رواية أجنبي الفصل الثانى بقلم الهام رفعت
تَدَان حالته وشقائه منذ الصغر، أنْبتَ في قلبها الشفقة تجاهه، وسرعان ما تحولت لإعجاب من رجولته الدائمة في المواقف الجادة، وأيقنت أن ما يعانيه، والسوء الواقع عليه، ما هو إلا من طِيب قلبه الذي يفوح منه.
قبيل انضمامها لأجواء عمله، تفرست ورد في بطء هيئته وما يقوم به من أعمال وجدتها شاقة _من وجهة نظرها_ وأنه يستحق الأفضل. لمحته قد انتبه لحضورها مع أخيه وابتسم، فبادلته البسمَة بقدر ما أُعجبت من سماحته ووسامته.
أخذت تتقدم منه برفقة رامي، وحين استقام حسين وترك ما بيده لمقابلتهما، خاطبته في رقة:
-صباح الخير!
-صباح النور، أيه الزيارة اللي مش على البال دي.
أجاب حسين في ود، ألقى رامي نظرة لـ ورد قبل أن يرد مترددًا:
-كنا جايين ليك في خدمة، وإنت الوحيد اللي تقدر تقوم بيها.
اعتلت الدهشة وجه حسين وأضحى مُنصتًا لهما، يترقب ما يريدانه منه. لم تجعله ورد يُكمل لتضيف بنبرة مرتجية:
-بس علشان خاطري يا حسين، بلاش تتعصب أو ترفض بسرعة
تأججت دهشته من طريقة سردهما لطلبهما منه:
-ما تقولوا على طول فيه أيه قلقتوني؟
تجاسرَ رامي وهو يوضح:
-فيه واحد أجنبي معجب بشغلي، وعلشان كده هيجي يزورنا ويقعد عندنا كام يوم.
بدا على حسين فهمه للموضوع بطريقة أخرى، وظهر ذلك في رده:
-طيب أنا مهمتي أيه، واحد عايز يقعد في مصر، أعمله أيه؟!
مرة ثانية تبادلت ورد مع رامي النظرات المخبوء خلفها شيء جهل حسين في إدراكه، ثم وزع نظراته المستفهمة عليهما.
-هيقعد معانا في البيت يا حسين.
قالها رامي بصلابة رسمها من فرط حماسه للأمر، وهنا توصًل حسين لسبب حالتهما الغامضة، وبجدية مفاجئة ولاح عليه علامات وكأنه يفكر في الأمر، فترقب الاثنان رده في شغف؛ متأملين منه إعطاء الموافقة.
بضع لحظات مرت في صمت منهم؛ حتى كسره حسين يتساءل في اهتمام:
-ماما عايشة معانا، إزاي نجيب راجل غريب، مينفعش!
ابتسمت ورد من مناقشته للأمر وعدم تسرُّعه، بينما قال رامي وقد فكر سلفًا:
-من الناحية دي اطمن، مش هنسيبه لوحده مع ماما، حد فينا هيكون موجود معاه، وكمان أغلب الوقت هاخده معايا منين ما أروح.
تجهُّم وجه حسين لم يُبشّر بخير، لتهب ورد في ترجٍ خشية اعتراضه للأمر:
-دي فرصة لـ رامي، ولازم نقف جنبه، وافق يا حسين.
انتبه حسين لما تقوله، وكذلك لمجيئها الذي لم يتفهمه، فسألها مستنكرًا:
-طيب وإنتِ أيه علاقتك بالكلام ده؟!
توترت ورد من نظراته نحوها وهو يوجه الحديث لها، فقالت في حرج:
-وفيها أيه أما أقف مع ابن عمتي وأشجعه إنه يوصل لحلمه.
فور انتهائها من التعليل وجه حسين نظراته تجاه أخيه ولاحت بسمة صغيرة على ثغره؛ لكنها غير مريحة بالأخص لـ ورد، فقد فطنت منها أنه يشك في علاقة بينها وبين رامي، لربما محبة منها تجاهه، هنا رسمت تكشر وجمود في وقفتها وهي تنظر إليه؛ معلنة رفضها لظنه ذاك، وقررت الصمت أفضل حتى لا تزيد الأمر تعقيدًا.
بعد تفكير موجز من حسين نطق في تروٍ:
-أنا معنديش مانع طالما دا لمصلحتك، بس أُمّنا مش هتوافق
كان رامي مدركًا لتلك النقطة، لذا قال ليستعطفه:
-البركة فيك تقنعها.
