رواية شظايا قلوب محترقة الفصل الرابع و الاربعون 44 بقلم سيلا وليد

   


 رواية شظايا قلوب محترقة الفصل الرابع و الاربعون بقلم سيلا وليد



مَن يُطفِئُ الآنَ نارَ الظنونْ؟

وكنتَ الحياةَ… أجل، كنتَ كلّي،
فمن ذا يُعيدُ إليّ السكونْ؟

تركتَ ارتجافي على ضفّةِ الصمتِ،
كأنّي جدارٌ… تقاومَ دونَ سكونْ.

نسيتَ الذي كانَ بيني وبَينَك،
ونسيتَ نبضي، وخافقَ عُيونْ!

فيا من تملّكتَ عمري وسري،
أما كنتَ تدري؟ أما تسمعونْ؟

مَضيتَ… وخلّفتَ فيَّ الخرابَ،
كأنك كنتَ الزمانَ المصونْ.

فلا أنتَ حيٌّ، لأحضنَ ظلك،
ولا أنتَ ميتٌ… لأبكيك دُونْ.

تُرى: من أُعاتبُ بعدكَ؟ ربي؟
أم اللّيل؟ أم هؤلاء الساكنونْ؟
أنا والحنينُ…من غيرك بيتٌ خريبٌ،
وغيمٌ ثقيلٌ… ونبضٌ يخونْ.**

بمكتبِ راكان،  يخيِّمُ السكونُ على المكان إلَّا من حركة أناملهِ على جهازهِ الذي يعملُ عليه مرة، وعلى أوراقه مرة

دلف جاسر بخطواتٍ ثابتة، وعينينِ تنطقُ بالشوقِ لصديقِ الأمس واليومِ والغد.. 

"هالو..هالو بالليل يا حضرةِ المستشار العبقرينو..."
قالها وهو يقتربُ منه.. 

رفع راكان عينيه ببطء بعدما  كان منكبًّا على أوراقه وجهازه، ثمَّ ابتسم ابتسامةً اتَّسعت معها روحه، ونهض متوقِّفًا يحتضنه:

"أهلين وسهلين، وأنا بقول الشمس غابت ورا الغيوم ليه!"

قهقهَ جاسر بخفَّة، ثمَّ ألقى بجسدهِ على أقربِ كرسي كأنَّه يحملُ تعبَ أيام ماضية..

"لا والله، ليه؟ حد قالَّك إحنا في الشتا؟"

ضحك راكان بصوتٍ عال، وضغط زرًّا خفيًا في مكتبه..
دخل الساعي سريعًا، فلوَّح له راكان بكفِّه بنغمةٍ آمرةٍ محبَّبة:

"قهوة جاسر باشا ياابني..وقهوتي كمان، وخفِّ علينا في السكر كفاية سيادة الظابط"

انصرفَ الساعي مبتسمًا، فيما نهض  راكان وجلسَ قبالةَ جاسر، يمدُّ ساقهِ بتراخٍ ويرتخي بظهرهِ إلى الوراء، ثمَّ غمزَ له بمكر:

"أوعى تقولِّي قطعت الإجازة علشان وحشتك؟"

-أنا أقدر أعيش من غيرك، دا أنا بقعد معاك أكتر مابقعد مع مراتي وولادي.. 
-لا والله..كلام كبير. 
مدَّ جاسر يدهِ إلى علبةِ سجائرِ راكان، يقلِّبها بفضول، ثمَّ نظر إليه بطرفِ عينه بسخريةٍ لاذعة:

"كلِّ شهر ليك نوع سجاير؟ ياعمِّ إهدى علينا، ربِّنا يعطينا زيَّك."

أشعلَ راكان  سيجارتهِ بهدوء، ثمَّ همس وهو ينفثُ الدخان:

"الله أكبر في عنيك..."

رفع جاسر حاجبهِ ممتعضًا بتصنع:

"أنا بحسد ولَّا إيه؟ علشان تخمِّس في وشِّي؟ دا إحنا تُقال برضو..بس أبويا، ربِّنا يخلِّيه للشعب، بيقول: إهدار صحة وإهدار مال، بياخد حقِّ الدولة منِّي، بيحسِّسني أنا الشعب."

ضحكَ راكان حتى دمعت عيناه، واهتزَّ جسده، ويدهِ تغطِّي نصفَ وجهه من شدَّةِ الضحك..ثمَّ اقتربَ من جاسر، محدِّقًا فيه بنظرةٍ ذات مغزى:

"جواد باشا دا كتاب للتدريس يابني... إنَّما إنتَ..."

أمالَ جاسر للأمام، يحدِّقُ بعينيهِ بشراسةٍ ساخرة:

"أنا إيه؟"

انفجرَ بالضحكِ مجدَّدًا وهو يضرب كفيه ببعضهما:

"الأمور المغرور."

ضحكَ الاثنانِ معًا، ضحكةَ صدقٍ ومودَّة، خفتت تدريجيًّا، ثمَّ حلَّ صمتٌ حنون، صمتٌ يربتُ على القلوبِ المتعبة.

تنهَّد راكان، ثمَّ نظر في عينيهِ طويلًا، وسألهُ بهدوء:

"صحيح...قطعت أجازتك ليه؟"

نفث جاسر دخانَ سيجارتهِ بعينٍ شاردة:

"جواد باشا أمر يا سيدي...بيجاد مسافر بعد يومين، وعايزنا كلِّنا حواليه قبل مايمشي."

مال راكان برأسه:
-بجدِّ أبوك دا أحطُّه أسطورة، كلِّ حاجة بتاخد حقَّها، أنا سمعت عنُّه كتير أوي، وتمنِّيت أشتغل معاه، بس يالَّه النصيب، ملحقتش، فوقَّعني فيك.. 
-بتشتمني خلِّي بالك وأنا قلبي رهيَّف وبزعل..هزَّ رأسهِ ضاحكًا: 
- لا طلعت بتحس وعندك blood ، دا أنا أوَّل مرَّة شوفتك قولت الواد دا إزاي يكون ابنِ جواد الألفي..واللهِ شكِّيت فيك.. 
رفع جاسر حاجبهِ مستخفًّا بكلماته: 
-بتغلط تاني، تصدَّق أنا اللي غلطان إنِّي عبَّرتك وجيت أشرب القهوة معاك، كنت قعدت مع قصص أبويا أحسن.
جذبهُ من ذراعهِ يشيرُ إليه بالجلوس: 
-اقعد يابني ماتبقاش قفوش زيِّ كيان بنتي كدا.. 
جحظت أعينُ جاسر يشيرُ إلى نفسهِ بتقطُّع:
-أنا كيان، واللهِ إنَّك فعلًا صاحب لسانه طويل.. 
ارتفعت ضحكاتهِ حتى نهضَ من مكانه: 
-يخربيتك ضيَّعت الهيبة، يابني المفروض كانوا عيَّنوك ظابط أداب.. 

-لا كدا كتير، واللهِ ماقاعد معاك..قالها وخطا بتصنُّعٍ للخارجِ فناداه: 
-تعالَ بجدِّ عايزك، قولِّي بس بيجاد
هوَّ هنا ولَّا لسه في إسكندرية؟

"لسه جاي من شوية...قرَّر السفر نهائي، بس أنا زعلان أوي..الولاد قالبين البيت عزا، وبابا بيحاول يسيطر على الوضع."

هزَّ راكان رأسهِ بتفهُّم:

"أمم...فهمت، ولاد بيجاد كبار على ما أظن؟ سفيان قدِّ أمير؟"

حرَّك جاسر يدهِ على مقبضِ الباب وأجابه:

"لا، أكبر بسنتين، سفيان في تالتة ثانوي، وعلشان كدا عايزهم  يسافروا،  يكمِّلوا تعليمهم هناك."

"بالتوفيق إن شاء الله..." قالها ثمَّ صمتَ لحظة، وقام بفتحُ درجَ مكتبهِ وأخرجَ ملفًّا سميكًا:

"كويس إنَّك جيت، قرَّب وامسك 
ياسيدي.
قطبَ جاسر جبينهِ متسائلًا:
-إيه دا؟..
-عايزك تمسك قضية إلياس السيوفي.. تجيب من تحت البلاط..مش عايز هفوة ياجاسر."

"فيه جديد؟"

تراجع راكان في مقعده، وعينيهِ تشعَّانِ شكًّا:

"عايز أوصل للحقيقة...ليه عايزين يقتلوه؟ أنا مش متأكِّد من موضوع راجح دا."

أردفَ جاسر بنبرةٍ مؤكدة، ملوِّحًا بسيجارته:

"بس دا مجرم يا راكان! وممكن يعمل أيِّ حاجة...إنتَ ناسي شغله؟..أنا مش فاهم ليه ساكت عليه؟!"

