رواية ابن الصعيدي الفصل الثامن 8 بقلم نور الشامي


 رواية ابن الصعيدي الفصل الثامن 

كانت الأضواء الشاحبة تنعكس على زجاج السيارة وصوت المحرك يعلو في سكون الليل وصخر يقود بسرعة بجوار المستشفى يتأرجح بين القلق والغضب حتى لمح طيفا مألوفا يقف عند السور فـ ضغط على المكابح بقوة وانحرف بسيارته إلى جانب الطريق ثم ترجل منها بخطوات مسرعة واقترب من قدر التي كانت تسير ببطئ وهي تبكي بحرقه وردد بعصبيه: 

إزاي خرجتي من غير ما نشوفك... وإي الورجه ال كتبتيها دي   أنا كنت فاكر إن كريم خطفك.. حرام عليكي ليه اكده.. هو انتي ليه دايما عايزه تحرقي قلبي 

رفعت قدر نظرها إليه والدموع تتلألأ في عينيها وصوتها يخرج متهدجا من بين شفتيها المرتجفتين:

انا السبب... أنا ال جتلت ميار... علشان اكده ابني مات.... أنا استاهل كل ال بيوحصلي.. لازم اخلصكم مني ومن شري.. محدش بيحبني لا اهلي ولا جدي ولا مامتك ولا حتي انت.. الكل بيكرهني وانتوا معاكم حق تكرهوني... سيبني بالله عليك امشي واختفي من حياتكم كلها بجا 

تنهد صخر بضيق وظل واقفا أمامها يتأمل ملامحها الشاحبة  ونظراتها المكسورة... لم يتحدث لكن عينيه أفصحتا عن قلق دفين كان يحاول كتمانه حتي اقترب منها بحذر ثم ردد بصوت منخفض:

إنتي تعبانة، لازم ترجعي المستشفي.. مينفعش ال بتعمليه دا انا مش ناجص كفايه ال انا فيه 

ـنظرت قدر الي بدموع واستندت علي الحلئم وهتفت: 

سيبني... بلاش. أنا تعبت خلاص.. سيبني بجا بالله عليك 

القت قدر كلماتها وجاءت لتذهب ولكن لم يمهلها صخر فرصه للذهاب ومد يده إليها بهدوء ثم حملها بين ذراعيه كما لو أنها باتت قطعة من روحه لا تحتمل السقوط و وضعها في المقعد المجاور واغلق الباب ثم استدار إلى مقعد القيادة وأدار المحرك من جديد وانطلقت السيارة بسرعه وبعد فتره عند ادم كان الليل قد ثقل ستاره على البيت الكبير لا صوت يسمع سوى أنفاس السكون الثقيلة فـ تجولت يمنى بين أرجاء المكان تبحث عن طيفٍ أنثوي ونادت وهي تمرر يدها على حواف الأبواب الخشبية القديمة:

يا حجه... يا حجه حضرتك فين.. مفيش حد اهنيه ولا اي عاد

اتجهت يمني نحو الصالة وهناك رأت ادم واقفا عند النافذة  جسده مائل قليلا وفي يده كأس يلمع تحت الضوء الأصفر الخافت فـ اقتربت منه خطوة بخطوة حتى وقفت على بعد متر واحد ورددت  بقلق:

هو إي ال في إيدك دا.... إنت بتشرب ولا اي؟ 

استدار ادم نحوها ببطء وابتسامة باهتة ترتسم على وجهه  وعلق دون أن ينظر في عينيها:

أمي سافرت عند أهل ليلى الله يرحمها ... بيجولوا أمها تعبانة شوية فراحت علشان تشوفهغ وتبجي جمبها 

قطبت يمني حاجبيها  تنظر إليه بنظرة لا تخلو من خيبة أمل وهتفت :

 وسايب البيت فاضي وتشرب فيه كأنك لوحدك؟ دا اسمه تصرف راجل.. انت فاكر ان اكده هتنسي عمر الحرام ما بينسي حاجه 

ضحك ادم بسخرية ثم جلس على الأريكة بإرهاق واضح وردد:

 يمكن لو كنتي مكاني... كنتي عملتي أكتر من اكده.. بلاش تتكلمي وانتي مش عايشه مكاني 

نظرا يمني اليه بضيق واردفت:

