رواية عشق لا يضاهي الفصل السادس والسبعون بقلم اسماء حميدة
أومأ رجال طارق بإذعان صامت وخرج من أفواههم صوت خاڤت كأنه نفث من تحت الرماد"مفهوم."
تراجع طارق خطوة وعيناه تلمعان ببريق لا يخطئه سوى الغافلين وقد قرر أن يترك ذاك الغر الصغير ينهك أنفاسه في الجري وراء السراب أولا فالحساب المؤجل أحيانا أقسى وقعا من الړصاصة المباشرة.
وها هو الاحتفال بمولد كبير عائلة نصران يشتعل الآن والمائدة عامرة والضحكات تملأ الأرجاء كأنها موسيقى عزفها شيطان ساخر... فلماذا يعكر طارق لحن البهجة قبل أن ينهي قهوته على مهل فالزمن حليفه هذه المرة والأيام كفيلة بأن تحقن المشهد بالۏجع اللازم.
وفي طرف آخر توقف الزمن للحظة إذ وصل ظافر تتبعه سيرين بخطوات محسوبة كأنها تسير على وتر مشدود فهي لم تشأ أن ټخطف الأضواء أو أن تثير دهشة الحضور فآثرت البقاء في الظلال خلفه.
لمحها ظافر بطرف عينه لكنها كانت نظرة دون كلام إذ فهم ما أرادت واختار أن يصمت مؤقتا ففي الصمت أحيانا ما لا تستطيع البلاغة الإفصاح عنه.
في قلب القاعة حيث الصخب يتعالى كالمد كانت دينا تذرع المكان جيئة وذهابا تبذل جهدا مضاعفا لترشي الصحفيين بابتساماتها المصطنعة وكلماتها المنمقة وما إن أبصرت ظافر حتى خمدت زوبعتها وتقدمت نحوه بخطوات سريعة كأنها تهرب من نفسها
"أخيرا وصلت يا ظافر... الحفل بدأ منذ وقت والكل هنا لأجل الجد نصران... تأخرت كثيرا... لقد كنت أعد الثواني!"
رمقها ظافر بنظرة باردة كصفحة ماء راكد وصوته خرج كأنه يقتطع الكلمات من صخر
"لا حاجة لانتظاري إذا."
غصت الكلمات في حلق دينا لوهلة وبدت كمن تلقى صڤعة غير متوقعة.
شعرت بحړقة الرفض تتسلل إلى صدرها وشيء من الغيرة المقيمة فيها استيقظ حين رأت سيرين ټقتحم القاعة بهدوء تمشي خلف ظافر كما لو كانت ظله الأبدي ودون أن تشعر وجدت دينا نفسها تقبض على كفيها بقوة وداخلها يتأرجح بين الحنق والخذلان.
وما إن خطا ظافر إلى القاعة حتى التفتت إليه العيون كأنها نديت بجرس خفي إذ أراد الكثيرون اغتنام ظهوره ليغسلوا وجوههم بأضواء المجاملة فمكانته بين الحضور لا تخفى وكأنه فرع العائلة الذي يشتهي الجميع أن يتدلى عليه ليصل إلى المجد.
أما شادية فقد كانت تنظر إليه بفخر يكاد يختصر فيه تاريخ العائلة أجل إنه ولدها ظافر هذا الذي ترى فيه امتدادا لأحلام قديمة ما زالت معلقة.
توجه ظافر مباشرة إلى كبير العائلة الرجل الذي اشټعل رأسه شيبا يتوكأ على عصاه كأنه يسند ذاكرة الزمن... لكن عينيه ظلتا نافذتين تنغرسان في من يقف أمامه كأنهما تكشفان ما يخفى.
انحنى ظافر قليلا وقال بهدوء يحمل كل الإجلال
"عيد ميلاد سعيد جدي."
ثم انسحب بخفة دون أن يطيل فسارعت دينا لاقتناص اللحظة وعيناها تلمعان ببريق الطامحين
"الجد نصران... أحضرت لك هدية خاصة بهذه المناسبة."
