رواية شذرات الاماني الفصل الثاني 2 بقلم ساره عبد المنعم


رواية شذرات الاماني الفصل الثاني بقلم ساره عبد المنعم


صوت بكائها يُزلزل الأرجاء، ولا تعلم أ هي تبكي يُتمها أم أن الجوع يقرص معدتها الصغيرة، فهي حديثة العهد، ولم تجد بعد الرعاية الملائمة لها، ورغم مقدار الحزن الذي يكاد يفتك بقلب خالتها، إلا أنها تحاملت على نفسها لأجل ابنة فلذة كبدها (أختها)، التي كانت كل ما لها، وأصبحت هي أمًا لها عوضًا عن التي حملتها في أحشائها؛ ليتكرر ما حدث للأم مع ابنتها، وتنتقل المسئولية إلى الشخصية ذاتها (سعاد) تلك الأم الحنون التي أكرمها الله بصغير من لحمها ودمها بعد انتظار طال لسنوات، لم يفقد فيها زوجها (الأستاذ وائل) الأمل، غلبه حسن ظنه بالله، فتلك الخصال التي حباها الله بها، تولت رعاية أختها الصغيرة وحدها، وقفت بثبات تقوم بدورها دون استسلام، لم تحتج أحدًا.

-بابا .. هل رأيت الصغيرة التي جاءت عندنا؟ لقد رأيت من أين خرجت؟ كنت بجوار خالتي وهي تصرخ، حاولت أن أُساعدها، ولكن لم يستجب لندائي أحدٌ، فتوقف صوتها ما أن جاءت الصغيرة، واخترق صراخها الأرجاء بدلًا منها.

ضم الأستاذ وائل صغيره (حمزة) في قلق، الموقف الذي تعرض له قاسٍ للغاية، صعب عليه استيعابه، ولن يستطيع فهمه حتى يكبر، يخشى عليه من وطأة الشعور، فأخذه حمزة حيث توجد الصغيرة، وردد وهو يُشير إليها:

-هذه أماني يا أبي، لقد سمعت خالتي تناديها هكذا، ثم ابتسمت لها ونامت إلى الأبد.

سعاد من الخلف، وهي منهارة في البكاء:

-هدى ذهبت إلى أمي يا وائل، رحلت عنا وتركتنا، لم يعد لها وجود.

التفت إليها وائل، فارتمت في أحضانه، وهو يربت عليها يواسيها، فبكت أماني، إذ بحمزة يحملها بين ذراعيه، ويُقلد والده، إلا أنها كادت تسقط من بين يديه، انتبهت والدته إليه، وعدلت وضع يديه، تُعلمه الطريقة الصحيحة، فهو سيكون عونًا لها في تربيتها، ولم تعلم بأن علاقة أخرى ستجمعهما.

-هل تُحبين أماني يا أمي؟

سألها حمزة ببراءة الأطفال، فقد سمع البعض يقول بأن خالته رحلت بسبب قدوم أماني، ولكنه يراها لطيفة، ولا يفهم أي مما يقولون، ويخشى أن تُصدقهم أمه، وتترك أماني وحدها، فأخذتها من بين يديه في حنان بالغ، وهي تُردد:

-بالطبع يا حبيبي، فمنذ اليوم قد أصبح لديك أختًا، أسأل الله أن يحفظكم ويحميكم.

بدأت حكاية جديدة بقدوم أماني، فقد رزق الله سعاد بالابنة التي تمنت، فقد اختلف الشعور داخلها، كانت صغيرة أثناء تربيتها لهدى، أما أماني جاءت وقد نضجت، وفهمت الكثير عن الأمومة، وهذا لا يُقلل من دورها، فهي فطرية، وكل فتاة هي مشروع أم قادمة منذ نعومة أظافرها، ووجد فيها وائل الحنان الذي افتقده منذ الصغر، فقد جرب هو الآخر شعور اليتم، ولأجل ذلك ساندها في قرارها بتولي مسئولية أماني، فوالدها دخل في حالة صدمة، ولن تستطيع الجدة رعاية الصغيرة بشكل جيد، رغم محاولاتها لأخذها منها، إلا أنه وقفت قبالتها، تُحملها الذنب في ما حدث مع أختها، ويكفيها الاهتمام بسعيد (أخو أماني)، فكاد الشجار أن يحتدم بينهما ثانية، لولا أن تدخل وائل:

-يا حاجة فتحية .. اهدأي أرجوكِ.

