رواية فوق جبال الهوان الفصل الواحد والثلاثون
قبل عدة سنوات، حينما كان لا يزال في المرحلة الإعدادية، تصادف أن ذهب مع والده إلى أحد الأساتذة المتخصصين في تعليم الخط العربي في المدرسة الليلة، حيث تستقبل الطلبة رغم تفاوت أعمارهم قبل غروب الشمس في هيئة مجموعات للتقوية، ليتفاجأ به يوبخه أمام الصغار الذين ينهلون من علمه الفائض، ويتعلمون قواعد الكتابة بشكلٍ صحيح، حيث صاح يعنفه بشكلٍ جعله يشعر بالحرج:
-عاوزك يا أستاذ "مجاهد" تعلم الحمار ده إزاي يكتب، بدل نبش الفراخ اللي الأساتذة والأبلوات بيشتكوا منه.
حرك المعلم نظارته الطبية على أنفه، فرفعها قليلًا، وقال مبتسمًا نصف ابتسامة لتظهر أسنانه الملطخة بآثار التبغ:
-عينيا.
تابع والده مشددًا، وبغير تساهل، كأنما يمنحه الضوء الأخضر للتعامل مع وضعه:
-ومايهمكش، علمه بالطريقة اللي تعجبك، إكـــسر وأنا أجبس، وإياك يقصر معاك، أنا موجود!!
قال جملته الأخيرة وهو يرمي ابنه بنظرة نارية محذرة، لينكس الأخير رأسه في حرجٍ وضيق، فيما علق "مجاهد" مؤكدًا بثقةٍ:
-اطمن، هخليه يرسم الخطوط مش بس يكتبها...
ليوجه بعدها حديثه إلى الفتى وهو يشير بيده نحو أحد المقاعد الشاغرة في الصف الجانبي:
-روح اقعد هناك يا "عادل".
تحولت عيناه نحو البقعة المشار إليها دون أن يتحرك من موضعه، ليشعر بيد "رجائي" تربت بقوةٍ طفيفة على كتفه قبل أن يأمره:
-اتلحلح، مش سامع الأستاذ؟
على مضضٍ استجاب لأمره المنطوق، وسار نحو أحد المقاعد الخشبية، ليستقر جالسًا بجوار طفلة ذات جديلتين، وضحكة بشوشة، تبدو في المرحلة الابتدائية، كانت تنظر إليه ببلاهة، فيما ران إليها بنظرة متأففة منزعجة.
ألقى "عادل" بثقل جسده على المقعد، وكأنه يعبر عن احتجاجه على إحضاره إلى هنا بسلوكه المعارض، ظل ينفخ في سأمٍ، وبصوتٍ كان مسموعًا لها، فمالت ناحيته قليلًا لتهمس له متسائلة في تطفلٍ غير مستساغٍ له:
-معاك قلم؟
لم يجبها، فأخرجت واحدًا من مقلمتها القماشية، ومدت يدها به نحوها قائلة في لطافةٍ ثقيلة على قلبه:
-أنا معايا واحد زيادة، اتفضل.
تعامل معها بجفاءٍ ونفور:
-مش عاوز.
وأخذ يخمش بأظافره في سطح المكتب الخشبي القديم، وكأنها وسيلته المتاحة للتنفيس عن غضبه المكبوت، تفاجأ بها تضع القلم الحبري أمامه، ليتبع ذلك قولها الودود:
-خليه قصادك لو احتاجته.
بدأ الأستاذ "مجاهد" في شرح كيفية كتابة بعض الحروف بطريقة النسخة، لينتقل إلى شرح طريقة كتابتها بخط الرقعة، وطلب من الصغار محاولة محاكاته، ليصحح لهم أخطائهم. بادرت الصغيرة بسؤاله بنفس الأسلوب الوديع اللطيف:
-عايز ورقة؟
بقي على جموده وصمته، ففتحت دفتر أوراقها، وقالت وهي تبحث عن المنتصف:
-أنا هقطعلك ورقة من النص.
انتزعت الورقة، وطرحتها قبالته وهي تخاطبه في وديةٍ:
-خليها معاك.
نظر إليها من طرف عينه بترفعٍ، بينما استمرت تهمس له، كأنما تحاول حثه على مبادلتها الكلام:
-أستاذ "مجاهد" يبان إنه شديد، بس هو طيب أوي...
