رواية أجنبي الفصل الثالث بقلم الهام رفعت
صدمات توالت عليهم حال رؤية ذاك الأجنبي، الذي تعمد حسين ركوبه السيارة من الخلف وبجانبه رامي، وسمح لـ ورد أن تجلس بجواره على مقعد الراكب، منها أن يُبعده عن ورد ويرسم حدود كونه غريبًا، ومنها لم ولن يتحمل أن يجلس بجانبه أثناء القيادة، فوزنه الزائد لن يجعله يتنفس في راحة في ذاك الطريق الطويل.
وعن رامي لم يهتم كثيرًا بهيئته رغم أنه رسم له صورة لطيفة، فالأهم عنده أن يتم عمله معه لما يرضيه في نهاية الأمر.
أما بالنسبة لـ ورد التي كانت تكبح ضحكتها تارة، وتعود صدمتها فيه تارة أخرى، فلم تتوقع أن يكون هكذا، فقد رسمت طلعة رائعة وبهيّة له، ثم عفويًا التفتت برأسها لتخطف نظرة ناحية حُسين، وجدته ألطف وأوسم بكثير ودون إرادة ابتسمت معجبة بحُسْنِه.
رن هاتفها وانتبهت له، فإذا بها رفيقتها المقرّبة مروة، جاوبت عليها بصوتٍ هامسٍ:
-أيوة يا مروة!
سألتها مروة بشيءٍ من الحماس:
-مش قولتي هتعرفيني الجديد أول بأول، قوليلي يلا الراجل وصل ولا لسه؟
مالت ورد بوجهها ناحية النافذة ويدها على فمها لتجيب في تهكم:
-وصل ياختي، ويا ريته ما وصل، دا طلع شبه إبراهيم نصر بس طويل عنه
ثم ضحكت في خفوت كي لا ينتبه أحد عليها، ما يريحها قليلًا ضجيج أصوات السيارات الذي أدى إلى تشويش كلامها في آذانهم. صُدمت مروة بدورها ثم سخرت قائلة:
-وأنا اللي كنت هجيب بنات الدفعة يتفرجوا عليه
تجاهلت ورد رَدْة فِعلها ثم عادت تنظر ناحية حُسين في هيامٍ وهي تعلّق على الأمر:
-ما فيش أحسن من صناعة بلدنا.
هنا نظر لها حُسين ولم يتفهم مغزى قولها، فسريعًا تحفّظت ورد في ردودها وأنهت المكالمة على الفور، ثم زيّفت بسمة سخيفة له، فتنهد بقوة ولم يعجبه وضعها، فقد ظن أنها تبيح التودد لهذا الأجنبي، ثم استغل انشغال أخيه بالحديث معه، وهمس لها محذرًا:
-احترمي نفسك يا ورد!
كانت تدرك أنه ينزعج من حماسها الزائد قبيل رؤية الأجنبي، لكن الآن يختلف الأمر، فاستنكرت بشدة:
-هو أنا عملت أيه؟!، ما أنا قاعدة مؤدبة أهو ومتكلمتش معاه ولا كلمة.
-لا أنا هستناكِ تتكلمي حتى، كنت هقطعلك لسانك.
رد عليها بنبرة غليظة، ولم تتفهم هي هل هذه غِيرة أم ماذا؛ لكن ما تُدركه أنه يرسم الحدود بشكلٍ غير طبيعي، وبالفعل لا يكن لها أية مشاعر، ثم نظرت له في حزن ولم تتفوّه بشيء، بينما تطلع حُسين من المرآة الأمامية على أخيه والرجل، ثم وجّه بصره للأجنبي الذي يتحدث مع رامي في هدوء ورزانة، خاطبه متودّدًا:
-إن شاء الله تنبسط معانا يا مستر أدريان، وتنبسط إنك في أم الدنيا!
ابتسم له أدريان في لطفٍ وقال:
-أنا سعيد من الآن، فمصر جميلة ولها رائحة مميزة
لوى رامي فمه قليلًا وسخر في نفسه:
-على الله أما تشوف الحارة متغيّرش رأيك..!!