حدَّق راكان النافذة، وغرقَ بنظراته :

"مرتين أطلَّع أمر قبض عليه... ويتـرفض."

شهقَ جاسر بدهشة، يميلُ للأمامِ فجأة:

"ليه؟ ومين بيرفضه؟!"

استدارَ راكان ببطء، واستطرد:

"لحدِّ شهر مكنتش أعرف...تخيَّل مين؟"

"مين؟!"

"إسحاق الجارحي."

صُدمَ جاسر للحظة، ثمَّ قطبَ جبينه:

"ليه؟ وبعدين دا مش مخابرات..هو إيه اللخبطة دي؟!"

رفعَ راكان كتفيهِ باستسلام:

"شكلهم عايزين يوصلوا لحاجة من خلاله."

"أو يكون راجح شغَّال معاهم..."
قالها جاسر بهدوء، لكن الكلمة وقعت على مسامعِ راكان كالصاعقة..
توقَّف عن الحركة، ليشهقَ بخفَّة، ثمَّ تراجعَ فجأةً بظهرٍ مشدود:

"لا، مستحيل..إنتَ بتقول إيه؟ معقول؟!"..لا دا إلياس عنده حاجات تعدمه، لا مش دا اللي المخابرات تعتمد عليه..
-طيب ليه آخر عمليات للخلايا الإرهابية اللي هنا فشلت، مش يمكن راجح بينقل أخبارهم؟..
-مستحيل، أنا قعدت مع الراجل دا، دا واحد عنده غل وحقد، وشكله بيكره أخوه أوي وكلِّ حاجة بتربطه.. 
-تفتكر هيكون هوَّ السبب في خطفِ إلياس وأخوه، وبعدين إزاي مراته تموت غريقة وتندفن بنفسِ اليوم؟..
-سيبك إنتَ من دا، ادرس القضية وشوف هتطلع بإيه.
-تمام يابوص..بس إدِّيني يومين مع أهلي علشان غنى ماتزعلش. 
-براحتك، أنا عندي سفرية للولاد وهرجع بعد أسبوع..

في غرفةِ أرسلان...

كانت تجلسُ بجواره، تحدِّقُ في ملامحهِ الساكنة، ويدها تمسِّدُ على بطنها المنتفخ قليلًا..تحدث جنينها كأنها يشعر بها ويفهما:
– عايزاك تطلع شبه باباك...شُفته؟ أمُّور إزاي؟
سحبت نفسًا عميقًا، وترقرقت عيونها  بالدموع، تهمسُ لنفسها:
– وحشني أوي...نفسي يفتح عيونه، خايفة تيجي للدنيا وتلاقيه زيِّ ماهو...

رفعت رأسها للسماء، تتوسَّلُ ربَّها بدموعها:
– يارب ما تحرمنيش منُّه...

قطعَ حديثها دخولُ صفية وملك..
خطت صفية بخطواتها المشتاقة، وعيناها تعانقُ جسدَ ابنها بنظرةِ أمٍّ تئنُّ بالشوق..

– حبيبتي...عامل إيه؟ لسه زيِّ ماهو؟
أومأت برأسها وهي تمسحُ دموعها سريعًا، ثمَّ نظرت إليهِ مجددًا:
– نفسي يفتح عيونه ياماما...خايفة يفضل كدا...

شهقت صفية، وتكلَّمت بنبرةٍ حاولت أن تبثَّ فيها أملًا:
-بعيد الشر يابنتي...إن شاء الله هيفوق، طول ماقلبه بينبض، يبقى لسه في أمل كبير..
المهم، قومي ننزل للدكتورة نطَّمن على البيبي...وملك تفضل مع أرسلان.

هزَّت رأسها رافضة، بعينينِ دامعتين:
- لا يا ماما...أنا مش هروح للدكتور غير لمَّا أطَّمن على جوزي.

تنهَّدت صفية، واقتربت تمسكُ بكفَّيها:
– لأ، بقالك أكتر من شهرين ما رحتيش للدكتور..لازم نطَّمن على البيبي...
أومال لمَّا يفتح عيونه ويسأل عن ابنه، نقول له إيه؟!

نظرت إليها بتوسُّل، وقلبها يشتعلُ خوفًا:
-علشان خاطري يا ماما...أنا هتعب أكتر لو رحت والدنيا من غيره، 
ده أوَّل فرحتنا، إزاي أروح لوحدي؟

تنهَّدت صفية بحرقة، ثمَّ قالت بصوتٍ شبه يائس:
– ولو فضِل كدا...مش هتروحي؟
-لا طبعًا، هوَّ مستحيل يسبني كدا..اقتربت من فراشهِ وبسطت كفَّيها على رأسه تحدِّثه:
-مش كدا ياأرسلان، إنتَ مستحيل تخلي بوعدك معايا..ربتت على ظهرها: 
-إن شاءالله حبيبتي..وقعت عيناها على ابنتها الحاضرة الغائبة:
-ملك..مالك يابنتي، قاعدة كدا ليه؟!..أخوكي كويس، وإن شاءالله هيفوق..

نزلت دمعةٌ تسيلُ عبر وجنتيها:
-يارب ياماما، أنا كلِّ ماأفتكر حالة غادة قلبي بيوجعني، إحساس صعب أوي، والدكتور مش مطمِّنهم..
-حبيبتي إن شاءالله يقوم بالسلامة، تذكَّرت حالة فريدة فاستدارت الى غرام متسائلة:
-فريدة مجتش هنا من إمبارح...جلست غرام وتعلَّقت عيناها بأناملِ أرسلان التي يحرِّكهما، فصرخت بسعادة: 
-أرسلان فاق، أرسلان فاق..قالتها بسعادةِ طفلةٍ عاد والدها من سفرٍ طويلِ الأمد.. 

صباحَ اليومِ التالي..
نهضت من فوق فراشها المجاورَ لسريرهِ بخفَّة، خطت بخوفٍ كأنَّ الأرضَ تحتها هشَّة، كلَّ خطوةٍ تقطعها تنذرها بانهيار، اقتربت منهُ ببطء، كان ساكنًا..سكونهِ يرعبها، لا تعلم أهوَ نائم؟ أم أنَّ جسدهِ استسلمَ لحالةٍ بين الحياة والموت؟ لم تعد تفرِّق..كلَّ ما تعرفه أنَّ البُعدَ عنهُ يفتكُ بروحها.

ركعت على ركبتيها أمامَ سريره، مدَّت يدها بارتجاف، تمرِّرُ أصابعها على وجههِ الذي لم يعد يشبهُ إلياس الذي تعرفه..التهمَ الشحوبُ ملامحه، كأنَّ الحياةَ انسحبت بهدوءٍ وتركت فقط قشرته.

دفنت وجهها في عنقه، تسحبُ من جلدهِ أنفاسها، بل رائحته، تحاولُ أن تختزنها في رئتيها، كأنَّها تتنفَّسُ آخرَ ماتبقَّى منه..رفعت رأسها، تتفحَّصُ كلَّ إنشٍ فيه بعينيها المرتجفتين، توثِّقُ تفاصيلهِ بذاكرتها خوفًا من أن تختفي.. اقتربت من وجههِ أكثر..استنشقت أنفاسهِ التي كانت خافتة، حمدت اللهَ أنَّه يتنفَّس وأنَّه موجود، موجود، هذه الكلمة "موجود" ردَّدتها بينها وبين نفسها حتى شعرت بأنَّها عزاءها الوحيد.
تجوَّلت بعينيها فوق ملامحهِ كرسَّامٍ عاشق، يرسمُ تفاصيلَ معشوقهِ من الذاكرة...
إلى أن وقعت عيناها على وجهه، نزلت برأسها تحتضنه، تطبعُ قبلةً فوق خاصَّته، قبلةً فيها لهفةً وخوف، كأنَّها قبلةُ الحياة...لكنَّه لم يتحرَّك..لم يشعر بها، كأنَّهُ ذهب من جديد، في غيبوبتهِ المعتادة.
شهقت...شهقة بكلِّ مافيها، ضمَّتهُ كمن يتمسَّكُ بطوقِ نجاة، دفنُت رأسها بصدرهِ تحاولُ أن تهربَ من واقعٍ لا يرحم، وأردفت بصوتٍ باكٍ:

– "كتير على قلبي...أنا هموت..مش قادرة..مش قادرة أتنفِّس ياإلياس... بخـــتنق..."