اتسعت ابتسامتها الرقيقة أكثر وهي تُعرفه بنفسها مستخدمة يدها في الإشارة إليها:
-أنا اسمي "إيمان"، وإنت اسمك إيه؟
نفضة خفيفة عصفت ببدنها عندما سمعت صوت المعلم يناديها بحزمٍ:
-"إيمان فهيم" ركزي معايا.
تورد وجهها بشدة من الخجل، وقالت وهي تحني رأسها في طاعة:
-حاضر.
تبخرت الذكرى البعيدة من عقله، وعاد إلى أرض الواقع، ليجد نفسه يبتسم في سرور، الآن قد تذكرها، إنها تلك المتطفلة التي ظلت تزعجه بلا كللٍ أو ملل خلال أيامه الأولى في مجموعة التقوية، لذلك لم تبدُ ملامحها غريبة عليه عندما التقاها مجددًا وبعد مُضي كل تلك السنوات، كان واثقًا تمام الثقة أنه التقاها فيما مضى؛ لكن شخصيتها المتحمسة قديمًا اختلفت للغاية عن الوقت الحالي، فغدت وكأنها واحدة أخرى غير تلك التي قضى معها عدة أشهر على أمل أن يتحسن مستواه في الكتابة.
انتشله من دوامة سرحانه في ذكرياته صوت والده المعاتب:
-أنا مش فاهم احنا بنعمل هنا إيه بالظبط؟
التفت ناظرًا ناحيته، ليجده ما زال مستمرًا في إبداء انزعاجه:
-ممكن تفهمني يا "عادل"؟
تنهد مجيبًا إياه في هدوءٍ:
-الجماعة واقعين في أزمة، واحنا بنقوم بدورنا معاهم.
اعترض على ما يقوم به مرددًا، وكأنه لم يعد يطيق الانتظار أكثر:
-بس كده الموضوع بقى بايخ وزايد عن الحد، المفروض نسيبهم يتعاملوا مع مشاكلهم بنفسهم.
قال مبررًا سبب ملاحقته لشأنهم:
-هما لواحدهم يا بابا.
أتى تعقيب "رجائي" ساخرًا بعض الشيء:
-والحيطة اللي معاهم ده إيه؟
كالعادة علل له سبب إصراره على عدم تركهم:
-شكله بتاع مشاكل، والحاجات دي محتاجة التصرف بعقل وهدوء.
رفع والده إصبعه محذرًا بضيقٍ:
-"عادل"، أنا مش حابب نحط في موقف بايخ بسبب عنادك.
استطرد مطمئنًا إياه:
-متقلقش يا بابا، أنا عارف بعمل إيه.
بدا التجهم ظاهرًا على قسمات وجه أبيه، إلا أنه ادعى عدم رؤيته لما ينعكس عليه، على أمل أن يطمئن باله. لم يطق "رجائي" البقاء أكثر من ذلك، فقال منهيًا سخافة وضعه بفتح باب السيارة تمهيدًا لترجله:
-أنا هسيبك إنت تتعامل براحتك، وهروح أشوف مصالحنا.
انتفض "عادل" معترضًا على ذهابه:
-بس يا بابا هقول للجماعة إيه؟
قال وهو يغلق الباب بانزعاجٍ:
-ما تقولهمش، محدش فايق لحاجة.
عاد ليجلس في مقعده مرددًا بعد زفرة سريعة:
-براحتك يا بابا...
لترتكز بعدها عيناه على مدخل البناية وهو يتم جملته بصوتٍ مملوء بالعزم:
-بس أنا هفضل مكاني.
......................................
جملة كانت كالقذيفة، أطلقتها في وجهها، وتركتها تحول جوارحها –معنويًا- إلى أشـــلاء مقطعة إربًا، لتصبح كالصنم لبضعة لحظاتٍ، فاقدة للقدرة على النطق أو التعبير. استغرقها الأمر عدة ثوانٍ حتى استفاقت "إيمان" من حالة الذهول التي سيطرت عليها لتصيح في استنكارٍ جم:
-إيه الكلام ده يا طنط؟
منحتها "نجاح" نظرة استحقار مغيظة، لتهتف بعدها في ازدراءٍ مستفز:
-سمعك تقل ولا إيه؟ بقولك إنتي مابقتيش مراته، هو طلقك من مدة غيابي...
ثم طوحت بيدها في الهواء كأنما تطردها قبل أن تفوه بذلك صراحةً:
-روحي شوفي حالك بعيد عننا.