****
أثناء تجهيز حقيبتها لمغادرةِ المشفى التي تعمل بها، وقفت آية زميلة العمل أمام مكتبها الصغير، فنظرت لها شهد بجبين معقود متعجبة من أمرها، أو بالأحرى ادعت ذلك، وسألتها في صلابة:
-خير يا آية؟!
ضمت آية ذراعيها حول صدرها وقالت بهيئة مستاءة:
-مش خير يا شهد، مش شايفة إنك ناسية تديني حاجة
مطت شهد شفتيها كأن الأمر لم يعجبها، ثم حملت حقيبتها على كتفها، نظرت لها وأنكرت:
-لأ مش ناسية، هو إنتِ عاوزة حاجة؟!
تضايقت آية من مراوغتها وهتفت:
-باين نسيتي اتفاقنا، وإن الخير اللي يعم على حد، يعم على الكل.
رفعت شهد سبابتها تعترض في حنق:
-محصلش، لو قصدك العملية اللي قومت بيها لوحدي، فدا حقي وتعبي، لما تكوني معايا أبقي اتكلمي.
ضيقت آية عينيها وسخرت في سأم:
-بقى كده يا دكتورة شهد، بقى ليكِ شُغلك واستغنيتي
هنا ولج الدكتور كريم عليهما الغرفة وانضم لتلك المشادة التي تفهّم سببها رغم مجيئه للتو، ودون سلام وجّه حديثه لـ شهد قائلًا:
-باينلك يا دكتورة شهد قررتي تشتغلي بعيد عننا.
على الفور استوعبت شهد أنهما اتفقا على عتابها دون وجه حق، فدافعت عن موقفها قائلة:
-العملية قومت بيها لوحدي، هو أنا كده دوستلكم على طرف.
احتج الطبيب كريم وهو يوضح:
-إن كنتِ بتعملي هنا حاجة، فاحنا بنكتّم عليها، ولما وصلنا خبر، كنا واخدين احتياطاتنا، لأن مش عاوزين حد فينا يتكشف
لم تتكلم شهد ونظرت له في وجود؛ لكن تعابير وجهها كانت كالحة للغاية، فأضافت آية في تكشّر:
-المكان اللي بنشتغل فيه، كريم مأمّنه، وهو كان صاحب الفكرة من الأول، وإنتِ وافقتي على الشغل معانا، فمش من حقك تشوفي نفسك والفلوس تغريكِ
كل ذلك لم يجعل شهد ترضخ لكلامهما، لذا عاندت وقالت:
-برضو مافيش حاجة هتاخدوها، عاوزين تبلغوا اتفضلوا
ثم من بينهما مرت متجهة ناحية الباب وعازمة المغادرة، فتتبعاها في جهامة، خاطبت آية كريم منفعلة:
-عاجبك عامايلها، شافت نفسها علينا، وإحنا أصحاب الفضل عليها، دا لولانا مكنتش مسكت الفلوس اللي معاها دي كلها.
استمع لها كريم في صمت وفكره مشغول بما حدث، ثم نطق أخيرًا في توعّد:
-أنا اللي هتصرّف معاها.........!!
*****
دق باب الشقة على غير العادة، فمن المفروض أنه يملك مفتاحًا؛ لكن لم يستخدمه، فهو لن يدخل هكذا على والدته ومعه ذاك الضيف الغريب،ووجب أن يستأذنها أولًا.
بداخل المطبخ اضطربت السيدة زبيدة حين استمعت لدقات الباب، فمنذ الحادثة المشؤومة وحالتها ليست على ما يرام، مسحت بالمنشفة يديها ثم سارت للخارج، في حذر توجهت ناحية الباب وبالقُرب منه استفهمت:
-مين؟!
من نبرة صوتها المهزوزة أدرك حُسين خوفها، فطمأنها قائلًا:
-أنا حسين يا أمي افتحي.
