رواية ابتليت بها الفصل الثاني 2 بقلم قطر الندي

 

رواية ابتليت بها الفصل الثاني بقلم قطر الندي



في قلب إحدى ضواحي إسطنبول الراقية يقبع قصر ال طوروس، يختبيء خلف أسواره العالية وكأنه يحرس أسراره العميقة.
 حدائقه الفسيحة تمتد بنعومة تحت الشمس الصباحية، فيما ينتشر الحراس بهدوء مدروس حول المداخل والممرات.، حيث تمتد الطرق الحجرية بين التلال المكسوة بغابات السرو والصنوبر.

من بعيد، بدا القصر كقطعة فنية من زمن آخر، بجدرانه العالية ذات اللون الرملي الفاتح، ونوافذه المقوسة الضخمة التي تعكس
ضوء الشمس الذهبي على صفحة البوسفور المتلألئة.

تحيط به حدائق شاسعة مرتبة على الطراز العثماني الحديث: 
أشجار زيتون معمرة، ورود نادرة بألوان خافتة، ونوافير ماء رخامية تتدفق بهدوء، تملأ المكان بنسيم عليل معطر برائحة الزهور والبحر.

 تحفةً معمارية قائمة وسط طبيعة خضراء ممتدة بلا نهاية.

واجهة القصر مصنوعة من الحجر الفاتح المائل إلى الذهبي، يتلألأ تحت أشعة الشمس وكأنه مغطى بطبقة ناعمة من الضوء.

شرفاته الواسعة مزينة بدرابزينات من الحديد الأسود، تتدلى منها سلال الزهور بألوان زاهية، 
بينما ترتفع النوافذ الطويلة ذات الإطارات الخشبية المحفورة يدويًا، في تناسق فخم بين العراقة والرقة.

الحرس كانوا جزءًا لا يتجزأ من هيبة القصر يرتدون بزّات رسمية أنيقة بلون داكن، تكاد تخفيهم بين ظلال الأشجار. 
يحمل كل واحد منهم سماعة أذن صغيرة ويتواصلون بإشارات دقيقة تكاد لا تُرى.
 يقفون في أماكن مدروسة بعناية، عند البوابة، على امتداد الممرات، وأمام الأبواب الرئيسية، يتغيرون بنظام دقيق حتى لا تتوقف الحراسة للحظة. 

رغم وقوفهم الساكن، 
كانت أعينهم اليقظة تمسح المكان باستمرار، دون أن يثيروا ضجيجًا 
أو يتدخلوا في المشهد الطبيعي الراقي. 

وكان بعضهم يمتطي عربات كهربائية صغيرة، يمرون بين حدائق القصر وممراته الخلفية بهدوء، 
لضمان حماية تامة دون أن يشعر الضيوف أو أهل البيت بأي توتر.

في قلب القصر، خلف الأروقة الطويلة ذات الأعمدة المزخرفة، تمتد حدائق داخلية ساحرة أشبه بقطعة من الجنة. 
ممرات من الرخام الأبيض تتشابك بينها، تحيط بها أحواض من الزهور النادرة التي تتفتح بألوان متناسقة وكأنها رُتبت بريشة فنان.
 نوافير صغيرة تتوسط المساحات الخضراء، مياهها تنساب بصوت رخيم، بينما تتوزع المقاعد الرخامية هنا وهناك تحت ظلال

 أشجار الزيتون والليمون القديمة.

في زوايا الحديقة، تتسلق نباتات الياسمين والجهنمية على الجدران الحجرية، ناشرة عبيرها في كل زاوية من المكان.

كل تفصيلة هنا تهدف إلى خلق شعور بالسكينة المطلقة، وكأن الزمن يتوقف عندما تمشي وسط هذه المساحات الخضراء العطرة.

عند المساء، كانت المصابيح البرونزية الصغيرة بين الأشجار تشتعل بنور خافت ذهبي، يحول الحديقة إلى لوحة رومانسية من الضوء والظل.

