رواية عشق لا يضاهي الفصل الخامس والسبعون 75 بقلم اسماء حميدة


 

 

 رواية عشق لا يضاهي الفصل الخامس والسبعون بقلم اسماء حميدة


انحنت دينا بانسيابية مفترسة تتفحّص فريستها بحذر ونظرت إلى الصغير المتشبث بثوبها الفاخر كما لو كان يتمسّك بآخر أمل له في هذا العالم.

ضيّقت عينيها وفي عمق نظرتها ارتسمت ظلال شكٍّ ودهشةٍ لم تستطع إخفاءها.

ثم ارتسمت على شفتيها ابتسامة مصقولة محاكة بخيوط الحذر:

"نعم... أنا هي لكن أخبرني يا صغيري ما الذي جاء بك إلى هنا وحدك؟ أين أمّك؟ أين والدك؟"

كانت دينا تتفحص وجه الصبي بعينيها كأنها تحاول قراءة شفرة سرية فملامح زكريا لم تكن عادية... عيناه تشبهان انعكاس حلم على سطح ماء راكد ووجهه يحمل شيئًا من الأناقة الفطرية التي لا يُخطئها حدس امرأة خبيرة بالوجوه.

رفع الصبي رأسه ونظر إليها بعينين صافيتين لا تشوبهما سذاجة وقال بجديّة تقطر منها البراءة الممزوجة بدهاء الطفولة:

"قالت لي مدبّرة منزلي إنكِ سرقتِ أبي منّي... فهلّا أعدتِه إليّ؟"

وكأنما انشقّت الأرض من تحت قدميها فتجمّدت دينا في مكانها للحظة فيما اجتاحت همسات السمّ الحفلَ كعاصفة رملية وبدأت العيون الحادة تتسلّل إليها كالخناجر تفتّش عن أيّ شقّ في قناعها لټطعنها فيه.

_"كم هي وقحة!"

_"أليست هذه هي الممثلة التي التفّت حول عنق السيد نصران؟"

_"لا عجب أنه لم يتزوجها... فـ امرأة مثلها لا تُؤتمن حتى على ظلّ رجل."

كلماتٌ تسرّبت إلى أذنيها كالسمّ، ثقيلة... جارحة... مخضّبة باحتقار من اعتادوا أن يلتهموا سمعة الآخرين بلا رحمة.

تماسكت وكتمت نيران ڠضبها خلف ابتسامة جامدة كجدارٍ رخاميّ، ثم انحنت من جديد وقابلت عيني الصغير بنظرة كالسهم، تنذر ولا تُظهر الرحمة:

"لابد أنكَ مخطئ يا صغيري؛ فأنا لا أعرفك... ولا أعرف والدك."

لكنها لم تكتفِ بذلك، واقتربت منه أكثر وضعت يديها على كتفيه برفقٍ مصطنع كأنها تضع زهرة فوق قبر وهمست بصوت منخفض اختلط فيه الدفء بالټهديد كقطعة جليد تمسّ الجلد مباشرة:

"اسمعني جيدًا... إن تماديتَ في هذا الهراء سأحوّلك إلى طُعم للسمك، هل فهمت ما أعنيه أم أكرر ما قلته؟"

ظنّت أنها بذلك قد أخمدت الموقف وحسمته لصالحها معتقدة أنه صبيّ ساذج كغيره... لكن ما لم تكن تعرفه هو أن زكريا لم يكن طفلًا عاديًّا... بل كان ملكًا صغيرًا فوق عرش الدراما، فارسًا لا يُقهر في ميدان التمثيل، وببراعة مسرحية مذهلة بدأ زكريا يضرب يديها بقوة ويجهش بالبكاء بصوتٍ عالٍ، يقول بصوت اختنق بالعبرات الزائفة:

"أوه، لقد كنتُ مخطئًا يا سيدتي! من فضلك لا تضغطي عليّ! أنتِ تؤلمينني كثيرًا..."

ذُهلت دينا وسحبت يديها عنه سريعًا كمن أحړقتها نارٌ غير مرئية.

"متى... متى قرصتك؟!" تمتمت دينا بفزع.

لكن هيهات فالضرر قد حدث، الصحفيون الذين كانوا هناك أخذت عدساتهم تلتقط كل شيء كأنهم ذئاب تشم رائحة الډم من بعيد، فهم لم يتوانوا في تسجيل المشهد ونقله إلى دفاتر الفضائح.

وفي لحظة انهمرت دموع الطفل على خديه وراح يتوسل من جديد ولكن هذه المرة أمام الجمهور الغافل الذي بدأ يحتشد حولهما:

"أنا آسف، يا سيدتي... لم أقصد أن ألمسك... أرجوكِ لا تضربيني... ولا... ولا تطعميني للأسماك!"

كاد صوتها يختنق وهي تصرخ بهلع:

"لم أفعل! إنه ېكذب! لم ألمسه حتى!"

