رواية اشتد قيد الهوي الفصل الثانى 2 بقلم دهب عطية


 رواية اشتد قيد الهوي الفصل الثانى بقلم دهب عطية


"تعالي......."

لم تعارض دعوة أبيها بعد ان فتح ذراعيه لها
اقتربت والدموع تنهمر بلا توقف من عينيها
وبعد ان دست نفسها في احضانه انخرطت في بكاءٍ مرير وهي تقول بصوتٍ يكاد يمزق نياط القلب.....

"بابا انا خايفه...انا حاسه اني بموت بالبطيئ
حاسه انه هيبعت حد يقتلني في اي وقت
انا مبقتش بعرف أنام....غير بالمنوم...انا
بقيت خايفه اطلع من البيت...وخايفه
أفضل فيه......

"قولي اعمل إيه بس متقوليش سفري عشان
برضو لو سفرت هيقتلني.....هيجي ورايا
ويقتلني...وساعتها هموت بعيد عنك..."

مسد على شعرها برفق يطمئن قلبها بينما
قلبه يحيا على جمار الخوف مع كل دقيقة
تمر عليهما دون فعل شيء.....

"أهدي.....أهدي ياحبيبتي بكرة القضية تتقفل
ويتأكد انك ملكيش دخل بكل اللي حصل.."

همس لها بحنو.... "كفاية.....كفاية يانـغـم......"

لم تتوقف عن البكاء ظلت تبكي وهي تتمنى ان ينضب الدمع ومعه كل شعور سيء 
داخلها.....

ليتنا قادرين على افراغ اوجاعنا ومخاوفنا
كالدموع الهاربة من سجنها المشدد 

ثمة مشاعر يصعب التعبير عنها بالبكاء فهي کالـغصة نشبت في القلب !.....

..........................................................
وقفت في مكانًا كالممر الممتد أمامها يغطى بالظلام ، موحش بالصمت المهيب...

هذا الصمت الذي من بعده يحدث ما يشيب له
الشعر وتتجمد معه اطرافك قبل قلبك....

رأت بصيص أمل في آخر الممر فسارعت الخطى تلحق بالمجهول وساقيها تسابق
الريح وكأنها تود الطيران كـعصفور حُر
لربما تحررت من هذا الظلام المرعب
للأبد.... وانقشع عن قلبها كل شعورٍ
مؤلمًا يحيط به.... 

وصلت اخيرًا لنهاية الممر فلانت البسمة على
ثغرها بعد شعورها بالتحرر من براثن كوابيسها المظلمة لتبدأ الأمطار بعدها تهطل بغزارة فوق رأسها نظرت لقطرات الماء ضاحكة بسعادة ثم مدت يداها بحركة عفوية تتامل كل قطرةٍ 
عند السقوط في كفها....

حتى رأت ما جعل البسمة تغيب عن محياها
وتعلو الصدمة وجهها بذعر يشاركه رماديتيها
المصعوقتين في النظر الى القطرات في
كفها....فما كانت قطرات مطر عادية.....بل 
كانت قطرات دماء تذكرها بذنب لم تقترفه لكن قدر عليها تحمله الى مالا نهاية !!.....

اطلقت صرخة استغاثة وهي تنزع نفسها
نزعًا من كابوس أراد احتجازها داخله لفترة
اطول لعله يزيد شقاءها وكرهها لنفسها
أكثر من الان.....

"انا آسفة مكنتش أقصد....."

استوت نـغم جالسة على الفراش وبدأت 
تاخد انفاسها المسلوبة بصوتٍ عالٍ وهي
تضع يدها على صدرها وكأنها عادت من
الموت فـعلمت قيمة الهواء في عالم
الاحياء.....

خفقات قلبها تكاد تمزق اضلعها من شدة قوتها عينيها حمراوان غارقة بالدموع ويعلو جبهتها قطرات باردة......وجسدها كله ينتفض متألمًا
بفزع....

سحبتها صديقتها الى احضانها مكرره عبارتها
بحنو يشوبه القلق والحالة التي وصلت إليها..

"انا آسفة مكنتش أقصد....."

"قولت نقطتين مايه يمكن يصحوكي
بقالي ساعة بحاول اصحيكي.....حقك عليا
يانـغـم...."

الان استوعب كلمات صديقتها المطر....

قطرات الماء التي القتها على وجهها امتزجت
مع كابوسها المظلم وبدل الماء أصبحت قطرات دم تهطل كالمطر عليها !......

ضغطت على عينيها بقوة بألم لا يطاق...أصبح
كل شيءٍ صعب ويزداد صعوبة مع مرور الأيام

"انا كويسه ياچيدا.....كان كابوس...."

نزعت نفسها نزعًا من بين ذراعي صديقتها
التي مطت شفتيها بأسى تخبرها....
"لحد إمتى هتفضلي ساكته على وضعك ده
انتي بتموتي بالبطيئ يانـغـم...."

ثم استرسلت جيداء بقلق أكبر....

"واضح ان انكل كمال عنده حق...لازم
تسافري....."

قالت بصوتٍ ميت.....
"انا ممنوعه من السفر.......والقضية مفتوحه....ولسه مصيري متحددش..."

ارتفع حاجب جيداء بسخط....
"مصيرك إيه يابنتي....دا انتحار..."

بلعت نغم الغصة بألم مردده بعذاب نفس....
"انتحار....وانا كنت الدافع اللي وصله لكده..."

تنهدت جيداء وهي تكرر حديث حاولت
مررًا وتكررًا رسخه بعقل صديقتها.....

"مع ان الله يرحمه وكل حاجة...بس بجد اسر
العزبي ده أكيد كان مريض نفسي...في واحد يقتل نفسه عشان اترفض؟! ....إزاي يعني...."

ثم اضافت بحيرة مريرة....

"لا ويكتب رسالة يتهمك بيها إنك انتي
اللي وصلتي لكده.....دا قلب حياتك....بجد 
يعني لا هو عايش ريحك ولا وهو ميت..."

"انتي فاكرة كان بيطردك إزاي في كل حته
هو الحب بالعافية...دا أكيد مش طبيعي وبعد
انتحاره والسبب اتاكدت فعلا انه مش
طبيعي...."

عادتا عينا جيداء الى صديقتها الشاردة 
بملامح باهته.....
"انا بتكلم مع نفسي هتفضلي ساكته ؟!.."

نظرت لها نغم برماديتان تصرخ بعذاب
الضمير.....
"انا حاسه بذنب ياچيدا.....مش قادرة أرتاح
ولا عارفه امارس حياتي بشكل طبيعي...
مش بس عشان القضية...الرسالة اللي
كتبها دبحتني...."

اسبلت نغم عينيها شاعرها بثقل يزداد على
صدرها كلما تحدثت عن الحادث المشئوم
الذي جعل من حياتها كابوس حي على
أرض الواقع......

"احيانا مش بلوم على شكري العزبي في
كرهه ليا.....وانتقامه اللي بيسعى ليه بعد موت ابنه...يمكن مقتلتهوش بايدي...بس انا اللي وصلته لكده....انا كنت علطول بقابل
حبه بالرفض وكل محاولاته....وكأني كنت
قاصده أوجعه..... أوجعه هو واي حد 
بيحاول يفرض عليا نفسه وحبه...." 