في البداية تعجبت كونه لم يفتح بنفسه، ثم تحركت لتجيب عليه لربما حدث شيء معه أو أضاع مفتاحه. فتحت السيدة ناحية واحدة من الباب فوجدته أمامها يسدها بكامل جسده ويبتسم باتساع لها، فحمدت الله بأنه بخير، ثم أفسحت له الطريق ليلج، ولكنه ظل مكانه وهذا ما زاد من دهشتها، خاطبها في تردد موضحًا:
-أصل بصراحة مش لوحدي، معايا ضيف
عقدت حاجبيها غير متفهمة، فمال حسين بجسده كي يظهر أدريان من خلفه قليلًا، نظرت له السيدة غير بادية لقبول فمظهره لم تحبه، دفعت نفسها بصعوبة لتعلن ترحيبها به:
-يا أهلًا وسهلًا، يآنس وينور
ارتاح حسين قليلًا ثم ولج ومن خلفه أدريان، وكذلك رامي الذي استغربت حضوره مع أخيه، ولم تعلّق على ذلك؛ لكن حينما تابعتهم ورد زاد فضولها فسألتها:
-إنتِ جاية معاهم يا ورد؟!
قبّلتها ورد من جانبي وجنتيها وهي ترد في محبة:
-أيوة يا خالتي، عاملة أيه؟!.
ثم سارت للداخل خلفهم، بينما ظلت السيدة للحظات موضعها توزع أنظارها عليهم في غرابة، ولم تلاحظ حقيبة السفر الصغيرة نسبيًا التي أسندها رامي جانبًا، ثم أغلقت الباب ودنت منهم.
لم يعطيها حسين الفرصة للسؤال وخاطبها بلطافته المعتادة:
-عملتي الأكل اللي طلبته يا ماما!
ارتابت في أمره، فحين طلب منها أمس أن تُعِد له ما يشتهي من الطعام، ظنته استوحش لذاذة طعامها، وما تراه للتو، وجود ضيف، وفطنت بحدسها أن ما طلبه هو لذاك الضيف، وسألت نفسها، لما لم يكون صريحًا من البداية ويخبرها؟!، وأيقنت أن في الأمر شيئًا مخفيًا. فردت مؤكدة:
-عملته يا حبيبي، ناقص بس أحطه على السفرة
نطق أدريان فور سماعه ردها متهلل الوجه:
-أنا جائع للغاية!
كبحت السيدة اشمئزازها من هكذا ضيف، فيبدو أنه عبيد الطعام، فجسده السمين يدل على ذلك، ثم نظرت لابنها في تهكم وغمغمت بداخلها:
-ياما جاب الغراب لأمه!
لمح حسين في هيئتها عدم قبول جاهدت ألا تظهره ولأنه يعرفها جيدًا توقع ذلك، ثم حث ورد على الحركة حين خاطبها بمغزى:
-روحي يا ورد جهزي الأكل مع ماما يلا
امتثلت ورد لكلامه ثم سحبت خالتها من يدها وتحركا ناحية المطبخ وهي تهتف:
-يا ترى طابخة أيه بأيدك الحلوة، الريحة مالية المنطقة كلها.......!!
*****
-زي ما قولتلك، عاوزة المنطقة ميكونش لها سيرة غير سُمعتها اللي زي الزفت، افضحيها عديمة الرباية دي
هتفت منى بذلك لهذه السيدة الجالسة بجانبها، فقد جلبتها لتنفيذ تلك المهمة في عدم حضور والدتها، ومن الواضح أنها سيدة سيئة السمعة وتفتعل المشاكل دائمًا، والتي بدورها ردت لتطيعها:
-مش عاوزاكِ تشيلي هم يا ست البنات، إن ما خليت الحارة كلها ميكونش على لسانهم غير فضايحها مبقاش أنا!
هتفت منى في غيظ:
-هو دا اللي أنا عاوزاه، وخليه هو يشوف هيتجوز واحدة ماشية على حل شعرها مع كل واحد إزاي!
ثم أخرجت من محفظة نقودها بعض الأوراق النقدية، دسّتها في يد السيدة وقالت:
-خدي دول مقدم، ولما يحصل اللي اتفقنا عليه، هديكِ أكتر منهم.