ارتعشت شفتاها مكررة بقلبٍ منفطر:
-طلقني غيابي.
أشفقت "دليلة" على شقيقتها المصدومة، ووضعت يدها على ذراعها لتشعر بتلك الرجفة التي اعترتها، بينما صرخت "عيشة" مستنكرة بشدة ما وقع على ابنتها من ظلمٍ بين:
-طلقها؟ ليه؟ وعلشان إيه؟ دي كانت قايدة صوابعها العشرة شمع عشانه!!!
جاء ردها وقحًا:
-مابقتش تنفعه.
تدخل "فارس" معلقًا بعدما جاهد لأطول وقت ألا ينطق بشيءٍ فيزيد من تعقيد الأمور:
-هي كانت بيعة ورجع فيها؟ ده جواز يا حاجة!
تحولت نظرات "نجاح" تجاهه، وسألته في رنة مستخفة:
-مين الأخ ده كمان؟!
اخشوشنت نبرته وهو يجيبها:
-أنا ابن عمها الكبير.
تقوست زاوية فمها قائلة بتهكمٍ بائن:
-أها .. قولتيلي، تشرفنا يا حضرت.
كور قبضة يده مانعًا نفسه من الهجوم عليها، فيما عادت "عيشة" لتسألها بنبرة لائمة، وقد غصَّ صدرها:
-احنا قصرنا معاكو في حاجة؟ ليه تظلموا بنتي؟
لجأت "نجاح" للصياح لتنهرها بغلظةٍ:
-بقولك إيه؟ أنا مش ناقصة دوشة ووجع قلب، روحي اتكلمي مع المحامي...
ثم تراجعت خطوة للخلف تمهيدًا لغلق باب منزلها وهي تكمل صياحها بهم:
-ويالا غوروا!
استوقفتها "عيشة" باعتراض الباب قبل أن يغلق بيديها، وسألتها في تحسرٍ:
-استني هنا! وحاجة بنتي وعفشها؟
رمتها بنظرة احتقارية وهي تتحداها بعنجهيةٍ:
-لو ليكي حاجة ابقي خديها، بالقانون.. ده لو عرفتي تثبتي إن ليها حاجة أصلًا!!!
ثم صفقت الباب بقوةٍ في وجوههم، لترفع "عيشة" كفها للأعلى منددة بحــرقةٍ:
-حسبي الله ونعم الوكيل، هتروحوا من ربنا فين؟!!!
ليت الأمور وقفت عند هذا الحد! لكن "إيمان" لم تتحمل مدى الإجحاف الذي تتعرض له دون أن ترتكب ما يُدينها، فانفجرت صائحة في إنكارٍ عظيم:
-مش ممكن اللي بيحصل ده! ده أكيد كابوس! مش حقيقي!
حاولت "دليلة" ضمها إليها، وهتفت ترجوها:
-بالراحة يا "إيمي"، اهدي يا قلبي.
ليصيح "فارس" من خلفهما بتصميمٍ:
-اطمني يا بنت عمي، أنا مش هسيب حقك.
وكأن لوثة عقلية أصابتها، فظلت تصرخ مستنكرة:
-طب ليه؟ أنا عملت إيه؟ أنا أذنبت في إيه؟
زادت شقيقتها من ضمها لها، لتنضم إليها والدتها وتحاوط كلتاهما وهي تخاطب بكريتها المكلومة:
-ما تعمليش في نفسك كده يا حبيبتي.
طفرت الدموع من عينيها بغزارةٍ، وهتفت بصوتٍ باكٍ:
-أكيد أنا بحلم يا ماما، استحالة "راغب" يعمل كده فيا.
دمدم "فارس" في غيظٍ، وقد ضرب بقبضة يده الحائط الإسمنتي:
-واطي وخسيس!
خامرها شعورًا بالدوار، فترنحت قليلًا، حاولت "دليلة" إسنادها بالتعاون مع والدتها التي هتفت ترجوها، كأنما تحاول الشد من أزرها:
-امسكي نفسك يا "إيمان"!
أشارت لهما بالتوقف، وقالت بعنادٍ وهي تكفكف دموعها المسالة على وجنتيها:
-سبوني، أنا لازم أفهم ليه عمل كده.
ثم هرولت تجاه المصعد لتضغط بعصبيةٍ على زر استدعائه، لحقت بها شقيقتها، ومن ورائهما هرولت "عيشة" ولسان حالها يردد:
-يا ربي، احنا مابقناش ملاحقين على المصايب!
