رواية من اجلك الفصل الثالث 3 بقلم اسماء ندا

 

رواية من اجلك الفصل الثالث بقلم اسماء ندا

 

مرّت خمس سنوات، تغيّر حالنا جميعًا، صار لكل واحدٍ منّا بيت أو فيلا خاصة به، بالإضافة إلى مبلغٍ يؤمّن حياته، وكل ذلك بفضل شراكتنا معًا وشرائنا لسلسلة محلات لبيع الأجهزة الكهربائية، كانت على وشك الإفلاس، فقرر صاحبها إغلاقها على أية حال، وكانت بداية كل ذلك بسبب كمية الذهب التي سرقناها من القصر تلك الليلة، بالإضافة إلى عدة عمليات سرقة لسيارات يملكها أثرياء، فضلًا عن عملنا في التجارة والمخدرات – نبيعها ولا نتعاطاها – وقد جَنينا منها مبلغًا ماليًّا جيدًا.

حاولت أن أنسى القصر وهؤلاء الناس، كان "المعلِّم" قد أخبرني أنهم أناس شريرون وذوو نفوذ، ونحن في ذلك الوقت لم نكن ندًا لهم،  يجب ان نصبر، حتى نبني لأنفسنا نفوذًا، وننتظر حتى تهدأ ضربة السرقة التي نفذناها في القصر، لكن النوم أصبح عذابًا بالنسبة لي، باتت تطاردني ذكريات مشوشة، لا ملامح واضحة لها، كأنها صور ضبابية لطفل كان سعيدًا يومًا ما،  لم أكن قادرًا على تذكّر كل شيء، فذهبت إلى طبيب نفسي، وقد ساعدني قليلًا في استرجاع الماضي، لكنني لم أستعد كل شيء، غير أن أكثر تلك الأحلام ألمًا، كان حلمًا يتكرر دائمًا، وهو  رؤية سيدة جميلة ذات شعر أسود طويل، تقف وتُمدّ يدها إليّ وتناديني

 "أدهم، لا تتركني."

 كنت أستيقظ وأنا أحاول أن أمسك يدها، لكن هناك حاجزًا بيننا يمنعني من الوصول إليها،  لا أعلم من تكون تلك المرأة، لكن قلبي ينزف ألمًا لا أعرف سببه.

تتردد في عقلي أسئلة كثيرة  (من هي؟ هل ما زالت على قيد الحياة؟ ما اسم الدادة التي أعطتني المفتاح؟ وهذا المفتاح، لأي شيء يخص؟) الآن، بعد أن أصبحنا أقوياء ونملك نفوذًا، نعم، فالأموال تفتح لك الطريق وتمنحك نفوذًا لا حدود له. فكما كانت لدينا أعمال في العلن، كنا ندير منظمة صغيرة لتجارة السلاح والمخدرات بشكل خفي، وها هي المنظمة، بعد سنتين من العمل، أصبحت أقوى منظمة في مصر، ولا يستطيع أحد الإيقاع بنا، وبتنا نملك ملايين الدولارات.

وذات يوم، بينما كنت جالسًا شاردًا بين ذكرياتي التي لا تفارقني، وبين تخطيطي للبحث وراء القصر وأسراره، ومعرفة كل صغيرة وكبيرة عن تلك العائلة التي، كما أتذكر، كنت يومًا ما فردًا منها، ولكن عمي فايز انتزعني وألقى بي خارجها؛ دخل المعلم  أو الباشا حامد كما ندعوه الآن  وجلس بقربي،  وهو يرتدي بدلة فاخرة، و ساعة يد ثمينة، ويتدلى من عنقه عقد من الذهب، وتمتلئ أصابعه بخواتم ذات أحجار كريمة.