-هل رأيت يا أستاذ وائل ما تقوله زوجتك؟ بأي وجه حق تُريد أن تحرمنا من صغيرتنا؟

قالت كلماتها في انفعال، فهدأ روعها قائلًا:

-لم تقصد زوجتي ذلك يا حاجة فتحية والله، ولكن جل ما يدور بلبها أن تُساعدك في الاهتمام بالطفلة حتى يشتد عودها، يكفيكِ مراعاة أمور سعيد وكذلك والده، الحمل ثقيل عليكِ، ونُريد أن نُخفف عليكِ، كان الله في العون، وهي ابنة أختها، ولها حق فيها أيضًا.

لانت ملامح الحاجة فتحية، وبدأ كلامه في التأثير عليها، سكتت لهنيهة ثم هتفت:

-كما تريد يا أستاذ وائل، لا قول بعد قولك، ولكن يحق لي أن آتي لرؤيتها متى أشاء.

رد عليها بحبور:

-بالطبع يُمكنكِ ذلك، البيت بيتك يا حاجة فتحية، تنوري بأي وقت.

استطاع الأستاذ وائل بحكمته أن يحل الأمر، وطبعت الحاجة فتحية قبلة حانية على خد الطفلة، ثم غادرت مرضية بعد أن اطمأن لُبها على أمر الصغيرة، عليها الآن أن تُفكر في ولدها وابنه سعيد، عاني كثيرًا في حياته، وعادت الذاكرة بها إلى الخلف، وصلت بها إلى ذلك اليوم الذي لا تنساه قط، كان أليمًا في وقعه عليها، أقسى من يوم فقدان خليل روحها.

قبل ثلاثون عاما..

شاع في القرية بأن السيدة فتحية فال شؤم على كل الرجال، فقدت زوجيها، أنهت حياة كلا الرجلين الذين ارتبطوا بها، ولم يعد يجرؤ أحدٌ على الارتباط بها، ظن الكثيرون بأن ذلك سيزعجها، ولكن لم يعلم غيرها الحقيقة، وكذلك إبراهيم الذي أقسم بألا يُعرضها للإذلال أبدًا، لن يحوجها لمخلوق طالما هو موجود، أعطاها وعودًا كرجل حقيقي، شددت عضده الصعاب، وعلى الرغم من ضعف بنيته، إلا أنه أصر ألا يتراجع عن القيام بدوره، ولكون الله لا يُكلف نفسًا إلا وسعها، أرسل إليه رحماته، وتمثلت إحداها في العم عبد الحميد (والد حسين) وقف جانبه، يُعلمه أمور الفلاحة والتجارة، وكان بدوره يبحث عن عمل، ولا يملك المال، فكان كلا منهما في حاجة إلى الآخر، وأراد حسين أن يُقدم المساعدة، إلا أن إبراهيم رفض، وهو يُوصيه قائلًا:

-لا تترك دراستك يا حسين، وعليك بالاجتهاد في المذاكرة، يعلم الله كم تمنيت أن أصير طبيبًا، ولكن جاء للقدر رأي آخر، فاعمل أنت على ذلك، أسأل الله لك التوفيق.

ربت على كتفه العم عبد الحميد من الخلف، وهو يُردد في امتنان:

-سيكون لك أنت أيضًا نصيبك من الخير يا بني، وأنا والله لن أنسى معروفك ما حييت.