انبلجت السعادة على وجه السيدة وأخذت تشكرها:
-ربنا ما يحرمني منك يا ست البنات كلهم
ثم نهضت السيدة عازمة على فعل المطلوب، نهضت منى أيضًا وسارت معها ناحية الباب، حين خرجت أوصدت منى الباب خلفها، ثم التفتت قاصدة غرفتها؛ لكن تفاجأت بأختها الصغرى أمامها وتنظر لها بشيء من الاحتقار، وهنا تفهمت أنها قد استمعت لكل شيء، لم تعيرها اهتمام وتحركت لتكمل طريقها، فأوقفتها أختها قائلة في حنق:
-كانت عملتلك أيه علشان تسوّئي سمعتها، حرام عليكِ
رمقتها منى في ازدراءٍ من وقاحتها في الحديث معها بتلك الطريقة، وزجرتها:
-والله عال يا ست رقية، مبقاش غير العيال اللي هيعلموني الصح من الغلط، امشي يا بت شوفيلك كتاب ذاكري فيه، وملكيش دعوة بأمور الكبار.
لم تتخلَ رقية عن ثبوت موقفها، وصدّقت بأن ما تفعله الأصح، فقالت في شدة:
-هتخشي النار!
نطقتها الفتاة ببراءة شديدة فانزعجت منى ودنت منها لتعاقبها بالضرب على تطاولها ذاك، فأسرعت الفتاة ناحية غرفتها تختبئ بها، فتوعدت لها منى:
-عارفة لو لسانك ده نطق الكلام ده تاني، هقطعهولك، وهطيّن عيشتك.
تخوّفت منى أن تخبر أختها والدتها وتكشف أمرها، فالأخيرة لن تسامحها كونها ما زالت تفكر بزوجها السابق، زفرت بقوة وأخذت تردد مغتاظة:
-مش هخليها تنطق، هخوفها قليلة الأدب دي.......!!
*****
حين رصّت ورد الطعام الشهي على المائدة، لم يتوانى أدريان في التهام كل ما لذّ وطاب من أمامه، الأمر الذي جعل رامي يشعر بالحرج في نظر عائلته، كذلك حسين الذي استنكر اعتياده السريع على وجوده بينهم. وتابعت ورد ما يحدث كاتمة ضحكاتها بصعوبة، بينما السيدة زبيدة قد وصلت لقمة نفورها من وجوده، فمالت على حسين تعاتبه بصوتٍ خفيض للغاية:
-مين اللي إنت جايبة ده يا حسين، لقيته فين؟!
عاد حسين يوضح لها:
-ما فهمتك يا ماما، دا أمريكاني ووصل النهاردة لمصر
سألته مقطّبة الوجه:
-ودا اسمه أيه ده؟
-أدريان!
لم تستطعم الاسم في فمها وكشّرت، قالت:
-وأدريان ليه، كفاية قدري واحد
شُده حسين من فهمها الخاطئ قائلًا:
-قدري أيه بس يا ماما، دا اسم ودا اسم
ظلت كما هي بفهمها المحدود وعقّبت على الاسم ساخرة:
-أنا كده فهمت، هو اتنين قدري، أصل بوزنه ده اتنين في بعض
ثم كركرت ضاحكة مما جعلهم يندهشون من فرحتها المفاجئة، واستبشر رامي خيرًا، لكن زاد الأمر تعقيدًا هو حديث أدريان حين نطق والطعام ملء فمه:
-طعامكم لذيذ!
-بالهنا والشفا
نطق بها حسين مجاملةً له، فتابع أدريان في شَرهٍ عجيب:
-من أسباب قدومي إلى مصر هو الطعام اللذيذ، لقد جئت لآكل طعامكم
شهقت السيدة زبيدة من تبجّحه وهتفت:
-شوفوا البجاحة بتاعة الراجل، بيقول جاي ياكل أكلنا
أدرك رامي الجالس على شمالها الأمر وتدخّل:
-مش قصده يا ماما
عبست ملامحها وهي تغمغم:
-مش عارفة أيه جابه عندنا ده بس، إحنا ناقصين
عاتبها حسين في عدم رضى:
-إحنا بيت كرم يا ماما، عاوزة الأجانب يكلوا وشنا
-كمان هيكلوا وشنا، مش كفاية الأكل اللي جاي يكلوا عندنا.
ردت عليه في نزق مما يحدث، ثم نظر رامي لـ حسين بمعنى أن فكرة مكوثه هنا أمرًا مستحيلًا فردة فعل والدتهما غير مريحة، والعجيب في الأمر انشغال أدريان بتناول الطعام بنهمٍ شديد، كأنه لا يبالِ بكل ما حوله........!!
