![]() |
قصه تراتيل الفجر المقدسة الفصل الخامس بقلم مريم عثمان
مرت الأزمان، وتغيرت الأحوال، لكن ظلّ العيد في الإسلام يحمل جوهره الأول، الفرح الممزوج بالعبادة، والمغفرة المقرونة بالإحسان.
غير أن السؤال الذي يطرح نفسه اليوم، هل بقي العيد كما كان؟ هل حافظ المسلمون على معناه الأصيل؟
في الزمن الماضي، كان الفرح بسيطًا لكنه حقيقي، لم يكن العيد مجرد ملابس جديدة أو ولائم فاخرة، بل كان لقاء الأرواح، ومصالحة القلوب، ومدّ يد العون للفقراء.
كان الناس يفرحون لأنهم أدّوا فريضة الصيام أو لأنهم أحيوا سنة إبراهيم عليه السلام في التضحية.
أما اليوم، فقد تغيّر الكثير، رغم كل التغييرات، بقيت بعض المناطق تحافظ على روح العيد القديمة.
في القرى، لا يزال الأطفال يركضون في الطرقات فرحين بثيابهم الجديدة، والناس يزورون جيرانهم، يتبادلون التمر والحلوى، ويجلسون في حلقات يتحدثون عن ذكرياتهم.
في بعض المناطق، لا تزال عادة التكافل موجودة، حيث تُوزَّع الأضاحي على المحتاجين، ويُحرص على أن لا يبقى في القرية بيتٌ بلا طعام.
ورغم انتشار التكنولوجيا، لا تزال الأجواء أكثر دفئًا هناك، حيث يحتفظ العيد برونقه كما كان في زمن الصحابة والتابعين.
بينما العيد في المدن الحديثة و الكبرى، أصبحت أجواء العيد مختلفة، فبينما كانت تكبيرات العيد تُسمع قديمًا في كل بيت، صارت اليوم تُغطّيها ضوضاء الأسواق، وازدحام الطرقات.
كثيرون يستيقظون متأخرين، وقد تفوتهم صلاة العيد، منشغلين بتحضيرات السفر أو الولائم.
كان الناس يجتمعون بعد الصلاة يتبادلون التهاني، واليوم أصبحت التهاني تُرسل عبر الهواتف، وأحيانًا مجرد رسالة آلية لا تحمل دفء المشاعر.
في الماضي، كان العيد فرصةً لصلة الرحم، والآن بات البعض يعتبره مجرد يوم إجازة للنوم أو التسوق.
اليوم، نعيش في زمنٍ طغت فيه المظاهر على الجوهر، وأصبح البعض يقيس العيد بحجم الهدايا، لا بحجم القلوب التي تتصافح.
ومع ذلك، لا يزال هناك من يحاول إحياء سنن العيد كما كانت التكبير منذ الفجر، إخراج الصدقات، التزاور، إدخال الفرحة على قلوب الأطفال، وإحياء القيم التي جعلت العيد يومًا مميزًا في الإسلام.
ربما تغيّرت بعض العادات، لكن جوهر العيد لا يزال في متناول أيدينا، فقط إن أردنا أن نُعيد له نوره القديم.
فالعيد ليس زينةً ولا طعامًا، بل لقاءٌ مع الله، وموعدٌ مع الفرح النقيّ، وفرصةٌ لنكون أفضل.
لم يكن العيد يومًا مجرد مناسبة عابرة، بل كان لحظةً تُشرق فيها القلوب بعد ليالي العبادة، تتطهّر فيها النفوس من أدران الحقد، وتُضاء فيها البيوت بوهج المحبة والودّ.
لكن مع تغيّر الزمن، ومع تسارع إيقاع الحياة، بدأ وهج العيد يخبو عند البعض، فصار مجرد محطة استراحة، لا محطة إحياءٍ وتجديد، والسؤال الذي يفرض نفسه اليوم، كيف يمكننا استعادة روح العيد كما كانت في عهد النبي ﷺ والصحابة؟
كان الصحابة يبدؤون يومهم قبل بزوغ الفجر، يتوضّؤون، يصلّون قيام الليل، ثم يجتمعون في المساجد يكبّرون حتى يخرج الإمام لصلاة العيد.
لم يكن العيد مجرّد احتفال، بل كان يوم عبادةٍ ممتزجًا بالفرح.
اليوم، يمكننا استعادة هذه الروح بتذكير أنفسنا وأهلينا أن الفرح الحقيقي لا يكون إلا بطاعة الله.
أن نُعيد لتكبيرات العيد رونقها، لا أن تبقى أصواتها محجوبة بضجيج السيارات وأصوات الموسيقى الصاخبة.
في عهد النبي ﷺ، كان الرجال والنساء يخرجون إلى المصلى ليشهدوا العيد جميعًا، حتى النساء اللاتي لم يكن يصلّين كنّ يحضرن لسماع الخطبة والمشاركة في الأجواء الروحانية.
اليوم، عاد كثيرون ليُصلّوا العيد في المساجد المغلقة، بدلًا من المصليات المفتوحة التي تجمع القلوب على مشهدٍ واحد من الفرح الجماعي.