 نظر إلى الجميع ممن طلب منهم الاجتماع في الفيلا، وتنهد قائلًا

" احنا دلوقتي استقر حالنا يا ادهم كلنا بقى لينا اللى يخلينا نعيش متأمنين باقى العمر وعندنا تجارتنا اللى بفضلك وفضل دهائك كبرناه، ان الأوان بقى نرد لك حقك اللى عمك سرقه وكمان انت لازم تعرف ماضيك كويس ويرتاح قلبك عشان تفوق لشغلنا وميتمسكش علينا غلطة"

ثم نظر للرجال وقال " ولا ايه رأيكم يا رجالة "

تناقلت الهمسات بينهم وكلها كانت ما بين موافقة وتساءل عن كيفية العمل، مسحت بيدى على وجهى ثم نظرت لهم جميعا احاول استكشاف اى اعتراض منهم  لكن لم اجد سوى الدعم، عاودت النظر الى  حامد وقلت  له

" عشان نحقق ده لازم اللاقى الست  اللى كانت شغالة مربية فى الوقت اللى  ماما كانت عايشة فيه فى القصر، وفى نفس الوقت لازم اعرف كل حاجه عن العيلة دى، عددهم كام اخ واخت لابويا ، شغلهم عن ايه بالظبط ، وايه اللى حصل زمان، ابويا مات ازاى وهل فعلا امى ماتت ولا كذبوا عليا وفرقونا، ولو عايشة هى فين "

قال ياسر " بالنسبة لشغلهم ونظامه سيب ده عليا"

قال وافي" اما عن الست اللى كانت شغاله زمان عندهم  دي بسيطة هجيب لك تاريخ ومكان كل اللى اشتغلوا فى القصر ده زمان ودلوقتى "

قال حامد " خلاص وانا والباقى هنجيب لك كل حاجه انت عايز تعرفها باقية وبعدين لينا قاعدة تقول هنعمل ايه واحنا معاك "

نهض الجميع وتفرقوا بعد ان قسمهم حامد لمجموعات وحدد المطلوب من كل مجموعة وحدد مهلة سبعة ايام ليتقابلوا  بعدها، أثناء مرور تلك الأيام الثقيلة جدا على قلبى كان يتكرر حلم المرأة كل ليلة حتى أصبحت أهرب من النوم بالسهر.

خلال الخمس سنين السابقة عندما كنت اتصفح برنامجاً على  شبكات التواصل الاجتماعي ، وبالصدفة وجدت  مقال  يتحدث عن التعليم ومنه علمت اننى استطيع دخول الثانوية العامة دون الذهاب الى مدرسة عن طريق التعلم المنزلي فقط سأذهب الى الامتحانات، كم اسعدني هذا الخبر فقد كان تدمر حلمى بالالتحاق بكلية الهندسة خاصة بعد ان قام مدير دار الايتام بسحب اوراقي  برغم من انى كنت حصلت على درجات مرتفعه وكنت الأول فى المرحلة الإعدادية، لكنه اصر ان يسحب ورقى ويجبرنى على الخدمة فى الدار ثم فى النهاية قام بطردى من الميتم ، على اى حال  قدمت اوراقى بالفعل للثانوية العامة منازل وكنت أنوي اخبار الجميع لكن شئ ما انسانى  وذات يوم جاء حامد باشا وقد جمع الجميع وقال

"انا طلبت نتجمع النهارده بما اننا الحمد لله  بقى معانا فلوس حلوه فانا لى طلب "

جميع من بالمكان انتبه وتساءل عن هذا الطلب الذي صمت عنه حامد للحظات بعد ان نهض ليفتح حقيبة كان وضعها بجوار قدمه ثم وضعها أمامهم قائلا

" دي اظرف ب 100 الف ورقة خضرا (دولار ) كل واحد منكم هياخذ ظرف فيه ١٠ آلاف، انا عارف انكم اكتركم وصل للثانوية ومكملش وفى منكم اللى دخل كلية وبرضه مكملش عشان الظروف  بس يا عيال ما دام عايزين نبقى كبرات بجد و ننتشر فى السوق  يبقى لازم يكون معاكم شهادات وعلم  الفهلوة ( الذكاء الفطرى ) لوحدها ما تنفعش "

أومأ الجميع بالموافقة، وبدأ كل فردٍ منهم بأخذ ظرفٍ بعد أن اتفقوا على التنفيذ. وبعد انصرافهم، مال حامد إلى أذن أدهم وهمس

"أنا عارف إنك بتحبنا وولائك لينا، بس حركة زي التعليم دي إنك تعملها لحالك وحشة ودقت نقص، مش تيجي منك يا سيد يا أبو المفهومية."