*****
بغرفة الصالون، جلست رفقة زوجها وأبنائها ومن أمامهم والدها الذي يرتشف قهوته في هدوء، ورغم ذلك كانت تشعر بالتوتر والخوف في حضوره. نظر فؤاد لها بمغزى من دعوة والدها لهم دون سبب مُعلن، فخشيت لميس أن يكون والدها قد علم بما تفعله سرًا، ويوبخها على ذلك، فسكوته وعدم حديثه يثير اضطرابها. ابتلعت ريقها فجأة خوفًا حين خاطبها:
-عاملة أيه يا لميس، مبتسأليش على أبوكِ بقالك فترة
جمّعت الكلمات بصعوبة على لسانها وهي ترد:
-مشغولة يا بابا، الجمعية واخدة كل وقتي، والعيال ومدارسهم.
وجه السيد منير بصره تجاه فؤاد ابن أخيه الأكبر وخاطبه:
-مش عاوز تقولي حاجة يا فؤاد بخصوص الشغل.
لم يختلف وضع فؤاد عن لميس، حيث جاوب متوترًا:
-لا يا عمي، لو فيه حاجة هبلغك
نظرات السيد القاتمة نحوهما توحي بأنه يشك في أمرهما، وتفاجأ الاثنان به يبتسم ويقول ناظرًا للصبي والفتاة:
-تعالوا يا حبايبي، قاعدين بعيد عني ليه!
ثم رفع ذراعيه لاستقبالهما، فتحركوا تجاهه وجلس كل واحدٍ على ناحيةٍ، ضمهما من أكتافهم لصدره وقال معجبًا:
-ولاد ناس بصحيح، دمكم نضيف
حدقت لميس بوالدها من كلمته الملعونة، كيف له أن يقول ذلك، فهي تعرف تلميحه لها، ورفرف الحزن بداخل قلبها، فهي تعي قسوته، حتى وهو يباشر على تربيتها هي وأخيها. بعض الراحة نعمت بها حين وافقت على الزواج، فقط لتخرج من دائرة ضراوته وتسلطه، الأمر الذي دفعها لتبحث عن الحُب في مكانٍ آخر، وذاك ما وجدته مع منصور الذي تعرّفت عليه مصادفةً.
أخرجها من سفح أفكارها والدها الذي وجّه الحديث لـ فؤاد:
-أنا كنت حابب أشوف أحفادي علشان كده بعتلكم
وعي فؤاد غرضه، وفهم مغزى كلامه، فهو بالفعل يعرف بكل ما تفعله ابنته، وأيضًا هو لا يستطيع أن يخفي الأمر عنه. ثم نظر لـ لميس وخاطبها في جد:
-عندي شغل يا لميس، هتخليكِ ولا...
قاطعته سريعًا وهي تنهض فهي لا تطيق الجلوس:
-هطلع أشوف ماما وأمشي معاك على طول
ثم تحركت رفقة أبنائها ناحية الدرج قاصدة الطابق العلوي، فابتسم والدها متهكمًا، خاطب فؤاد في حزم:
-أوعى تكون بلغتها إن البت اللي جابتها مبقتش على اسمها......!!
*****
في غرفة الفتيات، ناولها والدها البطاقة المصرفية (الفيزا) بعدما شرح لها كيف حافظ على أموالها من والدتها، هي تعرف كل شيء، وابتسمت وهي تمسك بالبطاقة وسعيدة بها، فمن خلالها ستحقق ما تريد، تأمل الحاج منصور ما تفعله ثم سألها مهتمًا:
-مش عاوزة تشوفي مامتك يا ورد؟!.
استغربت حديثه لوهلة، ثم استوعبت مجرى حياتها، وفاجأته حين قالت:
-أنا معرفش غير ماما هنية، هي سابتني وأنا مبسوطة وسطكم كده
وجدت ورد نفسها تقول ذلك، حيث سؤال والدها باغتها به، هي تريد رؤيتها وكم رغبت في ذلك؛ لكن لا تريد أن يتضايق أحد هنا منها إذا فعلتها، فهنا مكانها الذي وعيت عليه واعتادت أيضًا، فليكفي قبولها للمال القادم منها. لم يجادل الحاج معها كثيرًا في الأمر وتركه على رغبتها، فربت على رأسها ثم تحرك للخارج، وفور مغادرته ولجت كلٌ من شهد ورشا، اللتان اقتربا منها لمعرفة لماذا يريدها والدهم، ومن نظرات شهد المتفحصة للبطاقة التي بحوزتها، أدركت الأمر، وللحظات عابرة تمنّت أن تكون مكانها، وكذلك رشا التي تحسدها على كل شيء.