انسلت من عينيه دمعة سهوًا، كانت تلك هي أمنيته، وحال دون تحقيقها ضيق الحال، الآن وقد تيسرت سيظل لسانه يلهج بالدعاء مع الشكر لله، ثم ما لبث أن تسلل الخوف إلى قلبه حين تذكر حال أخيه، كيف كان وماذا أصبح؟ فهل لكلية الطب علاقة أم ما زالت تلك الحكاية تنبض بداخله، وعلى إثرها تغير بذلك الشكل، أومضت في حافظته مشاهد من ماضٍ فات، كانت قصتهم حكاية تلوكها ألسنة الجميع، جمع بينهما الحب، ووقفا معًا قبالة العواصف والرياح العاتية، لم تقبلها والدته، وكذلك رفضه والدها، فقد كانت آمال أسن من فريد بخمس سنوات، ولكن لم يمنع ذلك شرارة الحب من الاشتعال بينهما، رأت فيه آمال فتى أحلامها، ووجد فريد عندها الشعور الذي تمناه، وعظم الإحساس داخلهما، إلا أنهم احترقا بنار الفراق، ذهبت السيدة آمنة لشكوى آمال عند والدها، فنهرها في حدة، هو أيضًا لا يقبل بتلك العلاقة، وأقسم الحاج محمد على تزويج آمال بابن عمها في أقرب وقت، لا تتزوج عائلاتهم من الخارج، وإن تنازل لأجل ابنته، كيف يتركها بين يدي صبي لم ينضج بعد؟ على الفتاة دومًا أن تتزوج بمن يَكبرها في العمر، تمت التجهيزات على قدم وساق، فلم يمض أسبوع على زواجها حتى زفها والدها إلى القبر، ضمها التراب رحمةً به، فمن ظن به والدها الخير لم يكن كذلك، عاملها بوحشية، وفاضت روحها الطاهرة إلى بارئها حين انتزع منها براءتها بقسوة، لم يبال بصراخها أو يهز فيه شعرة بكائها، اجتاح الندم والدها حين فجعه الخبر، وقرأ الألم في عيني فريد، وقف قبالة قبرها يبكي بكاء الطفل الصغير الذي فقد أمه، وفرد اليتم شباكه عليه، سقط الحاج محمد أرضًا، أصابه الشلل، لم تعد أي من أعضائه تقوى على العمل، فتمنى لو فارق الحياة قبل أن يشهد مثل ذلك اليوم.

ـ كيف تجرؤ على القدوم إلى هنا؟

نظر إليه فتحي شزرًا, وسأله في حدة, فانقض عليه الآخر بشراسة, وانهال عليه بالضربات, وهو يُردد في غضب:

ـ لن أرحمك والله أيها القاتل, قتلتها بدم بارد, وتقف الآن في استخفاف لأخذ العزاء أيها المجرم.

يُحاول الحاضرون أن يفصلوا بينهم, ولكن فريد يرفض تركه, يتشبث برقبته, ويقسم بأنه لن يُفلته حتى يجعله يذهب إلى نفس المكان الذي رحلت إليه حبيبته, فلا حق له في الحياة بعد ما سلبها منها.

ـ دعه يا فريد.. دعه يا بني أرجوك, سيضيع مستقبلك إن أصابه مكروه.

صوت  مألوف تعرفه الآذان جيدًا, ارتخت أعصابه, وانبسطت يداه, فانفلتت رقبة فتحي من بين بنانه, ونهض من فوقه, ليلتفت إليه, والدموع تهطل من مقلتيه كالشلال, وهو يقول لها بصوت مبحوح:

ـ هل أنتِ سعيدة الآن يا أمي؟ رحلت آمال, ولم يعد لها وجود في هذه الحياة, سعيتِ مع والدها لتفرقوا بيننا, فلم تحتمل المسكينة ذلك, زُهقت روحها غدرًا, وكنتم السبب في ذلك, حرمتموني منها إلى الأبد.

تحشرجت الكلمات في حلق السيدة آمنة, يُثقل كاهلها ذنب فتاة بريئة, لم تُخطئ بشيء سوى أنها أحبت ابنها, وكذلك هو وقف صغر سنه سدًا منيعًا حرمه من حب حياته, ظنوا بأنه غير مسئولًا, حيث يُشكل الرجال أعمارهم, ولكن ماذا فعل الكبير بها؟ وكم من صغير أنضج من أعتى الرجال! أشد مروءة منهم وقدرةً على تحمل المشاق, والاصطبار عليها, ووسام الأخلاق عنوانًا لهم على العكس مما تتخيلون.

ـ سامحني يا بني.

قالتها بصوت مكتوم, لم يُبال بها فريد, تركها وذهب بعيدًا حتى توارى عن الأنظار, اخترق صوت الإسعاف الآذان, وشق حضورها الأرجاء, حيث حُمل الحاج محمد على إحدى النقالات, وفتحي على نقالة أخرى بجانبه, فتنهد الحاج محمد في ارتياح, وشعر بالامتنان لفريد, ففي الكثير من القرى يتم التكتيم على كثير من الأخبار, وتخسر الكثير من الزوجات حياتهم كضحايا لأزواج طائشون, ولكونه يحدث بين أبناء العائلة الواحدة, يتنازل الأب عن حق ابنته استحياءً من قريبه, ويرى المحيطون به أنه عين الصواب, كي لا يتم تناقل الأخبار, وتلوك الألسنة سمعة الراحلة.