حدق حسين بالأسفل يعيد التفكير في الأمر، طرأت عليه فكرة ربما تكون متهورة؛ لكنها الحل الآن، خاطب أخيه في عزيمة:
-ماما مش هتوافق، فخلينا نحطها تحت الأمر الواقع لما ينزل مصر إن شاء الله......!!
*****
على الرغم من إتمام كل ما خططت له برفقة ابنتها وانتهاء الأمر، إلا أنها ارتابت في أمر ابنتها، وتخوفت من تفكيرها في زوجها السابق؛ خاصةً بعد آخر مكالمة معه، فهي من أرغمتها على الحديث معه بتلك القسوة، كي يتناسى ما بينهما ويتركها. لم تنتبه منى لنظرات والدتها وهي تتصفح هاتفها وبالأخص كانت تمرر الصور الخاصة بها وبزوجها حسين وهما معًا، وبداخلها أحست بالشوق يطوف في تناغم، وللحظات كانت تبدي الندم لما فعلته من سوء في حق علاقتهما الرائعة.
لم تتحمل السيدة نادية وضع ابنتها المذبذب ثم جلست بجانب، فانتبهت لها منى وأغلقت الهاتف على الفور موتّرة الأعصاب، فإن أدركت السيدة ما تفعله فسوف تبغضها وتوبخها. لاحظت السيدة حالتها وتيقنت من وضعها مرمى مشاعرها. فسألتها بنظرات قاتمة:
-مكلمتيش تامر ليه زي ما قولتلك؟
تعثرت منى في الرد ولاحظت والدتها توترها، فاختلقت سببًا ما وقالت:
-رنيت عليه مجمعش معايا وانشغلت بالتليفون.
ألقت السيدة نظرة على هاتفها توحي بأنها مدركة سبب انشغالها ولم تعلن شيء، ثم خاطبتها بشيء من الترقب:
-الحاج منصور بعت مرسال لأبوكِ بخصوص الصلح بينك وبين حسين، بس أنا بلغته إنك خلاص مش قابلة العيشة معاه.
تابعت منى حديث والدتها وقد جرى عدم الرضى بداخلها، كونها تتخذ القرارات بالنيابة عنها، ولما لا، هي من وافقت على حديثها بترك زوجها والزواج من ابن خالتها الذي سيمنحها الكثير ويغدقها بملذات زاهرة. لذلك ردت مستسلمة:
-اللي تشوفيه يا ماما.
ربتت على فخذها في إعجابٍ وقالت:
-كده هتعرفي تعيشي صح، مش حُب وكلام فارغ
لم تقتنع منى كثيرًا وعلى الرغم من ذلك وافقت حديثها:
-عندك حق يا ماما، الفلوس هي اللي بتجيب السعادة
حمستها السيدة بطلعة بشوشة:
-يلا قومي كلمي ابن خالتك، دا يومين وراجع من الكويت........!!
*****
بعد تناولهم الطعام، ذهبت ورد لإعداد القهوة الخاصة بأبويها وبعض العصائر لها ولأختيها. بينما جلس الحاج منصور بجانب زوجته، وأمامه تجلس ابنتاه شهد ورشا في هدوء. كانت نظراته على ابنته شهد ومنها ظهر أنه يريد قول شيء خاص بها. وذلك ما أيقنته شهد، وتفهمت أنه يريد الحديث معها بخصوص زواجها من عادل ابن صديقه، فأسرعت ببدء الحديث في جد لتنهي الأمر:
-بابا كنت حضرتك طلبت مني أفكر في الجواز من عادل، أنا بصراحة مش موافقة ومش شيفاه مناسب ليا
أخرجت شهد ما في جعبتها دفعة واحدة، وذلك ما جعل الدهشة تعلو وجه والدتها، على النقيض الحاج منصور ظل كما هو كمن لم يستمع لشيء، فما يدور بعقله مغاير لما أعلنته للتو. وهنا تحدثت السيدة هنية مستنكرة:
-البشمهندس عادل مش مناسب ليكِ، أومال مين المناسب إن شاء الله
عارض الحاج حديث زوجته قائلًا:
-جرا أيه يا حاجة، هتجبري بنتك، الجواز رفض وقبول، يمكن مش مرتحاله.