توجهت ورد لتضع البطاقة في حقيبتها ولم تتحدث في الأمر، ثم دنت من شهد التي جلست على المكتب الصغير تطالع بعض الأوراق في فتور، تحدثت معها في جدية:
-هو إنتِ مش هتبلغي بابا برفضك لـ حسين؟!
نظرت لها شهد بقوة ثم تركت ما بيدها ونهضت لتقف في مواجهتها، قالت في براءةٍ سخيفة:
-ليه، هو حسين عريس يترفض، كفاية شكله الحلو
نطقت الجملة الأخيرة في إعجاب استفز ورد، فغضبت ورد من خبثها وهتفت:
-عاوزة أيه من اللي بتعمليه ده؟!
كما هي تحدثت كأنها لا تدرك مشاعرها ناحية الأخير وقالت:
-أنا دكتورة وهو مهندس، جوازة تشرّف
-مهندس أيه، دا ميكانيكي!
نطقت رشا بذلك ساخرة، فحدقتها ورد مغتاظة من وقاحتها، بينما كتمت شهد ضحكتها. عاودت ورد الحديث مع شهد وقالت محذرة:
-ملكيش دعوة بـ حسين، علشان منزعلش من بعض
نفخت شهد في ضجر من تكابر أختها في إعلان محبتها للأخير، حيث ورد تخجل من قول ذلك، أو معرفة أحد بالأمر، فهي على علم بعدم محبة حسين لها. فقد عانقت السماء فرحًا حين ترك زوجته، واقتحمت الطريق ناحيته. حينما لاحظت رشا تأزم الوضع هتفت في بلاهةٍ:
-اتجوزوه إنتوا الاتنين وخلّصونا.........!!
*****
صباحًا، حين غادر ابنها الأصغر جلست هكذا كأنها على جمرٍ، منتظرة خروج ابنها البكري، العاقل من الغرفة، فبالأمس سمح لذاك الرجل الغريب بالنوم هنا. وبحسب ما أدركته حين لمحت حقيبة سفره، أنه ربما جاء ليقطن هنا، وبخته بصوت مسموع:
-أخص عليك يا حسين، إنت تعمل كده
ثم رصدته بعينها وهي جالسة هكذا منتصف الردهة يخرج من غرفته، وحين وجدته يخرج بمفرده أصابتها حالة من التذمر واللوم، مدركة بأنه سيترك الغريب بمفرده معها ويغادر.
نهضت السيدة زبيدة متجهة نحو ابنها بملامح مقطّبة، سألته في ترقّب:
-رايح فين يا حسين؟!
وقف محله مُنصتًا إليها؛ ليُجيب:
-رايح الشغل يا أُمي، هروح فين يعني!
اقتربت منه وهي تزفر دخانًا، وقد قلق هو من تكلُح هيئتها، عابت عليه السيدة في خيبة أمل منها تجاهه:
-هتمشي وتسيب الغريب ده هنا مع أمك وهي لوحدها، إخص عليك!
تلعثم قليلاً في الرد عليها وتوضيح الأمر، ثم برر لها في دراية:
-يا أُمي دا نايم، وكمان قفلت الباب عليه على ما أرجع، أنا مش هتأخر.
شهقت من رده غير المبرر للموقف، زجرته:
-مش عيب تسيب أمك مع واحد منعرفوش، إفرض استغل إني لوحدي وقام...
حاوطت صدرها بذراعيها، ولم تكمل لفظاعة بقية الحديث؛ لكن تعابير وجهها أبانت المقصود. حاول حسين تهدئتها وجعلها تخفض صوتها، كي لا يسمع الآخر، كونه لم يقتنع البته بما يدور في عقلها، وضح لها:
-أيه الكلام ده بس، حضرتك قد والدته، معقول هيُبصلك، دا شكله ابن ناس ومحترم ومالوش في الكلام ده
-ولو، لازم تاخده معاك، عاوز الناس تِلسِن على أمك على آخر الزمن، دي وصاية أبوك قبل ما يموت.