"والله كنت هرتب معاهم، بس مش عارف اتلهيت في إيه."

ضحكت عندما تذكرت ما حدث، وكيف أصبحنا جميعًا ذوي شهادات. في اليوم المحدد الذي حدده حامد لتجميع المتطلبات التي طلبتها منهم، اجتمع الجميع داخل الفيلا الخاصة بي، وتعالت الابتسامة على وجوه الجميع، إذ إنهم نجحوا جميعًا في جمع المعلومات التي كنت أريدها. قال حامد باشا

"نبدأ الأول بـ هما مين وقد إيه عددهم. بص يا سيدي، عائلة الشاذلي مكونة من ٣ رجالة وهما: فايز، وفوزي، ويزن، و٢ ستات هما سوسن وصابرين. فايز ده الكبير، مبيخلفش، وعايش حياته بعد ما طلق مراته وسط الحريم السو(سيئة السمعة) وبين الخمرة والمراهنات على الخيول. أما فوزي، فده خلفته بنات، عنده بنت واحدة ومعاقة مبتقدرش تمشي، وأبوها ممكن يعمل أي حاجة عشانها، وبيصرف فلوسه على الدكاترة جوه مصر أو بره، وده مضايق أخوه فايز منه، وكمان شخصيته ضعيفة، يعني ممكن تقول ماشي تحت طوع أخوه. وبالنسبة ليزن، فده مات وهو في التلاتين من عمره في حادثة، ومكنش متجوز.

بالنسبة بقى للستات، فسوسن هي كبيرة العيلة، متجوزتش، وهي اللي ماسكة الشركات وبتشغلها، تقدر تقول هي اللي بتتحكم في كل حاجة، وهي الآمر الناهي في القصر. وصابرين أصغرهم كلهم، مكملتش تعليمها بأمر أختها، وهي المسؤولة عن شؤون البيت. اتجوزت محامي الشركة اللي أكبر منها بعشرين سنة، وده عشان أختها الكبيرة قررت كده، وكل ما تحمل تسقط، مبيكملش ليها حمل."

توقف حامد عن الكلام وأشار إلى ياسر ليتحدث، فوضع ياسر مجموعة من الأوراق أمام أدهم وقال

"هما شغلهم الأساسي في الأراضي الزراعية، بس من كام سنة، يزن كان هو اللي ماسك الشغل كله مع سوسن، وكانت كلمته هي المسموعة رغم إنه كان أصغر واحد في العيلة دي. قبل ما يموت، كان أقنع سوسن إنهم يعملوا مصانع ويصدروا المزروعات والفواكه، وفعلاً المصانع وشركة التصدير نجحوا جدًا، وبقى لعيلة الإبراهيمية اسم كبير في السوق. لحد ما مات يزن، ومسك أخوه فايز مكتب التصدير، وأخوه فوزي المصانع. تقدر تقول إن المصانع ماشية حلو لحد ما، وده بسبب مجهود المحامي وطرقه الملتوية، أما شركة التصدير فسمعتها وحشة، وفي إشاعات إنهم بينقلوا مخدرات لداخل وخارج البلد. آه، وفي معلومة بس مش عارف مدى صحتها، إن يزن كان متجوز من مهندسة، بنت راجل فلاح كان شغال في الأرض بتاعتهم، بس مفيش أي أثر أو دليل يؤكد الإشاعة دي."