ـ لا حول ولا قوة إلا بالله, لا يستحق والله الحاج محمد كل ذلك.

تفوهت بذلك إحدى السيدات, لتقول أخرى:

ـ معك حق والله, يتشاجر الشباب ويتقاتلون مع بعضهم بسبب ابنته, لا رحمها الله, جلبت له العار حية وميتة.

ـ ويا ليت ذلك فقط يتهمون ابن عمها بأنه قتلها, وهناك ريبة في أمر موتها, فوالله لو كان ذلك ما حدث, نالت ما تستحق, فالرجل لا يُخطئ, ووراء كل شر مستطير زوجة خائنة.

كثرت الأقاويل, واجتمعت السيدات على الإساءة لمن لا يُمكنها الدفاع عن نفسها, حتى صرخت بها إحداهن, وتدخلت قائلة:

ـ حرام عليكم .. حراام.. أي القلوب حقًا تحملون بين جنباتكم؟

ثم وجهت إليهن الحديث بأسمائهن:

ـ يا حاجة نفسية.. يُنادونك بذلك, فقد حججت بيت الله الحرام, وقفت عند بيته الحرام, ورأيتِ هناك مختلف الأجناس والأشكال, كيف طاوعك قلبكِ لقول ذلك؟, فإن عدتِ من هناك بذنب مغفور, ضيعتِ الآن كل ذلك بحديثك السيئ عن آمال, تلك الفتاة الطاهرة التي يعلم الله بأنها لم نشهد عليها سوى خيرًا والله.

نكست الحاجة نفسية رأسها, فانتقلت إلى الأخرى, وتُدعى جهاد:

ـ يقولون بأن لكل منا نصيبًا من اسمه يا حاجة جهاد, ولكنك لم تكوني كذلك, وقفتِ بجانب الباطل, ولم تُجاهدي لأجل الدفاع عن الحق, ماذا تُريدين أكثر من ذلك؟ وقد خسرت الفتاة حياتها.

ثم سكت لهنيهة, وقالت لهم قبل أن ترحل:

ـ اتقوا الله يا خلق, اتقوا الله يا ناس.. اتقوا الله في النساء.. والله لتساءلون عنهن .. والله لتساءلون.  


**********

مرت السنوات على عجل, أكملت أماني الأربع سنوات, أخذت الصغيرة تكبر بين يدي حمزة, فأحبها كأخت له وصديقة, وتشكلت بداخله مشاعر عدة لأجلها, وإن لم يفهم بعد كنهها, إلا أنه لم يكن يتركها تغيب عن بصره قط ولو للحظة واحدة, يُناديها في حب:

ـ أماني .. يا أماني, أين أنتِ يا الشقية؟

فطوقت رقبته بذراعها الصغيرة من الخلف, وهي تصرخ في أذنه:

ـ تووووت.

ـ آه يا أذني آه.

ثم مسك يداها, وسحبها إلى الأمام عنوة, فسقطت على فخذيه, زغزغها في بطنها حتى أخذت تضحك ملء فاهها, وطربت الآذان من حولها بصداها, فلمعت عيون حمزة, وهو يراها على هذه الحالة, ولم تلبث هي أن رددت من بين الضحكات في رجاء:

ـ لقد تعبت يا حمزة, توقف يا أخي, توقف..

تلهث لالتقاط أنفاسها, وكأنها كانت في سباق, فقد أُرهقت كثيرًا, فربت حمزة على ظهرها, وهو يضمها إلى صدره, يرعاها بكل حب, وساعد والدته في الاهتمام بشئونها, جاءت في تلك اللحظة, وقالت في حبور:

ـ يا له من مشهد جميل بين الأخ وأخته, أسأل الله أن يُبارك لي فيكم, ويديم تلك المحبة بينكم.

ـ ماما حبيبتي.

تركت أماني حضن حمزة, وارتمت فوق والدتها, ضمتها بقوة, فشبكت السيدة سعاد ذراعيها فوقها, وهي تهمس في أذنها:

ـ حبيبة قلبي أنتِ يا أماني.

