية هتكون إيه.
طالعته بحدة ثم رمت حالها على المقعد وحاولت كبح جماح غضبها.
༺༻༺༻٭༺༻༺༻
إنتهى اليوم دون وقوع مزيدًا من المشاكل، ليأتي المساء، كانت تنزل الدرج لتتناول وجبة العشاء مع العائلة، وجدت أبنائها الثلاثة مجتمعون على الأريكة الموالية للدرج، يشاهدون والدهم ويتحدثون معه صوت وصورة عبر التطبيق من خلال شاشة الحاسوب، فتوقفت بمنتصف الدرج لتستمع لصوت معذب فؤادها، هتف زين معترضًا:
-يا بابي أنا مش حابب أسافر، صدقني مش هستمتع، ليه أروح مكان ياخد من وقتي وتفكيري وفي النهاية مش هكون مبسوط، ولا بعمل حاجة بحبها؟!
أجابهُ بهدوء في محاولة لإقناعه:
-وبعدين يا زين، مش إتفقنا إن إنتَ رايح علشان تخلي بالك من أختك،سيبك من حتة إنك مش هتبقى مبسوط، إعتبرها مهمة أنا بكلفك بيها، إيه، هترفض مهمتي؟
باستياءٍ ظهر على ملامح الفتى نطق بصوتٍ خفيض:
-العفو حضرتك، زي ما تحب
ابتسمت الفتاة وكادت أن تقفز بجلستها كالأطفال لتنطق بسعادة لأبيها:
-ربنا يخليك ليا يا بابي.
ويخليكِ ليا يا تاجي... قالها مبتسمًا لينطق الصغير بأسى أظهر كم اشتياقه لعزيز عينه:
-هو أنتَ هتيجي إمتي يا حبيبي، إنتَ وحشتني كتير
مزقت كلمات ذاك المشاغب نياط قلب فؤاد لينطق بحنوٍ ظهر بفيضٍ عبر عينيه:
-كمان يومين يا حبيبي
قطبت الفتاة جبينها لتسألها مستغربة:
-هو مش حضرتك قولت هتيجي بكرة؟
أجابها باستفاضة:
-الشغل اللي جيت الغردقة علشانه مخلصش، فاضرينا نأخر سفرنا يوم كمان
تألم قلب إيثار حينما استمعت لتأجيل عودته يومًا أخر،فحتى لو كانا لا يتحدثا،فيكفيها شعور وجوده حولها،فقد أصبح مستحيلاً الشعور بالإطمئنان وهو خارج محيطها، فاقت على صوت الصغير الذي التفت إليها وتحدث بصياحٍ فاضح:
-مامي، تعالي إتكلمي مع بابي
غصة مُرة توقفت بحلقها وبلحظة قررت الثأر لكرامتها من هادرها، تابعت الهبوط بكبرياء بعدما رفع الصغير الحاسوب لتظهر وهي تنزل الدرج بثوبٍ أنيق يظهر تفاصيل جسدها، ومازاد من لوعة قلب ذاك العاشق هو لونهُ النبيذي والذي يعشقهُ عليها، استنفر جسدهُ بالكامل حين رأها بكل ذاك السحر، فقد اشتاقها شوق المحتضر لترياق الحياة، تجاهلت الحاسوب بعدما رأت نظراتهُ عليها وتحدثت بصوتٍ مرتفع:
-عزة
خرجت الأخرى سريعًا لتتابع حديثها:
-خليهم يجهزوا السفرة وإدوا خبر للباشا والدكتورة، الوقت إتأخر ومالك لازم ينام علشان مدرسته
نطقت كلماتها وتحركت لغرفة المكتب حيث والد زوجها، كظم غيظه منها، متى سترضح تلك الفرسة الجامحة وتلين لخيالها، أمازالت غاضبة، ألم يشفع لهُ ما فعله من أجلها صباح اليوم ،انتظر أن تهاتفهُ وتتحدث معه فيما جرى،فطال انتظارهُ وكالعادة انحازت لكبريائها، تابع حديثه مع أنجاله الثلاث حتى استمع لصوت والدهُ الذي تحدث إليه بعدما استمع لصوته بينما إيثار تتأبط ذراعه لمساعدته :
-إقفل مع ولادك وكلمني بعد العشا علشان عاوزك يا فؤاد.