صمت وجلس بمكانه، ثم أشار حامد إلى وافي ليتحدث. نهض وافي ثم وضع في الكمبيوتر الخاص بأدهم "فلاشة"، وبعد أن ربط الكمبيوتر بشاشة عرض، وظهرت صورة للقصر على الشاشة، بدأ وافي بالحديث

"العيلة دي كانت فقيرة، لحد ما أبوهم اكتشف في أرضه الزراعية آثار، وساعتها فجأة بقوا من أغنى أغنياء البلد، واشترى أراضي زراعية كتير وبنى القصر ده، وكان من الأساسيات إنه عمل ملف مصور لكل اللي بيشتغلوا في القصر، وملف تاني للي بيشتغلوا في الأراضي الزراعية، ويزن من بعده كمّل الملفات دي، وزوّد عليهم ملفين للي بيشتغلوا في مكتب التصدير والمصانع. الغريب إن موت أبوهم وأمهم كان غريب ومجهول السبب. المهم، أنا رشيت المحامي بإزازة بيرة وليلة مع البت مادونا قصاد ما يجيب لي الدفتر بتاع الشغالين في القصر أصوره ويرجعه مكانه."

أظهرت الشاشة أول ورقة وبها تاريخ بداية العمل في القصر، ثم حرّك وافي المؤشر ليُظهر صورًا لـ ٦ عاملات، وكل صورة مدوّن أسفلها الاسم ومكان العمل داخل القصر. أول ٦ عاملات كان مكانهم المطبخ، ثم ١٠ عاملات لنظافة القصر من الداخل. وفي الورقة الخامسة ظهر تاريخ جديد وكُتب أسفله: "تم تغيير العاملين والعاملات بعد وفاة أبي وأمي مقتولين بالسم وسجن عاملات المطبخ".

قال وافي "بس أنا عن نفسي أعتقد اللي جايين أهم."

حرّك المؤشر، فظهرت ورقة بها اثنتان من العاملات، وكُتب أسفلهم "عاملين الطابق الثالث الخاص بـ زين".

جاء وافي ليحرّك المؤشر، فأمسك أدهم يده وقال:
"الست اللي على اليمين، نعيمة عبد الرحمن، أنا فاكرها، بس كانت عجوزة عن كده، هي دي اللي ادّتني المفتاح."

قال حامد "مفتاح إيه؟"

نظر أدهم له، ثم أخرج العقد الذي يرتديه، فظهر مفتاح يشبه مفاتيح الأبواب الداخلية لأي غرفة، وقال

"لما عمي فايز ركبني العربية عشان يودّيني الملجأ، نسي حاجة جوه القصر ورجع يجيبها. جت نعيمة جري، ادّتني المفتاح ده، وقالت لي لما أكبر أرجع وأخد حق أمي، وبعدين جريت بعيد عن العربية واستخبت. أنا لازم أروح لها، يا رب تكون لسه عايشة."

قال وافي "عايشة، بس سابت البلد وهربت. ده كلام المحامي بتاعهم، وقال كمان إن فايز دَوَّر عليها لسنين ومعرفش يوصلها."

قال سميح "طب وإنت عرفت منين إنها لسه عايشة؟"

ضحك وافي وقال: "أصل بالصدفة، وأنا بدوّر على آخر خيط كان فايز وصل ليه عن مكانها، قابلت زينب بتاعت محل الآيس كريم اللي قبلناها في إسكندرية يا سيد، يوووه، أقصد يا أدهم، فاكرها؟"

صمت أدهم قليلًا ثم قال: "أيوه، أيوه، لما رحنا نأجر مركب صيد بعد ما المعلم حامد إدّانا نصيبنا في أول عملية تفكيك عربية مرسيدس وبيعها."

قال وافي "عليك نور، يا سيدي، آخر خيط كان فايز وصله، صاحب محل الآيس كريم اللي زينب تبقى بنته. أول ما ورتها الصورة وشها اتقلب، وحسيت إنها مخبية حاجة. في الأول قالت معرفهاش، وبعدين قالت هتسأل باباها، وأخذت الصورة ودخلت البيت، وبعد شوية رجعت وكان أبوها معاها، رمى لي الصورة وقال لي إنه قال للي جه زمان إنها انتحرت، وخدّنا للمدفن اللي اتدفنت فيه. بس لما أنا قلت له إن اللي جه زمان أنا معرفوش، وإني جاي أسأل عليها لإن صاحبي في الملجأ بيدوّر على أي حد يعرف أمه، وهي كانت شغالة عندها، وورّيته صورتك، فهدى وضحك، وسأل على اسمك، ولما قولت له، غمزلّي وقال: أجيبك، وهو ياخدك للمدفن اللي هي فيه."

