رواية حب للبيع الفصل الرابع 4 بقلم احمد فايز

 

رواية حب للبيع الفصل الرابع بقلم احمد فايز



وفي اليوم التالي، ومع إشراقة شمسٍ خجولةٍ تبشّر بيومٍ ليس ككلّ الأيام، امتطى "هاني" جواد الهاتف، وأطلق نداءه إلى رفيق الدرب وصفيّ القلب "أحمد"، وكأنّه فارسٌ يدعو أخاه لساحة فرحٍ طال اشتياقها لأقدام الطيبين.

_ ألو يا دكتور أحمد، النهارده المساء كتب الكتاب، متتأخرش وهات صاحبك معاك، هبعتلك العنوان في رسالة.

جاء الردّ مشبعًا بالمودّة، كأنّه نفحة طيبٍ من زمن الوفاء:

_ إن شاء الله يا حبيب، جايين أكيد، وألف ألف مبروك وربنا يتمّم على خير.

_ الله يبارك فيك يا دكترة، وعُقبالك نفرح بيك كده يا رب، يلا هقفل أنا بقى علشان ألحق أجهّز.

_ ماشي يا حبيب، اتفضّل.

---

وحين أقبل المساء على مهل، متوشّحًا بثوبٍ من نُسْغِ القمر، خطى "أحمد" و"يزن" نحو بيت "هاني"، وقد حملا بين أيديهما هدايا لا تُقدّر بثمنٍ، بل تحمل بين طيّاتها معاني الأخوّة والمحبة. ولمّا رآهم "هاني"، انفرجت أساريره، وانبثق من قلبه نورٌ من السرور لا يوصف.

_ بجد، فرحتي بيكوا لا توصف، بكده فرحتي اكتملت.

_ حبيبنا، إحنا إخوات ولازم نكون معاك في يوم زي ده.

_ ألف مبروك يا هاني، ربنا يتمّم لك على خير يا صاحبي.

_ الله يبارك فيك يا غالي، عقبالك، وشكرًا إنك جيت.

_ حبيبي ولو، أيّ حد صاحب أحمد يبقى صاحبي وعلى دماغي من فوق.

تدخّل أحمد مازحًا: 
_صيل يا أبو رحاب، 

_ اتفضلوا، اتفضلوا.

وحين جلس "هاني" في صدر المجلس، بين أهله وأصدقائه، كان قلبه يخفق كطبول الحرب يوم الحسم. لم يكن هذا مجرد عقد قران، بل كان تتويجًا لحكاية عشقٍ تكسّرت فيها مجاديف الصبر، وانتُزع الفرح من بين أنياب الزمن.
جلست "هناء" في الجانب المقابل، متوشحة بثوبٍ ناصع كبياض قلبها، في عينيها رهبةُ اللحظة ولهفةُ اللقاء، وفي كفّيها ارتعاشة أنثى على أعتاب الحياة الجديدة.

المأذون، بصوته الجهوري الذي يحمل هيبة الموقف، بدأ يتلو بنود العقد، وكأنّه ينقش بمطرقة الكلمات على صخرة الأبد.
"أحمد" كان يجلس بجوار "هاني"، ينظر له بنظرة الأخ الذي عاين وجعه، وكان شاهدًا على سقوطه وقيامه، فابتسم حين ذُكر اسمه كشاهد، لأنه شعر في تلك اللحظة أنّه لا يشهد فقط على عقدٍ مكتوب، بل على عهدٍ بين روحين، خاضتا معركة الحب وانتصرنا.

ثم نطق المأذون بجملته الشهيرة، التي تردّدت كأنها ترنيمة من السماء:
"بارك الله لكما، وبارك عليكما، وجمع بينكما في خير"
فارتجّ المكان بزغاريد النساء، كأنّها صيحات النصر، وصوت الأغنية انطلق "كتبوا كتابك ع القمر"، فاهتزّت القلوب طربًا، والعيون غرورقت بالدموع.