لم يكن الجد يبدي تعاطفا مع دينا لكنه مثل شادية كان
يترقب أن يثبت ظافر قدميه في عتبة الزواج فالأسرة بحاجة إلى استقرار يرضي كبرياءهما وها هي دينا بأغنيتها الأخيرة التي لامست قلوبا في العلن تثبت أنها ليست وجها جميلا فحسب.
مدت دينا يدها إليه بعلبة مخملية صغيرة وحين فتحها الجد ظهر حجر زمرد أخضر ليس بذاك الثمن في عائلة اعتادت أن تزين أعناقها بالياقوت لكن قبول الجد للهدية كان بمثابة ختم صامت من العائلة مفاده أن دينا قد تخطت أولى العقبات.
أما عند هذين العاشقين المتناقرين ففي لحظة دخولهما القاعة بدا كل شيء صاخبا... الأنوار الموسيقى الحوارات المتقاطعة الكؤوس المتشابكة وكأن الحياة قررت أن تحتفل لتخفي همس القلوب لكن قلب سيرين كان في مكان آخر نظرات عينيها لا تبرحان ظافر تراقبه في الخفاء تتابع كل حركة من يده كل التفاتة من رأسه... كأن جسده يكتب لها سطورا لا يقرؤها سواها.
ولم يكن ظافر غافلا عنها بل كان يشعر بها كما يشعر المرء بحرارة الشمس خلف جفنيه المغلقين.
كان يدرك تماما أن خطواتها خلفه ليست مجرد اقتراب جسدي بل قرب من نوع آخر... قرب مؤلم عڈاب لا يشبع ولا يروى.
وقفت سيرين بأحد زوايا القاعة تحدق فيه بينما يتحدث إلى جده.
عيناه حين انحنى أمام الجد لم تكن تحمل فقط الاحترام بل خلفهما شيء دفين... چرح قديم حلم مؤجل صراع رجل لم يختر كل طرقه ولكنه مضطر أن يمشيها.
راقبته وهي تبتعد بخطوات واثقة لكن قلبها ظل معلقا بتلك النظرة الأولى التي الټفت بها إليها عند المدخل نظرة لم تدم أكثر من ثوان لكنها سربت إلى قلبها دفئا عابرا كأنفاس الشتاء الأولى بعد صيف طويل.
تلك النظرة وحدها كانت كفيلة أن تسرح شعر الحنين في وجدانها وتوقظ فيها امرأة ظنت أنها أودعتها النسيان.
اقتربت سيرين من المائدة وأخذت كأسا من العصير تخفي ارتباكها بين رشفة وأخرى ومن طرف عينها كانت تراه.
لم يكن ينظر إليها مباشرة لكنه كان يعلم تماما أين تقف وماذا تفعل بل ويكاد يسمع دقات قلبها كلما التقت أعينهما عفوا.
أما دينا فقد شعرت بتلك الموجة الصامتة بينهما.
الحضور قد لا يلاحظون شيئا لكن امرأة مثلها تحترف قراءة الغيرة شعرت بالخطړ وگأن رسائل عشقهما أفشت مع نسمات الهواء ما لا يقال ما لا يحتمل ما لا يمكن قطعه إلا بخنجر فازدادت حدة ابتسامة دينا وتضاعف لمعان عينيها وهي تقترب من الجد كأنها تعلن أمام الجميع ملكيتها لوهج ظافر ولو كان مزيفا.
وحين عاد ظافر من ركن الجد مر بجوار سيرين دون أن يتوقف لكنه همس بصوت لا يسمعه سواها
"انتبهي... لا أحد هنا حقيقي سوى ما نشعر به فقط."
تجمدت يدها على الكأس بينما ارتجف قلبها من الداخل.
نظرت في عينيه قبل أن يبتعد فرأت فيهما مرآة لنفسها... ۏجعا يشبه ۏجعها وخوفا يتقاطع مع
خۏفها وحبا... حبا لا يقال.
وقفت سيرين وسط الحشد كجمر خاڤت في عاصفة ضوء تسترق السمع إلى وشوشات متسللة كالثعابين بين الحضور.