تحولت نبرتها إلى ندبٍ وعويل حينما ولجوا تباعًا إلى داخل المصعد:
-اترمينا في الشارع واتبهدلنا من بعدك يا "فهيم"
احتج عليها "فارس" فيما يشبه الزمجرة:
-ما تقوليش كده يا مرات عمي، أنا موجود معاكو.
نظرة استحقار حانت من "دليلة" إليه، بدت كما لو كانت تهزأ من جملته الغريبة، لتهمهم بهسيس التقطته أذناه:
-مفكر نفسه واحد مننا!
أسرها في نفسه، ولم يقل شيئًا تعقيبًا عليها، هي لم تخطئ في اتخاذ موقفًا متحيزًا ضده، وهو لم يكن بالبريء الودود المنزه عن أي خطأ، بل على العكس كان مثالًا حيًا لمثيري الشغب، ومسببي الفوضى خلال ريعان شبابه، لتأتي عواقب تصرفاته غير المسئولة بالزج في السجن والمعاقبة على ما اقترف؛ لكنه يسعى حاليًا لترك شقاوة الماضي بما فيها من أحداث لا تدعو للفخر والبدء من جديد.
...........................................
تلكأت "إيمان" في خطواتها فور أن خرجت من المصعد، وكأنها تعيد ترتيب أفكارها في رأسها المشحون بعشرات الأشياء، فيما بقيت "دليلة" ممسكة بها من ساعدها، ونظرتها القلقة مصوبة تجاهها، لتتفاجأ بها تهدر بعزمٍ معاند:
-أنا هروح لـ "راغب" البنك.
لدهشتها دعمتها والدتها في رغبتها قائلة:
-رجلنا على رجلك، ما هو لازم يرسينا على الحوار.
بدا ذلك ضروريًا للوقوف على أساس المشكلة، فانطلقوا تجاه سيارة "فارس" على الفور، ما إن لمحهم "عادل" مقبلين ناحيته حتى ترجل مسرعًا من سيارته ليسير نحوهم متسائلًا باهتمام:
-خير يا جماعة؟ عملتوا إيه؟
ردت عليه "عيشة" بتحسرٍ، وعيناها تعبران عن مدى الألم الذي يجيش في صدرها:
-النصايب مش عايزة تسيبنا.
توجس خيفة من تطور الوضع للأسوأ، فتساءل وعيناه تتجهان تلقائيًا نحو "إيمان":
-حصل إيه؟
تولت "عيشة" دفة الكلام كالعادة، فاسترسلت في حزنٍ جسيم:
-البيه طلع مطلق بنتي غيابي، واحنا مش دريانين.
اعترض "فارس" على إسهابها قائلًا، وتلميحه قد بدا مفهومًا للجميع:
-مش وقته يا مرات عمي نشغل الغُرب باللي يخصنا.
ثارت حفيظة "عادل"، وقال محتجًا على سخافة حديثه:
-لأ معلش، أنا مش غريب ده أولًا، وثانيًا مش هسيب عيلة عم "فهيم" تتبهدل من غير ما أكون جمبهم.
انتصب "فارس" بكتفيه، وكز على أسنانه مدمدمًا، وقد ارتفع حاجبه للأعلى:
-الكلام ده تقوله لما يكونوا معندوهمش راجل، دلوقت أنا موجود...
ثم أشاح بوجهه بعيدًا ليوجه كلامه للبقية:
-اتفضلوا يا جماعة على العربية.
وقبل أن يبادر "عادل" بالرد، وجد يد "فارس" تربت بغلظةٍ على كتفه وهو يودعه بسخافةٍ:
-طريقك أخضر.
اضطر أن يكبت ضيقه منه محافظًا على هدوء أعصابه، وظل باقيًا في مكانه يراقبهم وهو يستقرون في سيارة ذلك المزعج، لحسن حظه، وربما سوء حظ من يناطحه الرأس بالرأس لم يعمل المحرك، وبدا معطوبًا، سمع زمجرة مزعجة منه كلما حاول إدارته وتشغيله بالإجبار.
ضرب "فارس" بيده على المقود هاتفًا في غير صبرٍ:
-هي مش عايزة تدور ليه؟ ما كانت شغالة وزي البلى!
ردت عليه "عيشة" بقلقٍ:
-سمي بالله كده وهي تشتغل.