-حاضر يا باشا، ساعة بالظبط وهرن على حضرتك... قالها دون أن يرى أبيه وبالفعل أغلق وانضم الجميع إلى حجرة السفرة ملتفين حول الطعام، بدأ علام بسؤال إيثار كي يفتح مواضيعًا للنقاش بدلاً من الصمت المريب الذي يملؤ المكان:
-الشركة أخبارها إيه يا إيثار
نطقت بعملية دون أن تخبره بما حدث اليوم كي لا تشغل تفكيره بتلك المهاترات التي لا جدوى منها وأيضًا لكي لا تخلق مشاحنات ببن أفراد العائلة الواحدة وتؤثم عليها وتعكر صفو منزلها:
-كل حاجة ماشية تمام يا بابا
رمقتها عصمت بنظرة ثاقبة، فمازالت غاضبة منها للأن، تحدثت الفتاة إلى والدتها:
-مامي، ممكن تقربي لي المربى
-حاضر يا حبيبتي...قالتها للفتاة وهي تناولها الصَحن فتحدثت عصمت إلى حفيدتها:
-كلمتي بابي وخلتيه لغى فكرة السفر زي ما قولت لك يا "تاج"؟
هتف الصغير بصوتٍ مرتفع وكأن عزة هي من تتحدث:
-دي كلمته من شوية يا نانا وخلته يخلي زين يوافق غصب عنه، وهو مش كان موافق أصلاً
هتفت الفتاة بغيظٍ من ذاك المشاغب:
-إطلع منها يا مالك، وألف مرة قولت لك ملكش دعوة بأي حاجة تخصني
هز رأسهُ لإغاظتها فقاطعها" زين" بصوتٍ معترض:
-يطلع منها ليه يا "تاج"، هو بيقول اللي حصل، إنتِ فعلاً السبب وإنتِ اللي خليتي بابي يضغط عليا علشان أروح مكان أن مش عاوز أروحه
نطقت إيثار بحزمٍ:
-كفاية إنتَ وهي، إنتوا إزاي تتكلموا بالطريقة دي قدام الباشا ونانا؟!
-آسف يا مامي... قالها زين ثم توجه إلى جديه وأبدى آسفهُ إليهما مما جعلها تشعر بالفخر، تأسفت الفتاة أيضًا للجميع وتابعوا تناول الطعام في صمتٍ تام، إنتهى الطعام وتحركت إيثار إلي المطبخ لطلب قهوة لها ولوالد زوجها وتحدثت إلى عزة:
-إعملي القهوة بتاعتي أنا والباشا يا عزة
ثم تابعت بتوجيه حديثها إلى وداد:
-وإنتِ يا وداد، إعملي الأعشاب بتاعت الدكتورة
-تحت أمرك يا هانم،حالاً هتكون جاهزة
توقفت لترمق تلك الفتاة بجمود ثم تحدثت بصرامة:
-إنتِ، اليونيفورم اللي إنتِ لبساه ده يتغير وتلبسي لبس محترم، لو شوفت زرار من زراير بلوزتك مفتوح تاني هتسيبي القصر في لحظتها، وتلبسي زيك زي باقي زميلاتك، بنطالون وشيميز محترم فوق منه، الچيب الضيقة دي ممنوع تتلبس تاني، مفهوم؟
نطقت بخبثٍ وهدوء:
-اليونيفورم ده أنا متعودة عليه من وقت ما كنت شغالة عند أحمد باشا يا مدام
بقوة تحدثت:
-وإحنا هنا مش في فيلا احمد باشا، إنتِ في قصر علام باشا زين الدين، يعني تلبسي نفس اليونيفرم بتاع زميلانك
وتوجهت باللوم لرئيسة العاملات:
-وإنتِ يا سعاد، إزاي تقبلي بالتسيب ده؟
نطقت السيدة بوقار:
