رواية حب للبيع الفصل الثانى بقلم احمد فايز
كانت أشعة الشمس تتسلل بخجل من خلف ستارة الغرفة البيضاء، تلامس وجنتي "هناء" التي استيقظت على صوت الطيور بالخارج، وصوت خطوات ناعمة تقترب من الباب. التفتت ببطء، فقلبها خفق حين رأت "هاني" يدخل وهو يحمل كوبًا من العصير وابتسامة خفيفة على وجهه، تُخفي وراءها ليلًا طويلًا من السهر والقلق.
اقترب منها، جلس على الكرسي بجانب السرير، ثم قال وهو يمد لها الكوب:
– أهو عصيرك المفضل، من غير سكر زي ما بتحبي.
ابتسمت برقة وهي تأخذ الكوب بين يديها المرتعشتين، وقالت بصوت خافت:
– لسه فاكر بحب إيه ومبحبش إيه؟
– فاكر كل حاجة… مفيش تفصيلة فيكي بتعدي من غير ما ألاحظها.
صمتت قليلًا، ثم قالت وهي تبصّ في عينيه مباشرة:
– أنا كنت هخسرك…
قاطعها بهدوء، وقد شبك أصابعه في يدها:
– وانا كنت هموت لو خسرتك.
سكتت العبارات، لكن العيون حكت الكثير، كانت عيناها مليئتين بندمٍ شفيف، بينما عيناه تنبضان بعزيمة، كأنه يقول لها أنا هنا، وهفضل هنا.
تنهدت هناء بعمق، ثم تمتمت:
– حاسّة إني اتولدت من جديد.
– وهنبدأ من جديد… من أول وجديد، على نظافة، من غير خبايا ولا خوف، ولا حد يتحكم فينا.
– بس يا هاني… إحنا ضد الدنيا.
ابتسم هاني، مسك يدها بقوة، وقال بثبات:
– لو كانت الدنيا كلها ضدي، وقلبي معاكي… فالدنيا هي اللي خسرانة.
ثم مال على جبينها، وقبّله قبلة خفيفة، كأنها وعد صامت.
“بعض القصص لا تبدأ من أول لقاء، بل من أول انكسار… حين تجد من يُجبرك، لا من يُكسرك”
***
"مواجهة النار"
خرجت "هناء" من المشفى، بعد أيامٍ كُسرت فيها روحُها، ثم جُبرت على مهلٍ بصدق "هاني" واحتوائه.
كانت نظرات الممرضات تلاحقها كأنها تودّع ظلًّا لطيفًا تعلقن به، ونظرة "هاني" لم تزل تلتحفها كعباءة من الطمأنينة لا تسقط عن كتفها أبدًا.
أوقف السيارة أمام بيت أهلها، بيتٍ لم يعد مأمنًا، بل صار كالسيف يُشهر في وجهها كلما تذكّرت جرحهم.
ترجّلت ببطء، ويد "هاني" سندٌ لها، وعينه تُشيع في قلبها اليقين.
ضغَطت على يده بخوفٍ طفولي، فاقترب منها وهمس بنبرةٍ خافتةٍ كأنها صلاة:
– متخافيش… أنا معاكِ.
ضغطت زر الجرس، فارتجف قلبها كما لو كان يقرع الباب لا إصبعها.
وما هي إلا لحظات، حتى انفرج الباب عن وجهٍ عَبوس، وجه أخيها الكبير، وقد انعقد ما بين حاجبيه، واشتعلت في عينيه نيران السخط.
زمجر قائلاً:
– أنت إيه اللي جايبك هنا؟!
ردّ "هاني" بثباتٍ لا يتزعزع، كنصلٍ سُلَّ من غمده:
– جاي أرجّع بنتكم اللي ضيعتوها… وكنتوا هتدفنوها بإيديكم.
دخلت "هناء" بخطًى خفيفة، ورأسها مطأطأ كأنها تستحي من الأمل الذي رجع بها، بينما ظلّ "هاني" في وقفته، كجبلٍ تحدّى العاصفة، لم يتزحزح.
قال بلهجة هادئة، ولكنها تنوء بثقل السنين:
– بص يا أستاذ… أنا ساكت احترامًا، مش خوف. اللي حصل في أختك جريمة… وأنت أول مسؤول.
رفع أخوها صوته، وقد ارتجف الغضب في حنجرته:
– إحنا نعرف مصلحتها! مش هنجوزها واحد ملوش ضهر، ولا عيلة!
اقترب "هاني"، وفي عينيه شُعلة من جمرٍ قديم، لهبها لا يُخمد:
– اللي مالوش ضهر… هو اللي بيبيع بنته عشان فلوس العريس!
أنا عندي كرامة وضمير… وبنتكم لو ماتت، كنت هخليكم تندموا العمر كله، بالقانون، وباللي ربنا فوق هيحاسب عليه.
وفي اللحظة الحاسمة، دخل "أحمد"، صديقه الوفيّ، مرتديًا بالطو الطبيب، كأنما ارتدى الوقار كله.
تقدّم بنبرته الواثقة، وفي عينيه نور علمٍ لا يُكذَّب:
– أنا كنت الطبيب النفسي المسؤول عن حالتها… أقدر أكتب تقرير إن اللي حصل ده كان إكراه نفسي، وده جريمة.