ليأتي "عادل" متطفلًا عليهم، فتساءل وهو يجوب بنظراته على أوجه الجميع:
-في حاجة يا جماعة؟
من تلقاء نفسها أخبرته "دليلة" في ضجرٍ:
-الموتور شكله عطلان.
ليهمس "فارس" بصوتٍ كان واثقًا أن "عادل" سمعه:
-في ناس وشها فقر!
اقترحت "إيمان" في تعجل:
-تعالوا نشوف تاكسي أحسن.
في التو اقترح "عادل" بأدبٍ:
-لو مافيهاش مضايقة، حضراتكم تقدروا تتفضلوا معايا، وأنا هوصلكم مطرح ما إنتو عايزين.
بدا حله ملائمًا للوضع الحرج الذي وقعوا فيه، إلا أنهم لاذوا بالصمت، فبادر "عادل" بتوجيه سؤاله إلى "عيشة" في تهذيبٍ:
-رأي حضرتك إيه يا حاجة؟
ردت بتحرجٍ بادي على وجهها وكذلك نبرتها:
-والله يا ابني مش عارفة أقولك إيه؟
قال بترحابٍ وهو يلصق بثغره هذه الابتسامة الأنيقة:
-أنا تحت أمركم، والموضوع مافيهوش تعب ولا حاجة لو كنتوا مفكرين ده.
أمام إصراره، ورغبة "إيمان" في اللحاق بمن كان زوجها، وافق الثلاثة، ليصيح "فارس" في غرابةٍ وقد توقف عن محاولة تشغيل المحرك:
-وأنا رجلي على رجلهم.
لم يمانع من تواجده، وإن كان مزعجًا له، المهم ألا يفوته شيئًا مما يدور دون أن يتأكد من سلامة الجميع بمن فيهم هي على وجه الخصوص.
..........................................
تحت اسمٍ مستعار، وبواسطة وساطات خفية، تمكن من نقل شقيقه الأكبر سرًا إلى إحدى المستشفيات الاستثمارية الخاصة، وهو في حالة حرجة للغاية، ليوضع تحت مسئولية فريق من الأطباء من أجل التدخل الفوري لإنقاذه.
ظل "زهير" مشدود الأعصاب، عيناه لا ترفان، بل تكاد تخرجان من محجريهما من شدة غضبه، وقف إلى جواره "عباس" يستجديه وهو يتلفت حوله بتوجسٍ:
-ماينفعش نفضل هنا يا كبيرنا، لازم نمشي، الحكومة قالبة الدنيا، وسهل أي حد ابن حـــــرام يبلغ عننا ونروح في توكر.
لم يعبأ للحظة بحجم التهديدات التي تحيق به، وصاح في تصميمٍ:
-أنا مش هسيب أخويا.
راح يصر على إبعاده قبل أن يمسه الأذى:
-هو موجود مع الناس بتوعنا، وهيطموننا عليه.
تشبث أكثر برأيه قائلًا بلهجةٍ لا ترد:
-قولتلك مش هتنقل من هنا إلا لما أطمن عليه.
كمحاولة أخيرة يائسة منه توسل إليه:
-يا كبيرنا إنت...
أخرسه بغلظةٍ وبإشارة من إصبعه:
-اسكت خالص.
انصاع له مرددًا وقد تراجع مبتعدًا عنه ليتفقد الردهة:
-اللي تؤمر بيه.
............................................
على الجانب الآخر، تولى أتباع "الهجام" نقل جثمان "توحيدة" إلى مكان مجهولٍ بعدما تم لفه في بساطٍ قديم، ليتخلصوا من جثتها قبل أن تُكتشف جريمة قـــــتلها، فيما تجمدت "وِزة" في بقعة منزوية بأقصى الصالة، منكمشة على نفسها، ورافضة التعامل مع الوضع الخطير الذي أُجبرت على أن تكون طرفًا فيه. صاح "سِنجة" ملقيًا بأوامره على كافة النساء المذعورات يهددهن بلا هوادة:
-لو كلمة واحدة من اللي حصل هنا خرجت برا هتطير فيها رقابكم، فاهمين؟
لم تجرؤن على الاعتراض، امتثلن بخنوعٍ واضح لكافة أوامره، صرفهن بعد ذلك، واتجه إلى من تدير المنزل ليستحثها على التماسك، فخاطبها في جديةٍ:
-وإنتي يا ست "وِزة" اتعاملي عادي ولا كأن في حاجة.