في إحدى الزوايا الهادئة بالقصر، خلف مكتبة ضخمة تلامس السقف، مملوءة بكتب جلدية فاخرة بروائح الورق القديم والمخطوطات النادرة، كانت هناك آلية سرية لا يعرفها سوى القليل. 
بضغطة خفية على كتاب محدد — كتاب بعنوان "فنّ الحرب" لسان تزو — تدور المكتبة ببطء على محور صامت، كاشفة عن ممر ضيق مضاء بإضاءة خافتة من مصابيح جدارية صغيرة بلون الذهب العتيق. 

الممر يؤدي إلى جناح مخفي بالكامل داخل جدران القصر، مصمم لعقد الاجتماعات الحساسة التي لا تترك سجلات. 
عند دخول هذا الجناح، تُقابل أولاً بقاعة استقبال صغيرة
: جدرانها مبطنة بألواح خشبية داكنة مع حفر يدوي دقيق. الأرائك مصنوعة من الجلد الأسود الفاخر، وأرضيتها مغطاة بسجادة فارسية ذات نقوش معقدة يغلب عليها اللون الأحمر القاتم.

 في الوسط، طاولة مستديرة من خشب الجوز الفخم، محفور في وسطها شعار قديم للعائلة،
 يتوسطه رسم لصقر ممدد الجناحين.
في الجدار المقابل، شاشة مدمجة بذكاء خلف لوحة فنية كلاسيكية يمكن رفعها بلمسة زر، لعرض
 خطط العمل والاجتماعات الافتراضية.

نظام الصوت محيطي مخفي، والإضاءة قابلة للتغيير حسب الحاجة: خافتة أثناء النقاشات السرية، 
ومباشرة أثناء التفاوض أو التحليل.
وفي الزاوية الخلفية، كان هناك باب فولاذي يفتح إلى غرفة مصغرة تحتوي على خزائن سرية لحفظ الملفات، وأجهزة تواصل آمنة، وطاولة تحليل بيانات إلكترونية متطورة لا تستخدم سوى من قبل صاحب المكان نفسه
.
رائحة خفيفة من أخشاب الأرز والعود تعبق في الجو، مما يضفي إحساسًا بالثبات والقوة.

هذا الجناح كان قلب القوة الحقيقية...

 حيث تُرسم الخطط، وتُدار التحركات الكبرى، وتُقرر مصائر شركات وأشخاص في جلسات سرية لا يعلم عنها أحد، هذا القصر ليس مجرد مسكن...

بل حصنًا سريًا، قاعدة عمليات هادئة لإدارة إمبراطورية المال والنفوذ التي لا تعرفها إلا نخبة قليلة من العالم.

🏘️🏘️🏘️
داخل القصر، 
كأن الفخامة تهمس لا تصرخ:
رخام أبيض نقيّ يغطي الأرضيات، أعمدة طويلة بلون العاج تحمل سقوفًا مرسومة يدوياً بزخارف ذهبية ناعمة.
 ديكور أخاذ عبارة عن مزيج متناغم من الطراز العثماني العتيق والتصميم العصري الغامض، تمامًا مثل شخصية الشاب الذي يقطنه. تحفة معمارية، بل عالمًا قائمًا بذاته، مقسّم إلى أجنحة أنيقة أهمها جناحين رئيسيين خاصين بالتوأم متصلين عبر ممر قصير تحفّه لوحات زيتية قديمة وسجاد شرقي فاخر، كل جناح يحمل طابع ساكنه:
الجناح أول بطابع عصري غامض، يتنفس عبر أثاث داكن وخطوط معمارية صارمة.

غرفة واسعة بديكور يجمع بين الكلاسيكية العريقة واللمسات العصرية: سرير ضخم ذو ستائر شفافة، مغطى بشراشف من القطن الفاخر ولون داكن أنيق. جدران مزينة بقطع فنية مختارة بعناية، وأرفف تحمل كتبًا عن الفلسفة والفنون. 
نوافذ طويلة تطل على الحديقة الرئيسية، والستائر الثقيلة بلون الرماد الفضي تنسدل بنعومة. 
في ركن الغرفة، موقد صغير من الرخام الأبيض، وأمامه مقعد جلدي فاخر وطاولة قهوة تحمل أزهارًا مقطوفة حديثًا.