نظر حمزة لأماني بنصف عين, وكأنه يتوعدها بشيء, إلى أن انتبه لصوت والده, وهو يصيح:

ـ وصلت سيارة الروضة يا أولاد, هيا أسرعواا, ستتأخرون..

ـ بابا حبيبي، أنا جاهزة، أ رأيت كيف أنا أسرع من حمزة؟ فهو لم ينتهي بعد, وأتأخر بسببه دائمًا.

هبط الأستاذ وائل إلى الأسفل حتى وصل إلى مستوى رأسها، وطبع قبلة حانية على خدها حين سمعها تقول:

-تقول الميس بأنني سأكون دكتورة، أما حمزة سيصير مهندسًا، فهو يحب تصميم الأشكال، ويستغرق وقتًا طويلًا.

أحضر حمزة حقيبته ثم أدخلها في ذراعيه، وصاح قائلًا:

ـ من هو الجاهز الآن؟ سأذهب قبلك يا أماني.

تسابقا معُا حتى وصلا إلى الأسفل، لوحا لوالديهما ثم ركبا السيارة التي انطلقت بهم مسرعة، وجلست أماني بجوار زين, زميلها في الروضة, فاستاء حمزة, حيث شعر بالغيرة عليها، وحنق على الدادة لكونها لم تُجلسه بجانبها, فهي التي تتولى الاهتمام بالأطفال, وترتب كافة الأمور بداية من استلامهم من الآباء حتى إعادتها إليهم بعد انتهاء اليوم في الروضة, تُنظم القيام بكل شيء.

وكز حمزة زين في ذراعه عند نزولهم من السيارة, وقال له في غضب:

ـ لا تجلس جوار أختي أماني, سأقوم بضربك إن اقتربت منها ثانية.

ـ أنا لم أجلس والله يا حمزة, الدادة هي من أجلستني هناك.

لم يُبال حمزة به, ودخل من الباب قبله حيث تجاوزه, ولحقت به أماني, فقد أخذت تُناديه, ولكنه لم يُجيبها.

امتنع حمزة عن الحديث معها منذ بداية اليوم حتى عودتهم إلى المنزل, وكلما اقتربت منه أبعدها, وأرادت الجلوس فوق قدميه, إلا أنه نهرها في غضب:

ـ ابتعدي عني, فأنا لن أتحدث معكِ ثانية.

انهارت أماني في البكاء, وزادت شهقاتها, فأخذت أنفاسها تتقطع, حيث شعرت بالاختناق, فغابت عن الوعي, ولسوء الحظ لم يكن أي من والديها بالمنزل حيث ذهبوا لشراء بعض الأشياء, وطنوا بأنهم لن يتأخروا بالعودة, إلا أن ذلك ما حدث, تعجب حمزة من اختفاء صوت أماني, فتحت لهم الدادة البوابة, فسبق أماني في صعود السلالم, وتركتها تبكي بالأسفل, كلما أراد النزول لها, قال في نفسه:

ـ سأتمهل قليلًا حتى تسمع أماني كلماتي جيدًا، ولا تجلس جوار زين هذا في المرة القادمة.

ولكن القلق ما لبث أن تسلل إلى قلبه حين خفت صوتها، تسحب إلى الأسفل؛ كي لا تشعر به، وما أن وصل، اتسعت حدقتا عينه، وجدها ممددة على الأرض، صرخ يُناديها:

-أماني .. يا أماني، لمَّ أنتِ لا تتحدثين يا حبيبتي؟ 

هطلت الدموع من عينيه، ولم يعرف ماذا يفعل؟ وضعها فوق قدميه، وأخذ يضمها إلى صدره، وهو يتفوه بندم:

-سامحيني يا أماني، سامحيني يا أختي أرجوكِ، لم أقصد والله مضايقتك، ولكنني شعرت بالغيرة عليكِ كثيرًا، لم أحتمل جلوسك جوار زين.