استعادة هذه السنة تعني أن نُذكّر أنفسنا أن العيد ليس عبادةً فردية، بل لقاءٌ جماعيٌ مقدّس.
لم يكن العيد يومًا للغنيّ وحده، بل كان يومًا يفرح فيه الفقير قبل الغنيّ.
كان الصحابة يحرصون على أن لا يُترك محتاجٌ في يوم العيد إلا وقد وصلته الصدقة، لا صدقة المال فحسب، بل صدقة الفرح، بالكلمة الطيبة، بالزيارة، بالدعاء.
في مجتمع اليوم، حيث تباعدت القلوب، يمكننا استعادة هذه السنة بجعل العيد فرصةً للعطاء، أن نجعل الفرح مشتركًا، أن نمدّ يدنا إلى الفقراء، إلى الأيتام، إلى الجيران الذين لا يملك أطفالهم ثيابًا جديدة، أن نُهدي بلا انتظار مقابل.
كان الصحابة في يوم العيد لا يتركون قريبًا إلا وصلوه، ولا جارًا إلا أكرموه، وكانوا يعتبرون أن المصالحة في العيد أوجب من أي وقتٍ آخر.
اليوم، أصبحت صلة الرحم محصورةً في الرسائل النصية الباردة، أو في اتصالٍ سريع لا يحمل دفء اللقاء.
استعادة روح العيد تعني أن نُعيد للزيارات قيمتها، أن نترك هواتفنا، أن نطرق الأبواب، أن نلتقي وجهًا لوجه، أن نُعيد العلاقات التي باعدتها المسافات أو الخلافات التافهة.
نحن جيلٌ نشأ يرى العيد مجرد يوم ملابس جديدة وهدايا، دون أن يُدرك أن العيد فرحةٌ في القلب قبل أن يكون زينةً في الجسد.
بينما كان الصحابة يُعلّمون أبناءهم أن العيد فرصةٌ للتكبير، للعبادة، للفرح المشترك، لا للاستهلاك المفرط والانشغال بالمظاهر.
يمكننا اليوم أن نعيد لأطفالنا المعنى الحقيقي للعيد بأن نُشركهم في صنع الفرح لا استهلاكه فقط، أن نُعلّمهم العطاء قبل الأخذ، أن نُخبرهم عن العيد في عهد النبي ﷺ وكيف كان الصحابة يحتفلون به ببساطةٍ لكنها ممتلئة بالروحانية والدفء.
العيد في الإسلام لم يكن يومًا يُحتفل به لذاته، بل كان دائمًا مرتبطًا بعبادةٍ تسبقه، بصيامٍ أو حجٍ أو أضحية، وكأن الله أراد أن يُعلّمنا أن الفرح الحقيقي يأتي بعد الطاعة، وأن أجمل الأفراح تلك التي تأتي بعد المشقة والصبر.
قد يتغيّر شكل العيد مع الزمن، لكن جوهره لا يزال بين أيدينا، بوسعنا أن نُعيد له دفئه القديم، أن نُضيء فيه القلوب قبل البيوت، أن نجعله موعدًا للمحبة لا للتفاخر، أن نُعيده كما كان: يومًا يرضى الله عنّا فيه، قبل أن نرضى عن أنفسنا.
العيد ليس ماضيًا، بل مستقبلٌ نُعيد صنعه، قد نكون بعيدين عن بساطة الأعياد الأولى، لكننا قادرون على أن نعيد إليها نورها، أن نحتفل بها كما يجب، أن نُعيد للعيد روحه التي أرادها الله لنا: يومًا للفرح، للتسامح، للقرب من الله ومن الناس.
يقول البعض"العيد بالنسبة لنا ليس كما كان لأجدادنا." قد يكون هذا صحيحًا، في وقتٍ كانت وسائل الحياة أبسط، وكان الناس يعيشون في جوٍ من البساطة.
لكن يمكننا أن نرى اليوم أن العديد من الشباب يتجهون إلى إحياء معاني العيد بأشكالٍ جديدة، مع التركيز على العمل التطوعي، ومساعدة الفقراء، وتنظيم الفعاليات الثقافية والتوعوية، وهو أمرٌ يعكس جزءًا من العيد الحقيقي.
العيد ليس في المظاهر فقط، بل في القيم التي نزرعها في قلوبنا.
ختامًا، لا يجب أن ننسى أن العيد هو يوم لاحتساب الأجر، للتوبة، والتقرب إلى الله.
يجب أن نحرص على أن يكون العيد فرصةً لتغيير واقعنا الروحي، لنُجدّد التوبة ونشكر الله على نعمه، وأن نُحيي سنة النبي ﷺ في الاحتفال بالعيد.
فالعيد، في النهاية، ليس مجرد يوم من الأيام، بل هو إعادة توازن في حياتنا، تذكير بأننا عبيد لله، وأننا لا نملك إلا ما منحنا إياه.
ومن هنا، نُدرك أن العيد ليس فقط مناسبةً للاحتفال، بل هو رحلةٌ مستمرةٌ من الروحانية والفرح الحقيقي.
فهل نحن مستعدون لنعيش العيد كما أراده الله؟