أما جناح شقيقه فهو أكثر بساطة ولكن لا يقل رفاهية عما سبق: أثاث بلون الخشب الطبيعي الفاتح، وستائر بيضاء خفيفة تملأ الغرفة بضوء الشمس.
 سرير متوسط الحجم، محاط بمكتبة صغيرة مكتظة بالكتب القديمة. 
على طاولة صغيرة بجانب السرير، دائمًا توجد فازة بها وردة واحدة، كأنها تذكير يومي بالبساطة والجمال.
🏘️🏘️🏘️

في ساعات الصباح الأولى من هذا اليوم، اجتمع مراد مع رجاله الموثوقين داخل تلك الغرفة.
 كان الشاب، ذو الشعر الفاحم والملامح الصارمة، يقف أمام خريطة معلقة على الجدار،

 ينظر بتركيز شديد، يجلس رجاله في صمت، ينتظرون أوامره.

بصوت منخفض وحازم قال:
"تحركاتنا القادمة تتطلب يقظة تامة... لا مجال للخطأ. القصر، العائلة، 
وكل ما نملكه... خطوط حمراء."
كانت الأوامر واضحة، لا تحتمل نقاشًا.
 وبعد دقائق من التخطيط الدقيق، انفض الاجتماع، وعاد إلى السطح الهادئ للقصر وكأن شيئًا لم يكن.
💫💫💫

مع أول خيوط الصباح المتسللة بخجل عبر الستائر الثقيلة، 
وقف أمام مرآة كبيرة بإطار أسود أنيق، عاكسًا صورته بكل تفاصيلها الدقيقة.
الإضاءة الخافتة كانت تترك ظلالاً خفيفة على ملامحه، 
فتزيد من حدة نظراته وجاذبيته الغامضة. يرتدي بنطالاً داكنًا مفصّلًا بعناية على مقاسه، قماشه الفاخر يلمع بخفة تحت الضوء.

اختار قميصًا أبيض ناصعًا، فتح أول زرّين عند الياقة ليمنح مظهره لمسة غير رسمية لكنها مدروسة تمامًا. 
حزام جلدي أسود يزين خصره، يتناسق مع ساعته الرفيعة ذات السوار الجلدي الداكن.
 أخذ لحظة قصيرة يرتب أساور جلديّة بسيطة على معصمه الأيمن، ثم اختار عطره الخاص، زجاجة صغيرة من الكريستال الغامق، 
رش منه لمسة واحدة فقط خلف أذنه وعلى معصميه، فانتشر عبير العود والعنبر في أرجاء الجناح. 
مرر يده في شعره الفاحم لتصفيفه بخفة دون أن يفسد عفويته المدروسة، ثم التقط نظارته الشمسية ذات الإطار الأسود الرفيع
 ووضعها في جيب سترته السوداء.
على الطاولة القريبة، كانت مفاتيح سيارته تنتظر، موضوعة فوق دفتر ملاحظات جلدي وقلم معدني فاخر.
 بخطوات ثابتة وهادئة، اتجه نحو الباب، يمرر نظرة أخيرة إلى الغرفة التي غلفها ضوء الصباح الخافت، وكأنه يحمل معه شيئًا من صمتها وأناقتها.
 ومع فتحه للباب، لفه نسيم بارد من الحدائق الداخلية، فابتسم ابتسامة صغيرة بالكاد تُرى، ثم غادر، وكأن حضوره قد ترك أثراً لا يمحى في الهواء.
💫💫💫

في الطابق الأرضي، كان الخدم الأنيقون قد أعدوا مائدة طعام الفطور بدقة لا متناهية. 
يرتدون بزات رسمية بألوان محايدة، مع قفازات قطنية بيضاء ناصعة. 
كل حركة كانت مدروسة وهادئة، خالية من أي صوت مزعج، وكأنهم يتحركون على إيقاع موسيقى صامتة.

عند اقتراب العائلة الصغيرة، قام أحد الخدم بلطف بسحب الكراسي لهم، بينما انحنى آخر بابتسامة خفيفة وهو يقدم قوائم صغيرة أنيقة تحوي وصفًا مختصرًا لأصناف الفطور.