قالت صديقتها بماوساة.....
"انتي مش غلطانه يانـغـم....من حقك تختاري
اللي بتحبيه وطالما محستيش من ناحيته
بحاجة السنين دي كلها يبقا ليكي حق الرفض
بدل ما كنتي تكدبي عليه وتوهميه بحاجة
مش جواكي....."

قالت نغم بنبرة تقطر ندم.....
"يارتني كدبت ووهمته ووهمت نفسي باننا
ينفع نبقا مع بعض مش يمكن كان وسطنا
دلوقتي....."

هزت جيداء راسها بأسى...
"يارتني مش هترجع حاجة...اجمدي كده 
وأكيد الفترة دي هتعدي وهترجعي احسن
من الأول...."

"أتمنى....."قالتها وهي تبعد الغطاء عنها
مبتعدة عن الفراش.....

"هدخل أجهز نفسي عشان ننزل الشركة..."

سالتها جيداء من خلفها... 
"انكل كمال مش هيجي معانا...."

هزت نغم رأسها مجيبة قبل ان تغلق
باب الحمام عليها....
"انتي عارفه ان اخر مرة الدكتور حذره
من الجهد الزيادة.....فبقا بيشتغل من البيت
وانا موجودة لو فيه اي حاجة...."

اومات جيداء بتفهم تنوي الخروج
قائلة...
"أكيد..... المهم راحته.....هنزل استناكي
تحت متتأخريش....."

بعد فترة هبطت نغم على الدرج بثوب عملي أنيق يلتف حول قدها رافعه شعرها للأعلى 
وظللت عينيها الرمادية بنظارة سوداء تخفي
آثار الارهاق والشحوب عليها....

دلفت الى غرفة الطعام حيث يجلس والدها
على سفرة الإفطار وتشاركه الجلسة صديقتها جيداء صديقة عمرها بئر اسرارها ومساعدتها الخاصة كذلك في العمل.....

توقف والدها عن الحديث وهو ينظر إليه بحنان لا يخلو من الأسف.....

آسف بات يظلل نظراته إليها وكأنه يحمل نفسه الذنب !....

"صباح الخير يابابا...."

قالتها نغم وهي تقبل خده مستقيمة حينها
سالها (كمال)والدها باهتمام....
"صباح النور ياحبيبتي....نمتي كويس....."

تلاقت عينيها بصديقتها التي نظرت لها بعطف
فاجابت نغم مبتسمة....
"أكيد....دا انا صاحيه بالعافية....."

قال والدها برفق....
"طب ليه خدي اجازة من الشغل وارتاحي
شوية...."

رفضت نغم بملامح متجهمة.....

"ولما انا وانت نقعد من الشغل مين هيديروا
انا كويسه يابابا....صدقني الشغل هو الحاجة
الوحيدة اللي بتهون عليا...."

"زي ما تحبي...قعدي افطري...."زفر باقتضاب
وهو يدعوها لتناول الطعام....

امتنعت وهي تنظر لصديقتها....
"مليش نفس انت عارف اني بحب افطر متأخر.....يلا ياچيدا....."

نهضت جيداء تحمل حقيبتها وهي تقول
بانصياع.....
"يلا بينا.....هستناكي في العربية...."

"عايز حاجة يابابا....."

سالته نغم ببسمة حنونة تبث اليه طمأنينة
يفتقدها قلبها....

ربت على كفها الموضوع على كتفه قائلا
بعطف.....
"خدي بالك من نفسك....قريب اوي هيجي
طاقم حراسه غير اللي مشيوا..."

قالت نغم بنبرة حانقة....
"قصدك اللي باعونا للعزبي وكانوا ناويين يسلموني ليه.....انا مبقتش عايزة بودي جاردات...مبقتش عايزة حد ولا هثق في
حد تاني...."

انقعد حاجب والدها بانزعاج....
"مش معقول هتمشي من غير حراسه...بعد
كل اللي بيحصل حولينا ..."

رفضت بصوت واهٍ مرير....
"مبقتش عايزة حراسه خلاص استكفيت من
آخر مرة.....أرجوك أقفل الموضوع....زي ما 
ماما الله يرحمها كانت بتقول...لو مكتوب
لنا حاجة هنشوفها...."

ثم غامت عينيها وهي تقول بنبرة
مستسلمة.....
"وانا لو مكتوب لي حاجة ولا ألف حراسة
تمنع اللي هيحصلي....."

قال والدها بنبرة صلبة.....
"بلاش تسبقي الأحداث...انا هدور وان شاء الله الاقي حد ثقة صعب تغويه فلوس العزبي..."

التوى ثغر نغم بسخرية لاذعه معقبة
بـ......
"معتقدش ان في حد كده....خصوصًا ان العزبي عنده استعداد يدفع كل ثروته في سبيل انه يعيشني في الرعب....مع انه نجح...بس لسه عايز يتأكد أكتر...."

خرجت أمام عينا والدها تقرع الأرض الامعة بكعب حذائها العالٍ بخيلاء تحكي عن شابة 
تحولت للنقيض من حرية الى سجن مشدد

سجن مخاوفها وتراقبها للمخاطر القادمة...

وهكذا نجح(العزبي) في ان يصل الى مبتغاه فهو لا يسعى الى قتلها بل إرهابها 

إرهاب يوصلها الى الجنون فهذا يشفي
غليلة منها......  

وهو لن يتوقف حتى يصل بها للمرحلة الأخيرة
جنونها !.....
................................................................
مرر يده على مرآة الحمام المبللة ليرى قسمات
وجهه من خلالها وخصلات شعره التي تقطر ماء بغزارة جفف وجهه بالمنشفة الملتفه حول عنقه بحنق.... وعيناه لا تبرح الخدش الواضح على جبينه...

تافف وهو يلامسه بيده شاتمًا بندم من إنقاذ شابة وقحة متعالية كصاحبة العيون الرمادية..... 

حاول اخراجها من رأسه مع أنها تركت علامة
مؤقته فوق جبينه لحين لقاء آخر !...

غاص في التفكير بها مجددًا متذكر ملامحها 
عينيها الرمادية المذعورة بشرتها الشاحبة 
شفتيها المكتنزة المرتجفة الزرقاء !....

ان ملامحها في ذاكرته تترك لمحة من الرهبة
التي تتجسد من خلالها تلك الشابة المتعالية
الـمتفاخر بالاموال الـ....الجميلة لن ينكر هذا....

خرج من الحمام متجهٍ الى الغرفة كي يرتدي ملابسه ويستعد ليومٍ حافل بالعمل في
السوق.....وصياح على لقمة العيش.....

"اي يابوب.....هي القطة خربشتك ولا إيه..."

قالتها ندى وهي تلحق به تقفز بعفرته
(كفرقع لوز) لفرق الطول بينهما تحاول التدقيق بعينيها على هذا الخدش....