جاء الجيران عند سماع صوت صراخ حمزة، وجدوه يحمل أخته فاقدة للوعي بين يديه، فأخذها العم محمد (جارهم) منه، وهرول بها نحو المستشفى، وما بين طرفة عين وانتباهتها وصلت الجدة إلى هناك، حيث طار إليها الخبر، وكانت بالمستشفى قبل السيدة سعاد وزوجها، وما أن رأتها اشتبكت معها قائلة:

-وأخيرًا جئتِ أيتها المهملة؟ هل ذلك هو صون الأمانة التي أودعتها عندك؟

لا تستوعب السيدة سعاد أي مما تقول، تجول ببصرها يمينًا وشمالًا بحثًا عن صغيرتها، ورجيف قلبها يزداد خوفًا عليها، لن تحتمل قط أن يصيبها مكروهًا، فأخذ لسانها يلهج بالدعاء لأجلها، وهي تسير على غير هدى، حتى رأت زوجها يدلف لإحدى الغرف، كادت أن تلحق به لولا أن أوقفتها السيدة فتحية في حدة، وهي تنهرها بغضب:

-أقسم بالله أنني لن أرحمكِ لو مس صغيرتي أي سوء، وسوف أخذها ما أن يُطمأننا الطبيب وأحرمكِ منها إلى الأبد.

نزلت كلماتها كالصاعقة فوق رأسها، وربض الهم على قلبها، مما أثقل كاهلها، فتسمرت في مكانها، وما أن رآها حمزة من بعيد، ركض نحوها وهو يبكي، ثم ارتمى في أحضانها، وأخبرها بكل ما حدث، وعبر عن ندمه:

-والله يا أمي لم أقصد أن يحدث لك شيء سيىء، كنت فقط مستاء منها، فخاصمتها، أخذت تبكي، ولم أكن أنا بأخ جيد لها و..

-نعم معك حق، ولأجل ذلك سوف أخذها، ولن ترونها ثانية.

قاطعته السيدة فتحية في حدة، فارتعب حمزة، واختبئ خلف ظهر والدته، لا يُريد أن تبتعد أماني عنه، ولا يفهم الكثير مما تقوله لوالدته تلك السيدة حتى أوقفها قدوم الطبيب، يُهدأ الحاجة فتحية من وسط انفعالها، حيث أشفق على الأم، ظن بأنها الحماة، وكم شاهد من تلك المواقف القاسية، يضعون اللوم على الأم حتى وإن لم تكن مخطئة، أما إن كان ما حدث للصغار في حضورهم، لا ذنب لهم، هذا من إهمال الأم أيضًا، فقال موضحًا:

-ما من داعٍ للقلق يا سيدتي، الصغيرة بخير، وما حدث معها كان فاصلة انحباس التنفس breath-holding spell، هي نوبة لا إرادية يتوقف فيها الطفل عن التنفُّس ويفقد فيها الوعي لفترة قصيرة، ويعود الأمور بعدها طبيعية.

-وكيف يُعقل ذلك؟ لا بد وأن هناك سببٌ.

سألته الحاجة فتحية في استنكار؛ ليُجيبها في هدوء:

- يحدث ذلك عادة بعد حادثة مُخيفة أو انزعاج عاطفي، ولكن الأمر بسيط، لا يستدعي حقًا منكِ كل ذلك التهويل.

-حادثة مُخيفة .. وتريد مني أن أهدأ، والله لأحمين حفيدتي ما حييت، لن يُزعجها شيء طالما أنا حية أرزق.

لم يستطع أي من الحضور تهدأتها، حتى الأستاذ وائل حين حاول التدخل، وجد منها شر معاملة، ثم وجهت له إصبعها في غضب، وهي تصيح:

-والله لأخذها منكم اليوم، لن أترك حفيدتي ثانية معكم، ولو للحظة واحدة.

وكان الحظ حليفها هذه المرة حيث كان معها ابنها (السيد)، ذلك الجنين الذي كان ينبض في أحشائها، وعلمت بأمره بعد وفاة أبيه، فوافقت على الزواج من رحيم لأجله هو وإبراهيم وإلهام، التي تصغر إبراهيم بستة سنوات، أما السيد الآن فيبلغ عشرون عامًا، وكان لديها ابن ثالث يُدعى محمدًا، تاه منها أثناء زيارة السيد البدوي في طنطا، حيث أخذتها والدتها الحاجة وداد ظنًا منها بأن ذلك سيُذهب عن ابنتها الحظ السيىء، بعد ما كثرت الأقاويل بأنها نذير شؤم على كل الرجال.