نظرت إليه في ذهولٍ مستنكرٍ، كفكف دمعها الذي لم يتوقف عن الانسياب بظهر كفها، وهتفت في صوتٍ مرتعش:
-عادي؟ بالبساطة دي؟
كانت لا تزال على رجفتها وهي تشير بيدها نحو الركن الذي تمت فيه تلك المعركة الدموية لتخبره:
-دي جرايم قتل بالكوم، أنا كان مالي ومال الحوارات دي.
قال ببساطة من اعتاد على معايشة تلك الظروف وكأنها نمط حياته اليومي:
-ما يبقاش قلبك ضعيف...
احتدت نظرتها تجاهه، فتابع فيما يشبه التحذير:
-وبعدين ما تنسيش إنك إنتي المسئولة هنا، والرقبة اللي طارت كانت في حمايتك، ده غير الغدر اللي حصل في كبيرنا، يعني من الآخر كده رجلك جت في الخية، والحوار مش هيعديه الريس "زهير" على خير، فأحسنلك تحاولي تظبطي الدنيا، بدل ما رقبتك تحصل "توحيدة".
انتفض بدنها بالكامل، ولطمت على صدغيها هاتفة في جزعٍ:
-يادي النصيبة!
فرك "سِنجة" رأسه، وقال وهو يزفر دفعة ثقيلة من الهواء:
-شكلها هتبقى سواد على الكل.
.........................................
مرت الدقائق كأنها ساعات، حيث بدت عقارب الساعة وكأنها تأبى التحرك إلا بأعجوبة وهو يجلس في ساحة الانتظار بالمشفى، لتظل عيناه معلقتان بتلك الساعة المتدلية في البهو المستطيل، منتظرًا بأعصابٍ متلفة أن يأتي أحدهم لطمأنته، بمجرد أن ظهر طيف ذلك الطبيب من بعيد حتى هب قائمًا من موضع جلوسه ليركض تجاهه، سبقه "عباس" في خطاه متسائلًا بلهفةٍ:
-إيه الأخبار يا دكترة؟
ليلاحقه "زهير" بهتافه القلق:
-طمني يا دكتور!
بحذرٍ واضح حاول الطبيب انتقاء كلماته لينقل إليه ذلك الخبر المفجع:
-احنا عملنا اللي علينا، أخوك كان جاي حالته متأخرة جدًا، وقضاء الله نفذ.
في البداية صاح مستنكرًا ما فاه به:
-إنت بتقول إيه؟
بأبسط العبارات المفهومة أوضح له:
-البقية في حياتك:
بحركة مباغتة قبض على عنقه، وحاول خنقه بيده هادرًا:
-حياة مين؟ أخويا استحالة يموت، سامعني، استحالة يموت!
تفاجأ الطبيب بردة فعله المبالغ فيها، وحاول إزاحة يده التي تقطع الهواء عن مجرى تنفسه وهو يتوسله:
-من فضلك، احنا مالناش ذنب، دي إرادة ربنا.
حاول "عباس" إنقاذ الطبيب من براثنه قبل أن يزهق روحه هاتفًا بقلبٍ مفطور:
-شد حيلك يا كبيرنا.
نجح في إبعاده عنه؛ لكن "زهير" رفض أن يتركه لشأنه، وانقض عليه يلكمه بشراسةٍ وهو يواصل صراخه الجنوني:
-ما تسبنيش وتمشي، بقولك أخويا لازم يعيش.
تفجرت خيوط الدماء من وجه الطبيب الذي لا ذنب له سوى إبلاغه بالخبر المشؤوم، ليضطر "عباس" لاستخدام كامل قواه الجسمانية من أجل إبعاده عنه وهو يرجوه:
-اهدى يا كبيرنا.
بمجرد أن حله من تحت قبضته الدامية، صاح به في عجالةٍ:
-اهرب يا دكترة.
تزحف الطبيب على مرفقيه وركبتيه ليبتعد عنه، والدماء تغرق كامل وجهه، ليرتفع هدير "زهير" الغاضب:
-أخويا اتاخد غدر يا "عباس"، دمه اتصفى على إيد بنت الحرام دي.
أوضح له وسط نوبة جنونه التي استحوذت عليه:
-لأ مش هي بس يا كبير، من قبلها اللي بلغوا عنه ونصبولنا الكمين.