تناولت "هناء" القلم من يد المأذون، ووقفت لحظة تنظر للورقة أمامها، ثم نظرت لهاني، فابتسم لها.
ابتسامة واحدة فقط، كانت كفيلة بأن تهدّئ زلزال التوتر الذي كان يتراقص في قلبها، ثم وقّعت باسمها، كأنّها تخُط بداية القدر الجديد.

عندما انتهى كل شيء، أصبحت "هناء" زوجة "هاني" رسميًا.
في تلك اللحظة لم تكن مجرد ورقة أُبرمت، بل كانت روحان امتزجتا بحبرٍ من الأمل، وألمٍ ذاقاه سويًا.

_ يلا يا قلبي يا هاني، احضنها… بقيت على اسمك.

لكن "هاني" تريّث، كأنّه يصغي لصوتٍ داخلي يهمس له بألا يكون تقليديًا في هذه اللحظة النادرة.

_ عاوز أعمل حاجة غير الحضن… متكونش تقليدية.

ضحك الشباب بصوتٍ مرتفع، يكسر رهبة الموقف:

_ يلا يا ابني، حضن كتب الكتاب هيضيع…. 

ولكن "هاني"، بنبض عاشقٍ لا يخجل، مدّ يده إلى يد "هناء"، ثم انحنى ببطء، وطبع على جبينها قبلة… لم تكن قبلة جسد، بل كانت قبلة قلبٍ سجد احترامًا، وشكرًا، واعترافًا بكل ما مضى من عذاب.

ثم رفع عينيه، ونظر لها طويلًا… ثم طبع قبلةً على وجنتها، قبلةً دام صمتها أكثر من دقيقتين، كأنّه يسرق من الزمن لحظتين يعوّض بهما سنوات البُعد.

دوّى التصفيق في الأرجاء، وصفّر "يزن" متحمسًا:

_ الله عليك يا هاني… أوعدنا يا رب!

كانت نظرات الحضور تتأرجح بين الدهشة والإعجاب، وبعضها حمل غيرةً مستترة، فليس كل رجل يملك جرأة أن يحب بهذا العمق، ويعلن عن حبه في حضرة الجميع دون خوفٍ أو مواربة.

وبعد قليل، تقدّم "أحمد" و"يزن"، وباركا لـ"هاني"، ثم استأذنا بلطف:

_ إحنا هنمشي بقى… خلّيك في فرحتك.

_ شكراً يا رجّالة… والله وجودكم أغلى من أي حاجة.

غادرا المنزل، وتركاه يغرق في تفاصيل الفرح، يسبح في بحرٍ من السعادة التي طال انتظاره لها، كأنّه خرج للتو من معركةٍ انتصر فيها بعد طول كفاح.

ومرّ ذلك اليوم كالحُلم… حلمٌ كانت روحه تنبض بالحب، والقلوب التي كانت مجروحةً أصبحت اليوم مزهرةً كحقول الربيع بعد شتاءٍ طويل.
لقد فرح العاشقان، فرحًا مستحقًا، بعد أن تكسّرت سفنهم مرارًا على صخور الفراق، ثم جمعهما القدر من جديد، ليكون هذا اليوم ميلادًا جديدًا لحياةٍ طالما تمنوها.

"حين يُقسم القلب على الوفاء، لا يبقى للخذلان موضعٌ في الحكاية"
                         ***

في ذلك اليوم، حيث الشمس في السماء كأنها قطعة من ذهبٍ يتناثر في الأفق، وكان الفرح يشع في أرجاء المكان كأنما الكون كله يحتفل به، جاء الزفاف ليُضيء سماء المدينة، كانت القاعة كالبستان المورق، مزينة بألوان الزهور الزاهية التي تمايلت مع نسيم الليل، والأنوار المتلألئة كنجوم السماء، تتراقص على أنغام الطبول، وتغني فرحًا بانتظار العروسين.

عندما دخلت هناء إلى البيوتي سنتر، كانت الأنامل الخفيفة التي تلمس وجهها بالكريمات والمكياج وكأنها تتلو على وجهها قصيدة من الحب والاهتمام. كانت جالسة أمام المرآة، تترقب ما سيحدث من تغيرات على ملامحها، ولكن بين كل هذه التغيرات كانت تظل هي، كما هي، جمال طبيعي يعلو وجهها مثل وردة على نافذة الربيع.