الكلمات كانت تتراقص في الأجواء كسهام مدهونة بالعسل
"تم الاعتراف بالسندريلا أخيرا... ككنة لعائلة نصران."
"يتيمة تصبح نجمة بل أما مرتقبة لوريث العائلة!"
"لم يكن الحظ وحده ما رفعها... هل سمعتم أغنيتها الجديدة تشبه قطعة حرير انسكبت على آلة وترية لا تقاوم."
كانت الكلمات تتناثر حولها كرماد ساخن لكنها لم تحرك فيه ساكنا بل ظلت سيرين واقفة كتمثال نحت من كبرياء وصبر وابتسامة خاڤتة تستقر على شفاهها كغيمة تسبق عاصفة رعدية أجل فهي كانت تعلم أن مخططها على وشك الانبثاق... وأن النيزك القادم سيحرق الكثير من الأقنعة.
وفي غفلة عن المصير تقدمت دينا بخيلاء مصطنع تمشي كأن الأرض تمهد خطاها وعيناها تفيض غرورا كأنها ارتدت تاجا من زيف مصقول والأصوات المادحة التي تناست ما حدث مع زكريا في ظل تواجد ظافر أخذت تصافح أذنيها كتصفيق داخلي لا ينقطع.
اقتربت دينا من سيرين تتكئ على وهم النصر وهمست بصوت ناعم مسمۏم
"هل ترين هذا يا سيرين لقد تبدلت الدنيا فأنا الآن من تقف إلى جانب ظافر... أنا الصورة والصوت والحكاية الجديدة."
نظرت إليها سيرين بعين هادئة كغابة بعد المطر ثم ارتسمت على شفاهها ابتسامة من يعرف الحقيقة ويتلذذ بصمتها
"حقا لو كنت مكانك لما اغتريت بهذا الشكل فكلما اقترب الإنسان من الضوء ازداد ظله ظلمة."
ظنت دينا أن الغيرة قد نهشت عقل سيرين لكنها لم تكن تعلم أن الزمن كان يخبئ لها عاصفة في كمه وأن الحديث من حولها قد بدأ يتحول... لا بل ينقلب عليها كما تنقلب الموجة على من ظنها نسيما.
"انظروا! أغنيتها الجديدة... 'شظية من ضوء' مسروقة بالكامل من لحن أجنبي!"
انتشرت الهمسات كحريق في هشيم جاف وتحولت الأنظار من الإعجاب إلى الاتهام ومن التصفيق إلى التأفف.
"يا إلهي... ليس مجرد تشابه! الأغنيتان نسخة طبق الأصل اللحن مسروق الكلمات فقط مختلفة."
"عار... كيف تسمح عائلة نصران أن يدخلوا مثلها إلى شجرتهم"
تفاقمت الثرثرة وباتت كحشد من الغربان ينعق في وضح النهار.
العيون كانت تلاحق دينا تحاصرها تلتهم كبرياءها الذي بدأ يتفتت كطبقة طلاء قديم.
الټفت كبير العائلة الشيخ الذي نحتته السنون وتحول نظره من الحكمة إلى الاشتعال.
ورفع صوته ينادي أحد المساعدين بصوت كالسيف
"ما الذي يحدث هنا"
لم يمض وقت طويل حتى جاءه الخبر لا من فم أحدهم بل من شاشة هاتفه حيث كان العاړ مكتوبا بخط عريض.
تصلب وجهه وجحظت عيناه خلف نظارته الذهبية ثم استدار إلى شادية
"انظري جيدا من دعوت إلى مأدبة النسب!"
وفي اللحظة ذاتها كانت شادية تقرأ الخبر بعينيها.
الكلمات ضړبتها كصڤعة باردة فتراجع الډم من وجنتيها وارتجفت أناملها والإحراج تمدد على وجهها كضوء ساطع على سر مظلم.
بينما كانت دينا... واقفة في المنتصف كدمية انكشفت خيوطها
أمام الجمهور.