أما بقية الخدم فوقفوا على مسافة محترمة، جاهزين لتعبئة أكواب القهوة أو تبديل الأطباق إذا احتاج الأمر، ولكن دون تدخل أو إزعاج.

كل شيء كان يوحي بالاهتمام بالتفاصيل: من تنسيق الزهور على الطاولة، عطر خفيف يفوح في الجو، إلى الموسيقى الكلاسيكية الناعمة التي تعزف بخفوت في الخلفية.

جلس الشقيقان إلى الطاولة، ترافقهما الطفلة الصغيرة لوجي (لجين ) بعمرها الذي لا يتجاوز السبعة أشهر، كانت تتقافز بعينيها بين الألوان والنكهات حولها، تصدر بين الحين والآخر ضحكات صغيرة تملأ الجو دفئًا، تجلس بين الشقيقين، في مقعد خاص أنيق مزخرف يليق بأميرة صغيرة، ترتدي فستانًا ناعمًا بلون العاج، مُطرزًا بورود صغيرة بالكاد تُرى، وشعرها الحريري الداكن ينسدل بخفّة فوق جبهتها المستديرة.عيناها الواسعتان، بلون البحر الصافي، كانت تتنقلان بين الوجوه حولها بفضول لا يخلو من ذكاء طفولي، تارة تضحك وتارة أخرى تراقب بهدوء.

كان مراد، بين الحين والآخر، يمد إصبعه بلطف نحو يدها الصغيرة، فتقبض عليه بضحكة بريئة تذيب قلوب الحاضرين.
أما والدها، فكان يكتفي بنظرة دافئة نحوها مليئة بالحنان يشوبه بعض الحسرة و الحزن ليتمها منذ الولادة، وأحيانًا يمرر يده بخفة على رأسها، فتغمض عينيها لحظة وكأنها تذوب في حنانه.
ضحكاتها كانت تتناغم مع أصوات العصافير، وتملأ الأجواء الفخمة بروح عفوية جميلة، تكسر قليلاً رصانة المشهد دون أن تفقده هيبته. 
كان الجميع، حتى الخدم، يتعاملون معها برقة ظاهرة، وكأنها الجوهرة الأثمن في هذا الصباح الراقي.

مراد (بنبرة هادئة ومتفحصة):"سمعت أنك تخطط للسفر إلى البيت الريفي... وحدك؟"
فؤاد(بابتسامة خفيفة وعينين وديعتين):
"نعم... أشعر أنني بحاجة لبعض الوقت بعيدًا عن كل هذا الصخب، سأستغل عطلة منتصف السنة. الطبيعة هناك تهدئني."
مراد (مستندًا إلى ظهر كرسيه، ينظر إليه بنظرة أخوية عميقة):"تعلم أن القصر هنا آمن، وأن وجودك مهم... خصوصًا هذه الأيام."
(يتوقف قليلاً، ثم يضيف بصوت أقل حدة)
"ولكن، لا يمكنني أن ألومك... كلانا يحتاج أحيانًا لأن يبتعد قليلاً عن العالم."
فؤاد (بصوت رقيق، يمزج بين الامتنان والإصرار): "لن أبتعد كثيرًا، شهر واحد فقط. سأكون على تواصل دائم معك. أعدك، إذا احتجتني في أي لحظة... سأعود فورًا." 
مراد (يرتفع طرف فمه بابتسامة شبه غائبة، كأنه يعرف مدى عناد شقيقه): "بيت العائلة في الريف مكانك المفضل منذ الطفولة..كل زاوية فيه تحمل لك ذكرى."
فؤاد (يمرر يده على كوبه الدافيء بحنين):
"ذكريات نقية... قبل أن تثقلنا المسؤوليات."
مراد (ينهض واقفًا، يربت على كتف شقيقه بلطف أخوي قوي): "اذهب، واستعد قوتك، تخلص من حزنك قبل أن يسيطر عليك... لكن كن حذرًا، ولا تثق بأحد خارج الدائرة، اليوم لدي أمور عليّ إنهاؤها أولًا... لا تتردد في اللجوء إلي مهما حدث"
تبادل الشقيقان نظرة صامتة، لغة خاصة لا تحتاج إلى كلمات، قبل أن يفترقا... كل واحد منهما يحمل في قلبه مزيجًا من القلق والمحبة.
💫💫💫