قال أيوب بازدراء....
"حد قالك اني بلعب مع القطط ؟!..."

سالته ندى بلؤم.... 
"أمال الخربوش ده إيه...."

قال أيوب بمواربة..
"معرفش صحيت لقيته كده اي أسئلة تانيه..."

قالت ندى بشقاوة....
"مالك بس يابوب....قافش ليه....هي البت
نهاد ظبطت المنبه على نغمة إيه المرادي...."

"اطلعي برا...."أشار على الباب بنظرة قاطعة..

سألته ببلاهة.... "دي نغمة جديدة ؟!...."

مسح على وجهه بنفاذ صبر.... 
"اطلعي برا ياندى.....عايز أغير...."

لم تتحرك ندى من مكانه ، مررت يدها
على عنقها بحرج قائلة....
"طب متزقش بقولك كنت عايزة ملمين
كده سلف....."

قطب جبينه بتساؤل....
"سلف ؟!..وهيرجع ولا زي كل مرة ؟!...."

قالت ندى بنبرة حالمة 
"هيرجع لما ربنا يكرمني وابيع لوحاتي...وانشر
فني العريق في افخم معارض اسكندرية..."

"يبقا مش هيرجع....."

توسعت عينا ندى بصدمة....
"الله إيه التشاؤم ده ياجدع انت مش واثق
في نجاحي ولا إيه...."

"نجاحك لنفسك....من امتى بدور على فلوس
بدهالك....."قالها وهو يخرج مبلغ من المحفظة
مقدمة لها....

"خدي وياريت تخفي شوية عليا عايز اجمع فلوس الجمعية اللي امك مدبساني
فيها...."

اخذت الاوراق وبدأت بالعد.....

"مش هتقول برضو مين القطة اللي
خربشتك...."

ادار وجهه إليها بملل يخرج ملابسه من الخزانة...
"لا إلهَ إلا الله....اتعركت ياندى..اتعركت ارتاحتي واديت واحد فيهم برسيه فتعورت...."

صوبت تركيزها عليه بدهشة....
"إيه تاني..... واتعركت عشان مين بقا...."

القى الملابس على الفراش قانطًا....

"مش عشان حد....بطلي اسئلة واخرجي يلا..."

قالها أيوب بملامح صارمة وقد سأم من 
التحقيق معه في أمر لا يعنيها....

خرجت الفتاة بشفاة ممطوطه بعدم رضا ثم 
اغلقت الباب خلفها.....

تنهد أيوب وهو ينزع سترة المنامة ويشرع 
في نزع البنطال لكن قبل ان يحدث انفتح
الباب وطلت منه أمه سريعًا تسأله بلوعة...

"اتعركت مع مين يا أيوب؟....."

انتشر الخبر بسرعة البرق....أسرع من ان 
يغير ملابسه بأخرى....لذلك الكتمان في هذا
البيت وسيلة للنجاة من زحام الأسئلة الغير
منتهية....

وقف أمامها بالبنطال والفانلة الحمالات البيضاء....هتف يطمئنها....

"مفيش حاجة ياصفصف اطمني....."

قالت صفية بلوعة وهي تدقق
النظر به عن كثب....
"بس أختك بتقول انك اتعركت....مين
وإيه اللي في وشك ده....عشان كده مصحتنيش بليل احطلك العشا...."

قال أيوب بمناورة....
"ياصفصف مفيش حاجة مـ...."

"متخبيش عليها يابوب....احكلها....دي
امك هي حد غريب عنك... "

انبثق هذا الصوت من خلفهما فنظر أيوب الى الباب غرفته المفتوح مشدوهًا ليرى التوأمان يميلا برؤوسهن على حافة الباب بينما اجسادهن اختفت خلفه كنوع من التخفي الغبي....

فما تبقى منهن الى الوجوه والعيون الفضولية عينين فضوليتان شيطانيتان....واخرى فضولها يشوبه القلق.....

بالطبع الفرق الواضح بينهن ان هناك من تعشق
اللهو والافعال الشيطانية واخرى أقل لهو أكثر
رزانة تحوي عينيها وشخصيتها الصرامة والتريث كـمهنة الطب التي التحقت بها
وفي المستقبل ستكون جزءًا منها....

"اخرسي يافتانه....اي لحقتي تاخدي
الكلام مني وتنشريه........"

قالها أيوب بتوعد صريح لها....بينما قالت
امه بغضب منه...

"يعني اختك مكدبتش اتعركت....اتعركت
مع مين... "

قالها بصدق..... "معرفش...."

سالته أمه بحيرة.... "إزاي يعني ؟!..."

قال وهو يهرب من عينا امه والتوأمان...
"يعني عركة متخصنيش.....اتصدرت لواحده 
كانت ممكن صورتها تتنشر في الحوادث الصبح....."

"لدرجادي....."ضربت امه على صدرها بهلع....

قال أيوب بنبرة حانية...
"اطمني ياصفصف والله عدت ونجدتها من بين ايديهم......"

قالت صفية والدموع تتجمع في عينيها متنقلة
بنظراتها بين عيناه وعنقه المصاب....

"ابعد عن الشر وغنيلوا يا أيوب مش كفاية اللي جرالك قبل كده....دا لسه الجرح معلم
في رقبتك....."

لامس الندبة الغائرة في جانب عنقه والتي
بقى أثرها رغم مرور سبع سنوات عليها.....

قال أيوب بمروءة لطالما كانت ومزالت
سبب شقاءه في الحياة.....

حياة تستثني مروءة الرجال وكأنها اصبحت
حدث نادرًا بيننا !.....

فـ نفسي ثم نفسي !.....

"سبيها على الله وبعدين اي حد مكاني كان هيعمل كده.....مكنش ينفع اشوفها بتسنجد
بين ايدهم واعمل اطرش واسيبها...."

أبتعدا شقيقتيه شاعرين بالحرج من متابعة
الحديث فأغلقوا الباب مكتفين بهذا القدر

بينما قالت والدته بحرقة قلب.....

"انت ليه عايز توجع قلبي عليك...مفيش
في مرة قولتلي حاضر...لازم تحطني قدام
اختيارين......شهامتك ولا حياتك...انا امك
وهختار حياتك يا أيوب.....انا مجاليش
حاجة من ورا شهامتك غير وجع القلب
وحرقة قلبي عليك في المستشفيات ولا
ناسي...."

أوغر صدره بالغضب قائلا....
"ليه بتجيبي السيرة دي....ماقولتلك مش عايزين نفتحها تاني....."

قالت والدته بحدة....
"عمايلك اللي بتخليني افتحها وافكرك بيها
بالله عليك يا أيوب سيبك من شغل السوق
ده..وروح اشتغل مع صالح الشافعي في
مصنع الملابس...."

رفض بصوتٍ متهدج آثار غضبه....
"مش هينفع انتي عارفه مصارفنا...والمرتب اللي هاخده منه اخر الشهر بكسبه في يومين من فرش السوق اللي مش عجبك ده...."

قالت والدته بقلب ملتاع...
"يابني انا راضيه باي حاجة تشتغلها طالما
بالحلال بس انا خايفه عليك...."