ارتبك الأخ، وسأل بصوتٍ مرتعش:
– أنت بتهددنا؟
وهنا اشتعل صوت "هاني"، كأنه فارس جاهلي صرخ في وجوه الجهل والجبن:
– أنا بقول الحق… وبقولك لو قربتوا من هناء تاني، هتبقوا خصومي في الدنيا، وقبلها في الآخرة.
ثم مضى إلى الداخل، كمن يخوض معركة لا رجعة منها.
وجد "هناء" جالسة على الأريكة، منكّسة رأسها، وكأنها ما زالت تحارب بقايا خذلانٍ لم يندمل.
اقترب منها، وركع على ركبتيه أمامها، ثم رفع وجهها بكفٍّ كانت في معاركها حصنًا لا يُهزم، وقال بصوتٍ مبلّل بالحُبّ:
– ارفعي وشّك… إنتِ مش ضعيفة، وإحنا لسه مابدأناش حربنا عالحب ده.
وفي لحظة، صمت الجميع، وعلَت على المكان مهابة الحقيقة.
لم يعد لأحدٍ صوت، لأن القلوب الصادقة حين تتكلم، تخرس الألسن الكاذبة.
"إذا اشتدّت النار على الذهب، ازداد لمعانًا… وهكذا القلوب النبيلة، لا تُقهَر إن قاتلت بالإيمان والنية والصدق"
******
في ركنٍ ساكنٍ من مقهى «كافيه الأحمد»، حيث السكون لا يُعكّره سوى خرير نافورةٍ شاخت أيامها، وجلست تحتها أرواحٌ أنهكها العراك مع الحياة... كان "هاني" جالسًا، كأنما الزمن انحنى فوق كتفيه، وكأن الأرض ضاقت حتى ما عادت تسعه.
فوق طاولته فنجانُ قهوةٍ باردٍ، كقلبِ من خذله، وبجانبه صديقه "أحمد"، الطبيب الذي لم يكن يومًا طبيبَ جسدٍ فقط، بل كان راقي الأرواح وكاشف الوجع الصامت.
حدّق "هاني" في الفراغ، كمن رأى الدهر ينهار، ثم انفرطت دمعةٌ من عينه، لا صرخةَ لها، بل سقطت بصمتٍ يشبه انكسار السيوف في المعركة الأخيرة.
قال "أحمد" بصوتٍ خفيض، كمن يُنادي قلبًا أعيته الحياة:
– أخيرًا نزلت دمعتك يا صاحبي... كنت مستني اللحظة دي، لحظة ما ترجع تبقى بني آدم، مش جدار.
رد "هاني"، وصوته مخنوق بالخذلان:
– أنا مش جدار يا أحمد… أنا بني آدم بيتقطع من جوه ومش بيبين…
أنا راجل شال في قلبه خمس سنين حب، ولسه واقف… بس واقف لوحدي.
أحنى "أحمد" رأسه قليلًا، ثم وضع كفه على كتف صاحبه، كمن يُربّت على جوادٍ جريحٍ بعد المعركة، وقال بهدوء:
– الرجولة مش إنك ما تقعش… الرجولة إنك تقع وتقوم.
عارف يا هاني، فيه ناس بتتوجع من دمعة، وإنت اتحملت سكاكين جوه قلبك وساكت.
"هاني" نظر إليه، والعبرات تتراقص في عينيه، ثم تمتم بصوتٍ مكسور:
– حاسس إني بدفع تمن إني حبيت… كأني مغضوبٌ عليّ من الدنيا، ومن أهلها، ومن قسوتهم اللي مايعرفوش عن الرحمة حاجة.
ابتسم "أحمد" بحنانٍ، كابتسامة حكيمٍ يعرف أن الليل لا يدوم، ثم قال:
– اللي بيحب ماينداسش، لكن لازم يدافع عن حبه، مش يستناه يموت بين إيديه.
ثم صمت لحظة، كأن فكرة انبثقت من قلبه، وسأله:
– قولّي… الأرض اللي عندك لسه معاك ولا بعتها؟
رفع هاني رأسه باستغراب، وقال:
– آه… الأرض دي ورث من أبوي، ناوي كنت أبني فيها عشّي يوم ما الزمن يلين.
رد "أحمد" بنبرة فيها مكر المحاربين:
– وليه ما تبيعهاش؟
ماهو الزمن مش هيلين إلا لما تكسره… اشتري شقة، وخدها.
خلّي الحب هو اللي ينتصر، مش أخوها ولا فلوسهم.
سكت… كأنه طُعن بسهمِ إدراك، ثم انفرجت شفتاه عن كلماتٍ خرجت من أعماق روحه:
– هبيعها…
هبيع الأرض لو آخر ما أملك، وافرش بيها طريقها ورد.
أنا مش عايز بيت… أنا عايز حضنها.
وإن كانت الأرض تساويها… فلتذهب الأرض، وليبقَ الحب.
ثم نظر في عيني "أحمد" وأردف:
– دي مش بنت… دي وطن.
والوطن بيتبني بدم، مش بتراب.
"ما ضاع حقٌ سُقي بدمعِ المحبين، ولا خُذل قلبٌ باع الأرض ليشتري حضنًا من ضوء"