-هيا يا أمي، لنذهب من هنا.

قال تلك الكلمات ابنها السيد، يُعيدها إلى واقعها، فقد شردت بعيدًا، حيث ما زال جرحها ينزف، لم يندمل منذ ضياع فلذة كبدها، ولذلك كانت تخشى كثيرًا من تكرار الأم مع حفيدتها، الذنب داخلها لا يرحمها، ولا تهدأ ثورة انفعالها، نظرت إليهم بتشفٍ قبل أن ترحل مع ابنها، وهو يحمل الصغيرة حتى تبخروا من مرمى أبصارهم.

سقطت السيدة سعاد أرضًا، لم تقو قدماها على حملها، خارت قواها، وكأنها فقدت هدى الآن فقط، وتدافعت عليها الأحزان، نزل بها الألم من كل حدب وصوب، وشعرت بالاحتضار وكأن روحها تنخلع من جسدها، فالروح تتعلق بالأحبة، وأصعب ما يُشق عليها فراقهم، ويظهر من خلال ردود أفعال الجسد حجم المعاناة.


*****************

في بيت الحاج محمد النجار ..

تغيرت معالم البيت بدرجة كبيرة، كان بالطوب الأحمر عند وفاته، والآن بعد مرور أكثر من ثلاثين عامًا، اكتمل بنائه، فارتفع إلى عدة ادوار، واكتسى باللون الأبيض مع بعض النقوش المزخرفة على جدرانه، مع بعض الأشجار المزروعة على جانبيه، ويبدو مدخل البيت وكأنه جنينة، تُداعب أنفك رائحة الفل والياسمين التي لهم أكثر من أصيص على امتداده، وكانت هدى رحمة الله عليها من أحضرتهم منذ البداية، فقد بُني هذا البيت بجهود زوجها، وتعبه وشقاه، تحمل المسئولية باكرًا، ولكنه أثبت جداراته بشكل غير متوقع، وساندته هدى في ذلك، آمنت بقدراته، ووقفت جواره حتى وصل إلى ذلك، لم تستمع لأي مما يقولون، وعاد الزمان بالحاج إبراهيم إلى الخلف عند رؤيته لملاكه الصغير (أماني)، فقد ورثت الكثير من ملامح والدتها، مهجة القلب وحبيبة الروح، وأخذ صدى الكلمات التي تتردد في أذنيه تقترب حتى سيطرت على كامل حواسه، وذهب معها إلى حيث كان قائلتها على قيد الحياة.

-والله لن أتركك يا إبراهيم، لا تفقد الأمل يا زوجي العزيز.

-زوجك!

تفوه بها إبراهيم بنبرة خالطتها البكاء، فقد رفضه والدها منذ عدة ساعات، إلا أنها أخذت تربت بكلماتها على قلبه، وتعده بأنها لن تتخلى عنه أو تتركه، فردد في ألم:

-تعلمين يا هدى بأنه ليس ذنبي والله أنني لم أُكمل تعليمي لحاجة أمي وأخواتي إلي، لم يكن لدينا والله من أحد يُساندنا، ولكن تغشتنا رحمة الله رب العالمين، أمدني بالقوة وأرسل إلي عمي عبد الحميد، الذي علمني الكثير من أمور الفلاحة والتجارة، تولى شؤوننا بكل أمانة، وأدر وجوده علينا الخيرات، ولا أعلم ماذا كنت لأفعل لولاه؟ لكن حينها لم يكن هناك من وقت لأجل المذاكرة، تركت الدراسة، وتفرغت للقيام بالأعمال و..

تُقاطعه هدى قبل أن يُكمل، بكل حب قائلة:

-أنا أريدك كما أنت يا إبراهيم، أقبل بك زوجًا وأخًا وصديقًا؛ بل وكل شيء بالنسبة لي في هذه الحياة.

-ولكني والله أخشى أن تندمين في يوم من الأيام على زواجك مني، وأنا لست في مستوى تعليمك، لعل عمي والله محقًا في رفضه لي.

انتفضت هدى، وظهر خوفها جليًا في نبرتها:

-هل تُريد أن تتخلى عني يا إبراهيم؟ أ لهذه الدرجة حبك لي ضئيلًا؟ فتستسلم بسهولة.