بتر الحوار من الجذور قائلا بأسلوب
مريح ووعد غير قادر على تنفيذة....

"اطمني يا امه.....انا كويس واوعدك مش هتكرر تاني....."

فمن القادر على قطع وعد  بعدم الوقوف امام عواصف الحياة وهو جزءًا منها !.....
..............................................................
صدح جرس الباب فوضعت الوشاح بعشوائية
فوق شعرها وهي تقترب منه بهمة على عكس
العادة وبلهفة فتحت الباب متوقعه رؤيته....

ورغم انها متوقعة رؤيته وهيئة قلبها للأمر
إلى ان الخفقات تعالت بجنون عندما تلاقت
أعينهما... انفاسها سلبت للحظة وتناست
كيف يكون سحب الهواء لرئتاها أمام 
رجلًا تهواه سرًا....

سرًا.....ان الهوى سرًا أصعب أنواع الكتمان
في الحب وياليتها ما فعلت لكنها فعلت
وانتهى الأمر..... 

اطالت النظر إليه لثوانٍ معدودة لكم يأسرها 
هيئته الفوضوية الاجرامية....جسده الفارع  النحيف بشرته السمراء وقسماتُ الرجولية 
الجذابة  شعره الأسود الاملس والذي يصل
الى آخر موخرة عنقه يشارك فوضى تشع
فسق....رغم انه يحاول ان يكون عكس 
ما يوحي شكله إليه......

لكنه يفشل فـتلك الهالة التي تشع منه تحكي
عن ماضية....بإختصار كان ماضي غير مشرف
من بداية مولده حتى الآن !....

اسبل عيناه عنها بحرج بعدما رأى نظراتها الجريئة المدققة به....جريئة (نهاد) لطالما أسرته بعيناها بشكلا صريح توصل رسائل
لا يود تصديقها....

فـكيف يادكتورة نهاد ان أكون أنا....كيف؟!...

"سلامة...."

لفظت اسمه فابتلع ريقه بحرج أكبر.....وهو الذي يلهو مع النساء أمامها يصبح تلميذًا 
مهذبًا خجولًا...

لو كان الموقف غير الموقف لضحك بملء شدقتيه....انهُ الفاسق وهي الطبيبة فكيف
بالله عليكِ عودي لرشدك.....

نظر لها اخيرًا فرأى عينيها لا تبتعدا عنه تلقفهما بثبات وهو يسألها....

"أيوب جوا ؟!....."

اومات براسها قائلة بمرح....
"أيوا مستنيك على الفطار...أدخل يلا..."

رفض وهو ينوي الرحيل....
"بس انا فطرت....انا هستنا تحت....."

منعت ابتعاده قائلة بجدية....
"بس هو قالي انه مستنيك وقالي ادخلك
لو بالغصب....."

رفع حاجبه بسخط....
"وازاي هتغصبيني يادكتورة ؟!...."

قالت بنبرة متزنة وبسمة تماثلها....
"ليا طرقتي بس محبش الجأ للغصب في
الحالة اللي زي دي...."

كلامًا مبطن وكأنها تتحداه قريبًا بالهزيمة أمامها وهو يتحداها بالمكابرة حتى النهاية....

دلف بعد ان سمع صوت أيوب يدعوه للدخول
عندما طال الوقوف أمام الباب رافضًا...

اتخذ سلامة مقعد من السفرة وجلس عليه
ممتنعًا عن تناول الطعام مع أيوب وأمه 
بينما اختفت ندى تكمل ارتداء ملابسه 

وظلت نهاد واقفة جانبًا منشغلة بالهاتف
في انتظار أختها للخروج الى الجامعة

قطع الصمت صفية بسؤال معاتب.....
"وعامل إيه ياسلامة...عاش من شافك..اش
حال شغال مع أيوب وبتروحوا وبيتجوا
سوا....."

(لازم نشوفوا صدفة....)

قالتها نهاد داخلها بتذمر  دون حتى ان ترفع عينيها عليه.....

قال سلامة مبررًا معتذرًا....
"الشغل ياخالتي ام أيوب بيهد حيلي...
معلش مقصر في السؤال...."

قالت الأم بتنهيدة تحمل الكثير....
"ربنا يقويكم يابني الشغل في الشارع
صعب....."

أسبل أيوب عيناه يبتلع اللقمة بصعوبة
بينما سأله سلامة بمناغشة....

"أول مرة تتأخر يابو الصحاب....مش عادتك.."

اجابه أيوب بنبرة عادية....
"صحيت متأخر.....كده كدا هنطلع الاول على مصنع الأبرار......أشوف صالح الشافعي
عايزني في إيه...ونشيك على البضاعة
اللي هناخدها منه...."

ثم نهض مضيفًا.....
"الحمدلله.....هغسل ايدي وننزل... "

ابتعد أيوب متجهًا الى الحمام بينما نادت
عليه امه....."وشاي يا أيوب"

"هشربه عند صالح.."قالها وهو يغلق الباب
عليه....

اومات صفية براسها بعدم اكتراث وهي 
تلملم الاطباق بصمت مبتعدة للمطبخ...

في حين تعمد سلامة الانشغال في كتاب رآه
مجاورًا له على المنضدة.....نظر الى الغلاف
بشرود وهو يرى الاحرف المشتبكة كالطلاسم الغير مفهومة.....

"دا كتابي على فكرة....."

قالتها نهاد وهي تنظر اليه بقوة وضع الكتاب
جانبًا بحياء ذكوري وهو يعلق.....

"مخدتش بالي شكله حلو....."

ابتسمت بعطف وهي تسأله بجسارة
تتخطى حدوده مجددًا....

"تحب أعلمك القراية والكتابة ؟!...."

نمت في حلقه غصة ثقيلة وغاصت عيناه في
سعة عينيها السوداء المدققة به بـ بجرأة
تربكه..تربكه جدًا..توقفِ يانهاد.....توقفِ......

ود ان يصرخ بها فيوقف تلك المهزلة فورًا...

رفض سريعًا دون تفكير.....
"لا مش عايز.....العلام ليه ناسه...وانا مش
منهم...."

المها قلبها وتغضنت زوايتان عينيها بحزن
معقبه برجاحة عقل....
"ليه بتقول كده...هو في حد جه الدنيا عارف
كل حاجة مش معنى انك مخدتش فرصتك من التعليم انك متحولش تعلم نفسك..."

"في السن ده أتعلم ألفّ... بَه......"علق هازئًا ضاحكًا .....

اوقفته بنظرة شاخصة ونبرة صارمة...
"بتضحك على إيه اي المشكلة بيبقا عندهم
خمسين سنة وبيتعلموا...."

اخبرها سلامة مستهينًا....
"عشان عايزين انا بقا مش عايز...وبعدين انا
اعرف انك هتبقي دكتورة مش مُدرسة...."

قالت نهاد ببحة خاصة......
"انا فعلا هبقا دكتورة....بس عشانك ممكن ابقى مدرسة عادي....."

انهت الجملة ببسمة واثقة مما جعله يهرب
من عينيها كمن لدغه ثعبان منتفضًا في
جلسته.....