مستخدمًا قوته المكبوتة تحرر "زهير" من قبضتي "عباس"، ووقف بشموخ ماسحًا ما سال من دموعه المقهورة على فراق شقيقه ليدمدم من بين أسنانه بوعيدٍ:
-وأنا مش هسيب اللي غدروه يتهنوا بحياتهم، زي ما خدت عمر "توحيدة"، هاجيب أجل كل اللي اتسببوا في موته بإيدي دي.
لم يمانع استخدامه للعــــنف المفرط على الإطلاق، بل رحب بتحوله الفجائي للشخصية الأسوأ على الإطلاق مرددًا في دعم قوي:
-كل اللي إنت عايزه هيتعمل يا كبير.
أظلمت عينا "زهير" بشدة، وتقلصت عضلات وجهه على الأخير وهو يلفظ وعده الذي لا يمكن الحنث به أبدًا:
-حقك راجع يا "هجام"، وأنا بنفسي اللي هخده!
............................................
لولا الزحام المروري الغريب في مثل ذلك التوقيت بالطريق الرئيسي، لتمكن من الوصول إلى البنك الذي يعمل به زوجها في وقت أسرع، إلا أن عدم سيولة حركة المركبات بسبب انقلاب إحدى الشاحنات تسببت في حدوث هذا الاختناق. لم يكف "فارس" عن الزفر بصوتٍ مسموع، وكأنما يعبر بشكلٍ غير مباشر عن ضجره من تواجده في سيارة هذا السمج، إلا أن "عادل" حافظ على هدوئه، والتزم بالقيادة في سلاسة رغم المضايقات التي يتعرض لها.
همهم "فارس" فجأة دون مقدماتٍ، محاولًا استفزازه قطعة الجليد الجالسة بجواره:
-مش كنت مشيت مع الحاج أبوك بدل ما احنا معطلينك.
رد عليه بهدوءٍ، وبابتسامةٍ متكلفة:
-هو موصيني مفارقش الجماعة للحظة.
رمقه بنظرة منزعجة قبل أن يخافت من صوته مرددًا:
-ما هو باين، عامل زي اللزقة.
توسطت "دليلة" المقعد الخلفي، وكانت تضم راحتها في كف شقيقتها التي باتت ساهمة غالبية الوقت، وكأن تأثير الصدمة قد انعكس عليها، فقد كانت تبحث عن مكمن الخطأ لتحصل في غمضة عين على لقب مُطلقة! ناهيك عن تعرضها للخداع وسرقة متعلقاتها في غفلة منها.
تأوهت "عيشة" بصوتٍ خفيض قبل أن تولول بغتةً في أسى، لتذكر من حولها بالفجيعة التي عصفت بكيان الأسرة:
-لا عاد لينا بيت ولا متوى يلمنا، عملنا إيه في دنيتنا علشان يحصل فينا كل ده؟
رد عليها "فارس" مواسيًا:
-إن شاءالله أزمة وتعدي يا مرات عمي.
التقط "عادل" فحوى رسالتها المتوارية في شكايتها، فاستطرد بشكلٍ مفاجئ:
-ما تقلقوش من أي حاجة، شقتي موجودة، تقدروا تقعدوا فيها، فيها كل حاجة، وهتكون أمان ليكم.
حلت الصدمة على أوجه الأربعة، وتباينت آثارها عليهم، لتتكلم "عيشة" أولًا بتحرجٍ:
-بس يا ابني احنا كده بنورطك معانا، وإنت ملكش ذنب.
قال مبتسمًا، وليبدد شعورها بالحرج:
-ماتقوليش كده، أنا تحت أمرك.
ظن "فارس" أنها محاولة مكشوفة منه لتحقيق مكسب شخصي على حساب مصيبة العائلة، فقال بترفعٍ:
-متشكرين يا أخ، بس أنا كفيل بعيلتي، وقادر أظبطلهم مطرح.
كعهده معه فهم ما يرمي إليه، وصمم بشيءٍ من التحدي:
-مش وقت استعراض عضلات، إنت مش شايف هما تعبانين إزاي، لما ترتب أمورك يقدروا يروحوا معاك.
قبل أن يهتف معترضًا عليه، صاحت "إيمان" صارخة فجأة وهي تشير بيدها نحو نقطة محددة:
-ده البنك، من فضلك أقف هنا.
-حاضر.