_ إيوا يا حبيبي، أنا خلصت، أنت فين؟

صوتها كان كهمسات الرياح في السهول، يحمل في طياته السكون والهدوء، وكانت تلمس قلب هاني في كل كلمة، في كل نبرة، وكأنما كان ينتظر صوتها ليحيا من جديد.

_ خلاص يا حبيبتي، كلها خمس دقايق وأكون عندك يا قمر، باي.

ثم كانت خطواته تسبق حواسه، يتسابق قلبه مع عقله، ليصل إليها حاملاً بين يديه باقة من الأزهار، العبير يملأها، والذكريات تتطاير من بين أوراقها. اقترب منها، لكنه لم يجد الكلمات التي تطاوعه ليعبر عن ما يجول في صدره، فالتقط البوكيه وهو يحاول أن يخفف قلبه، ولكن هي كانت قد التفت له فتوجّهت إليها.

_ حيريه شويه.

_ خلاص بقى يا هنوشتي.

وها هي تتقدّم إليه، في زيّها الأبيض الباهت الذي تحول إلى نور ينير المكان، وجمالها الذي لا مثيل له جعل القلوب تخفق بين ضلوع الحضور، اقتربت منه، وتوقف الزمان للحظة بين نظراتهما قبّل رأسها في تأنٍّ، وقال بكل حبّ:

_مُبارك لينا يا حبيبتي.

_ بحبك، الله يبارك فيك يا حبيبي.

أخذ يديها في يديه وركضا معًا كأنهما طائرين لا يعكّر صفو سمائهما شيء. في طريقهما إلى القاعة، كانت الزفة تملأ الأجواء بأصوات الطبول والأناشيد التي جعلت الأرض تدور حولهما  وعندما دخلا القاعة، امتلأت الأنوار، وزفت الأقدام إلى معبد الحب.

وبعد أن بدأ الجميع في الرقص على الأنغام، طلب هاني المايك من الدي جي، وقال بنبرة مليئة بالحب والعرفان:

_ حابب أقول كلمتين، ياريت تسمعوني. أولاً، شكر خاص لأخويا وحبيبي الدكتور أحمد؛ اتفضل يا دكتورعلى المسرح، الشخص اللي كان سبب في إن الجوازة دي تكمل، بشكره من كل قلبي.

أقبل أحمد، وقام بتقبيل هاني بحرارة، وكل واحد منهما عرف أن هذه اللحظات ستكون خالدة في ذاكرتهما، كالكتب القديمة التي لا يمحوها الزمن.

_ حبيبي، ربنا يفرح قلبك ويسعدك دايمًا.

ثم طلب هاني تشغيل أغنيتهم المفضلة "ارسميني في ليلك نجمة"، وبدأوا في الرقص على إيقاع الحب والشوق. كانت الأنغام تُحرّك أرواحهم، وكانت أجسادهم ترقص بلا وعي، وكأنهما في حلم طويل، بعيد عن هموم الدنيا.

ومع نهاية الرقص، كانت الليلة قد أوشكت على النهاية، لكن كانت الأحاديث لا تزال تدور، والسهر في عيونهم، كل واحد يتحدث عن ذكرياته، عن لحظات الحياة التي قد تجمعهم أو تفرّقهم.

ثم همس هاني في أذن هناء، وقال:

_"ادخلي برجلك اليمين ياعروسة، نورتي بيتك يا  مدام.

_ يا رب، يا ساتر، منور بوجودك يا حبيبي.

_ تعالي، أنا أفرجك على الشقة. بصي، كل حاجة زي ما أنتِ اخترتيها .

_ الله، جميلة أوي، والألوان هادئة، إيه ده، صورنا! تحفة بجد، أحلى حاجة عملتها إنك جمعت كل اللحظات الحلوة اللي بينا في بورتريه واحد.