-أنا اعترضت يا هانم من أول يوم، بس هي راحت من ورايا للدكتورة وقالت لها إنها متعودة على اللبس ده ومرتاحة فيه، واستأذنتها تفضل بيه، والدكتورة سمحت لها
هتفت بجمودٍ:
-وأنا بقولك ممنوع أشوفها بالمنظر ده قدامي مرة تانية،ولو حصل هتكوني إنتِ المسؤلة قدامي
إشتعل قلب الفتاة غيظًا لتتابع إيثار بأمرٍ لا يقبل النقاش:
-ومن النهاردة ممنوع أي حد يطلع لخدمة الدور التاني غير وداد وشيماء وعزة،سامعاني يا سعاد،مفيش رجل تتحرك ناحية السلم غير التلاتة اللي قولت عليهم دول
هتفت عزة مهللة وهي ترمق الفتاة باشمئزاز:
-ينصر دينك، أهو ده الكلام ولا بلاش
نطقت السيدة بطاعة:
-تحت أمرك يا هانم.
كانت الفتاة تنظر أرضًا تحاشيًا لتلك النظرات القاتلة التي تخرج من قلب عاشقة تذوبُ عشقًا وغيره على رجلها.
تحركت للخارج لتترك همهمات الخدم وأحاديثهم الجانبية لتقطعها عزة التي هتفت بسخرية:
-جرى إيه يختي منك ليها،مصدقتوا كلمتين وإتقالوا
وتابعت متهكمة:
-ودود ودو ودودو
ضحكن على تلك المرأة الفكاهية وتابعن ما يفعلن.
خرجت إيثار لتقطع طريقها "عصمت" حيث نطقت بجدية:
-كلمتي جوزك وصالحتيه؟
نطقت بقوة نتيجة الضغوط النفسية التي تتعرض لها مؤخرًا:
-لا يا ماما، ومش هكلمه، لأني مغلطش علشان أصالحه.
أجابتها بتحدي:
-براحتك، بس لما الأمور تفلت من بين اديكي، ساعتها مبتبقيش تلومي غير عنادك ودماغك الناشفة.
تركتها وتحركت إلى المطبخ لتباشر العاملات تحت استياء الأخرى.
༺༻༺༻٭༺༻༺༻
داخل المكتب، تحدث بارتياب:
-يا حبيبي أنا خايف على الاولاد، مينفعش يسافروا إنجلترا لوحدهم يا فؤاد
أجاب والدهُ بثقة:
-متقلقش يا باشا، أنا مأمنهم كويس قوي، أكيد مش هفرط في أمان ولادي وأضحي بيهم، أنا مش عاوز الولاد يحسوا إنهم محبوسين وممنوعين من كل حاجة يا بايا
وتابع بما يثقل قلبهُ في الفترة الأخيرة:
-وبعدين اللي إحنا خايفين منه كلها أربع تلات أيام ويبقى في مصر، يعني هيبقى تحت رحمتي، مظنش إنه غبي لدرجة إنه يإذي ولادي وهو روحه بين إديا
وتابع بسخطٍ وحدة ترجع لغيرته الشديدة من ذاك الحقير، فبرغم مرور كل تلك السنوات إلا أنه مازال يشتعل من غيرته كلما جال في خاطره فكرة أن إمرأته كانت ملكًا لغيره من قبل:
-هو كمان بقى له نقطة ضعف أعرف أمسكه منها، مراته وولاده الصغيرين
زفر الأب وسألهُ باستسلام:
-بلغت إيثار ويوسف برجوعه؟
-لسه، مش عارف أفاتحهم إزاي في الموضوع، بس أكيد هقول لهم لما أرجع إن شاء الله
وتابع:
-فيه خبر عرفته جديد
-خير يا فؤاد؟
-شركة الصخرة، طلع الحقير هو اللي وراها زي ما توقعت بالظبط، والراجل الفرنسي صاحبها طلع جذوره لبنانية، ويبقى حماه.