فرحت شهد من حديث والدها ولم تتخيل أن الأمر بتلك البساطة، بينما لوت السيدة هنية فمها في اعتراض ولم تعلق. هنا وجه الحاج حديثه لابنته قائلًا في تبهج:
-أنا جايبلك عريس غيره متأكد مش هترفضيه، صغير وحلو وابن حلال مصفي
ضجرت شهد من تكراره الأمر فهي لن تتزوج سوى مَنْ تختاره شريكًا يستحقها، فعاد الحاج يسألها مبتسمًا باتساع:
-مش هتسأليني مين؟
كان الشغف حليف السيدة هنية التي استفهمت في لهفٍ واضح:
-قول يا حاج مين ده؟
رد الحاج دون مقدمات:
-حسين!
بعد نطقه لاسمه استمع الجميع لصوت ارتطام أكواب بالأرضية، وعلى الفور توجهت نظراتهم نحو ورد الواقفة في جمود عجيب وأسفل قدميها الصينية وحولها الأكواب المكسورة. نهض الحاج أولًا قلقًا مما حدث، ثم خاطبها في لطف وهو يدنو منها:
-حصلك حاجة يا حبيبتي؟
نهض الجميع لمتابعة ما حدث، وتوجهت أيضًا السيدة هنية نحوها مشدوهة وقالت:
-خدوا الشر معاهم، تلاقيها يا حبيبتي اتكعبلت في السجادة.
ابتسمت شهد في تهكم فهي متفهمة وضع أختها، فكل مرة يتأجج تأكدها بأنها تحب الأخير، ثم دنت هي الأخرى منها وهي تخاطب أختها الصغرى:
-تعالي يا رشا ننضف الأرضية قبل ما حد يتعور من القزاز ده.
أخذ الحاج بيد ابنته لتجلس على الأريكة ويطمئنها في حنو. بينما تولت السيدة والفتاتان تنظيف الأرضية، وهنا غمغمت رشا في تذمر:
-لو كنت أنا اللي كسرتهم مكنتش هشوف الحنية دي.
استمعت السيدة هنية لحديث ابنتها واعتلى وجهها ضيق طفيف، كون أن التفرقة بين بناتها وابنة طليقته باتت مكشوفة للعيان، حد أنها وصلت لمشاعر ابنتها الصغيرة. وهنا همست شهد في غيظ وزجرتها:
-أيه اللي بتقوليه ده، بابا بيحبنا كلنا زي بعض، مش عاوزة أسمعك بتقولي كده تاني.
لم تعلق السيدة على توبيخ شهد لأختها واكتفت بالصمت، ثم وجّهت نظراتها نحو زوجها وابنته، وفي معاملته نحوها وجدت الحنو واللطف الزائد. صمتها جاء بأنه لم يبخل في إظهار عطفه لبقية بناته، وحنانه من واقع شخصه فهو دائمًا ودود. زيفت بسمة صغيرة وتحركت ناحيتهما. قالت وهي تجلس على الأريكة بجانب ورد:
-فداكِ يا حبيبتي!
ابتسمت لها ورد في محبةٍ وقالت:
-ربنا ما يحرمني منك يا ماما!
تلك الكلمة التي نطقت بها ورد كانت بالفعل تغزو قلب السيدة هنية لتعتبرها بالفعل ابنتها، فهي من تولت تربيتها في عُمر السادسة، وهي من أترعتها بدفء أحضانها. حين انتهت شهد ورشا من تلك المهمة، عاود الحاج يسأل ابنته شهد في ترقب:
قولتي أيه يا شهد، عمتك مستنية الرد، دا هي اللي اختارتك لـ حسين
تضايقت ورد من حديث والدها، وغضبت من تفكير عمتها، فهي كانت الأجدر، هي من تزورها وتسأل باستمرار عنها، وبالأخير ترشح أختها. كبحت ورد حنقها وسلطت نظراتها التي ظهرت فيها استيائها، وذلك ما جعل شهد التي تنظر لها هي الأخرى ترفع راية العِناد وتقول في خجل رسمته ببراعة:
-حسين عريس مافيش فيه أي عيب، بس خليني أفكر يا بابا على ما نشوف علاقته بمراته هتوصل لفين
رمقتها ورد بنظرات أشد استشاطة، بينما أخفت شهد بسمتها ومثّلت البراءة. فرد الحاج منصور موضحًا:
-خلاص هيطلقها، هنخلّص موضوعه ودّي، الحاج طه اتفق مع أبوها الكل يتنازل عن القضايا ويطلقوا
سُرت ورد بسماع تلك الأخبار، لكن عكر صفو فرحتها ما يحدث الآن؛ خاصةً حين هتفت السيدة هنية في سرور:
-حسين زينة الشباب، وظروفه مش عيب، مش هنلاقي أحسن منه نأمنه على بنتنا
هزت ورد رأسها للجانبين لترغم أختها بإعلان الرفض الآن؛ لكن أغاظتها شهد حين أشارت لها بالنفي، وزاد الطين بلة حين هتف والدها في حماس:
-أقولهم يجوا إمتى يتقدموا........!!