_ يا حبيبتي، أنتِ أجمل، أنا قلت لك، أتمنى بس، وكل حاجة هتكون عندك.

_ بحبك، بحبك أوي يا هاني.

_ وأنا بموت فيكِ، يا قلبي، قلب هاني. يلا بقى، نغير هدومنا دي ونصلي ركعتين شكر لله، ونشوف هنعمل إيه.

_ طيب فكلي سوستة الفستان عشان مش طايلها.

_ عيوني للسوستة والفستان كله لو عاوزة.

_ لا، شكرًا، لحد هنا.

_ لا يا حلوة، انسي الخجل الليلة دي.

ثم غير العروسان ملابسهما، وصليا ركعتين شكر لله، ثم بدأوا في تناول الطعام.

_ إيه يا حبيبتي، مبتكليش ليه؟

_ وأكله في الكوافير، مش جوعانة.

_ لا، لازم تاكلي وتتغذي عشان ورانا شغل. يلا خدي حتة اللحمة دي من إيدي، هم يا جمال، ألف هنا يا حبيبتي.

كانت هناء تأخذ الطعام بصعوبة، وهي من داخلها تشعر بشيء من الخوف والقلق.

_ الله يهنيك يا حبيبي.

لاحظ هاني توترها وقال:

_ مالك كده خايفة ولا إيه؟

_ لا عادي، توتر بنات مش أكتر.

_ حبيبتي، طالما أنا معاكي، مش عايزك تتوتري من أي حاجة، أوك؟ تعالي يلا نسمع فيلم رومانسي.

شعرت هناء براحة أكبر من كلام هاني، برغم حبها له، لكنها كأي بنت في ليلة زفافها، لا تخلو من توتر.

_ إيه يا حبيبتي، عجبك الفيلم؟

_ آه كويس.

حينها، أخذها هاني في حضنه وقال:

_ احكيلي بقى، عملتي إيه في الفترة اللي بعدونا فيها عن بعض؟

_ "الأيام كانت بتعدي عليا سنين، لدرجة حاولت انهي حياتي بس أنت انقذتني.

_ أخص عليكِ، عايزة تفارقيني وتسبيني أموت من قهري عليكِ.

_ مقدرتش اتخيل إن أكون لحد تاني غيرك يا هاني، الموت عليا أهوان من إني أكون لغيرك.

_ بس خلاص، متجبيش سيرة الموت دي على لسانك فاهمة؟ دا أنا في بعدك كنت بعَد الأيام والليالي من شوقي ليكي، وخلصت كل أغاني تامر عاشور، الحزينة، وأوقات كنت بنام والدمعة على خدي.

_ شوف السنين فرقتنا قد إيه، فرقتنا، غربتنا، تعبتنا، يا ما دوبت من عمرنا السنين، لكن شوف أدينا رجعنا تاني للهوا متشوقين، وحبنا غلب السنين، صبرنا على الألم ورجعنا بالأماني لليلة حب وطعم الحب، يا عيني على الحب.

_ بحبك قد عمري اللي فات وقد عمري اللي جاي، بحبك قد نور الشمس، وقد ماضيها دافي، بحبك في الكلام والهمس، يا حالة عشق مختلفة، معاكِ الجنة أنا فيها خلاص، طولت النجوم بإيدي، في كل كلمة أغنيها أقول اسمك بصوت هادي.

_ "لله على الجمال، كنت عارفة إنك رومانسي بس متوقعتش كل ده.

_ معاكِ كل كلام الحب والغرام بيطلع لوحده. وبعدين هنقضيها كلام ولا إيه؟ تعالي أقولك كلمة سر في بوقك .

وهنا تسكت شهرازاد عن الكلام الغير المباح.

وبالفعل، تم نقل مليكة هناء حامد إلى هاني شعبان لتصبح زوجته قولا وفعلا.

"في تلك الليلة، تلاقت قلوبهما بعد طول غياب، ليكتب الزمان لحظاتٍ من الوفاء لا تُنسى، حيث كان الحب هو اللغة الوحيدة التي تحدثا بها". 

                    

تعليقات



×