كادت تبكي فمنعها حسين حين هدأ من روعها قائلاً:
-إنتِ في عنيا يا أمي، أنا بس هوديه فين، أنا رايح الورشة و...
قاطعته حين هتفت في تصميم:
-أبــدًا، مش ممكن يفضل هنا، لو مكسوف تصحيه، أصحيه أنا.
جاءت لتتحرك ناحية باب الغرفة فمنعها حسين في توتر:
-خلاص يا أمي، هاخده معايا وأمري لله......!!
................................................................
في ورشة حُسين...
رمقه وهو نائم على الأرضية بالورشة، وقد أشفق عليه بعدما اضطر مُجبرًا أن يأتي به معه، ظل يغمغم ويعاتب والدته مرددًا:
-الله يسامحك يا أمي، ذنبه أيه ده!
يعمل حسين بتشوشٍ في تصليح إحدى السيارات، حيث تشدُّد والدته لم يفارق بالِه، وإصرارها العجيب في أخذه معه، فكلما لمحه ينام على الأرض يشعر بالضيق من أجله. لم ينتبه حسين للفتى الواقف عند إحدى أبواب الورشة المفتوحة ويحدق بـالرجل الأجنبى الذي وطأ المنطقة قبل يومين، ثم في خلسة غادر كما جاء، ويبدو أنّه انتوى شيء ما خفي.
لحظات قليلة وقد عاد مجددًا مع أحد الرجال، الأمر الذي جعل حسين ينتبه هذه المرة. انتصب في وقفته وخاطب الرجل وكأنه يعرفه:
-خير يا أسطى طه؟!
لاحظ حسين علامات من السرور تنبثق من وجهه؛ أيضًا يكتنف بنظراته هيئة صديقهم الجديد وهو نائم. لم يُعجبه حسين ما يحدث ليُعيد سؤاله في استياء:
-خير يا أسطى طه، مقولتش جاي ليه؟!
وجه السيد طه نظراته نحو حسين وارتسمت بسمة متسعة وهو يعلق على نوم الرجل الأجنبي بـ:
-راجل يا حسين، راجل ومن ضهر راجل.
هز الفتى الواقف بجوار السيد طه رأسه يوافقه المدح في حق حسين، والذي بدوره لم يتفهم لما كل هذا، لذا سأله في دهشة:
-هو حصل حاجة؟!
وضع يده على كتف حسين ليوحي بإعجابه به وهو يرد:
-هو بعد اللي أنا شايفه ده عايزني أقول أيه، ابن بلدي ومنطقتي مشرد الأجانب ومنيمهم على الأرض.
انصدم حسين من درجة استيعابه لما يحدث وجاء ليُصحح ما فهمه؛ لكن مسرّة السيد طه بما يحدث جعلته يصدح في فخر:
-تعالوا يا أهل الحارة، شوفوا حسين بيعمل أيه، رافع راس بلدنا
درجة ذهول حسين فاقت الحد، ووجد نفسه سوف يُحاصر بالجميع، فأسرع يقول في قلق:
-أيه اللي بتقوله ده، أ...
لم يكمل حسين حيث تابع السيد طه حديثه المستبشر بـ:
-بإذن الله صورتك هتتعلق في المحل بتاعي، جنب السادات وجمال عبد الناصر
تفاجأ حسين بتقبيله له من وجنتيه وهو يضيف في محبة:
-وهنكتب تحتها، المُناضل، حسين بركــات!
لم يستوعب حسين ما يحدث حوله، وهؤلاء الناس الذين تجمّعوا من حيث لا يدري، وبعضهم يمدحه والآخر يصفق ويهلل، تلعثم في فض ما يحدث وبات مقيّدًا، أخرجه من هول ما يرى رنين هاتفه، أجاب بصعوبة إثر الصوت العالي من حوله، وجدها والدته تبكي، فتناسي ما حوله حين هتفت تستنجد به:
-أنا في القسم يا حسين، جُم خدوني من شوية......