دخلت الممرضة، وجهها خالٍ من التعبير، كأنَّها لا ترى مايحدث، فقط تقومُ بعملها:
– "مدام، جهِّزي نفسك، فاضل وقت قليل."
أشارت لها ميرال بصمتٍ ألَّا تتكلَّم، ثمَّ همست:
– "روحي، وأنا جاية وراكي."
– "ما تتأخريش، غرفة العمليات جاهزة."
أومأت ميرال دون أن تنبسَّ بكلمة، ثمَّ التفتت إليه، ظلَّت لثوانٍ تتأمَّله، كأنَّها تودِّعه، كأنَّها تقولُ لعينيه "ابقَ حيًّا من أجلي"، ثمَّ تحرَّكت للخارج..قابلتها فريدة ومصطفى..
ضمَّتها فريدة بحضنٍ أمومي محاولة فيه من تعزيز صلابتها:
– "ميرو، ماتنسيش تقرأي آية الكرسي، وتدعي، وقبل أيِّ حاجة خلِّي قلبك عند ربنا."
طبعَت ميرال قبلةً فوق جبينِ فريدة، وهمست:
– "ابني أمانتك ياماما..لو مارجعتش، ربِّيه زي ماربِّيتيني..ولو إلياس فاق، قولي له ميرال كانت بتحبَّك..فوق ما يتخيَّل."

ضمَّتها فريدة بقوَّة، تبكي وتتمتمُ بدعواتٍ ممزوجةٍ برجفةِ الأمومة:
– "بعد الشرِّ عليكي يا بنتي..إن شاء الله تقومي بالسلامة، وترجعي لحضنه."

رفعت نظرها لمصطفى..اتَّسعت ذراعيه، فاتَّجهت له تختبئُ بداخلهِ كطفلةٍ خائفة:
– "أنا بحبَّك أوي يابابا مصطفى... ادعيلي، ادعيلنا نرجع لبعض."
طبعَ قبلةً حانيةً على جبينها، وأردفَ بصوتٍ مبحوحٍ بالعاطفة:
– "وبابا مصطفى بيحبِّك أكتر يامرات الغالي."

نادتها الممرضة من جديد..
مسحت دموعها سريعًا، رفعت رأسها، ونظرت للجميع كأنَّها تلتقطُ وجوههم للأبد..تختزنُ صورهم بداخلها، اقتربَ منها يزن، وطوَّقها بذراعيه:
– "مش فاهم هما بيعيَّطوا ليه، دي داخلة عملية، مش رايحة تنتحر."
ضحكت بدموعها:
-"أحسن أخ في الدنيا...ربِّنا يسعدك 
ياحبيبي..رغم الوقتِ القصير، حاسَّة إنِّي اتربيت معاك...أنا بحبَّك أوي أوي... خلِّي بالك من ابنِ أختك."
ضمَّها إليه أكثر وهمسَ في أذنها:
- "وأخوكي بيموت فيكي...عارفة إيه الحاجة الوحيدة اللي المفروض أشكر راجح عليها؟ إنُّه دخَّلني حياتك."

نظرت إلى رؤى، التي تقفُ بجوارِ غادة، تبكي في صمت..تلاقت العيون، وخرجت رؤى بخطواتٍ خجولة:
- "متزعليش منِّي..."
أمَّا غادة، فكانت تبكي في حضنِ إسلام، شهقاتها تقطعُ القلب، فاقتربت ميرال منها وربتت على كتفها:
-"بطَّلي عياط يا بت...بتفوِّلي عليَّا؟ جتك ضربة تاخدك"
ضحكَ الجميع، لكنها كانت ضحكةً باهتة، مجرَّدةً من الفرح...مجرَّدةً من الأمل...
تقابلت بأعين غادة التي نزعت نفسها من أحضان اسلام، وضمتها بقوة لأحضانها، تبكي وكأنها لم تبك من قبل
-أنا بحبك اوي ياميرال، عايزاكي ترجعيلي بسرعة، علشان نعمل حاجات حلوة مع بعض 
ضمت وجهها بين راحتيها تزيل عبراتها، وهمست لها:
-وأنا بحبك اوي يااجمل اخت في الدنيا، يوسف الصغير في امانتك، مع يوسف الكبير..قالتها وابتعدت عنها 

ثمَّ نظرت إليهم نظرةً طويلة، كأنَّها تطلبُ منهم أن يحملوها في قلوبهم... ثمَّ دخلت، وأُغلقَ البابَ خلفها.
وبعد وقت...وبعد محاولاتٍ طويلةٍ من الطبيب...

بغرفةِ إلياس.. 
بعد وقت..محاولاتٍ طويلةٍ من الطبيب، لإيقاظ إلياس بسببِ أدويته... لحظة بدت كأنَّها فاصلة بين الحياةِ والموت..
دقائقَ ثقيلة انقضت، ثمَّ بدأت أنفاسهِ ترتجفُ ببطء، واستعادَ وعيهِ شيئًا فشيئًا.

اقتربَ مصطفى إليه بقلبٍ يقطرُ دمًا، والقلقُ يتشبَّثُ بكلِّ خليةٍ من روحه..

حبيبي عامل إيه دلوقتي؟..

أومأ له وردَّ قائلاً:
-الحمدُ لله..
أشار الطبيبُ للممرِّضةِ بلهجةٍ حاسمة:
-"جهِّزيه.."
ثمَّ التفتَ إليه بابتسامةٍ ممزوجةٍ بالرجاء:

- جاهز يابطل..
مسَّدَ مصطفى على خصلاتهِ بحنانٍ أبوي يُبكي الحجر:
-حبيبي عايز إيمانك بربِّنا كبير، ماتفقدشِ الأمل..

- ليه بتقول كدا يابابا، أنا كويس حتى لو معملتش العملية، بحمد ربِّنا على كلِّ حال ..

ربتَ مصطفى على أكتافهِ برفق، كأنَّما يحتضنهُ من بعيد:
-إن شاءالله تقوم بالسلامة وترجع تنوَّر بيتك من جديد..

- إن شاءالله..

تلفَّتَ إلياس بالغرفة بعينينِ تبحثُ عن ميرال، ثمَّ تساءلَ بقلق:

- فين ميرال..؟
صمتَ مصطفى للحظاتٍ متوتِّراً، ثمَّ رفع رأسهِ للطبيبِ متصنِّعًا عدم معرفتهِ بشيء:
-هيَّ مراته راحت فين يادكتور؟..

-كانت هنا من شوية..تطلَّع إليهِ قائلاً:

يمكن خرجت شوية وراجعة، هتروح فين، أو ممكن راحت تشوف يوسف على السريع، إنتَ عارف وقت ماتخرج من العملية مش هتسيبك..

ودِّيني لأرسلان يابابا عايز أشوفه.
مسَّدَ على خصلاتهِ بحنانٍ أبوي قائلاً:
-حبيبي مينفعش، تقوم بالسلامة إن شاء وبعد كدا تروح له..

رفع نظرهِ لوالدهِ وتمتمَ بصوتٍ خافت، ولكنَّهُ مثقلًا بما لا يُحتمل:

أرسلان فاق يابابا، بس همَّا كانوا جايين علشان يقتلوه..

استمعَ إليه مصطفى باهتمامٍ مشوبٍ بالذعر، وارتفعت أنفاسهِ بينما إلياس تابع:

عرَّف أسحاق إنِّ أرسلان اتكشف، وهيحاولوا يقتلوه تاني، دخل مقرَّهم ونقل داتا مهمة، ودا بالنسبة للجماعات دي مش هزار، خلِّيه يحميه كويس..

أومأ له مصطفى وأردفَ بحنانٍ يُخفي رعشةَ قلقه:

-طيب حبيبي بلاش تتكلِّم علشان ماتتعبش..

عايز أشوفه لو سمحت يابابا، دقيقة واحدة قبل ما أدخل العمليات..

في تلك اللحظة، دلفت فريدة بخطواتٍ ثقيلة، كأنَّها تُساقُ إلى غرفةِ إعدامها، تشعرُ بأنَّ قدماها تحملانها بصعوبة..
توقَّف مصطفى بعدما وصلت إليهما، فجلست بجوارهِ على الفراش، وابتسمت بحنانٍ يفيضُ حزنًا:

- عارفة إنَّك مش هتخذل أمَّك، وهتدخل العمليات وتطلع بالسلامة، مش كدا ياإلياس؟..

-إن شاءالله..

تمتمَ بها بخفوت، بينما أغمضت عينيها محاولةً ألَّا تبكي، وتابعت بصوتٍ يرتجف:

-يالَّه حبيبي علشان الدكاترة منتظرينك،

قام المسعفونَ بمساعدتهِ على الانتقالِ إلى فراشٍ متحرِّك، ومع كلِّ حركةٍ لهُ كان يشعرُ بأنَّ أوجاعهِ تنخرُ عظامهِ بصمت..
همسَ لوالدهِ وهو يتشبَّثُ بكفَّيهِ المرتعشين:

- أرسلان يابابا..