༺༻༺༻٭༺༻༺༻
صعدت إلى جناحها بعدما أطمئنت على أطفالها، بدلت ثيابها وتمددت فوق الفراش، باتت تتقلبُ عليه وكانهُ جمرًا ملتهب، فكل شيء بدونهُ فاقدًا لقيمته، حتى روحها، فاقدة للحياة، ماذا فعلت بي يا رجُل حتى تتوقف حياتي عليك بتلك الطريقة، فكل شيءٍ أصبح بلا مذاق، كلما نظرت رأيتُ وجههك يلاحقني بجميع الزوايا،كل الوجوه أصبحت وجوهك،كل العيون كأنها عيناك،اشتاقت إليك حد الجنون،ليتك تباغتني بدخولك الأن،تهرول إليّ وتضمني بقوة وتدخلني بضلوعك،أريدك الأن بجانبي وبقوة،لم يكن حالهُ ببعيدٍ عنها،فكان يقف أمام النافذة يتناول مشروبًا باردًا علهُ يطفيء نار قلبه الملتهبة،فقد أضرمت نيرانًا متعدده بداخله،منها الإشتياق والغيرة والغضب أيضًا،فهو الأن ساخطًا عليها لعدة جوانب،أولهما ذاك الـ"عمرو"، يعلم أن لا ذنب لها لكنه يحملها ذنب وجوده بمحيط حياتهما، فلولا حماقتها و زواجها من ذاك الأرعنُ بالماضي ما كان لوجودهُ أثرًا، وسخطه الثاني هو عنادها الكافر والذي طالما كان سببًا لجميع مشاكلهم سويًا.
أمسكت الهاتف وطلبت نجلها بعدما شعرت بحنينها إليه، وحددا موعدًا مساء الغد ليتناولا سويًا العشاء بأحد المطاعم المحببة لديهما.
༺༻༺༻٭༺༻༺༻
أتى المساء سريعًا، بأحد المطاعم الفخمة الموجودة بالعاصمة "القاهرة"
كانت تُقابل نجلها الجلوس حول إحدى الطاولات وأمامهما عِدة أصناف من الطعام المفضل لدى كُلٍ منهما،تطلعت عليه وجدته شاردًا يُقلب بتلك الشوكة بحبات الأرز داخل صحنه ويبدوا عليه التشتُت وعدم التركيز، مضغت ما في فمها وابتلعته لتقول وهي تُشير إلى صَحنه بذاك السكين الصغير المخصص لتقطيع اللحوم:
-مبتاكلش ليه يا حبيبي؟
كان غارقًا بالتفكير فيما حدث منذ عدة أيام أمام جامعة تلك الحبيبة التي استحوذت على جميع حواسه،مازالت تلك المرارة التي سكنت جوفه تسكنه للأن،وغزة حادة اقتحمت وسط قلبه وكأنها طعنة خِنجر مُدبب غُرس بمنتصف القلب، كرر "مالك" ذاك المشاكس الجالس بالمقعد المجاور لوالدته بصوتٍ مرتفع أثار انتباه جميع من بالمكان لينتبه ذاك الشارد"يوسف" لحديث شقيقه الأصغر، الذي تمسك بوالدته وأصر على الخروج معها عندما عَلم بأنها ذاهبة لمقابلة شقيقه الأكبر:
-مش بتاكل ليه يا چو؟
انتبه وتطلع عليه ليكمل ذاك المشاغب الصغير بلطافة وعفوية ما يتردد دائمًا على أذانه من "عزة":
-على فكرة، الخضار اللي مش بتاكله ده هيجري وراك يوم القيامة، والرز كمان، هيجري وراك كل حبة لوحدها
-يا راجل؟...نطقها بعينين متسعتين بذهولاً مصطنع ليسألهُ مستغربًا:
-معقولة دي يا ملوك،كل حبة رز هتجري ورايا لوحدها؟!