بينما كانت الشمس قد ارتفعت قليلًا في السماء، مضفية لونًا ذهبيًا على جدران القصر الحجرية، تقدّم مراد عبر الرواق الهادئ نحو البوابة الأمامية. خطواته على أرضية الرخام كانت خفيفة لكنها واثقة، وكل حارس على جانبي الممر انتصب أكثر في مكانه عندما مرّ بهم، احترامًا وهيبةً دون أن ينبسوا بكلمة.
على مقربة من الدرجات الرخامية العريضة المؤدية إلى الساحة الأمامية، كانت سيارته تنتظره: رولز رويس بلاك بادج، سوداء لماعة كمرآة، تقف هناك مثل قطعة فنية باردة، تعكس الضوء والبريق كأنها صنعت خصيصًا له على مقدمتها، تمثال "روح النشوة" المعدني يلمع تحت أشعة الشمس، ينحني بخفة مع كل نسمة هواء رقيقة.
تقدم رئيس الحرس بخطوات مدروسة، فتح له الباب الخلفي للسيارة بانحناءة بسيطة، ولكن أشار بيده بخفة، مفضلاً أن يقود بنفسه.
مرر أصابعه على سطح السيارة الأملس وهو يدور حولها، ثم جلس خلف المقود الجلدي الناعم. مع صوت خافت لفتح المحرك، انبعث صوت طنين كهربائي ناعم، يعكس القوة الصامتة لهذه التحفة المتحركة.
ارتدى نظارته الشمسية، واستقر بظهره إلى المقعد الجلدي الفاخر، ثم ضغط على دواسة البنزين برفق. تحركت السيارة بانسيابية عبر الممر الطويل المحفوف بأشجار السرو، ووراءه، كان القصر يتضاءل شيئًا فشيئًا، وكأنه يبتعد عن عالم الأساطير ليدخل عالمًا آخر، لا يعرفه إلا هو. مر من خلال البوابة الحديدية العتيقة التي فُتحت له بهدوء، ولوّح له الحراس بوقفة انضباطية، دون كلمات، فقط نظرات حازمة مملوءة بالاحترام. مع آخر انعكاس للضوء على سطح السيارة الأسود، اختفى الشاب في طرقات الريف الهادئة، متجهًا نحو مغامرة جديدة لا يعلم تفاصيلها إلا هو.
بعد أن غادر شقيقه القصر، ساد القاعة لحظات قصيرة من السكون المريح، لا يقطعه سوى زقزقة العصافير، وخرير نافورة الماء في الحديقة الخارجية.

بقي فؤاد وحده مع الطفلة الصغيرة، التي بدأت تتململ في مقعدها وتمد يديها نحوه وكأنها تطلب أن يحملها بين ذراعيها. ابتسم ابتسامة عريضة نادرة، ثم نهض بخفة، حملها إلى صدره، واستقرّت على كتفه، تدفن وجهها الصغير في عنقه وكأنها وجدت عالمها كله هناك. خرج بها إلى الحديقة الهادئة، حيث الأشجار العالية والأزهار الفوّاحة، يسير بخطوات بطيئة على الممرات المبلطة بالحجر الطبيعي.
كانت الصغيرة تثرثر بكلمات غير مفهومة، تلوّح بيديها الصغيرتين لكل شيء تراه: فراشة تطير هنا، أو زهرة تتراقص مع النسيم.
كان يحملها والدها وكأنه يحمل كنزًا لا يقدّر بثمن؛ يد داعمة أسفل ظهرها الصغير، وعيناه تتنقلان بين وجهها وضوء الشمس الذي ينعكس على بشرتها الندية.
جلس أخيرًا على مقعد رخامي مظلل بشجرة ليمون مزهرة، وأسند الطفلة على ركبتيه. كانت تضحك له ضحكة خالصة، ضحكة لا يعرفها إلا من عايش الطفولة عن قرب.
ابتسم لها ابتسامة واسعة، ثم قال بصوت خافت، كما لو كان يعدها بوعدٍ سري:
"ستكبرين هنا، بين هذه الأشجار والطيور، وستعرفين يومًا أن هذا المكان... كان لكِ منذ البداية."
💫💫💫