توقَّف المسعفُ بعدما خرج من الغرفة، فالتفتَ مصطفى إليه وقال بإصرارٍ لا يقبلُ الرفض:

عدِّيه خمس دقايق بس على أوضة 502 يابني، خلِّيه يشوف أخوه.

توسَّعت أعينُ فريدة بذهول، وتمتمت بنبرةٍ تصرخُ حزنًا، كأنَّها تستجدي القدر:

- بلاش ياحبيبي لمَّا ترجع إن شاءالله..

لكنّّه لم يستمع...وظلَّت نظراتهِ على مصطفى الذي قام بدفعِ مقعدهِ المتحرِّك بقلبٍ يمزِّقهُ الخوف، واتَّجهَ به نحو الغرفة...كأنَّما يقودهُ إلى مصيرٍ لا يُرجى منه سوى وداعٍ لا يشبههُ وداعُ الموتى..

وصلَ إلى غرفة أرسلان مع خروجِ صفية، التي توقَّفت أمامهِ تبتسمُ ابتسامةً خافتةً أنهكتها الأيام:

- ألف سلامة عليك ياابني...

أومأ برأسه، وهمسَ بنبرةٍ خافتةٍ خرجت من بين شفتيهِ بإرهاق:

- متشكِّر...أرسلان عامل إيه؟

- صحي للحظات ورجع نام تاني، الدكتور طمَّنا..قال ده طبيعي بعد ما قضى الفترة دي كلَّها في الغيبوبة...

تمتم وهو ينظرُ إلى الأرض، كأنَّ الكلمات ثقيلة لتربط لسانه عن التفوه:

- الحمدُ لله..ممكن أدخله؟

- طبعًا ياابني، إنتَ بتستأذن؟
قالتها وهي تلمحُ مصطفى الواقفُ بصمتٍ يكتمُ أنفاسه، ثمَّ تابعت بنبرةٍ حنونة:
- سلامته ياسيادة اللواء...

أومأ لها مصطفى، وحرَّك كرسيه نحو الغرفة..دخل في صمتٍ بأنفاسٍ ثقيلةٍ يشعرُ بأنَّ الهواءَ بداخلهِ يئن، اقترب من فراشِ أخيه، تطلَّع إلى جسدهِ الساكن، جسدًا يحملُ آثار معركةٍ لم يُكتب فيها نصرٌ أو هزيمة بجسدهِ الساكن...مرَّر أناملهِ على رأسهِ بحنان.. 

انحنى، ورفع كفِّهِ بين يديه، ضمَّها برفقٍ كما لو كان يخشى تألُّمه، وربتَ عليها بنبرةٍ مبلَّلةٍ بالحزن:

– حمدَ الله على سلامتك يا حبيبي... كان نفسي تفتح عيونك وتكلِّمني...المهم انك رجعت  للدنيا من تاني..الحمدُ لله...

رفع نظرهِ نحو والده، ثمَّ أشار إلى أرسلان وقال بصوتٍ متهدِّج:

- لمَّا يصحى...قولُّه إنِّي جيت...إنِّي كنت محتاج حضنه قبل ما...

قاطعهُ مصطفى وربتَ على كتفهِ محاولًا التماسك:

- حبيبي...إنتَ اللي هتقولُّه بنفسك... يلا بينا، اتأخرنا...وإن شاء الله تخرج وتلاقيه مستنيك...

غادر غرفةَ أخيهِ متَّجهًا إلى غرفة العمليات، طافت عيناهُ تبحثُ في الوجوه، بل قلبهِ يفتِّش عنها بلوعةِ الاشتياقِ والخوفِ من يهمس له قلبه، فاردف متسائلا:

- ميرال فين...؟؟

سألها والقلقُ يسكنُ صوته، فردَّت غادة سريعًا:

- مقدرتش تشوفك وإنتَ داخل العمليات...اعذرها ياحبيبي...

التفتَ إلى يزن، الذي أدارَ وجههِ بعيدًا  يهربُ من عينيه..

- ميرال فين يايزن؟
قالها إلياس بإصرار، وعيناهُ تتفحَّصه.

ردَّ يزن بصوتٍ متردِّد:

- اعذرها ياإلياس...هيَّ صعب عليها تشوفك كده...!!

قاطع كلامهِ بنفاذِ صبرٍ ونبرةٍ تحملُ رجاءً:

- بس أنا عايز أشوفها، كلِّمها..خلِّيها تيجي.

قاطعهم صوتُ الممرضة التي أتتهُ على عجلةٍ من أمرها :

- يلَّا يافندم، المفروض تكون جوَّه من خمس دقايق...

-عايز أشوف مراتي الأوَّل..

اقتربت فريدة، وضعت يدها على كتفه، وابتسمت بمرارة:

- حبيبي..ادخل..البنت حالتها صعبة، ومنهارة..بلاش تضغط عليها أكتر...إن شاء الله تقوم بالسلامة وهتلاقيها جنبك...

تنهَّد إلياس، وسحبَ نفسًا عميقًا كمن يبتلعُ كلَّ مخاوفهِ من عدمِ رؤيتها مرَّةً أخرى، ثمَّ نظرَ إلى الممرضة:

- عايز أشوف مين المتبرِّع...قبل ما أدخل العمليات.

توسَّعت أعينُ الجميع، والتفتوا ينظرونَ لأنفسهم، إلى أن هتفَ مصطفى بسرعة، يكسرُ الصدمة:

-عايز تشوفه ليه يابني، أهو واحد وخلاص، و هتلاقيه جوَّه أكيد...الدكتور جهَّزه قبلك، مش كده يابنتي؟

أومأت الممرضة:

– فعلاً...اتخدَّر ومستني حضرتك... علشان كده بقولَّك اتأخرنا...

سحب الممرضُ مقعده، من كفِّ والده الذي شعرَ بانسحابِ أنفاسه، وعيناهُ على فلذةِ كبده وهو ينساقُ للداخل، كمن ينساقُ إلى قبره.. 
شهقةٌ ملتاعةٌ بداخله، كادت أن تحرقهُ حينما فقد اتزانهِ وفشل في اخفاءِ  دموعه..ظلَّت عيناهُ على ابنهِ حتى غاب طيفه، التفتَ إلى فريدة التي هوت على المقعد تضعُ كفَّيها على صدرها تدعو ربَّها بسكينةً: 
"اللهمَّ إنِّي استودعتك إيَّاه، فاحفظه..

يارب، ياقابضَ الأرواحِ ورازقها، يامن لا يُعجزهُ شيئًا في الأرضِ ولا في السماء...
إليك رفعتُ كفِّي، ومالي سواك يا رجاءَ الأملِ الكسير...

ياربّ، هذا ابني...قطعةٌ من قلبي، ونبضُ عمري.. 
هاهو الآن يذبلُ كغصنٍ عطشان،
يرتجفُ بين الحياةِ والموت،
وأنفاسي تُطعنُ كلَّما شهقتُ باسمه...

يارب، أنا الأمُّ، وهل في الأرض قلبٌ يضاهي هذا الوجع؟
لكنِّي أمتُكَ، وأعلمُ أنَّ الأمرَ كلّهُ بيدك،
فصبِّرني، واسندني، وعلِّقني بك حين تسقطُ الدنيا من تحتِ أقدامي...
اقتربَ منها بخطواتٍ متعثِّرة، وجسدٍ أوشك على السقوط..جلس بجوارها ودون تردُّدٍ سحبها لأحضانهِ يزيلُ عبراتها الصامتة التي اختلطت بدموعِ دعائها وتوسُّلها لربِّ العالمين..

-فريدة ابكي، أنا موجود..دفنت رأسها بصدرهِ تنسابُ دموعها بصمت:
-ولادنا بين إيد ربِّنا يامصطفى، مفيش أحنِّ منُّه، عارفة أنُّه اختبار عظيم، ادعيلي ربنا يربط على قلبي لحدِّ ماأشوفهم تاني.. 
وصل إليهما إسلام وركعَ بركبتيهِ أمام فريدة، يتحدَّثُ بصوتهِ الباكي:
-هيقوموا ياماما، أنا متأكِّد أنُّهم هيقوموا..
-إن شاءالله ياحبيبي، إن شاءالله..

عند إلياس..
دلفَ للداخل، كأنَّما يحملُ فوق كتفيهِ ثقلَ الشتاءِ كلِّه، ارتجفَ جسدهِ كلوحِ ثلجٍ تاهَ في عاصفةِ الخوف، فكيف لك ياانسان ألَّا تخافَ من لقاءِ الله، رغم قوَّته، رغم إيمانه، ولكن عند الله أضعفُ من جناحِ بعوضة، دخل يلتفتُ بعينينِ ضائعتينِ يبحثُ عن ذلك الرجل...ذلك الغريب الذي يمنحهُ الحياةَ إن أرادَ ربُّ العالمين..