فاضافت نهاد بجدية....
"فكر.....هتبقا خطوة كويس ليك..."

"إيه هي اللي هتبقا خطوة كويسة...."

سالها أيوب وهو يقترب منهما فكانا على وضعهما متباعدان في أماكن منعكسة 
فهي واقفه عند الحائط وهو جالسًا في
مكانه على مقعد السفرة....

قالت نهاد بهدوء... "انه يتعلم يقرأ ويكتب...."

سأله أيوب بدهشة... 
"هتروح محو الاميه ؟!....."

وقبل ان يرد تولت نهاد دفة الحوار
مجددًا.... "او ممكن انا اعمله....."

نظر لها أيوب قليلًا ثم الى سلامة القانط
في جلسته.....
"هي فكرة.....خصوصًا ان مخه حلو وهيستوعب معاكي بسرعة....."

انتصب سلامة واقفًا متشنجًا في
الرد.... "بس انا مش عايز..."

قطب أيوب حاجبيه معقبًا....
"ليه مش عايز....دي حاجة مهمة ولا غنى
عنها....."

تافف سلامة وعيل صبره وهو ينسحب من أمامهم مغادرًا..... "انا هستناك تحت...."

تناثر الاحباط على وجه نهاد وهي 
تسال اخيها بتردد....

"هو انا قولت حاجة غلط يا أيوب؟...."

تمتم أيوب متعجبًا.....
"أول مرة أعرف انه حسيس وعنده دم...."

ثم التفت الى نهاد وقبل رأسها قائلا
بحنو.....
"لا ياحبيبتي.... متخديش في بالك هو كده...بيقفش بسرعة وبيتراضى بسرعة....."

قالت نهاد بترجي....
"ياريت تقوله يا أيوب وتقنعه...انا عايزة
اساعده...."

صرح أيوب باستياء.....
"كلنا عايزين نساعده بس هو اللي مش عايز
يساعد نفسه...."

استقلّ أيوب سيارته الصغيرة النصف 
نقل ونظر الى سلامة الجالس بجواره
واجم الملامح عابس النظرات....

"اي اللي حصل خلاك تقلب وشك كده...."

اهتاج سلامة وهو يصيح....
"أيوب أقفل على الموضوع ده...واطلع بينا خلينا نشوف مصالحنا.....قال ألفّ به قال....."

أدار أيوب محرك السيارة وهو يلوي
فمه باستهجان.....
"انت حُر ياحلاوة.....كله راجع لك وافقت
أو لا.....لنفسك اصلا مش لينا.... "
.............................................................. كان يسير بين مكن الخياطة يتابع بعينيه العمال وهم يعملا على قدم وساق بهمة ونشاط، أعينهم مثبته على قطع القماش والتي تتشكل في قطع ملابس جاهزة 
مختلفة الألوان والاشكال.....

مصنع لصناعة الملابس يحمل شعار (الأبرار.)قد ورثه عن والده (توفيق الشافعي)والذي أسمى المصنع بأسم 
زوجته محبة وتقدير لها.....

شريكة في هذا الصرح القديم والذي يتوارثه
الأجيال هو (ياسين الشافعي..)ابن أخيه....

والذي يتغيب عن العمل كالعادة بسبب خلاف 
شن بينهما منذ شهر....الى متى سيظل يخلط
الأمور الشخصية بالعمل ألى يشعر بالمسئولية
ولو قليل.....

لو كان لديه ابن ما كان خشى على هذا الصرح 
من الضياع بعده...فيبدو ان ابن أخيه لا يصلح 
لشيء....ولن يحافظ على ميراث العائلة ولا
حتى على إسمها في السوق بين التجار.....

"ياخسارة يـا  ياسين......خسارة....."

غمغم بها صالح وعينيه الخضراء تظللها نظرات من خيبة الأمل بينما زفرت متعبة تخرج منه تحكي الكثير......

"صالح بيه......أيوب عبد العظيم فوق في المكتب مستني حضرتك....."

"قدم لي حاجة يشربها......."قالها صالح وهو يحرك بتأني خرز السبحة السوداء بين أصابعه  والتي تلتف دائمًا بكف يده قد ورثها عن والده وأصبحت تمثل له الكثير كما كانت لأبيه..... 

دلف صالح الى المكتب فوجد أيوب يرتشف من كوب الشاي الساخن......

"عاش من شافك يا أيوب....."

ابتسم أيوب ناهضًا وهو يسلم عليها بحرارة...

"موجود.....اي الأخبار....."

"بخير....بتتهرب مني ليه....."بادله صالح المصافحة ثم جلس خلف مكتبه على المقعد......

تسأل أيوب..... "على إيه مش فاهم...."

قال صالح بوجوم....
"مردتش عليا يعني في شغلك معايا...."

حرك أيوب  رأسه  برفض قاطع.... "أنسى....."

مالى صالح على سطح المكتب قائلا بحنق
منه.....
"يابني حرام عليك المرمطه دي...تعالى أشتغل معايا دا انت صنايعي....وايدك تتلف بالحرير كمان....تعالى اشتغل معايا وهديك المرتب
اللي تطلبه....."

رفض أيوب بكراهية مبهمة....
"مش عايز ياصالح...مش عايز إرجع أشتغل على مكن خياطه تاني....استكفيت.....او تقدر تقول كرهت الشغلانه كلها...."

على صوت صالح مزمجرًا.....
"ما طلع الهبل ده من دماغك....ومتشيلش نفسك ذنب مش ذنبك....عمره كده....وانت عملت اللي عليك.... "

أشاح أيوب وجهه للجانب الآخر
متجهمًا..... 
"أقفل على السيرة دي بالله عليك....."

خفف صالح من حدته قائلا بأسلوب
مقنع...
"طب فكر.....يابني انا لو مش بعزك مش هقولك كده....وبعدين مش ده المصنع اللي اشتغلت وكبرت فيه....ومين علمك وشربك الصنعة غير أبويا الحاج توفيق... واخويا فاروق ابو ياسين...."

التوى ثغر أيوب بحنين وهو يردف
بحزن.... 
"الله يرحمهم.... مقبلتش في حياته ناس اجدع منهم...."

تقوس فم صالح بسخط.... "لا كتر خيرك والله....."

ضحك أيوب مصححًا....
"ياعم انت حاجة تانية......مش محتاج امدح فيك هو ياسين فين مش باين يعني...."

علت امارات الضيق وجه صالح وهو
يقول واجمًا....
"بقالو شهر مخطاش عتبة المصنع....."

ارتفع حاجب أيوب مستفسرًا....
"ليه كده...شديتوا مع بعض تاني...."

اكتفى بايماءة بسيطة فقال أيوب
بنصح.....
"ياجدع خده تحت جناحك وبلاش غُشمية...
سايسه...."

اهتاج صالح قائلا بتعنت.....
"وانا مين ياسايسني.....اسكت يا أيوب....انا معدش عندي صبر....ولا سني ياسمح لي بالمسايسا....."