*****
فتح باب شقته ثم وقف على عتبة الباب لبضع لحظات عابرة وعينيه تجوب المكان من الداخل، فكل شيء كان موضوعًا هنا وهناك لم يعد موجودًا، شعر حسين بالخزي والأسى وهو يتقدم للداخل في ذاك الفراغ من حوله، ولا إراديًا عاد يتذكر ما مضى، وكيف شهد هذا المكان على المحبة المتبادلة مع زوجته، وأسِف على سنوات مضت في أوهامٍ وأكاذيب كان فيها المضحي والمعطي بلا حدود.
تحرك حسين ناحية غرفة النوم، فوجدها قفْر، فتلك الأيام جعلت الشقة كمكانِ هجره أصحابه، لم يتحمل حتى خرج للردهة الموحشة، وقف في المنتصف وندم على حُبٍ أوهى قلبه، وأعلن غيظه واستيائه تجاه زوجته ووصفها بالخائنة، وشعر بكُره مفاجئ نحوها، فهي تعلم كم بذل من مجهود وحارب ليتزوج بها في مكانٍ راقٍ كهذا، وفي النهاية تركته غدرًأ.
انتبه حسين لصاحب العمارة يلج الشقة وهو يصفق بكفيه، نظر له في بُهتان وتخرّص، في حين هتف الأخير في سماجة:
-أنا قولت أكيد إنت هنا علشان تسلمني مفتاح الشقة.
نظرات حسين أعربت عن تأففه من دخوله هكذا؛ خاصةً نظراته المباحة للشقة من جميع الزوايا، أنّب حسين نفسه فلا يوجد ما يخصه كي يتأزم لتلك الدرجة مما يفعله هذا الرجل، خاطبه في حنق:
-جهزت اللي قولتلك عليه.
هتف الرجل في حماس:
-خلو الرجل جاهز والعقد وكله تمام.
قام حسين بالتنازل عن الشقة وأنهى المطلوب منه، فهو قد كَرِه المكان برمته، وحين انتهى من كل شيء خرج من العمارة ليتحرك ناحية سيارته المصفوفة جانبًا، وهو يسير نحوها رن هاتفه، حين أجاب خاطبه المتصل في خوف:
-فينك يا حسين، فيه حد كان بيفتح عليا باب الشقة، باينله حرامي ولا القاتل
هرول حسين ليركب سيارته وقد ملأ الوجل طلعته وهو يأمرها:
-مسافة الطريق وأكون عندك وكلمي خالي.......!!
*****
وهو جالس بغرفة مكتبها بالفيلا، تأمل ما تفعله كابحًا امتعاضه مما تفعله باستمرار من أجل ابنتها الكبرى، ولكن ليس عليه أن يتدخل، فقط يشاهد في صمت.
انتبه فؤاد لها تمد يدها بمظروف مليء بالمال، لا يعرف عددهم، ولكنه منتفخ. نظر لها في هدوء ظاهري وهي تطلب منه بنبرة ودودة:
-وصّله الفلوس دي، واتأكد إنه استلمهم
لوى فمه قليلًا وهو يعلق:
-هيستلمهم، هو مبقاش زي الأول مش عايزك تصرفي على بنته، باين الحمل زاد عليه والمصاريف كترت
حدقت به لميس وقالت في جد:
-أهم حاجة عندي بنتي تتعلم كويس، ومتبقاش محرومة من حاجة، مش كفاية ممنوعة أشوفها بسبب أوامر بابا.