 لع مكنتش هعمل اكده... إنت مش لوحدك يا آدم  في ناس مستنياك تكون سند ليهم.. بس انت اكده بتضيع نفسك انا مش بجولك بلاش تزعل.. لع طبعا ازعل.. مدام ليلي الله يرحمها يتزعل عليها العمر كله بس عمر الزعل ما كان بالطريجه دي فيه ناس كتير محتاجالك 

رفع ادم رأسه نحوها وردد بحدة منخفضة:

 زي مين؟! صخر؟ قدر؟ ولا إنتي؟

سكتت  يمني للحظة، ثم همست:

ـلع مش قدر وقدر مش وحشة اكده زي ما انت فاكر.. بس موجوعة. وصخر... كان جاسي عليها جوي.. محدش رحمها 

وقف ادم فجأة، اقترب منها حتى كاد يلامس كتفها  وردد بحده 
ـ صخر أنقذها من تحت الأرض... كل مره يوجف جمبها وينقذها.. وجف جصاد جده علشانها.. جصاد خليل الصعيدي ال لسه محدش جدر يوجف جصاده علشان ست قدر ال في الاخر كانت السبب في موت مرته.. قدر دمرت الكل واولهم صخر 

ابتلعت يمنؤ ريقها بصعوبه  وقالت بصوت خافت:

 بس هو وجعها أكتر ما أنقذها... وكلنا عندنا حدود يا آدم.. الكل بيتعدي حدوده في الاذيه معاها.. الكل بيحملها نتيحه اي مشكله بتوحصل معرفش ليه مع انها الضحيه الوحيده

القت يمني كلماتها بضيق وطال الصمت بينهما وتبدلت نبرة الحوار إلى هدوء عاصف فـ أشاحت بوجهها وهمت بالرحيل مردده :

أنا مش جاية علشان أتخانق... واضح إني غلطانة إني جيت اصلا 

أمسك ادم يدها فجأة.. كانت حركته هادئة لكنها تحمل شيئا مختلفا شيئا أقرب للرجاء وهتف: 

استني... متروحيش اكده 

وقفت يمني مكانها... لا تجرؤ على النظر إليه ولا على التقدم وهي تشعر بدقات قلبها تتسارع فـ همس قريبا منها بصوت مبحوح كأنه يحارب نفسه:

متسبنيش بالله عليكي 

رفعت يمني نظرها إليه أخيرا  وعيناها تلمعان بمزيج من الغضب والتردد... فـ اقترب ادم أكثر خطوة بعد خطوة حتى تلاشى الفراغ بينهما وظلت هي واقفة لا تقاوم، لا تستسلم وهذه اللحظة لم تكن بريئة لكنها لم تكن واضحة. فقط عينان تتحدثان، ونفس منهك وقلوب تبحث عن مرفأ مؤقت للهروب من كل ما يؤلم ثم أغمضت يمنى عينيها وكأنها سلمت روحها لشيء لا تفهمه... شيء أكبر منها ومنه ولم يدرك احدهم حجم الكارثه التي حلت عليهم وبالتحديد يمني التي كانت وسيله لهروب ادم من واقعه المرير وفي صباح يوم جديد كان ضوء الشمس يتسلل بخفة من خلف الستائر ينعكس على ملامح صخر التي بدت مرهقة ساكنة كأن النوم لم يلمس عينيه بطمأنينة... كان مستلقيًا على الفراش وصدره العاري يرتفع ويهبط ببطء يغوص في هدوء مشوش حتى أحس فجأة بلمسة خفيفة على كتفه وفتح عينيه بفزع جالسا بسرعة وهو يلتقط أنفاسه:

في إي

صوته خرج حادا مضطربا قبل أن تقع عيناه على عنبر التي تقف امامه  في ثوب نوم بسيط تنظر إليه وردت بهدوء متوتر: 

 مالك؟ هو انت نسيت إننا اتجوزنا امبارح المفروض ليلة امبارح كانت عندي مش اكده 

نظر إليها صخر لثواني كأنها غريبة أمامه ثم مسح على وجهه وتنهد وهتف بنبرة باردة:

انا اتجوزتك علشان أمي طلبت اكدخ علشان توافج نفضل اهنيه  في الصعيد... وأنا مجدرش أسيب البلد دلوجتي.... وإنتي عارفة ده كويس

اتسعت عينا عنبر وظهر الحزن على ملامحها لكنها تماسكت واقتربت منه خطوة وهتفت: 

 بس أنا مرتك دلوجتي يا صخر ومليش صالح بكل ده... أنا م من حقي يكون ليا منك حاجة واكون معاك 

صرخ صخر بها وهو ينهض واقفا:

اومال العياط على ميار كان إي.... دا كله كان تمثيل أنا جوزها  وأنتي عارفة كويس هي كانت بالنسبالي اي.. عادي اكده انك تبجي مع حوزها بالسهوله دي يا بنت خالتي.. دا احنا مخدناش وجت حتي 

رددت عنبر بضيق وهي تحاول لمس ذراعيها : 

 أنا زعلت عليها، أيوه.. بس إنت دلوجتي انت  جوزي

ابتعد صخر عنها بعنف وأشار بيده:

 متقربيش مني... عنبر... بلاش احسن علشان مش هيوحصل بينا ال في دماغك 

وفي تلك اللحظة انفتح الباب ودخلت امه مسرعة وقد ارتسم القلق على وجهها ورددت: 

 في إي؟ إيه الصوت العالي ده.. مالك يا صخر في اي يا عنبر 

انهارت عنبر بالبكاء فجأة وهي تشير إلى صخر:

ـهو مش عايزني مش طايجني يا خالتر ... دا حتى مش عايز يبص في وشي 

تجمد صخر مكانه يضغط على أسنانه ثم صرخ بصوت أعلى من قدرته على الكتمان:

 أنا اتجوزتها علشانك إنتي يا حجه لس دا ميخلينيش مجبور ألمسها... انا مش مجبور أقرب منها غصب عني.. أنا مش جادر... فاهمة؟ مش جادر.. ارحموني بجا 

القي صخر كلماته ثم اندفع خارجا من الغرفة يصفق الباب خلفه بقوة تاركا خلفه عنبر تبكي في حضن أمه وقلبه يشتعل بصراعات لا يعرف كيف يسكتها وبعد دقائق دخل صخر الغرفة الأخرى بعصبية واضحة كأنما الغضب يشتعل في صدره نارا لا تنطفئ و تقدم بخطوات ثقيلة نحو الخزانة وفتحها بعنف ثم بدأ يبعثر ما فيها من ملابس يبحث عن شيء لا يبدو واضحا وفي حركة غير مقصودة ارتطمت يده بجسد قدر فكادت تسقط إلا أنه أمسك بها بسرعة قبل أن تنها  وأسندها بيده كأنها شيء هش فـ نظرت إليه بتوتر وعيناها تقرأ غضبه وتخشى تفسيره ثم سألت بصوت خافت:

 إنت كويس؟

أغمض ادم عينيه لثانية ثم فتحهما وقال دون أن ينظر لها:

ايوه كويس.... علي فكره اتجوزت عنبر علشان أمي طلبت مني اكده... مفيش بيني وبينها حاجه.

انخفضت نظرتها نحو الأرض كأنها تبحث فيه عن شيء ضائع ثم همست:

 سامحني علشان ميار... علشان كل ال حوصل. والله العظيم هي ال أنقذتني وكنت بتمنى انا ال اموت  ... ومش عارفه لحد دلوجتي ليه ضححت بحياتها علشاني

رفع صخر نظره إليها وحدق فيها طويلا قبل أن يقترب منها خطوة وردد: 

علشان أنا بحبك.