سكت إبراهيم لهنيهة، ثم أجابها في ألم:

-يشهد الله على مقدار حبي لكِ، فأنت النور والأمل بالنسبة لي، كنت من قبلك خواءً حتى وجدتك، ويعز عليَّ غيابك ولو للحظة واحدة، إلا أن ..

بتر حديثه قبل أن يُكمل، وساد الصمت بينهما للحظات، وكأنما يستجمع شجاعته ليُكمل:

-إلا أن الحب يا ملاكي عنوانه التضحية، والمحب بصدق يكفيه سعادة من نبض الفؤاد لأجله، حتى وإن شهد ويلات العذاب عند رحيله، أقسم والله بأن مكانتكِ في قلبي عظيمة إلى درجة لا يمكنك توقعها أبدًا.

-ولأجل ذلك أنا أحبك يا إبراهيم، فلا تتركني أرجوك.

تفوهت بتلك الكلمات في خجل، فبدت وكأنها أكلت الحروف من بعض الكلمات عند سماعها، وكادت أن تُنهي المكالمة على عجل لولا أن سمعت صراخًا بالخارج، فزعت من مكانها، وهرولت نحو مكان الصوت، وظل الخط مفتوحًا، فتناهى إلى سمع إبراهيم ما يحدث، وما بين طرفة عين وانتباهتها كان ببيتها، سقط والدتها أرضًا بينما كان يسير، تعرقل في السجادة، فاصطدم بالحديد أسفل المنضدة، شُجت رأسه، ونُزف منها الدماء، غاب عن الوعي وقد خسر الكثير من دمائه، فكانت والدتها التي تستغيث، تم نقله إلى المستشفى، وإبراهيم يجلس جواره في الإسعاف، هو من أحضره، وتبرع له بالدماء، فقد كانت فصيلته O موجب، وتلك الفصيلة كما نعلم مُعطي عام، أي أن صاحبها يمكنه التبرع لأي فصيلة كانت، ولا تستقبل إلا من الأشخاص الذين يحملون نفس النوع، ولحسن الحظ حمل إبراهيم الفصيلة ذاتها، لم تكن موجودة في بنك الدم بالمستشفى، فأنقذه إبراهيم في الوقت المناسب، ولم يكن لديه مانع من التبرع بكل دمه، فالأستاذ إسماعيل عنده سيولة في الدم، وفعل الأطباء كل ما بوسعهم لوقف نزف الدماء.

-لا أعرف حقًا كيف أشكرك يا إبراهيم، أنت خلوق للغاية وذو مروءة عالية، فوالله بعد سوء معاملة زوجي لك، لما توقعت أبدًا بأنك ستكون أول إنسان يهب لنجدتنا، وقف جانبنا، وكدت أن تُضحي بحياتك لأجله، وكم هذا نادرًا يا بني هذه الأيام! فكما ترى رغم صراخنا وكل ما حدث، أقف أنا وبنات ابني الآن لوحدنا، ولا أعلم لولا وجودك ماذا كان ليحدث لنا؟

تشكره الجدة (منى) في امتنان، والعبرات قد وجدت طريقها في التدفق، فربت على يديها مواسيًا:

-لا تقولي ذلك يا جدتي، فأنا لست بغريب حتى وإن لم يُوافق عمي على زواجي بهدى، سأظل أُحبها، وعائلتها تعني لي، ولا أتأخر قط عن أي منكم.

-بارك الله فيك يا بني، والله لن نجد أفضل منك لابنتنا، وها أنا ذا أقف في صفك، وأعرف ابني جيدًا، سوف تأتيك موافقته عن قريب حين يعلم ما حدث.

صوت ضعيف من الداخل يأتيهم، عاد الأستاذ إسماعيل إلى وعيه، ونقلت له الممرضة كل شيء، فلم يتمهل حتى يتحسن وضعه، وأخذ يُناديه، ما أن رآه، تبسم في فرح، وهو يُسمع إبراهيم التي تمنى أن تخرج من ثغره، وتمت قراءة الفاتحة في المستشفى، وسبحان الله العظيم، لأجل دعوتك قادر على كل شيء، ويطوع لك الكون بأكمله كي تأتيك الإجابة التي لهج لسانك بها، غلب يقينها استحالة الأسباب من حولها، فحدث الأمر كمعجزة.

الفصل الثالث من هنا

تعليقات



×