ليُجيبه الصغير بانتشاء وحماس:
-أيوة يا چو، زوزة هي اللي قالت لي كده
حدث شقيقهُ بكثيراً من اللُطف وهو يشجعهُ على إكمال طعامه:
-طب يلا يا بطل خلص طبقك كله
ابتسمت والدتهما لتحث صغيرها على الصمت:
-كُل وإنتَ ساكت يا ملوك علشان أخدك معايا كل مرة أروح فيها عند چو
-وعد يا إيثو؟
اتسعت عينيها ذهولاً لتهتف ناهرة:
-ولد، عيب اللي بتقوله ده؟
رفع كتفيه للأعلى وأشار بكفيه مبررًا:
-هو بابي بيقول عيب يا مامي!
ضيقت عينيه مستفهمة ليتابع بمراوغة:
-مش بابي هو اللي بيقولك يا إيثو
ضحك يوسف وهو يتطلع على الصغير لتنطق والدته وهي تعنفهُ بنبرة حازمة:
-لو سمعت صوتك تاني إعتبر إن دي هتكون أخر مرة تخرج معايا فيها
مط شفتيه للأمام قبل أن يزفر باستياءٍ ويلجيء للإلتهاء في الطعام لينشغل به بدلاً من أن يندمج بالثرثرة وتصب تلك الشرسة جام غضبها عليه، تنفست بحدة لتزفر أنفاسها علها تستعيد هدوئها من جديد ثم تحدثت إلى نجلها البكري المستحوذ على جزءًا كبير من القلب:
-مقولتليش يا يوسف، ناوي تعمل إيه في موضوع بيسان؟
ضيق بين عينيه ليسألها مستفهمًا:
-يعني إيه هعمل إيه؟!
طالعتهُ باستغراب لحديثهُ ليتابع شارحًا:
-طب نخلي السؤال مباشر أكتر، إيه اللي حضرتك شايفة إني المفروض أعمله من وجهة نظرك؟!
تنهدت للحال الذي وصل إليه نجلها فتحدثت بما وصلت إليه بعد تفكير عميق:
-بص يا حبيبي، أنا فكرت كويس في وضعك إنتَ وبوسي، ولقيت إن موضوعكم مش هيتحل غير عن طريق علام باشا
قطب بين حاجبيه ليسألها مستفسرًا:
-بمعني؟
رفعت كتفيها قليلاً قبل أن تهدلهما من جديد وتقول:
-هكلم لك الباشا علشان يتدخل ويخطبها لك من ماجد
بصوتٍ مرتفع نسبيًا نطق بحدة أظهرت كم استياءهُ:
-إوعي تعملي كده
ضيقت بين عينيها لتسألهُ باستغراب:
-ليه؟!
-علشان أنا عمري ما كنت ندل ولا عمر دي كانت أخلاقي...لم تفهم المغزى من وراء جملته فاوضح مسترسلاً:
-مش أنا الراجل اللي ألجأ لحد علشان يضغط على ابو البنت اللي بحبها علشان يجبره يجوزها لي
تركت أدوات تناول الطعام داخل الصَحن وشبكت كفيها ببعضيهما ثم استندت بفكها عليهما لتنطق بابتسامة ساخرة:
-وتفتكر اللي إسمه أمجد ده يستاهل إنك تفكر فيه بالأخلاق دي؟!، ده إنسان انتهازي ووصولي، وبيركب أي موجة تجي له علشان توصله لهدفه، حتى لو كانت الوسيلة غير شريفة
-وحضرتك بقى عاوزاني اخده قدوتي ؟
-أنا مقولتش كده يا يوسف، بلاش تحور كلامي وتفسره بطريقة تدين تفكيري
أجابها بحدة ترجع لحساسيته المفرطة تجاه ذاك الموضوع:
-الكلام واضح وضوح الشمس ومش محتاج تحوير، إنتِ أكتر واحدة عارفة عدم ارتياح دكتور ماجد ليا واللي وصل لحد الكُره
وتابع بمرارة:
-مش هقبلها على نفسي يا ماما
سألتهُ بألم ينخر بقلبها:
-يعني هتسيبها تضيع من إيدك يا چو؟!