رفعت قدى عينيها إليه بذهول وكأن الكلمة وقعت عليها كالصاعقة وهتفت: 

بتحبني انا ؟

أومأ صخر برأسه وقال بنبرة منخفضة:

أيوه بحبك... وميار كانت حاسة من كتر ما كانت بتحبني  مجدرتش تشوفني موجوع... وجلبي بيتقطع لو جرالك حاجه
بس هي مكنتش تعرف... إن بالرغم من إني بحبك، هي أغلى منك عندي

تراجعت قدر خطوة، ثم أغلقت عينيها بقوة وانهمرت دموعها  فسارع هو بمسحها بأنامله الحانية وقال بهدوء:

متعيطيش

تمتمت قدر بصوتٍ مكسور:

 أنا آسفة...سامحني 

وفي لحظةٍ خافتة تقدمت نحوه بخطوات مرتجفة كأن قلبها يقودها رغم عقلها حتى وقفت أمامه تماما ورفعت رأسها إليه و نظرت في عينيه نظرة طويلة ثم وضعت شفتيها على شفتيه في قبلة مرتعشة، محملة بما فاض من الحنين والندم والوجع وظل صخر متيبسا لبرهة قبل أن يغلق عينيه ويضمها إليه بقوة  ويبادلها القبلة كأنهما يهربان من كل ما في الخارج إلى لحظة صدق نادرة لا تخضع لأي حساب وبعد فتره في غرفه ادم كانت يمنى تقف أمام المرآة ز ظهرها إليها ترتجف أناملها وهي تغلق أزرار قميصها ببطء زعيناها متورمتان من البكاء وشفاهها جافة كأنها لم تنطق منذ قرون و نظرت إلى انعكاسها للحظة ثم أزاحت عينيها عنه وكأنها لا تطيق رؤية نفسها فـ وقف آدم عند باب الغرفة زوجهه شاحب وصوته بالكاد يخرج وهتف :

يمنى... استني اسمعيني بس بالله عليكي 

هزت يمني رأسها دون أن تلتفت ثم انحنت لتلتقط ما تبقى من ملابسها من الأرض وكانت حركتها بطيئة كأن الجاذبية تضاعفت فجأة أو كأن العالم ينهار فوق جسدها المثقل ورددت بصوت مختنق: 

أنا ال غلطانة... أنا استاهل كل ال يوحصلي.  انا ال عملت في نفسي اكده 

أغلقت يمني الحقيبة بسرعة ثم رفعت عينيها إليه أخيرا كانت نظرتها خالية ميتة كأنها لم تعد ترى فيه سوى نهايتها وهتفت: 

ياريتني كنت موت قبل ما كال دا يوحصل.... انا ضيعت كل حاجه.. ال زيي لازم يموت مش لازم يعيش 

تقدم  ادم خطوة نحوها ورفع يده كأنه يحاول احتضانها أو منعها من الرحيل لكنها أبعدته بعنف وخرجت من الغرفة و أغلقت الباب خلفها بهدوء مرعب و بقي آدم واقفا للحظة ثم استدار فجأة ودخل الغرفة كأنها أصبحت فجأة زنزانته فـ نظر حوله  ورأى آثارها.. ملابسها... عطرها..ظ لمستها.. كل شيء صار شاهداً عليه فـ صرخ بأعلى صوته:

انا إي ال عملته دا... ازاي اعمل اكده.. ازاي وصلت للمرحله دي 

ركل تدم الكرسي بقوة فتكسّر وراح يضرب بيديه كل ما تطاله أنامله.... الكؤوس... المرآة... الكتب.... كل شيء صار هشا بين قبضتيه وصرخ بغضب: 

وسختها...و بهدلتها...و كسرت كل حاجة فيها... حتى هي مسلمتش مني.. حتي هي 

انهي تدم كلماته وضرب قبضته في الزجاج فتفتت شظاياه وتناثرت حوله والدم بدأ يسيل من يده لم يهتم وجلس على الأرض بين الحطام ورأسه بين يديه يئن ويشتم نفسه وبعد عدت ساعات هبطت قدر السلالم مسرعة وضحكتها تتردد في أرجاء القصر وخصلات شعرها تتطاير خلفها كفراشة خرجت من شرنقة خوفها مردده: 

 ماما.. ماما 

نادت قدر بصوت مبلل بالشوق ثم توقفت فجأة وقد وقعت عيناها على امرأة تقف عند نهاية السلم تفتح ذراعيها كأنها كانت تنتظرها منذ سنوات فـ أسرعت قدر نحوها وارتمت في حضنها تلف ذراعيها حول خصرها بقوة:

واحشتيني جوي يا ماما 

ابتسمت رجوة وهي تحضتنها ولم تقل شيئا لكن عينيها في لحظة العناق لم تبتسما معها و 

تعليقات



×