أسندهُ المسعفُ على سريرِ العمليات، ثمَّ انسحبَ بخفَّةٍ حين ولج الطبيبُ المختصِّ بالتخدير..خيَّم صمتٌ للحظات، كأنَّ الزمنَ توقَّف في هذه اللحظة، وهو يرى انسحابهِ بإبرةِ التخدير، رفع عينيهِ الذابلةِ وسألهُ بصوتٍ متحشرجٍ وعقلهِ يؤِّلُ إلى زوجته:

– فين المتبرِّع؟ مش المفروض يكون هنا...؟

قالها والطبيبُ يسحبُ إبرةَ المخدِّرِ من وريده، لحظاتٌ قصيرةٌ كانت كافيةٌ ليبدأ جسدهِ بالاستسلام، ولسانهِ يثقل، ورؤيتهِ تتشوَّش...في تلك اللحظة دخلت ميرال، اقتربت كمن يزحفُ على أطرافِ سيفٍ مدبَّب، قلبها يئنُّ بضجيجِ الفقدان، انحنت بطيفها الباهت، تطبعُ قبلةً مرتجفةً بجوارِ شفتيه، وهمست بصوتٍ متقطِّع:

- إن شاءالله نقوم بالسلامة...ونربِّي ابننا سوا، سامحني..عارفة وعدتك، بس مقدرتش أشوفك بتتألِّم وأفضل أتفرَّج.

دمعةٌ خرساء انسابت من طرفِ عينه، كأنَّها توقيعهِ الأخيرِ على وجعٍ لم يختره، همسَ من بين أنفاسٍ تتخبَّطُ بالمخدِّر:

– ليه..ليه عملتي كدا..إنتي وعدتيني؟

انحنت أكثر، واحتوتهُ بذراعيها كأنَّها تحاولُ تخبئتهِ بين ضلوعها، تتمنَّى أن يسحقها كما كان يفعل ...شهقت وهي تقول:

– علشان بحبَّك...وبموت من غيرك.

تاه وعيهِ شيئًا فشيئًا، وابتلعَ المخدِّرَ صوتهِ وهو يهمس:

– زعلان منِّك، أشار بضعف للطبيب 
-مش عايز اعمل العملية، مش عايز..قالها بخفوت يكاد أن يصل للاذن، لمست وجنتيه تحفر كل ماله من ملامح:
-متعملش كدا حبيبي لو سمحت...قابلها بنظراته التي تصرخ من الخوف عليها، ليهمس بين الوعي واللاوعي، لو عملتي كدا اعتبري دا آخر مابينا..قالها وأغلقَ عينيهِ كأنَّها نهايةُ فصلٍ مؤلمٍ من رواية...اقتربت الممرضةُ بنبرةٍ عملية:

– يلَّا يا مدام، لو سمحتي.

قبَّلت جبينهِ قبلةً أخيرة، وهمست بجوار أذنه
-لو معملتش كدا هموت، عايز تبعد ابعد بس المهم تكون كويس..قالتها ثم اعتدلت وكأنَّها لم تسمع شيئًا، ثمَّ أردفت بعينينِ لا تفارقُ ملامحه:

- "أنا جاهزة"..قالتها وخطت إلى فراشها

تمدَّدت إلى جواره، وعيونها تسكنهُ حتى خطفها المخدِّرَ إلى غيبوبةٍ مماثلة...جسدان على سريرين، لكن بينهما وطنًا من الألمِ والحبِّ والتضحية.

مرَّت الساعاتُ وكأنَّ الزمنَ قد توقَّف وبدا ثقيلًا خانقًا، لا يتحرَّك، لترتفعَ النبضاتُ داخل الصدور..

جلست فريدة في الركنِ البعيد، بجسدٍ منكفئٍ على المصحف، وعيناها تنزفُ دون صوت، كأنَّها تستجدي من كلماتِ اللهِ معجزةً تُعيدُ لها الصبر على الابتلاء..أمَّا مصطفى، فكان ظلًا لرجل،  غابت ملامحهِ تحت طبقاتٍ من الحزن، ينطقُ بصوتٍ متحشرجٍ لا يردِّدُ سوى: الحمدُ لله...الحمدُّ لله على كلِّ حال..قل لن يصيبنا إلا ماكتبَ اللهُ لنا، قالها كمن يُعانقُ الألمَ تسليمًا لا ضعفًا.

دقائقَ من السكونِ الذي يخنقهُ الصمتَ سوى من النبضِ الذي لا يحتملُ وجعَ القلب، شهقةُ بكاء، تبعتها صرخةٌ مبلَّلةٌ برجاءٍ من اللهِ أن يربطَ على القلب:
- طوِّلوا أوي ياإسلام...قولِّي هيكونوا كويسين، قولِّي إلياس هيرجع لنا... قالتها غادة بانهيار

ضمَّها إسلام إلى صدره، وقبَّلَ جبينها المرتجف، يبتعدُ من نظراتها الباكية التي تحرقُ روحه: 
- إن شاء الله، حبيبتي...إن شاء الله.

بينما يزن راحَ يزرعُ المكانَ كالمسعور، خطواتهِ تفضحُ ما يحاولُ كتمه، ووجههِ عبارةً عن لوحةٍ من الألمِ والخوف..

فجأةً دخلت غرام، وطافت بين الوجوهِ واحدًا تلوَ الآخر، حتى استقرَّت على فريدة..تقدَّمت بخطواتٍ مرتعشة، وقالت بهمسٍ راجف: 
- أرسلان فاق..يا ماما فريدة، فاق!

قفزت فريدة كأنَّما بُعثت من بين أحزانها، وتمسَّكت بكلماتها كما يتمسَّكُ الغريقُ بطوقِ نجاة:
- حبيبي يابني!! قالتها وهي تحاولُ أن تسنُدَ نفسها حتى لا يخونها جسدها بالسقوط...وقعت عيناها على مصطفى الساكنِ كأنَّه لا يشعرُ بما حوله..

فاستدارت تتشبَّثُ بكفِّ غرام:
-اسنديني يابنتي..قالتها وجرت أقدامها بصعوبة، وكأنَّها تتحرَّكُ على حممٍ من النيرانِ المشتعلة، وصلت إلى بابِ غرفته، لتقعَ عيناها على ذلك الجسدِ الهزيلِ الذي التهمهُ المرضَ والألم..تاهت نظراتها وكأنَّه إلياس الذي أمامها..ياالله اربط على قلبي ولا تجعلني أعيشُ فقدانِ أحدهما، خطت ولم تعد تميِّزُ أهوَ حلمٌ أم حقيقة... تحرَّك إسلام خلفها، وأسرعَ إليها..

طالت ساعات أخرى حتى غدت دهرًا، إلى أن خرجَ الطبيبُ أخيرًا..بوجهٍ شاحب، مُنهك، كأنَّه كان بمعركةٍ خسرَ فيها جزءًا من روحه.

هبَّ يزن نحوه، بينما بقيَ مصطفى جالسًا، عيناهُ لا تفارقُ الطبيب، كأنَّما سيسمعُ منه حكمَ الحياةِ أو الموت.

مرَّر الطبيبُ نظراتهِ على الوجوهِ المتعبة، ثمَّ قال بصوتٍ لا يخلو من وجع:

- عملنا الِّلي نقدر عليه...لسه بدري نقول العملية نجحت، لازم ننتظر ٤٨ ساعة...إن شاء الله خير...سلامتهم
قالها وتحرَّك للمغادرة.

ساد الصمتُ المكان، بعد جملةِ الطبيب، لكنَّه هذه المرَّة لم يكن هدوءًا...كان رجفةً بالقلوب..انتظار، وجمرةُ أملٍ معلَّقةً بخيطٍ رفيعٍ بين الأرضِ والسماء...ولسانًا يرِّددُ الدعاءَ بالنجاح..

بعد يومينِ بمنزلِ رحيل..

كان السكونُ يسودُ المكان، لا يُسمعُ سوى صوتِ الملاعقِ المتهادي على الأطباق، حتَّى قطعت والدتها الصمت بنبرةٍ حاولت أن تُخفي اضطرابها:

– أنا عايزة أنزل مصر يومين، خالك اتَّصل بيا...قال لازم نتجمَّع قريب..معرفشِ عايز إيه بالظبط.