-مين قال كده... قالها بثقة عالية ليتابع وهو يقتطع شريحة اللحم بالسكين والشوكة:
-أنا مش هسيب بيسان لأني ببساطة مش هعرف أعيش مع غيرها،بس الموضوع مش سهل، ومحتاج صبر مني ومنها، وسعي وجُهد مني
رفع بصره يتعمق بعينيها قبل أن ينطق بكبرياء وكرامة:
-أنا مش هتقدم لبوسي غير وأنا باني نفسي ومالي مركزي،علشان أعيشها في نفس المستوى اللي هي عايشة فيه
واستطرد بعينين تشتعلُ غضبًا:
- مش هسمح للي إسمه ماجد يهيني ويتطاول عليا ويقولي إني بتحامى في أمي وجوزها
هزت رأسها تعبيرًا عن استيائها من الحديث مع خروج ابتسامة ساخرة بجانب فمها لتنطق متهكمة:
-ده على أساس إنه عايش في خيره ولا خير أهله؟، مهو من ساعة ما اتجوز فريال وهو عايش سفلقة على عيلة مراته
نطق متنصلاً بترفعٍ:
-أنا مليش دعوة بغيري، ومش هحط نفسي معاه في نفس الخانة وأعرض نفسي ابقى مادة للسخرية يتنقلوها الناس بينهم، زي ما حضرتك بتتكلمي عنه الوقت
نطقت وهي تشملهُ بسخرية:
- وإنتَ بقى فاكر إن البنت هتفضل مستنية جنابك لحد ما تكَون نفسك في سنين؟!
-هتستناني، بيسان بتحبني، وأنا هعمل المستحيل علشان أكون جدير بيها.
تحدثت بتحايل:
-طب خليني أساعدك يا حبيبي، أنا عندي فلوس كتير خاصة بيا في حساباتي،كلها من تعبي وشُغلي
قاطع حديثها هادرًا بحدة اظهرت كم استيائه:
-لو سمحتي يا ماما تنسي الموضوع ده نهائي، وياريت دي تكون أخر مرة نتكلم فيه
تنهدت قبل أن تقول بنبرة استسلامية:
-إنتَ حُر، أنا حاولت أساعدك لكن إنتَ قافل دماغك ورافض تسمع أي حد غير صوتك، يارب ميجيش اليوم اللي تندم فيه يا يوسف.
بسط كفه ليحتوي خاصتها بعدما رأى غضبها يلوح بعينيها، ثم شملها بنظراتٍ تقطرُ حنانًا صاحبتها ابتسامته الجذابة:
-أنا مقدر خوفك عليا وعلى مصلحتي،بس أنا عاوزك تطمني من ناحيتي،صدقيني يا حبيبتي أنا مرتب أموري كويس
بمقلتين تمتلؤُ بحنان الدنيا بأكملها تحدثت:
-نفسي أشوفك أسعد إنسان في الدنيا كلها يا حبيبي،إنتَ تعبت معايا كتير قوي،ونفسي قلبي يطمن عليك.
-إطمني يا ماما...تنهد بهدوء وتناول إحدى اللُقيمات ثم تحدث بنبرة حذرة مترددة:
-عمرو بيه البنهاوي باعت لعمي حسين عاوز منه رقم تليفوني
توقف الطعام بحلقها وبدأت بالسُعال مما أربك الشاب وعلى الفور ناولها كأس المياه وهو يقول بارتيابٍ:
-إشربي ماية يا حبيبتي
تناولت من يده الكأس وارتشفت منه وبعدما هدأت تطلعت بمقلتيه تسألهُ والزعرُ يتملكُ نظراتها:
-خد رقمك منه يا يوسف؟
هز رأسه نافيًا فهدأ قلبها قليلاً وتابعت:
-جاي بعد السنين دي كلها عاوز منك إيه؟!