قاد مراد سيارته الفاخرة عبر الطرقات الريفية المظللة بالأشجار، بسرعة ثابتة توحي بالسيطرة التامة، بينما ظلّت نظارته السوداء تخفي نظرته المركزة. لم يكن طريقه عشوائيًا؛ كان متجهًا نحو وجهة محددة بعناية، بعيدة عن الأعين المتطفلة. بعد مسافة ليست بالقصيرة، انعطف إلى طريق خاص تحفّه الأسوار العالية وأشجار البلوط الكثيفة، حتى وصل إلى بوابة حديدية سوداء لا تحمل أي لافتة أو علامة تدل على ما خلفها.
توقفت السيارة للحظات أمام البوابة، وبمجرد اقترابه، التقطت الكاميرات المخفية لوحات السيارة، وبتقنية عالية، فتحت الأبواب ببطء شديد كأنها تزن هوية الداخل بميزان الدقة.
دخل إلى ساحة داخلية فسيحة، مغطاة بالحجر الرمادي، تتوسطها نافورة رخامية بسيطة ولكن أنيقة، فيما وقفت سيارات أخرى فاخرة مصطفة بطريقة منظمة، تدل على حضور شخصيات لا تقل أهمية. ترجل من سيارته بهدوء، أزال نظارته الشمسية، وكشف عن عينين لونهما مزيج بين الرمادي والبحري، نظرة صارمة تخفي خلفها ألف سرّ.
في استقباله، تقدم رجل وقور يرتدي بدلة سوداء، انحنى قليلاً، ثم قال بصوت منخفض:
"لقد وصل الجميع... ينتظرونك في الداخل."
أومأ برأسه دون أن يتكلم، ثم سار بخطوات واثقة نحو مبنى صغير خلف الساحة.
كان المكان أشبه بمجلس مغلق، بلا شعارات، بلا أضواء زائدة، تحيطه السرية من كل جانب.
في الداخل، كانت هناك طاولة طويلة من الخشب الداكن، يجلس حولها رجال بملامح حادة وعيون يقظة. عندما ولج إلى الداخل، التفتت كل الأنظار نحوه، ليس من باب الفضول، بل لعلمهم أنه أحد العقول المدبرة لهذا اللقاء الهام.

جلس في مقعده المخصص، وضع مفاتيحه بهدوء على الطاولة، ثم قال بصوت خافت ولكن حاسم:"فلنبدأ."
وبدأت الجلسة...جلسة ستحسم ربما، أمورًا تتجاوز المال والسلطة، وتمس مستقبلًا لا يعلم تفاصيله إلا القلة المختارة.
تقدم أحد الرجال الجالسين، رجل خمسيني بوجه صارم وملامح لا تعرف المزاح، وضع أمامهم ملفًا أسود فاخرًا، فتحه بحركة مدروسة، ثم قال بنبرة مهنية:
"الهدف: شركة "أوريون غلوبال"، عملاق التكنولوجيا الناشئ. نموهم السريع أصبح يشكل تهديدًا غير مباشر لاستثماراتنا في القطاع. الوقت الآن مثالي للسيطرة."
مرر الشاب نظرة حادة فوق المستندات، تفحص الأرقام بعينيه الخبيرتين، التقط أدق التفاصيل دون الحاجة لكلمات كثيرة.
بإشارة صغيرة من يده، بدأ عرض على شاشة أنيقة خلفهم، يُظهر الرسوم البيانية، نسب النمو، ومكامن الضعف في الشركة المستهدفة.