قال حامد "مدفن؟ طب ما كده تبقى ماتت."

قال أدهم "أو عايشة في عِشة جنب المدفن زي سكان المدافن."

قال ياسر "طيب، دلوقتي عرفنا مكانها، وعرفنا هما بيشتغلوا إيه وعددهم قد إيه. هنعمل إيه بقى؟"
الفصل الرابع 

ساد صمتٌ لفترة كبيرة، الجميع ينظر إلى أدهم وينتظرون أن يخبرهم ماذا بعد، بعد لحظات، قال أدهم

"بصوا بقى، إحنا هنتحرّك في أكثر من طريق لحد ما أقابل نعيمة وأعرف منها كل حاجة، عشان أقرر أنا هرجع بس حقي ولا هنتقم من فايز ولا منهم كلهم.

الأول، حامد باشا هيروح لفايز ويطلب منه إنه يتكفّل باستيراد أجهزة كهربائية، يطمعه بإننا هندفع مبلغ كبير.

إحنا فعلاً هنعمل من خلالهم صفقتين أو تلاتة لحد ما فايز يطمن لحامد، وفي نفس الوقت عايز من مجموعة ياسر تعمل مكتب لتأجير فلاحين للعمل في الأراضي.

عايز يا ياسر المكتب ده يكون مرخّص من نقابة الزراعيين، ورجالتك يلفوا على الفلاحين اللي في البلد ويقنعوهم إن العمل من خلالهم هيكون في عائد ليهم حلو، وكمان معاش غير التعويض لو حصل حادث لا قدر الله أثناء العمل.

وأنت يا سميح، ومعاك الرجالة بتوعنا، هتلف حوالين المحامي ده وتخليه خاتم في صباعك، وتمسك عليه أي حاجة ممكن تجيب له إعدام أو سجن مؤبد.

ورجالتنا تنتشر في المصانع على إنهم عمال، ويعملوا علاقات صداقة مع باقي العمال الموجودين حالياً، عشان وقت ما نقول إضراب الكل يشترك والمصانع تقف.

وأنا وإنت يا وافي هنروح لنعيمة النهاردة".

قال حامد"كده عرفنا كل مجموعة هتعمل إيه".

انصرف الجميع، وتبقى وافي جالسًا مع أدهم الذي كان قد تاه في مخيّلته، ولم يلاحظ انصراف الجميع إلا بعد أن تحدّث وافي

"ها، هنتحرّك دلوقتي ولا نتغدّى الأول؟"

نظر أدهم له وتبسم، ثم قال "شكلك جعان، نشتري أكل ونأكل في الطريق، إيه رأيك؟"

"بس هتجيب لي حاجة ساقعة كمان!"

"دِني وجِلدة من يومك!"

"بس بجيب لك آخر أي موضوع، مفيش حاجة بتستعصى عليه، ده يشيل ده."

"وافى، هو أنت مش كنت مقدم في كلية الشرطة من كام سنة؟"

"واترفضت عشان ماعيش واسطة، وأبويا بواب، بس إنت معرفش إزاي خليتهم يعيدوا التقييم ويقبلوني."

"ما بقى لينا واسطة يا وافى، يخدمنا بقى. عايزك تشوف سعيد ووائل كمان، كانوا دخلوا الشرطة زمان. أنا عايز يكون لينا رجالة جوه، غير الأمناء بتوعنا، عايز يبقى لينا ضباط أكتر كمان، وعايز واحد منهم يكون ثقة، نرتب ننقله يخدم في مكافحة المخدرات."

"تمام، بس عندي سؤال بيلعب في دماغي."

"ما تخلهوش يلعب واسأل."

"ليه خليت حامد هو اللي يتعامل مع فايز؟ ليه ما اتعملتش إنت؟ هو كده كده ميعرفكش."

