رواية ذاكرة مستأجرة الفصل الثانى بقلم فهد محمود
لم تستطع ريم مغادرة المقهى على الفور، كأن قدميها تجذرتا في الأرض. اسم فارس الجارحي كان يرن في أذنيها كصدى بعيد، لكنه مؤلم، يحمل معه ماضٍ كانت تظن أنها دفنته منذ زمن.
لماذا اشتراها؟ ما الذي يريده من ذكرى تخصها؟
أخرجت هاتفها بيد مرتجفة، فتحت التطبيق الذي يعرض قائمة الذكريات المباعة. هناك، بجانب اسم المشتري، ظهرت كلمة "تم الاستلام". هذا يعني أنه الآن يعيش لحظتها…
ضغطت على خيار تفاصيل الذكرى، وعندما قرأت وصفها، كاد أنفاسها تنحبس في صدرها:
"ذكرى أمسية مطرية، قلب ينبض، عينان تلتمعان بالدفء، ابتسامة واعتراف لا يُنسى."
وضعت يدها على فمها في صدمة… تلك الذكرى!
كانت الليلة التي اعترف فيها فارس بحبه لها لأول مرة. ليلة كان المطر يتساقط فيها بغزارة، وكانا واقفين تحت ضوء مصباح قديم، حين أمسك بيدها، نظر في عينيها وقال بصوت ثابت لكنه عميق الشعور:
فارس: "ريم… مهما ابتعدتِ، ستبقين أنتِ الذكرى الوحيدة التي لا أريد نسيانها."
كانت ليلة استثنائية، لكنها لم تدم طويلًا. بعدها بأسابيع، تحول كل شيء إلى كابوس، وانقلب فارس إلى شخص آخر تمامًا… شخص حطمها دون رحمة.
والآن، اشترى هذه الذكرى.
شهقت ريم وهي تهمس لنفسها:
ريم (بذهول): "لماذا؟ لماذا الآن؟"
لم يمضِ سوى دقائق حتى تلقت إشعارًا جديدًا على هاتفها، رسالة واردة من رقم مجهول. فتحتها ببطء، وعيناها تتسعان مع كل كلمة:
"استمتعتُ بالذكرى، لكنها ناقصة… أريد أن أراها في عينيكِ مباشرة. سنلتقي قريبًا، ريم."
ضغطت على اسم المرسل… لا توجد معلومات، لكن ريم لم تحتج إلى دليل.
فارس الجارحي عاد… وهذه المرة، لن يكتفي بشراء الماضي فقط.
قبضت ريم على هاتفها بقوة، كأنها تحاول أن تمسك بأنفاسها قبل أن تهرب منها. رسالة فارس كانت واضحة… لم يكن الأمر مجرد ذكرى بالنسبة له، بل كان بداية لشيء أكبر.
رفعت عينيها إلى زجاج المقهى، حيث انعكاسها بدا شاحبًا، وعيناها تحملان مزيجًا من القلق والرهبة. لم تكن مستعدة لهذا اللقاء، ولم تكن تريد أن تواجهه مجددًا.
رنّ هاتفها فجأة، فانتفضت من مكانها. نظرت إلى الشاشة… رقم مجهول. شعرت بتردد قاتل قبل أن تسحب نفسًا عميقًا وترد بصوت خافت:
ريم: "مَن؟"
صوت منخفض، لكنه عميق: "هل فاجأتكِ رسالتي؟"
أغلقت عينيها بقوة… إنه هو.
ريم (بحدة مكبوتة): "لماذا فعلت هذا يا فارس؟ ماذا تريد من الماضي؟"
صمت للحظة قبل أن يجيب بنبرة باردة، لكنها مشوبة بشيء لم تفهمه:
فارس: "لأنني لا أؤمن بالماضي… أؤمن فقط بما يمكنني استعادته."
شعرت بقلبها يهبط إلى معدتها. لم يكن فارس شخصًا يتحدث دون هدف. وإن قال إنه يريد استعادة شيء… فهو يعني ذلك حرفيًا.
ريم (بجفاف): "لقد انتهى كل شيء، فارس. لا يمكنك شراء ما فات."
فارس (بهدوء مريب): "وهل انتهى حقًا؟ لأنني أعتقد أنكِ لم تنسي أيضًا، وإلا لما اخترتِ بيع هذه الذكرى بالذات."
قبضت على يدها بقوة، تحاول السيطرة على ارتجافها.
ريم: "أنا لم أبعها لك… لم أكن أعرف أنك المشتري."
ضحكة خافتة صدرت منه، لكنها لم تكن ساخرة… بل أشبه بشخص واثق مما يقول.
فارس: "لكنني المشتري يا ريم، وهذا يعني أنها أصبحت لي الآن. كما كنتِ دائمًا."
ازدادت أنفاسها اضطرابًا، وقبل أن تجد ردًا مناسبًا، تابع بصوت منخفض، لكنه محكم:
فارس: "نلتقي غدًا، المكان نفسه… حيث بدأت الذكرى."
وقبل أن ترفض أو تحتج، أغلق الخط.
ظلّت ريم ممسكة بهاتفها، تتأمل الشاشة المظلمة، وكأنها تعكس ظلمة الماضي الذي عاد يطرق بابها من جديد.
غدًا… ستقابله.
لكن هذه المرة، لن تكون الفتاة ذاتها التي تركها تحت المطر.