نهض فؤاد من مقعده وكأنه اعتاد ما تفعله هذا، فشرط زواجها منه ألا يتدخل بشأن ابنتها، ولأنه يريدها وافق على ذلك. حين جاء ليغادر أوقفته حين قالت في تشوق:
-لو عرف يخليني أشوفها حتى من بعيد، يا ريت!، بقالي كتير مش عارفة اتقابل معاها
أدرك وضعها بسبب تشدد عمه في ذلك الأمر، كونها ارتبطت بمن هو أقل منها سرًا، هز رأسه مطيعًا لطلبها ثم تحرك للخارج وسط نظراتها. تعقبت لميس خروجه وبداخلها بعض الراحة، في أنها ولو من بعيد تمنح ابنتها حياة مترفة إلى حدٍ ما.......!!
*****
ترجل من سيارته مفزوعًا مما يحدث لأسرته وبخاصةٍ والدته، حين تحرك ليلج العمارة قابلته ورد أمام الباب، اطمأن قليلًا وهو يسألها قلقًا:
-كنتِ عند ماما يا ورد؟!
أحست بمدى خوفه وتضايقت حين رأته هكذا، لذا طمأنته:
-بابا فوق ومافيش حاجة، كان عيل صغير بيلعب في الباب.
اغتبط حسين وهدأ باله ثم أخذ يتنفس في راحة، ابتسمت حين رأت مؤشرات وجهه الوسيمة تظهر، خاطبته في دراية:
-مش معقول حرامي هيروح يفتح باب الشقة في عِز النهار والسكان طالعين نازلين، دا يبقى حرامي أهبل
ضحك في خفوت فتبهج صدرها من رؤيته بحالة جيدة، فما يحدث معه يوجم قلبها. ثم ترددت في التحدث معه بشأن زوجته، لكن فضولها في معرفة ما يدور بداخله يحثها على ذلك، فسألته مترقبة:
-بابا قال إن خلاص موضوع مراتك انتهى على خير و..
قاطعها متأففًا:
-ورد متفتحيش السيرة دي، عاوز أنسى كل حاجة
تراقصت دقاتها من تبدل حاله هكذا، فما تدركه مدى الحب المتبادل مع زوجته، ثم سألته مستنكرة:
-معقول حُب تلت سنين هتنساه، دا إنت عملت المستحيل علشان تتجوزها.
ضربت على وتره الموجوع فحزن وهو يتذكر، رد في ألم:
-مافيش حاجة اسمها حُب، كله كان كدب، والنتيجة بعد شهرين جواز سابتني
خاطبته في لطف لتخفف عنه:
-إنت لسه صغير، إنت اللي اتسرعت واتجوزت بدري، وكانت نيتك خير ومفكرتش تضحك عليها زي شباب كتير...!!
من مسافة معقولة منهما على الجانب الآخر، جعلت منى السائق يقف جانبًا حين لمحتهما يتحدثان هكذا في ود غير مريح، ثم رمقتهما في غلول ظاهر، خاطبت والدتها الجالسة بالخلف معها:
-طول عمري بشك في البت دي، على طول كانت بتتلزق فيه، دلوقتي الجو فِضِي ليها، شوفي بتكلمه إزاي
ضيقت السيدة نادية عينيها لتدقق النظر إليهما، قالت في لا مبالاة:
-سيبك منهم، مبقاش يلزمنا في حاجة.
اغتاظت من برود والدتها تجاه الأمر، فهي تغلي من الداخل، وزادت والدتها من غضبها حين هتفت لاوية فمها:
-أم محمود جارتهم كانت بلغتني أن زبيدة هتجوزه بنت أخوها، تلاقيها تقصد ورد
التفتت لوالدتها لترمقها بنظرات مزعوجة وقالت:
-إزاي يا ماما تخبي عني حاجة زي دي!
نهرتها والدتها بصوت منفعل:
-ملناش دعوة، مالك وماله، ما خلصنا خلاص، إنتِ يا بت إنتِ مش مرتحالك، مش فضينا الموضوع
ارتبكت منى ولم تجد تعليل لحالة استيائها تلك، ثم صمتت مجبرة، فأمرت السيدة نادية السائق لتكملة الطريق والذهاب من هذا المكان، بينما التزمت منى الصمت وبداخلها عمدت اختلاق فضيحة مدوية لتلك ورد وسط جيرانهم هنا لتخرب هذه العلاقة قبل بدايتهـــا........!!
-إنت مجهزتش نفسك ولا أيه؟!