رفعت رحيل رأسها ببطء، تتطلَّعُ في وجهِ والدتها، تحاولُ أن تفهمَ إن كانت تمزح..ثمَّ تساءلت  بصوتٍ مبحوحٍ من الدهشة:

- يعني إيه الكلام دا؟ هوَّ خالو فاكرنا في مصر؟! بينَّا ساعتين؟! وبعدين عايزنا ليه؟ أنا اتَّفقت معاه من الأوَّل إنِّنا هنعيش هنا...ليه غيَّر رأيه؟! 
جزاتي يعني إنِّي عرَّفته مكانَّا؟!

رفعت الأم حاجبيها، تطالعها بدهشةٍ ممزوجةٍ بالغضبِ الذي تجلَّى بعينيها،واردفت بحدَّةٍ ناعمة:

– وإنتي كنتي عايزة أخويا الوحيد مايعرفشِ مكانَّا يارحيل؟! إنتي مالك بقيتي كده؟ أنا سكت علشان متكونيش لوحدك، بس ده مش معناه أوافق على كلِّ حاجة بتعمليها..

انقبضَ قلبُ رحيل، كأنَّ حديثَ والدتها ضغطَ على جرحٍ مفتوح. ألقت محرمتها بعنفٍ ونهضت، بعينينِ تغليانِ بالدموع:

- خلاص، انزلي له، محدش غصبك تيجي معايا أصلاً..عايزة أحجزلك دلوقتي؟ ماعنديش مانع..قالتها

ثمَّ استدارت تتحرَّكُ كمن يفرُّ من عدوِّه، خطت بخطواتٍ تضربُ الأرضَ وكأنَّها تسحقُ وجعها تحت قدميها..
احتضنت والدتها  رأسها، تستغفرُ ربَّها في سرِّها، ثمَّ رفعت نظرها نحو الدرج، تراقبُ تحرُّكاتِ ابنتها الغاضبة..

في الأعلى، ألقت رحيل بنفسها على الفراش، وانفجرت دموعها في شهقاتٍ مدوية، كأنَّها تُخرجُ من صدرها بقايا الأملِ المهشَّم...تشعر بأن صدرها لا يتَّسعُ لأنفاسها، وكأنَّ بكاءها يحاولُ اقتلاعَ شيئًا عالقًا في روحها."

– آآآه..ليه؟ ليه بيحصل معايا كده؟!

خرجَ صوتها مُوجعًا، بما يتحمَّلهُ قلبها.. 
استمعت والدتها لبكائها، فنهضت على الفور، بقلبٍ يتفتَّتُ مع كلِّ شهقةٍ تصدرها ابنتها.

دخلت عليها، وجلست بهدوءٍ بجوارها، وخلَّلت أصابعها تسرحُ في خصلاتها كأنَّها طفلةٌ تحتاجُ للحنوّ..ثمَّ تحدَّثت بنبرةٍ هادئةٍ حنونة:

– كده؟ هتفضلي كده يا حبيبتي؟ الِّلي بتعمليه في نفسك ده محدش بينضَّر منُّه غيرك، ياقلبي.

صرخت رحيل وهي تتعلَّقُ بيدِ والدتها:
تحاولُ أن تُخرجَ كلَّ آلامها التي تحرقُ روحها
-عملت ايه ايه ياماما للغدر دا، انا حبيته، والله حبيته بس هو طلع غدار ومخادع ..مسدت والدتها على رأسها
-طب اهدي حبيبتي، بس لو اعرف ايه اللي حصل بينكم، أنا متأكدة أنه بيحبك برضو

-ماما احضنيني...تعبانة...واللهِ تعبانة من كلِّ حاجة..أنا مش قادرة...نفسي أرتاح، نفسي أرتاح…

ضمَّتها والدتها لصدرها، تقرأُ في سرِّها ما تيسَّر من القرآن، تحاولُ أن تسكبَ السكينةَ في قلبها الموجوع، حتى هدأت أنفاسها شيئًا فشيئًا، ونامت بين ذراعيها كطفلةٍ كسيرة.

مسحت دمعةً انحدرت من عينها، وساعدتها على التمدُّد، ثمَّ دثَّرتها جيدًا، كأنَّها تخشى أن تتسلَّل الأحلامُ المؤلمةُ إلى نومها.

وقفت تنظرُ إليها قليلًا، ثمَّ التقطت هاتفها من على الكومود، تأمَّلته بُرهة، وقالت في نفسها:

- مش هسيبك تئذي نفسك أكتر من كده يارحيل...

بدأت تبحثُ عن الرقم…لم تجده.

– معقول؟! مسحتي رقمه؟! يا ترى عمل فيكي إيه يزن يخلِّيكي توصلي لكده؟!

قلَّبت بين الأسماء حتى وجدت رقماً محفوظًا باسم:

"المخادع."

لم تتردَّد.

ضغـطـت على زرِّ الاتصال...
وقلبها يخفقُ كأنَّها تفتحُ بوابةً الألم من جديد

عند يزن..
ظلَّ الجميعُ على صفيحٍ من الانتظار، القلوبُ معلَّقة بين دعاءٍ وهمس، ساعاتٍ تمرُّ ببطءٍ قاتل، كأنَّها تعصرُ الروحُ عصرًا..اخترق رنينُ هاتفِه الصمت والترقب، نظرَ يزن إلى الشاشة، رقم دولي غريب، عقدَ حاجبيه، ثمَّ رفعَ الهاتفَ إلى أذنه:
– ألو...
قالها بنبرةٍ هادئةٍ تُخفي اضطرابًا من خلفِ صوته..
– إزيك ياباشمهندس، يارب تكون بخير...
تجمَّدت ملامحه، وتسلَّل الشكُ إلى صوته:
– مين معايا؟..قالها 
ونهضَ مبتعدًا..

في غرفةِ أرسلان..
كان كلُّ شيءٍ ساكنًا، كأنَّ العالمَ توقَّف ليمنحهم لحظةَ حياة...جلست غرام بجوارهِ مبتسمة، تسلَّلت أصابعها إلى خصلاتِ شعرهِ بلطف، تنظرُ إليه باشتياقٍ وكأنَّها كانت تنتظرُ معجزة..
مدَّ يدهِ ليمسكَ كفَّها، وعيناهُ تبحثُ عن إجابة:
- مخبِّيين عليَّا إيه يا غرام؟ ليه ماما ما جتشِ من إمبارح؟..معقول تكون تعبت تاني؟
لمست وجنتيهِ بحنانٍ خافت، أردفت بنبرةٍ كانت كنسمةِ خريفٍ حزينة:
– ماما تعبت أوي ياأرسلان...بس من فرحتها بيك، قاومت الألم وقالت تيجي تشوفك، حتى لو هتزحف، بس الدكتور منعها من الحركة الكتيرة..

فجأة، دلفت ملك بشقاوتها المعتادة، لكنَّها هذه المرَّة مختلطةً بدموعٍ وفرحٍ مجنون:
– أرسووو، حبيب قلبي، فااااق!
ارتمت على صدره، حتى صرخ بألمٍ حاد:
– آه...
ابتعدت فورًا، ولمعت الدموعُ في عينيها:
– آسفة...آسفة والله، من فرحتي نسيت...
ربتَ على كتفها وضمَّها بقلبهِ قبل ذراعيه:
– وحشتيني ياملوكة...
طبعت قبلةً دافئةً على وجنته، وهمست:
– إنتَ أكتر، ياحبيب ملوكة...
رفعت بصرها نحو غرام، وبضحكةٍ باكيةٍ قالت:
- عارفة إنِّك بتغيري عليه، بس أنا مشتقاله أوي..
دفنت وجهها في صدره، ودموعها تنسابُ كأنَّها تعتذرُ عن الفرحِ وسط الوجع.

بسطت غرام كفَّها على شعرها بلطف:
– لا ياحبيبتي، مش بغير..دا أخوكي، ومن حقِّك تدلَّعي عليه.
رفع أرسلان رأسهِ إليها، وابتسامةُ سخريةٍ حنونةٍ مرسومةٍ على شفته:
– خلاص كده؟ مدام غرام بيعاني؟ تعبي قوَّى قلبك عليَّا وخلاص؟
ضحكت غرام، وترقرقَ الدمعُ بعينيها، وانحنت تطبعُ قبلةً قرب شفتيهِ وهمست بنبرةٍ مخنوقةٍ بالعشقِ الذي كان سيتسرَّبُ من بين يديها:
- الحياة من غيرك كانت كابوس، ربِّنا يخلِّيك لقلبي، لحياتي، لنفسي...ربِّنا ما يحرمني منَّك يارب..