تابع الرجل الخمسيني:
"الخطة تقضي بالاستحواذ عبر سلسلة شركات وسيطة، لن يظهر اسمنا في العلن، وستبدو العملية وكأنها اندماج طبيعي للسوق."
الشاب الوسيم لم يُظهر أي رد فعل، لكنه كان يحلل بعقله كل كلمة تقال، يزن كل خيار، كل فرصة، وكل تهديد محتمل.
أخيرًا، وبعد دقائق من التقييم الصامت، قال بنبرته الهادئة ولكن القاطعة:
"نحن لا نشتري شركة فقط... نحن نعيد تشكيل السوق بأكمله."
ساد القاعة صمت ثقيل، كأن كلماته كانت أوامر لا تُرد.
ثم أضاف، وهو يرفع عينيه الرماديتين نحو الجميع:
"ابدأوا التنفيذ. خلال شهر، أريد كل شيء منتهيًا. لا أخطاء. لا أثر."
هزّ الحاضرون رؤوسهم بالموافقة، وبدأ كل واحد يدون ملاحظاته بسرعة.
بينما مراد، بهدوئه المخيف، استعاد نظارته الشمسية، ارتداها بحركة بسيطة، ثم وقف واستدار مغادرًا القاعة، وكأن قراره كان سهمًا انطلق ولا رجعة فيه. يعلم أن هذه الصفقة، إذا تمت كما خطط، ستجعله أحد أقوى الرجال في عالم المال... دون أن يظهر اسمه في أي عنوان.

غادر مبنى الاجتماع وهو يشعر بالرضا عن سير الخطة، كل شيء كان محسوبًا بدقة: الشركات الوسيطة، التوقيت، فرق التفاوض السرية... كل تفصيلة وضعت كي لا يتركوا خلفهم أثراً.
لكنه لم يكن يعلم أن شخصًا آخر، من خلف الكواليس، كان يراقب كل حركة بعيون حاقدة.

في مبنى آخر بعيد عن أنظار الجميع، كانت شاشة ضخمة تعرض صورًا بالأقمار الصناعية ورسائل مشفرة يتم اعتراضها بصمت.
رجل آخر، بملامح قاسية وندبة قديمة تزين وجهه، جلس أمام الطاولة وهو يبتسم ابتسامة باردة، هذا الرجل كان يعرفه جيدًا... بل أحد اشرس أعدائه، الذين اختفوا ظاهريًا عن الساحة قبل سنوات، لكنهم ظلوا يتحينون الفرصة المناسبة للعودة.
أمر مساعديه بجمع كل المعلومات عن الصفقة، وقال بلهجة حاسمة:
"لن أدع له أن يستولي على أوريون. ليس قبل أن يدفع الثمن."

💫💫💫

لم تمضِ ساعات حتى بدأت استعدادات فؤاد للسفر. في الباحة المظللة بالقصر، كانت السيارة السوداء تلمع تحت أشعة الشمس.
وقف "سامح"، مساعدهم الوفي، يضع الحقائب بعناية في الصندوق الخلفي. 
قال بابتسامة بالكاد تُرى:"كل شيء جاهز، سيدي... مستلزمات الصغيرة أيضًا."
حمل فؤاد طفلته الصغيرة، وقبل جبينها بحنان، ثم صعدا إلى السيارة، ترافقهما نسمات الصباح العليلة.
انطلقت السيارة عبر الطرق الهادئة خارج إسطنبول، متجهة نحو الريف.
الطريق كان معطرًا بروائح الأرض الرطبة وأزهار الربيع البرية. كلما ابتعدوا عن صخب المدينة، كلما شعر بأن صدره ينشرح قليلًا.
وبعد ساعات من القيادة، وصلوا إلى بيتهم الريفي المنعزل، بيت حجري بسيط محاط بحديقة صغيرة ونوافذ تطل على حقول الزيتون الممتدة بلا نهاية.
نزل فؤاد من السيارة، حمل طفلته الصغيرة فوق صدره، وقال بصوت هامس:
"أهلاً بكِ في عالمنا الجديد، صغيرتي."
فتح سامح الباب الخشبي العتيق، ودخلوا جميعًا إلى الداخل حيث رائحة خشب المدفأة وأثاث بسيط دافئ يوحي بالسكينة.
جلست الطفلة بين ذراعي والدها أمام المدفأة المشتعلة، تغفو شيئًا فشيئًا، فيما كان يراقب لهب النار، كأنما يعدها بحياة مليئة بالهدوء بعيدًا عن صخب هذا العالم الموحش.


شكرا لزيارتكم عالم روايات سكيرهوم
تعليقات



×