سألته ورد في قلق، حيث تناسى حسين أمر ذاك الأجنبي في ظل ما يحدث معه، لكن عليه أن يفعل كل ما هو في مصلحة أخيه، رد منتبهًا:
-نسيت إنه هيوصل النهارده، طيب فين رامي........؟!
*****
فتح المظروف أمام أخته وزوجته، فإذا به يحوي بضعة آلاف من الجنيهات، تطلعت السيدة زبيدة على المال في إعجاب وقالت:
-فيها الخير مش ناسية بنتها
جاء رد الحاج منصور عليها والذي لم ترتاح له وزجته:
-غصب عنها تبعد عنها، ما إنتِ عارفة اللي حصل.
تتابع السيدة هنية بقلبٍ مكسور ما يحدث، ورغمًا عنها تتذكر كيف تزوج عليها أخرى وهي معه لم تبخل في إعطائه جل ما يريد ويتمنى؛ لكنه فعلها إعجابًا بالأخيرة التي أغرته بمالها وحسبها. أحس الحاج منصور بها حين تأمل طلعتها المُطرقة، تفهم على الفور أنه جرحها قديمًا بزواجه، ولذلك ابتسم قائلًا في ودٍ وعينيه عليها:
-مهما عملت أمها، مش زي هنية اللي ربتها زي بناتها أحسن تربية وتعبت معاها
امتنت السيدة هنية له وردت على قوله ببسمة صغيرة، كذلك ربتت السيدة زبيدة على ظهرها كنوع من الإعجاب وقالت:
-محدش هينكر، ربنا ما يحرمكم من بعض.
ثم تحدثت بجدية بخصوص الأمر:
-هتحوشلها الفلوس زي كل مرة ولا هتعمل أيه؟
وضّح في عزيمة:
-ورد كبرت، بفكر أديها الفلوس وتصرف على مزاجها، دي فلوسها وحقها
-عين العقل يا أخويا، فعلًا مبقتش صغيرة ومحتاجة مصاريف وطلبات البنات بتزيد
أيّدته أخته بشدة، فقال متنهدًا:
-هو دا اللي هيحصل، أنا كمان عندي أخواتها على وش جواز وعلشان أجهزهم هيتقضم ضهري
-ربنا ما يحرمهم منك يا حاج
قالتها هنية في حنوٍ، فاستغلت السيدة زبيدة الموقف وتدخلت لتقول في حماس:
-وأنا شهد هحطها في عيني، بفكر تتجوز هنا في شقتي ومش محتاجين غير شنطة هدومها، وإن شاء الله حسين يشد حيله ويعوضها ويجبلها أحسن حاجة.
زادت سعادة السيدة هنية بحديث أخت زوجها فسوف تخفف الحمل عليهم بتلك الخطوة، فقالت في امتنان:
-وحسين مش هنلاقي أحسن منه لبنتي، كفاية بيعتمد على نفسه وراجل ابن راجل!
هتفت السيدة زبيدة حين بدا الأمر سهلًا:
-خلاص نجوزهم بقى، بصراحة عاوزة أخرجه من الكآبة اللي هو فيها وينسى اللي فات
وافق الحاج منصور على اقتراح أخته قائلًا:
-خلاص اللي تشوفيه يا زبيدة
تذكرت السيدة هنية أمر ابنتها حين تحدثت معها هذا الصباح بشأن الأمر، وإعلانها التفكير في ذلك ولم تبدي موافقة أو رفض، قررت عدم الإفصاح عن ذلك فهي لن تجد شخصًا مناسبًا كـ حُسين، وسوف توافق عاجلًا غير آجلٍ.........!!
*****
تسلّلت لخارج المشفى من الباب الخلفي في حذر، قاصدة مكان بعينه اتفقت عليه مع أحدهم، والذي ما أن رأته حتى تهادت في مشيتها، وعينيها المظلمة عليهما، وبسمة خبيثة تزين ثغرها. حين وقفت أمامهما خاطبتهما في غرور:
-جهزتوا الفلوس، خمسة تلاف جنيه
قالت المبلغ وكفها مرفوع في وجوههما، فنطقت الفتاة لتعترض بنبرة متعبة:
-ليه كده يا دكتورة شهد، خليكِ رحيمة شوية
نفخت شهد بقوة وقد ضجرت من التفاوض مرة أخرى، هتفت بصوتٍ عالٍ نسبيًا:
-إحنا لسه هنتكلم، مش اتفقنا وعملتلك العملية وكله عدى زي الفل.