التوت بسمة أيوب بمناكفة.....
"عجزت ولا إيه دا هما تلاته واربعين سنة عُمي...."

نظر له صالح بتعالٍ..... 
"أكبر منك بعشر سنين....."

ضحك أيوب قائلا بسخرية.... 
"مش بعدد السنين والله ياعمنا...."

"أمال بإيه....."

أجاب ايوب مختصرًا.....
"بالهم....وده أكتر منه مفيش عندي...."

ألح صالح عليه مجددًا...
"ربنا يفكها عليك وعلينا....هتشتغل معايا ولا ؟!..."

رفض أيوب مصرًا بمناورة.....
"مانا شغال معاك أهوه باخد بضاعة منك وببعها في السوق......"

"أيـوب....."

استقام أيوب واقفًا وهو ينوي الرحيل
قائلا.....
"نهارك فل بقا ياحلاوة خدت من وقتي كتير....
سبني أشوف مصالحي المتعطلة دي...."

هز صالح رأسه باستياء ثم تطوع بالقول....

"ماشي ياعم المهم......خليك براحتك بس منين ما تزهق من الواقفة في الشارع مكانك موجود و بالمرتب اللي تطلبه....."

اوما أيوب براسه قائلا بخشونة.....
"سيبها على الله محدش عارف الأيام مخبيه إيه..."
...............................................................
وقفت أمام المرآة تستدير يمينًا ويسارًا مقيمة
ثيابها والتي تكونة من سترة باكمام طويلة 
محتشمة اسفلها بنطال يلائمها.....

لفت غطاء رأسها بشكلا أنيق يلائم عصرية هذه الأيام....

بدأت تدندن بصوتٍ ناعم وهي تضع ملمع الشفاة بطريقة متقنة....

"أبرار......انا نازلة السوق....."

قالتها جدتها وهي تسمع وقع خطواتها بالخارج
قالت أبرار وهي تنظر الى نفسها في المرآة
باعجاب.....

"يـاتيته....ما تخليكى ما ام سعد بتجبلنا
طلبتنا كلها....."

قالت الجدة بتبرم وهي تقف في صالة
الشقة.....
"ومالوا انزل برضو أشوف يمكن حاجة تعجبني......وبعدين ام سعد دي مبتعرفش
تنقي الخضار....."

زمت أبرار فمها وهي تلقي قبلة لنفسها
عبر المرآة.....
"براحتك....انا خارجة أصلا عندي سكشن
في الجامعة...."

"متتأخريش على الغدى....وخدي بالك
من نفسك.... انا نازلة....."

ثم توقفت الجدة وقالت بتذكر يشوبة
القلق المبالغ....

"أبرار اقفلي الغاز قبل ما تطلعي والنور وشيلي
الفيش اللي ملهاش لازمه...و بذات سلك الشاحن بتاعك اللي جمب السرير شليه
من الكهربا...." 

جلست أبرار على حافة الفراش ترتدي 
حذائها الرياضي معقبة بذهول....

"تيته هو انتي مهجرة... انتي ساعتين وهتبقي
هنا..... وبعدين ماله شحني ما تسبيه مكانه
بدل ما قعد أدور عليه...." 

قالت الجدة بنبرة مصرة.....
"أسمعي الكلام انا سمعتهم بيقولوا ان 
غلط سلك الشاحن يفضل في الكهربا 
فترة طويلة...." 

قالت أبرار بضجر....
"حاضر.... حاضر هعمل كده وهقفل محبس
الماية يمكن الشقة تغرق واحنا برا...." 

هتفت الجدة بدهشة....
"أيوا صح محبس الماية ده أهم حاجة.... 
استرها يا رب....." 

قالت أبرار بنفاذ صبر وهي تفتح باب غرفتها
مستعدة للخروج.....
"في رعاية الله ياتيته روحي انتي وانا هشيك
على الشقة قبل ما أنزل....." 

اومات الجدة بارتياح وهي تخرج مغلقة الباب
خلفها بينما كانت ستلحق بها أبرار لكنها توقفت وهي تنظر الى باب المطبخ.....

وبعد لحظتين من التفكير حسمت الأمر وهي
تدلف الى المطبخ تحضر بعض الشطائر....

بعد مدة هبطت أبرار على الدرج في قلب بيت
العائلة الكبير والذي يتكون من ثلاثة طوابق الأولى الشقة في الطابق الأول مغلقة لا يسكنها أحد والثانية شقة (ياسين) كان يقطن بها مع
عائلته منذ زمن وأصبحت له بعد وفاة والده وتمكث معه الجدة (أبرار)وتنتقل بينها وبين شقتهما والتي في الطابق الثالث والأخير....

وقفت أبرار أمام الشقة في الطابق الثاني 
سحبت انفاسها بتوتر وهي ترفع يدها 
بشجاعة ضاغطة على زر الجرس.....

ففتح الباب بعد لحظتين لتراه أمامها مشعث الشعر ببنطال بيتي وفنالة داخلية سوداء 
عينيه ناعستان لكن النظرة بهما تجمدها
كالعادة فبها من الجمود والحنق ما يجعلها
تغتاظ منه أكثر وتعنف نفسها على القدوم
إليه بعد كل ما فعل.....وكل ما يستمر به
بجسارة أقرب للوقاحة....

"صباح الخير....."

"صباح النور.....خير ؟!...."

وأين سياتي الخير وانت جلف فظ في التعامل
مع شابة جميلة تقف أمامك.....

قالت أبرار بتهكم.....
"اي الأسلوب ده....اكونش بشحت منك..."

"أبرار...."لفظ اسمها بتحذير.....

وجهة لكمة الى صدره بكفها الصغير بعد ان عيل صبرها من تصرفاته الطائشة....

"ما تبطل تناحة بقا واتكلم معايا عدل...قالب
علينا كلنا وكأننا اعدائك..."

نظر ياسين الى صدره موضع ضربتها ثم
الى عينيها السوداء وهتف من بين انفاسه 
باهتياج....
"انتي مخبطه عليا عشان تجري شكلي..ولا
أبوكي زقك عليا....مكفهوش اللي عملوا.."

ارتفع حاجباها بدهشة تزامنًا مع حديثه..
"ما تحترم نفسك يابني.....أبويا ده يبقا عمك على فكرة...."

اشارة لها بغطرسة ونظرة باردة....
"روحي شوفي انتي راحه فين...انا مش فايق
لك....."

قالت بشفاة مقلوبة بسخط....
"وامتى بقا هتفوق ليا....أو لنفسك حتى..
هتفضل مقاطعنا ومانع الأكل والشرب معانا.."

لم يرد عليها وظل يحدج بها بصمت وكأنه
يستشف شيءٍ او يحفظ شيءٍ في خاطره

لطالما كانت نظراته غريبة ودقيقة نحوها
احيانًا تراها عادية واحيانًا ترصد بطرف
عينيها نظرة المفتون..... مفتونًا بها.......
لا مستحيل.....

"هو بابا عمل إيه.....دا كل اللي بيعمله ده خوف على مصلحتك هي....."