لكن كلماتها كانت كمن يحاول أن يوقف شلالًا بأصابعه المرتجفة... في هذه اللحظة تمنت لو تمتلك ما يسكت ذلك الفم الصغير، ذلك الفم الذي دمّرها بكلماتٍ بسيطة نُطقت ببراءة مزعومة... وهدمت سمعتها في لحظات.

بدأت العيون تلاحقها كقطرات زئبق ساخنة تتدفق بحثاً عن فريسة تُشبع فضولها الخبيث إذ كان المشهد قد اڼفجر كشرارة في حقل بارود، لا أحد يمر دون أن يُدلي بنظرة أو يتسلل إليه تعليق مغموس بالسمّ.

ومن بين تلك العيون المتلصصة ظهرت عينا طارق الذي كان يقف متكلفًا الابتسامة إلى جانب امرأة جديدة أجبره جدّه على لقائها كما يُجبر السجين على تذوّق مرارة السُم لكن نظره ارتطم بوجه مألوف فتجمدت ملامحه لوهلة.

"هذا هو... الفتى الوغد ذاته!" تمتم طارق لنفسه والحنق يطفو في نبرته، "ذاك الذي دبّر لي ڤضيحة في الفندق!"

إلى جانبه انبعث صوت امرأة اختلطت نبرتها بالاشمئزاز والدهشة:

"كيف لها أن تضع يديها على طفل وتهدده أيضاً؟ إنها حقًا امرأة فظيعة."

لم يُجِب طارق إذ كان يحاول فكّ تلك الشيفرة التي أمامه... فالطفل بدا مألوفًا أكثر مما ينبغي كأنّ ملامحه تخبّئ سرًّا عميقًا.

تسللت إلى طارق فكرة مچنونة... وهناك من تحركه في الخفاء للثأر منه فكم من قلوب حطم ذاك الطارق!!

تلك الفكرة كانت كالصڤعة القاسېة لكنها لم تكن مستبعدة... فكيف سيترك ابنه حتى ولو أن يُهان علنًا؟!

اندفع طارق بخطى ثابتة نحو مركز الحدث وعيناه تُوقدان بلهب مجهول المصدر.

في هذه اللحظة كان زكريا قد بلغ ذروة أدائه المسرحي يُلوّن الكذبة بريشة احترافية، يصنع من دموعه سيمفونية درامية تُنذر بتحوّل دينا إلى عنوان ڤضيحة الغد.

لكن زكريا لم يتوقّع ظهور تلك الهالة الداكنة التي بدأت تقترب... هالة رجل لا يعرف المزاح إنه طارق بثقله وسطوته يخرق الزحام وكأنه سهم من ڼار.

"اللعڼة! لقد أفسدتُ كل شيء!" لعڼ زكريا نفسه وهو يتراجع خطوة ثم أخرى.

كان زكريا قصير القامة والمكان مزدحم لذا لم ينتبه إلى وجود طارق مسبقًا لكنه الآن لم يخطئ تلك الملامح.

طارق! هذا الطاغية نفسه!

"من فضلكِ، لا تغضبي مني يا سيدتي... سأذهب الآن أعدك!" تمتم زكريا بدور الضحېة المهزومة ثم اندفع راكضًا بين الحشود كفأرٍ أُطلِق عليه الضوء في غرفة مظلمة.

لكن طارق لم يكن بذلك الغباء الذي يسمح لطفل صغير بالفرار من قبضته مرّتين.

كان يعرفه... يعرف أنه يتصنع إذ كانت خطواته تحمل رائحة التمثيل.

"لو لم يُحرجني في الفندق، لربما صدّقته الآن... لكنك لن تُفلت هذه المرة، أيها الوغد!" همس طارق لنفسه وهو يزمّ شفتيه پعنف فقد أحړقته ذكرى الإذلال كجمرةٍ ملتهبة على جلده، وكان لا بد من الردّ... غير عابئ ما إن كان ابنه أم لا فالدم لن يعفي هذا الصغير من العقاپ حين يُمسّ الكِبْر.

كان زكريا بدوره قد التقط الخيط وأدرك أنه إذا أراد النجاة فعليه أن يذوب في الزحام مثل قطرة ماء في بحر من الأجساد، فالجموع وحدها درعه الآن ولن يستطيع طارق مطاردته وسط تلك الدوّامة البشرية لكن طارق لم يكن ليسمح بأن يتحكم طفل صغير في مجريات الأمور.

وعلى الفور أخرج طارق هاتفه ومن دون أن يرمش أمر حراسه الشخصيين بصوت مغمور بالهدوء القاټل:

"هل رأيتم ذلك الصغير؟"

قالها وهو نظر إلى هدفه بتمهّل ثم أضاف:

"دعوه يظن أنه نجا... لكن خلال ساعة أريده في قبضتكم... حزمة كبيرة من الأوراق النقدية تنتظركم إن فعلتم."
SHETOS
SHETOS
تعليقات



×