"أنا وإنت ومعظم اللي معانا سننا صغير، شكلنا عيال ثانوية ولا حتى في الجامعة، وحامد الوحيد اللي سنه كبير وينفع يبقى رجل أعمال. أمال ليه يا فالح كل شغلنا هو المتصدر فيه بشكل رسمي في الأوراق؟ لأن لو حد فينا، كانت الحكومة نبشت ورانا، منين الثروة اللي بتلف في إيدينا فجأة دي؟"

"آها، عشان كده إنت خليت الواد المحامي بتاعنا ده يعمل ورق مضروب إن حامد ورث قريبه ده اللي بره مصر ومحدش يعرف عنه حاجة."

"عليك نور. يلا بقى فُز، خلينا نتحرك عشان الليل ما يدخلش علينا وما نعرفش نروح لنعيمة."

بعد مرور ما يقارب من ساعتين ونصف، وقف أدهم يمسك بذراع وافى، مترددًا في دق جرس الباب. يتساءل: هل هو خائف من معرفة الحقيقة وما حدث بالماضي، أو خائف من أن يضيع الأمل بوجود والدته على قيد الحياة وتشتعل بقلبه النيران لتبتلعهم وتبتلعه هو نفسه بعدها؟

ضغط وافى بكفّه فوق كفّ أدهم هامسًا له

"كده كده هننتقم، إنت لازم تعرف الحقيقة عشان تعرف إزاي تنتقم."

أومأ أدهم برأسه، ثم أبعد يده عن ذراع وافى واستدار وأعطى الباب ظهره محاولًا أن يُخفي ملامح وجهه المضطرب.
لحظات وفتح الباب، طلت منه زينب برأسها مبتسمة ثم قالت:
"بابا كان لسه بيقول هتلاقيهم هما. تخيّل يا وافى قلبه كان حاسس إنك هترجع بسرعة."

قال وافى: "قلت لك دي مسألة حياة أو موت."

فتحت الباب على مصراعيه، ليظهر الأب خلفها مرتديًا ملابسه ومستعدًا للخروج، فهتفت الفتاة

"بابا، مش تستنى يدخلوا يشربوا حاجة الأول؟"

الأب سمير "يا بنتي، كل لحظة في عمري ده و عمر نعمة منعرفش هتعدي ولا هتكون الأخيرة، بعدين يبقوا يجوا ناكل ونشرب كمان، يلا بينا، يا أدهم."

كان الرجل يتحدث وهو يتقدم، ووضع يده على كتف أدهم وهو يُكمل حديثه

"كل واحد في الدنيا دي مقدر ليه طريقه يا ابني، أكيد كان أحسن ليك إنك تبعد عن العيلة. يا ابني، أحيانًا المجهول بيكون أفضل يفضل مجهول."

ابتسم أدهم، ثم استدار ونظر للرجل وتنهد قائلًا

"عندك حق، بس لازم أعرف كل حاجة عشان أقدر أتنفس. أنا حاسس إن الماضي قاعد على صدري، مش قادر أكمل حياتي من غير ما أعرفه."

"طيب، يلا بينا."

خرج الرجل أمامهم وتبعته زينب بعد أن أغلقت الباب جيدًا، أشار أدهم للسيارة فقال الرجل

"لا، مش هنحتاجها، المقابر في أول الشارع اللي ورانا."

بعد عشر دقائق وصلوا عند مدخل مقابر حكومية لمجهولي الهوية، وبالرغم من أن تلك المقابر لا يوجد بها عامل أو حارس يراعيها، إلا أنها نظيفة وبها زرع على كل مشهد قبر، تحرك الرجل المسن في ممرات المقابر كأنه يحفظ الطريق عن ظهر قلب، حتى وصل إلى غرفة مبنية بالخشب في المنتصف، من يراها يعتقد أنها غرفة مهملة لحارس يقضي بها ساعات الليل فقط أو ساعات النهار، لكن في الحقيقة كانت توجد امرأة عجوز تجلس فوق فراش صغير، بجواره منضدة فوقها شعلة واحدة، أسفل المنضدة توجد زجاجات من المياه. خارج الغرفة يوجد ملحق صغير من الخشب به قاعدة حمام وحوض صغير، أمام الغرفة وُضعت طاولة مستديرة بجوارها ثلاث مقاعد، وفوقها فازة صغيرة داخلها ورود حديثة.