بلامبالاة تحدث وهو يتابع تناول طعامه وكأن الأمر لا يعنيه:
-الباشا شكله قام من النوم وفجأة إفتكر إن عنده عيال راميهم في مصر من سنين
وتابع ساخرًا وهو يبتسم:
-قال إيه عاوز رقم تليفوني علشان يتواصل معايا أنا وزينة، ويشوف لو محتاجين حاجة
بدأت تقطم أظافر يدها نتيجة لتوترها الزائد قبل أن تقول بارتباكٍ ظهر بَيِن عبر نبراتها:
-تصرفه في الوقت ده وبعد الغيبة دي كلها ميطمنش،وأكيد وراه مصيبة
-ولا وراه أي حاجة...نطقها بلامبالاة ليكمل مفسرًا بتقليل كي يحد من ارتياب تلك التي سكن الرُعبُ عينيها:
-كل الحكاية إن البيه حابب ينيم ضميره، فسئل من باب إنه كده عمل اللي عليه قدام أخوه
-وهو اللي زي عمرو ده عنده ضمير من الأساس علشان يفوق؟!،وبعدين كان فين السنين دي كلها
واشارت بكفها مستفهمة بنظراتٍ حائرة وعقلٍ مُشتت:
-إشمعنا في التوقيت ده بالذات اللي فكر فيك إنتَ واختك !
-وبعدين يا ماما... قالها لائمًا ليتابع بحزمٍ:
-متكبريش الموضوع وتخليني أندم إني قولت لك
اتسعت عينيها لتهتف بعينين تقطرُ لومًا:
-هو أنتَ كمان مكنتش عاوز تقول لي ؟!
-يا حبيبتي انا مقصدش إني أخبي عليكِ، بس حقيقي رد فعلك وتوترك ده خلاني ندمت إني بلغتك، وده خوف عليكِ على فكرة
أومأت بفتور ليتطلع هو على ذاك القاطن فوق مقعده وجده متوقفًا عن الطعام ويبدوا عليه الغضب من شفتيه الممطوطة للأمام، سألهُ بنبرة حنون:
-مالك يا حبيبي،مبتاكلش ليه؟إيه اللي مزعلك؟
هتف بحدة أظهرت كم استيائه:
-زهقت يا چو،حياتي كلها عبارة عن عقابات، طول الوقت بتعاقب وبتعنف من بابي ومامي
ثم ربع ساعديه وتابع مسترسلاً بسخطٍ:
-هو أنا لو بس أعرف أنا بتعاقب على إيه،قلبي هيرتاح ويهدى يا چو
كظم ضحكاته من مظهر شقيقه المشاكس لتشير إيثار بكفها إلى الصغير الذي سيؤدي بها حتمًا إلى الجنون وهي تنظر على يوسف:
-إتفضل، كأني سامعة عزة بتتكلم قدامي
تطلع على شقيقه وتحدث مبتسمًا:
-لو هنتكلم بالمنطق والعقل، فأنت عبارة عن مجموعة كوارث متحركة على الأرض يا مالك، يا ابني إنتَ مفيش ساعة بتعدي من غير ما تعمل فيها مصيبة، وده اللي بيزعل مامي وأنكل فؤاد منك
رفع يده وتحدث متحمسًا:
-أنا صغير يا چو، وجدو قالي إني بكرة هكبر وهبطل كوارث
بالكاد أكمل جملته ليصيح بصوتٍ مرتفع وتهليل بعدما هبط من فوق مقعده ليُسرع مهرولاً على أبيه الذي ولچ من باب المكان حالاً:
-بابـــــي.