اوقفها ياسين بنظرة شرسة كـحديثه عندما وصلا لتلك النقطة السوداء....
"هششش.....متكمليش هي لسه فيها هي...
زي ما انتي متقبليش كلمة واحده على ابوكي...انا كمان مقبلش كلمة على أمي.....فـ اقفلي الموضوع عشان منخسرش بعض..."

ذابت عينيها في نظرة حزينة وهي تقول
بنبرة مؤنبة....
"واحنا لسه مخسرناش بعض؟!...انت عمال تبعد وتخلق مسافات بينا كلنا....دا إحنا كنا أقرب اتنين لبعض بقينا غُرب دلوقتي ياسين..."

تلقف عينيها في نظرة طويلة وعصف صدره
بالكثير.....مخالط مشاعر عديدة بعضها حلوٍ
كحلاوة عينيها الامعة وغمازات خديها التي
تظهر باستحياء عند التبسم او الضحك وكأنها
تكافئك بأجمل البسمات جمالا وأثرًا......

"هو انت بتكرهنا بجد ؟!..."

أفاق من تأملها على سؤالها المرير وعينيها
المتعلقة به بعذاب....

ابعد عيناه عنها قائلا بنزق....

"انا لا بكره ولا بحب....انا كده وهفضل كده..."

قالت بمقارعة.... "وانا مش عيزاك كده....."

أردف غير مبالي......
"مش مهم.....احنا في الأول والاخر ولاد 
عم.....عادي....."

عقبت شاجنة....
"احنا مش ولاد عم....احنا أخوات...."

هدر بصوتٍ مبهم المعاني.....
"مش اخوات.....مش رضعين على بعض انا أكبر منك بـ٦ سنين....."

سالته بعقدة حاجبيها..... "بمعنى ؟!...."

تافف وهو يزجرها......
"بمعنى إنك تخليكي في حالك وبلاش تحشري
نفسك في حياتي...."

لوحت أبرار بيداها بتمرد انثوي.....
"حوش حوش الواد مهم أوي....دا انت مفيش حد يعرفك غيري انا واتنين صحابك..."

جز ياسين على اسنانه يحذرها للمرة
الثانية.....
"انت خدتي عليا أوي يابرار.... ولسانك طول..."

قالت بتجهم متصلبة......
"من عمايلك السودة....هتصالح عمك إمتى..."

ارجع راسه للخلف وضحك بسخرية.....

"اه قولي إنك نازلة لحد هنا وعامله فيها
مصلح اجتماعي....."

قالت دون ادنى تردد.....
"في سببين لنزولي ياظريف.....الأول إنك
تبطل عِند وتصالح عمك وترجع شغلك
في المصنع.....وتفهم ان بابا مش عدوك
ولا احنا نكرهلك الخير....."

استند على حافة الباب بمللا 
يسألها.....
"والتاني يادكتورة أبرار....."

لماذا تجتمع الوسامة والغلاظة في رجلا 
واحد...ولماذا يكون الأمر مقبول ويصل 
الى حد الانجذاب ؟!.....

عضت على باطن شفتيها وهي تبعد عينيها
عنه بحنق ثم فتحت سحابة حقيبتها واخرجت علبة الطعام منها.....

"خد....."

"اي ده ؟!!.."

اجابته على مضض....
"سندوتشات عملتهالك عشان تفطر...."

رد باسلوب فظ.....
"حد قالك ان التلاجة جوا فاضية...."

على تنفسها بغضب وهي تقول بإبتسامة
مستئذبة.....ربما تفكر الآن في قضم عنقه وشرب دمائه الباردة......

"لا....بس انا عارفه انك بتكسل حتى تعمل
كوباية شاي ما بالك بالاكل بقا...."

أخذ العلبة بصمت ونظر لها فقالت أبرار
بهدوء محاولة معه للمرة التي فشلت
عدها......

"ياسين......ممكن تسمع كلامي وتبطل الصمت
العقابي ده وترجع تطلع تاني تاكل معانا...عشان
خاطري....."

"لا....."

الرفض القاطع الذي اتى منه قتل ذرة الصبر
والهدوء التي تتحلى بهما فصاحت وهي 
تحاول الوصول لعلبة الطعام.....

"والله طب هات السندوتشات...."

"لا....."رفض بصوتٍ مشاكس وهو يرفع العلبة
للأعلى متحديًا قصر قامتها أمامه...

ثم أضاف..... "هكلهم... جم في وقتهم......."

وبعد ان فشلت في الوصول الى العلبة صرخت بكراهية...... "بكرهك.....بكرهك... "

رد المجاملة بإبتسامة جذابة.....
"وانا كمان مبطقش ابص في وشك...."

سالته بحدة.... "والله....ومالوا بقا وشي....."

اخبرها بنبرة عميقة وكأنه يغازلها
باجمل أبيات الشعر.....

"ساقع....عامل شبه الآكلة البايته...."

اتسعت عينيها ولاح الغضب على وجهها فهدرت بـ

"انا بايته....يـا....."

"يــاســيــن....."

توقفت أبرار عن الحديث بعينين جاحظة وهي
تنظر خلف اكتافه العريضة.....

"مين جوا....."

رد ياسين ببرود..... "مفيش حد...."

سألت وهي تحاول الدخول لكنه منعها بجسده...."أمال إيه الصوت ده....."

رد ياسين بخشونة وثبات....
"أكيد صوت التلفزيون....يلا شوفي انتي راحه
فين......"

عاد الصوت بالنداء يعلو بميوعة من
الداخل.....

"يـاسـيـن....سـونـة......"

ضربت أبرار على صدره قائلة بنبرة اشد ميوعة منها......
"رد ياسـونـة....انت جايب ستات جوا ياسونسون......"

أبعد يدها عنه منفعلا..... "أبرار مـ......"

"وسع انت لسه هتكلم خليني أشوف المُزة..."

وفي لحظة خاطفة انحنت تمر من أسفل ذراعه بسهولة كالجرو الصغير الهارب....أو
المنقض على فريسته......

لحق بها ياسين وهو يشتم في سره....

بينما وقفت أبرار في منتصف الصالون لترى
شابة جميلة تفوقها عمرًا تنتظر على الأريكة
بلهفة...وسترتها بجوارها....يبدو انها تستعد
للمرحلة التالية بعد نزع السترة !......

حانت من أبرار نظرة عليه وهي تسأله
بشزر.....
"الله....دي بحق وحقيقي....دا انت يومك اسود....."

سألتها الشابة وهي تنهض.. "انتي مين ؟!..."

قالت أبرار بتأهب شرس.....
"أكيد مش المدام....بس ممكن في اللحظة دي
ابقى انيل من واحده قفشت جوزها...."

صاح ياسين بصرامة..... "أبـرار......"

نظرت له أبرار بازدراء معقبة بسخرية
من نفسها....
"أخرس انت خليت فيها أبرار...وانا اللي زي
الهبلة جيبالك الطفح وبقول غلبان ومكتئب وتلقيه على لحم بطنة...اتاريك بتحلي يـاسـونـة..."

دللت اسمه بميوعة يشوبها الغضب 
السائد....