أزاحت ملك خصلاتها الشاردة بخفَّةٍ خلف أذنها، بعد اعتدالها، وقالت بمكرٍ طفولي:
– ياكناري الحب فيه عصفور صغير بيغنِّي هنا لوحده..
ابتسم أرسلان، ومدَّ يدهِ يلامسُ خصلاتها، ثمَّ تذكَّر صفية، فارتسمت على وجههِ نظرةُ قلقٍ مفاجئة:
– ماما صفية..فين؟
– متقلقش، تحت...بتطَّمن على إلياس، بتشوفه رجع لوعيه ولَّا لسة، وكمان عرفت بخطورة حالة ميرال، صعبت عليَّا أوي..ولمَّا ماما عرفت بتعب طنط فريدة كمان..برقت غرام عينيها، حتى تصمت..

لاحظَ أرسلان، فحاولَ النهوض، لكن قبل أن يتحرَّك، دخل إسحاق بسرعة..
– أخيرًا شمس الدنيا نوَّرت من تاني.. 
لكن أرسلان لم يرد، وبدأ ينتزعُ الإبر من كفِّه بقوَّة..تطلَّعت إليهِ غرام تهزُّ رأسها بذهول، بينما اقتربَ منه إسحاق بلهفة:
– إنتَ بتعمل إيه؟!
– لو سمحت...ابعد عنِّي.
قالها بنبرةٍ جافَّةٍ كسكينٍ حاد، قطعت قلبَ إسحاق ممَّا جعلَ جسدهِ ينتفضُ  ويتراجعُ خطوة.
أزاحَ الغطاء، أنزلَ قدميه، بصعوبة وضغطَ زرَّ النداء..

دخلت الممرضة:
– أفندم؟
- إلياس السيوفي..في المستشفى دي؟
– أيوه..
-بيعمل إيه؟..
-كان بيعمل عملية من كام يوم تقريبًا.
-عملية!..تمتمَ بها بجهلٍ ثمَّ تساءل:
-عملية إيه دي؟!
-زرع كلى !!
رجفةٌ قويةٌ حتى شعر بجسدهِ ينتفضُ برعب، ابتلع غصَّةً أحرقت جوفه: 
-زرع كلى!.. ليه؟..قصَّت الممرضة ما تعلمه، في حالةِ صمتٍ مرعبٍ من الجميع، وبكاءِ ملك وفركها بكفّّيها لما وصل إليهِ الأمر بسببها.. 
ارتجفت أنفاسها، كمن يختنق، فأشار إلى الممرضة :
– ساعديني أروحله.
وقف إسحاق أمامهِ في محاولةٍ لمنعه، لكن أرسلان صرخَ فجأة، صرخةً قطعت نياطَ قلبه، ورغم شعورهِ بآلامٍ  تفتكُ بصدرهِ إلَّا أنَّه دفعَ الأدويةَ والمحاليل أرضًا:
– مش عايز كلمة، طفل صغير علشان تضحكوا عليَّا؟ أخويا بيصارع الموت بسببي؟ ليه محدش قالِّي؟!
ليه خبيتوا عليَّا؟..
قالها بصوتٍ متقطِّع، وأنفاسهِ تتلاحقُ كعدَّاءٍ فقد طريقه...

جثا إسحاق أمامه، يمدُّ كفِّه برجاء:
– أرسلان...حبيبي، اسمعني، إلياس كويس...
غرز أرسلان نظراتهِ في عينيه، بنبرةٍ تصهرُ الحجر:
– إنتَ كذبت عليَّا ياإسحاق باشا... كذبت، وخبِّيت، وحرمتني من حقِّي إنِّي أعرف..مكنتش عايز غير أعرف..استكترت أحسِّ بأخويا..دا أخويا ياإسحاق باشا، زمان حرمتني منُّه، قولت حقَّك، بس دلوقتي مالكشِ حق تمنعني أكون جنبِ أخويا

"سكتَ إسحاق، وهرب بعينيهِ من نظراتِ أرسلان المشتعلة..والحقيقة التي أطلقها بوجههِ أقسى من أن تصفَ الشعورُ المؤلمُ الذي يعصفُ بكيانه..قالها وتوقَّفَ مع اختلالِ جسده، اقتربت منه غرام ولكنَّه أشار إليها:
-متقربيش منِّي..

سادَ الصمت، ثقيلًا كالموت، وكأنَّ الغرفةَ اختنقت من ردَّةِ فعله..

بمنزل محمود والد ايلين 
استمعت سهام الى طرقات على باب منزلها، نهضت تجذب روبها، وصاحت للطارق 
- حاضر أنا جاية، ايه مسروع على ايه
فتحت الباب ..رفعت حاجبها بسخرية تضرب كفيها ببعضهما:
-هو أنتِ..اهلا ياست الدكتورة، ابوكي مش هنا سافر، جاية ليه 
دفعتها ايلين ودلفت للداخل قائلة
-عارفة بابا مش هنا، انا جاية لك انت 
انكمشت ملامحها بسخرية، وخطت تتهادى بخطواتها حتى جلست على المقعد تضع ساقًا فوق الأخرى 
-ليه الدكتور رماكي، ولا الحمل جننه ومش متحمل يصبر
ألقت ايلين حقيبتها بغضب، وأشارت باصبعها ونطقت بنبرة حادة ممزوجة بالغضب:
-سهام قلة ادب مش هسكت، خليكي ست محترمة مرة واحدة، انت ايه مفيش غير شغل الرقاصين دا 
مصمصت شفتيها تطلع إليها بامتعاض
-عايزة ايه ياست الدكتورة المؤدبة، جاية تكملي العلقة بتاعت اختك 
-لا ..قالتها وجلست تتعمق بالنظر إليها وتسائلت:
-تعرفي واحد اسمه جمال الشافعي..هبت من مكانها فزعة، وتمتمت بارتباك واضح
-مين الراجل دا، لا معرفوش..توقفت ايلين واقتربت منها وعيناها تحاوطها
-جمال الشافعي دا كان شريك بابا، ايه بابا مش كلمك عليه 
ابتعدت مستديرة تواليها ظهرها 
-لا معرفوش، مش دا قريب راجح، اه اكيد اسمه زي اسم راجح جوز خالتك 
اقتربت ايلين وضغطت عليها بحديثها
-بس عمو راجح قال انك كنتي تعرفي جمال اخوه، وقالي حاجة تانية، تحبي تعرفيها ..استدارت إليها سريعا تتسائل بلسان ثقيل 
-أنا معرفوش

بفيلا الجارحي 
دلفت الخادمة إليها تهمس بنبرة خافتة
-اسحاق باشا والست دينا جم تحت ياهانم، ومش بس كدا، كمان الست غرام مرات الباشا الصغير، ومعاها شنط كبيرة 
ارتجف جسدها وارتفعت انفاسها، فأشارت إليها بالخروج..راحت تتحرك بالغرفة ذهابًا وايابًا..تهمس لنفسها
-دينا..ياترى يادينا كنتي مختفية فين الوقت دا كله..
فركت كفيها بقوة، ثم دثرت أناملها بخصلاتها تجذبها بعنف 
-قالت له حاجة..لا ..لا هي أضعف من كدا..ياريتك مشيتي يااحلام
قطع حديثها مع نفسها دفع اسحاق للباب، ثم أشار لرجلين 
-المريضة اهي، اعملوا اللازم 
جحظت عيناها باتساع كاتساع السموات والأرض، وشل جسدها وهي ترى شخصين يرتدون زي ابيض، يبدو أنهم يعملون بمشفى
جذبها أحدهم بعنف، فدفعته تصرخ
-انت بتعمل ايه، ابعد عني ..؟!
جذبها اسحاق من ذراعيها بقوة كادت أن تسحقها ثم نظر اليها بعينين تتوهجان بنيران جحيمية، وهمس بهسيس مرعب:
-هخليكي تتمني الموت يااحلام هانم، زمان سكت على أفعالك علشان وصية ابويا، فاكرة ابويا، بس خلاص طاقتي نفذت واستهلكت 
هزت رأسها برعب من شكل الرجلين، وتراجعت بجسدها للخلف
-انت هتعمل ايه، اسحاق انا امك، ايه ناوي تموت امك
-ياريت..ياريت يااحلام هانم، بس القتل عند ربنا عظيم، فأنا شوفت حاجة تستحقيها ..
أشار للرجلين :
-خدوها، ولو حد زارها هولع فيكم ..
لا ..لا ..قالتها وهي تهرول صارخة 
-مين دول، متعملش فيا كدا يااسحاق علشان خاطري
-خاطرك..خاطر ايه يامدام احلام، ابني اللي سرقتيه من حضني، ولا مراتي اللي عذبتيها، ولا خطبتي اللي موتيها يوم خطوبتنا، ولا عمايلك مع صفية، وصل إليها بخطوة وكاد أن يطبق على عنقها واستطرد
-ولا ارسلان اللي حاولتي تسمميه كذا مرة قبل ماتعرفي أننا كتبنا كل حاجة باسمه..اهدي يااحلام هانم لسة دا اول مسمار
-انت هتعمل فيا ايه 
-استضافة جميلة لحضرتك في مستشفى امراض عقلية، مخك عايز يتظبط يمكن تموتي وتريحيني وهو موتة ربانية، أو نعقلك هناك 
خدوها....قالها بصوت صاخب، مع صرخاتها وتوسلها
-أنا مش هسكت، والله لاندمك يااسحاق...فااااااروق، انت فين، تعالى شوف اخوك بيعمل في امك ايه 

بعد شهر، وقف أمام المرآة يُغلقُ أزرارَ حلَّتهِ الداكنة بملامحَ جامدة، تكادُ لا تُقرأ، وعيناهُ مطفأتان كأنَّهما تسكنهما حربًا وحزنًا لم تنتهِ بعد...انحنى ببطء، التقطَ سلاحه...لقد تغيَّرَ حالهِ كثيرًا ولم يعد ذلك الشخص… 

دخلت غرام الغرفة تحملُ صينيةَ الطعام، توقَّفت للحظةٍ تتأمَّله في صمتٍ مذهول، ثمَّ قالت بتوتُّر:

-إنتَ خارج؟! أنا جهزتلك الأكل.