نظرت الفتاة للشاب المرافق لها كي يتدخل، لكنه من شدة حساسية الأمر فضّل الصمت، فعادت شهد تخاطبهما في شدة:
-خلصوني ورايا شغل كتير، هاتي يلا!
مدت شهد يدها لتستلم المال، ولم تجد الفتاة بُدًا من النقاش معها، ثم أخرجت كل ما معها لتضعه في قبضة الأخيرة قائلة:
-هما تلاتة ونص كل اللي معايا
جاءت شهد لتعترض فأسرعت الفتاة تقول وهي تفك العقد من عنقها:
-خدي دا كمان، واللهِ مش معايا
ثم وضعته في يد شهد وهي تتابع في استذلال:
-دا فضة واللهِ وتمنه غالي
نظر الشاب للعقد الذي استغنت عنه فهو هدية منه لها، وعاتبها:
-هتديها هديتي؟!
ردت عليه الفتاة في توغر صدر:
-أومال أجيب منين، ما تدفع إنت، مش اللي نزلته دا يبقى منك!
تابعت شهد ما يحدث بينهما في اهتمام، وانتبهت لمشادة سوف تقع هنا، وربما افتضاح ما فعلته، واعتزمت الاستغناء عن بعض من حقها وقالت:
-خلاص اسكتوا، مشفهومش وهما بيسرقوا، شافوهم وهما بيتحاسبوا
ثم أعادت العقد للفتاة وهي تردف مستهزئة:
-خدي ياختي، والمرة الجاية حافظي على نفسك.
ثم تحركت لتتركهما خلفها وهي تعد المبلغ في سعادة ولسانها يردد:
-كده الواحد يجيب اللي نفسه فيه.........!!
*****
صف السيارة جانبًا حين وصلوا للمطار، تأمل رامي السيارة في تأفف داخلي فمستواها بسيط، كيف لهم أن يأتوا بضيف أجنبي ذو وضع جيد بتلك السيارة القبيحة، لم يعلق فليكفي أن أخيه قد وافق على اصطحابه لبيتهم، بينما تعالت ضربات قلب ورد من فرط حماسها في التعامل مع شخص أجنبي ورؤيته عن قرب، ثم شددت من إمساك تلك اللوحة المدون عليها اسمه للتعرّف عليه.
حين تأهب حسين للتحرك ناحية صالة الوصول، هتف مستنكرًا:
-المفروض دا واحد أجنبي جاي مصر، ما ينزل في فندق ولا أي شقة مفروشة.
خشي رامي تراجع أخيه عن وعده قائلًا:
-أيه يا حسين، إنت جاي تقول كده دلوقت مش اتفقنا
عقد جبينه معللًا حديثه:
-أنا عند كلمتي، بس غريبة يعني يجي عندنا بالذات
تدخلت ورد موضحة:
-دا جاي مخصوص لـ رامي، وعلشان ميعرفش حد في مصر هيقعد معاه
اقتنع حسين بعض الشيء ثم سار ثلاثتهم نحو صالة الوصول. وقفت الثلاثة في استقباله و ورد ترفع اللوحة مبتهجة وابتسامتها تصل لأذنيها، الأمر الذي جعل حسين يستنكر تلك الفرحة العارمة على وجهها، فخاطبها متهكمًا:
-كل الفرحة دي علشان سيادته
جاوبته ورد بطلعة متهللة تكاد تقفز مكانها:
-أجنبي يا حسين، بذمتك مش مبسوط وحاسس بفخر
لوى فمه ولم يعلق فلم يشغله الأمر بقدر انشغاله بردة فعل والدته حين يدخل عليها برجل غريب، والمؤكد مكوثه معهم بذات المنزل.
بعد لحظات قليلة انتبهوا لمن يلوح لهم من بعيد، للحظة الأولى لم يتخيلوا أنه هو؛ لكن حين نطق بالعربية تأكدوا:
-سيد رامي!
حدق رامي بالرجل الذي يناديه في ذهول، كذلك ورد التي فغرت فاهها من شدة المفاجئة، على النقيض حسين الذي لم يهتم ولوّح له كنوع من الترحيب، ثم انتبه لأخيه بوضعه ذاك، وكذلك نظرات ورد ناحيته وجدها مباحة، كيف لها أن تدقق النظر لرجل أجنبي عنها، خاطبها في حزم أربكها:
-شيلي عينك من عليه بدل ما أسوّد عيشتك.....