ردد "عادل" كلمته المقتضبة وهو يبطئ من سرعة السيارة، ليتمكن من صفها بمحاذاة الرصيف، فترجلت في الحال منها، وركضت تجاه بوابته التي كانت مغلقة بالفعل.
طرقت بيدها بكل قوةٍ على الصاج المعدني صارخة في انفعالٍ:
-افتحوا الباب، أنا عايزة أقابل "راغب" جوزي.
على إثر الضوضاء والصراخ المتسببة فيهما، هرع إليها فرد الأمن المكلف بمراقبة ماكينات الصراف الآلي، توقف أمامها متسائلًا في جديةٍ:
-خير يا مدام؟ إيه الدوشة اللي حضرتك عملاها دي؟
أشارت له بيدها وهي تواصل صراخها الغاضب:
-افتحوا البنك، أنا عايزة أقابل جوزي.
قابل هياجها بهدوءٍ مدروس:
-مواعيد العمل خلصت من بدري، ومافيش حد موجود جوا، من فضلك امشي.
صرخت في وجهه بحدةٍ:
-بقولك أنا جوزي بيفضل شغال هنا لمتأخر، واسمه "راغب...."
بمجرد أن نطقت بهويته عرفه على الفور، فأخبرها بجديةٍ بحتة:
-يا مدام الأستاذ "راغب" اتنقل فرع البنك التاني من كام يوم، لأنه بقى مديره.
انقضت عليه لتمسك به من تلابيبه صائحة في ذهولٍ متعصب:
-إنت بتقول إيه؟
تفاجأ من ردة فعلها، وقال وهو يحاول إبعاد قبضتيها عنه:
-من فضلك نزلي إيدك.
تدخل "فارس" لإزاحة يديها من على ياقة فرد الأمن قائلًا بضيقٍ:
-ما ينفعش اللي بتعمليه ده يا بنت عمي.
فيما لحق بها "عادل" ليقول هو الآخر بتوجسٍ:
-يا مدام "إيمان" إهدي!
استعادت "إيمان" يديها من قبضتي ابن عمها، واندفعت للخلف صارخة باهتياجٍ مبرر:
-محدش يقولي أهدى وأنا في مصيبة، إنتو مش حاسين بالنار اللي قايدة جوايا.
ازداد صوتها اختناقًا، وتفجـــرت الدموع من عينيها كالبركان وهي تنعي نفسها:
-كل حاجة ضاعت في لحظة، أنا عمري وحياتي اتسرقوا مني!
هرعت إليها "دليلة" وشدتها إلى حضنها لتضمها، طوقتها بذراعيها قائلة في نبرة متعاطفة للغاية، وقد فاضت العبرات من طرفيها:
-علشان خاطري اهدي.
ارتمت برأسها على كتفها، وبكت كما لم تبكِ من قبل، لتقول في نبرة مليئة بالخذلان الشديد:
-أنا اتغدر بيا يا "دليلة"، اتغدر بيا!
افتقرت إلى ما تواسيها به من كلمات، فقد كانت مثلها تعاني من شعوري الفقد والحرمان، فما كان منها إلا أن شددت من ضمها لها، لعلها بذلك تحتوي أحزانها وتشارطها إياها بالطريقة التي تجيدها حاليًا.
ظل "عادل" يراقبها وهي في حالة الانهيار تلك، أقصى ما كان يجوز له فعله هو دعمها معنويًا، ودَّ لو استطاع الإمساك بهذا الجرذ اللعين الذي أذاقها هذا العذاب، وأعطاه ما يستحق؛ لكنه للأسف اختفى ببراعة من الصورة، لتظل وحدها هي المكلومة على مصابها الموجع.
أمسكت "عيشة" بكتف ابنتها وسحبتها إليها لتحتضنها قائلة بصوتها الباكي:
-ما توجعيش في قلبي يا ضنايا، إن شاء الله ربنا مش هيضيع حقك.
سألتها سؤال العاجز الذي لا يملك شيئًا في هذه الدنيا:
-تفتكري هيرجع؟
أوغر صدرها ومزقها من الداخل أنها حقًا لم تستطع النظر تجاه ابنتها لتؤازرها ولو بالكذب، وإلا لاكتشفت الحقيقة المؤلمة، بعجزها عن ضمان استردادها لحقوقها، فقد ضاقت بها السبل بعدما أطاحت قساوة الحياة بكل ما امتلكوا ذات يوم في لمح البصر ..................................... !!!
................................................