أشار سمير إلى السيدة كي تخرج وتجلس معهم، ثم جلس هو على مقعد واستند على الطاولة، فجلست السيدة على مقعد بمواجهته وهي تقول

"أهلاً، أهلاً، بيك وبضيوفك، بت... يا زينب ادخلي علقي على الشاي ولا عايزة الضيوف يقولوا عليّا بخيلة."

ضحكت زينب وقالت "من عيني يا أجمل ماما."

نظر وافي لزينب مرددًا بتعجب "ماما؟!"

ضحكت نعيمة وقالت "وانت متعجب ليه كده، أيوه بنتي وده جوزي."

قال أدهم بعد أن اقترب منها "بصي لي... انتِ عارفة أنا مين؟"

رفعت يدها تلتمس وجهه وتقول "سمير قال لي إنك جاي يا أدهم، أنا كنت مستنياك السنين اللي فاتت كلها، بس كنت خايفة أوي من فايز، ده مجرم."

قال أدهم "كل مجرم في اللي أجرم منه، متخافيش... بس بالله عليكي احكي لي كل حاجة تعرفيها."

أغمضت نعيمة عينيها، اللتان هربت منهما دمعة مصطحبة بألم، وعادت بذاكرتها لسنوات مضت كي تقص عليه ما إن ظل مخفيًا كان أفضل له.

انتشر في البلد الحديث عن عشق يزن لبنت واحد من الفلاحين اللي شغالين في الأرض بتاعت أبوه، كان يزن رغم إنه أصغر إخوته، هو اللي شايل الشغل كله عن أبوه، بعكس إخواته الكبار، فايز وفوزي. وبالنسبة لإخواته البنات، فالكبيرة كانت مخلصة تعليمها في كلية زراعة، والصغيرة، اللي هي أصغر من يزن، كانت لسه في إعدادي. فايز طول عمره نسوانجي وبيحب القمار وبيمشي يرازي في الفلاحين، فكان مكروه، بس الكل بيخاف منه ومن أبوه. بس أبوه عشان فايز فشل في الدراسة، وأخد دبلوم تجارة بالعافية، جوزه بنت العمدة اللي في البلد اللي جنبينا تقريبًا على أمل إنه ينصلح حاله، بس مكنش في أمل فيه. وفوزي اتجوز بنت عمته اللي ماتت عشان الورث ما يطلعش برة، وهي ما عندهاش غير بنتها دي.

الأب كان رافض إن البنات يشتغلوا، ولما اكتشف حب زين كان سعيد جدًا، وخلّى الطابق الأخير في القصر لزين ومراته، بس أم زين مكنتش موافقة وكانت بتكرهه، وسوسن النار ولعت في قلبها، خاصة لما زين خلف ولد، وبما إن هي مخلفتش، ومحدش من إخواتها جاب ولد غير زين، فالحقد ملا قلبها أكثر. وفي يوم، جِت المطبخ مكان ما كانت أختي الكبيرة بتشتغل، كنت بزور أختي عشان أطلب منها فلوس لأني هتجوز ومحتاجة مصاريف، وعشان الست هانم الكبيرة منعت أي حد مش بيشتغل يدخل القصر، أو أي عامل أو عاملة يدخل تليفون معاه، أختي خبّتني في دولاب للتخزين لما شافت سوسن هانم داخلة المطبخ، فضلت تلف في المطبخ زي العقرب، وتبص في الأكل وتزعق في كل اللي شغالين في المطبخ.

وفي لحظة غفلة من الجميع، شوفتها وهي بتحط بودرة في شفشق العصير اللي طالع للدور بتاع زين باشا، وبعدها خرجت على طول.
تعليقات



×