لم يلتفت، ولكنَّه أجابها بنبرةٍ خافتة:

-ماليش نفس..

وضعت الطعامَ على الطاولةِ بتردُّدٍ واقتربت منه بخطواتٍ بطيئة:

- رايح المستشفى؟ خدني معاك، عايزة أطَّمن على ميرال.

انحنى ليلتقطَ مفاتيحهُ وهاتفه، ثمَّ نظرَ نحوها للحظاتٍ قبل أن يقولَ بنبرةٍ قاسية:

- لا..

تقدّمت إليه وهي تكادُ لا تقوى على الوقوف، وترقرقَ الدمعُ في عينيها وتحدَّثت بنبرةٍ ضعيفةٍ منكسرة:

- هتفضل مخاصمني لحدِّ إمتى؟ أنا تعبت، أرسلان...واللهِ تعبت...قالتها بصوتٍ كالصراخِ مع انسيابِ دموعها..

ظلَّ واقفًا للحظات، ثمَّ أدار وجههِ إليها ببطء، وقال بجمودٍ باردٍ يُخفي غليانِ قلبه:

- غرام...أنا قلت إيه؟ لمَّا تتكلِّمي معايا..إياكي تعلِّي صوتك تاني، 
ولمَّا تسأليني زعلان ليه، فزعلان عشان ماكنتش متوقِّع اللي عملتيه.

مدَّت يدها تتشبَّثُ بذراعه، تمسكهُ وكأنَّها تستنجدُ به ألَّا يبتعد:

- أرسلان، أنا تعبانة، وقلبي وجعني، ما صدَّقت إنَّك ترجع لي..شهور وأنا بدعي ربِّنا، وفي الآخر دا حق انتظاري ودعواتي...
-اجهزي، السوَّاق يوصَّلك عند باباكي، اقعدي هناك كام يوم، غيَّري جو..
-توسَّعت عيناها بدموعها.. 

وقبل أن ترد، انفتحَ البابُ بعنف، ودخل إسحاق كالإعصار، بعينينِ تتوهَّجُ بغضبٍ مكبوت:

– أنتَ ناوي على إيه؟! ليه مستدعي العيال دي؟!

لم يتحرَّك أرسلان، وكأنَّه لم يستمع إلى شيء، بل أدارَ جسدهِ ببطءٍ نحوه، ووضع سلاحهِ بحزامهِ دون أن يرفَّ له جفن:
-أنا بكلِّمك يالا..

- حضرتك عمِّي، على عيني وراسي... بس دخولك أوضتي وأنا مع مراتي كدا؟ عيب في حقّ إسحاق الجارحي.

انفجرَ صوتُ إسحاق بالغضب:

-إنتَ اتجنِّنت ياابني؟! الكام شهر اللي غبت فيهم عن الوعي نسُّوك الأدب؟!

لم يرد عليه، مرَّ بجانبهِ بهدوءٍ ينذرُ بالعاصفة، لكنَّ إسحاق جذبهُ من ذراعهِ بعنف:

- أرسلان، جاوبني...إنتَ ناوي على إيه؟ أوعى تفكَّر أسيبك تعمل عمل مجنون، يبقى بتحلم..

سحبَ أرسلان ذراعهِ بقوَّة، ونظر إليه بعيونٍ تتوهجُ بنيرانٍ كقاعِ جهنَّم، 
وخرجَ صوتهِ كزمجرةٍ مكتومة:

- ماتقفشِ قدامي..
حقِّي...وحقِّ أخويا...وحقِّ أمِّي، أنا هجيبه ياسيادةِ العقيد..
واللي هيقف بيني وبينه...مش هرحمه، حتى لو كنت إنت.

قالها وأدارَ ظهرهِ ببطء، ثمَّ تحرَّكَ للخارج، وخطواتهِ تُحدثُ صوتًا عنيفًا على الأرض، كأنّّها تُعلنُ أنَّ مابعد خروجهِ لن يعودَ كما كان...

بعدَ فترة، دلفَ بسيارتهِ المصفَّحة واقتحمَ فيلا راجح الشافعي، ترجَّلَ من السيارةِ يشيرُ إلى حرسه:
-مش عايز حدِّ سليم، وفي نفس الوقت مش عايز موت، جمَّعوهم في العربية..دقائق وتحوَّل المكان إلى معركةٍ عنيفة، دفعَ أرسلان البابَ بقدمهِ بعدما أطلقَ رصاصةً لينفتحَ البابَ على مصراعيه..

بالأعلى بمكتبِ راجح.. 
كان يجلسُ يتناولُ قهوتهِ مع إنهاءِ بعض أعمالهِ المشبوهة، استمعَ إلى صراعٍ وكأنَّها حرب..نهض من مكانهِ مع دخولِ أحدِ حرَّاسه:
-إلحق ياباشا، أرسلان الجارحي تحت واقتحم البوَّابة..
هبَّ فزعًا، إنتَ بتقول إيه..لم يُكمل حديثهِ بسببِ طلقةٍ ناريةٍ أصابت قدمَ الرَّجلِ حتى سقطَ أمام راجح على الأرض.. 
تقابلت النظراتُ بينهما، إلى أن هتفَ أرسلان بنبرةٍ باردة: 
-أهلًا ياراجح ياشافعي، إيه مكنتش متخيِّل هجيلك؟.. 
-عايز إيه يابنِ جمال، و إزاي تدخل بالهمجية دي!..إنتَ مفكَّر البلد مفيهاش قانون؟.. 
دفعَ المقعدَ بقدمه، واقتربَ منه متناسبًا كلَّ شي، ثمَّ انحنى يجذبهُ بقوَّةٍ على المقعد: 
-النهاردة ياراجح أنا قانونك، أنا تنازلت عن كلِّ حاجة، تنازلت عن مستقبلي واسمي وكلِّ حاجة، وجيت لك بصفتي 
جمال جمال الشافعي..قالها وهو يسحبُ من أحدِ رجالهِ سلاحًا أبيض..بدخولِ إسحاق: 
-أرسلان..إياك، ماتتهورشِ بلاش..
لم يتهاون حتى غرسَ السكين بطولِ جنبهِ مع صرخاتِ راجح..واقتربَ من أذنهِ يهمسُ بهسيسٍ مرعب وهو يحرك السكين بجنبه: 
-السنِّ بالسن، والعين بالعين، والبادئ أظلم." قالها وهو يخرجُ السك ينَ لعدَّةِ مرَّاتٍ حتى هوى راجح على الأرضيةِ غارقًا ببركةِ دمائه.. 
اقتربَ إسحاق ينظرُ إليهِ كالمجنون، أشارَ إليه أرسلان:
-نضَّف ياباشا، زي ماكنت بتنضَّف ورايا زمان، ماهو دا بردو عمل وطني.. 

قالها وهو يُلقي الس. كين من يديه، يمسح يديه من الدماء 
-قذر، نصيبنا يبقى عمي قذر
-اسف يااسحاق باشا، اكيد مقصدش جنابك، اصلك مش عمي، ماهو لو انا ابن اخوك فعلًا، مكنتش سكت على دم اخويا، قالها ، ثمَّ أشارَ لأحدِ رجاله:
-عايز الفيلا دي رماد، اتَّجهَ ينظرُ إلى إسحاق بسخريَّة: 
-إسحاق باشا، خلِّيهم وهمَّا بيستأصلوا الكلية يرموها بعيد، الكلاب ممكن يتسمِّموا.. 

قالها وتحرَّك وكأنَّه لم يفعل شيئا..

تعليقات



×