"صدق بابا لما قال عليك نمرود....."

وكانت جملتها الحانقة بمثابة عود كبريت وقع في كومة قش فندلعت النيران فجأة في 
صدره وهاجت مراجله وهو ينظر إليها نظرة
اخرستها وجمدتها لبرهة فقط....

فقط لبرهة قبل ان تبعد عينيها عنه وتشهر اسلحتها على الشابة الواقفة بينهما......

ليراها في اللحظة التالية تسحبها من شعرها
بقوة أمام عينيه المصعوقة من ردة فعلها
التي كانت أسرع من غضبه نحوها......
............................................................. 
أقترب أيوب من مكان فرش البضاعة التي يقف بها في السوق فرأى أثناء أقتربه
سلامة يقف مع أحد الصعاليك من أرذلُ السوق الذين لا شغل لهم إلا مضايقة البشر
في رزقهم وإن طالت اليد خطف وركض....

ضاقت عينا أيوب عليهما وتبطئ الخطى 
وهو يرى الحديث ألهام يطول بينهما
والشرح والوصف يتزايد  ...

شعر ان هناك امرًا في صديقه فهو ولمدة
أشهر يتغير للاسواء وأصبح شديد النفور متعصبًا نحو لقمة العيش الذين يعملا بها....

وحلم السفر للخارج أصبح يتكرر على 
لسانه في الاوانه الأخيرة... واخر شيءٍ 
عندم عرض عليها ان يعاود السرقة
وهذه المرة سياخذه معه حتى لا 
يكون أحد أفضل من أحد !....

هكذا نطقت بها عينا سلامة غير قادر
على قولها صريحة....انه فاسد وسيجر
قدمه لهذا الطريق يومًا ؟!.....

"سلام عليكم....."قالها أيوب عندما أقترب منهم وفي يده كيس يحتوي على علب الطعام
الذي ذهب ليحضرهم قبل دقائق....

نظر الشاب الى سلامة نظرة ذات معنى ثم قال وهو يحك في شعره...

"طب اسيبك انا بقا لاكل عيشك...."

قال أيوب بابتسامة لا تمت للود بصلة...
"على فين يا ذكي....متيجي تتغدى معانا..."

أخبره الشاب مبتسمًا بخبث....
"لا يا صاحبي بألف هنا....ابقى كلمني بليل ياسلامة وطمني...."

عندما ابتعد الشاب سحب أيوب المقعد امام
طاولة صغيرة سائلا وهو يخرج علب الطعام
الشعبي.....

"تطمنه على إيه بظبط؟...."

جلس سلامة قبالته على مقعد وهو
يرد....
"عادي يعني.....هيطمن يشوفني وصلت
البيت ولا لا...."

سخر أيوب بأسلوب مهين.....
"يانغة....هو انت هتوه... ولا كلاب السكك مستنياكي ياحلوة...."

اكفهر وجه سلامة بضيق....
"في إيه يا أيوب ما بلاش النغمة دي معايا.."

قبض أيوب على ياقة قميصة قائلا بنظرة
شرسة تجرده من اكاذيب وادعاءات
يحيكها عليه.....

"ولا انت بتخطط لي إيه من ورا ضهري.."

نظر له برهبة....."ولا حاجة...."

هسهس أيوب بنبرة مهيبة.....
"كداب ياحلاوة....وربك لو طلع اللي في دماغي صح هعدمك العافية...انطق...."

حرك سلامة حدقتاه بغباء.... "انطق بايه...."

أردف أيوب بنبرة حادة....
"انك رجعت لسكه الشمال تاني والواد 
الـ نـجـ س ده...هو اللي دلك على طريقها....."

ابعد سلامة قبضة صديقه وهو ينكر
الأمر بخشونة....
"محصلش ودماغك متروحش لبعيد...بتكلم
معاه عادي.....جبت الكشري...."

"جبتو....... أطفح...."

"وانت......"قالها سلامة وهو يدس المعلقة
في فمه ناظرًا له ببراءة مدعيًا عدم الفهم..

مسك أيوب العلبة يفتح الغطاء بعنف
مزمجرًا بوعيد...
"هطفح....بس وحيات العيش والملح اللي بينا لو قطعت عليك ياسلامة....هتكون الناهية 
بينا...طالما انت مش عايز تتعدل...."

بدأ سلامة يلكو الطعم في فمه وهو يقول
بنظرة جاحدة....
"قعد انت بس ادينا مواعظ وحكم وخلينا مدفونين في ام المخروبة اللي فاكرها 
معرض التوحيد والنور...."

"خفة كُل وانت ساكت....."قالها أيوب وهو 
ينظر الى الطعام بشفاة مقلوبة بقرف ومزاج سيء.. سيء جدًا بسبب هذا الفاسد الذي
ساقه الحظ إليه وجعل منه صديقًا له.....
................................................................
وكما يقال الظلام يستر أشياءًا وربما يفضحها
ان نفد رصيد سترك عند الله فلا ظلام يستر 
ولا ذنوب تغفر !.... 

تسلق السور العالٍ بمهارة وهو يخفي نصف وجهه بالشال الملتف حول عنقه هبط على
ارضًا خضراء حديقة (الفيلا) الواسعة
وعينيه كالضبع الجائع يبحث عن صيدة
شهية والذي سيسد هذا الجوع  القارص أوراق مالية أو مصوغات ثمينة....

لمعة عينيه بنشوة الانتصار ان تحقق المراد بعد هذه الخطوة المتهورة....

نظر سلامة الى البنية الضخمة المكونة من
طابقين تشي بالثراء العميم...ثراء سُكانها
كيف ستكون مقتنياتهم إذا ؟!...

إقترب من الباب الرئيسي للدخول فتح الباب 
بطريقة احترافية متقنة تشي بخطورة هذا
الرجل وما أقدم عليه من أفعال اجرامية....

فكان طوال عمره هكذا يخطف الخطفة ويركض هاربًا متخفيًا المهنة الاسهل على
الإطلاق والتي تجني مالًا أكثر !...

فالحلال صعب ان يقبل به جرب كثيرًا ولم يفلح الأمر معه يبدو ان الحلال يختار ابنائه
ولن يخطأ ويضم من آتى في الحرام متشربًا
منه حد النخاع منغمسًا به حد الضياع لا يقبل
الحلال إلا أولاده ومن ذرية الحرام يبقى في
الحرام غافلا الى يوم الدين !...

على الجهة الأخرى كان يراقب ما يحدث بعينين تنفثان نارًا وجسدًا ينتفض بالغضب
الهائل وقد تأكد من ما خشاه هل عليه ان يبتعد ويترك هذا اللعين للذات الحرام ام
يمنع هذا الجرم قبل ان تقع العواقب
الوخيمة عليه....

لم يحتاج ان يفكر مرتين تسلق السور مثلما
فعل سلامة ولحق به بوجهٍ مربد غضبًا وصدر يغلي كمرجل ناري غافلا عن الافته التي تعلو
السور كُتب اسم صاحب البنية عليها بالخط الذهبي الأمع (كمال الموجي).... 
تعليقات



×