رواية حين تهاجر الروح الفصل الثانى بقلم فراس النابلسى
تلاشى صوت المحرك تدريجيًا، وكأن البحر نفسه يبتلع آخر أصواته. سادن لم يستطع أن يصدق ما كان يراه. في الأفق، كانت هناك سفينة ضخمة تقترب تدريجيًا، تضيء الليل وتبعث الأمل في قلوب من كانوا على وشك الاستسلام. كانت الأضواء الساطعة تلمع وسط الظلام الكثيف كأنها شمعة في ليل طويل، وكان قلبه يخفق بشدة مع كل لحظة تمر.
"عم شوفها! عم شوفها!"، صرخ مهيار، وكان صوته مليئًا بالحيوية التي كانت مفقودة منه طوال الرحلة.
سادن لم يرد عليه، فكل ما استطاع فعله هو أن يمسك المقعد الخشبي بكلتا يديه، يحاول أن يثبت نفسه في مكانه وسط المياه المتلاطمة. كان عقله مشوشًا، والصورة التي أمامه كانت كالحلم الذي قد يتبدد في أي لحظة.
الموج العاتي لا يزال يضربهم من كل جهة، لكن السفينة تقترب بسرعة الآن، وعيناهما تتبادلان نظرات التفاؤل والشك. هل هي حقًا سفينة؟ هل ستكون النجاة أم مجرد وهم آخر؟
"إذا ما جت لحدا، رح تكون نهاية."، قال مهيار وهو يلهث، بينما كانت أنفاسه تتنفس ببطء كما لو أن قلبه كان يحاول الهروب من الواقع.
نظر سادن إليه، لكنه لم يرد، فقط استمر في التحديق إلى السفينة التي أصبحت الآن واضحة بشكل أكبر. كان يسمع صوت المحرك يقترب أكثر فأكثر، ثم فجأة... ظهرت من بين السحب والمياه مشاهد واضحة لشخصين على متن السفينة يتجهان نحوهما.
كانت السفينة ضخمة، كما لو أنها قد نزلت من السماء نفسها، وأضاءت الأفق بما يكفي لرؤية التفاصيل الدقيقة للطاقم الذي كان على متنها. هناك، في مقدمة السفينة، كان هناك رجل مسن ذو لحية رمادية، يرتدي سترة ملاحية ويحمل نظارات طبية كبيرة. كان ينظر إليهما بعينين حادتين.
"شباب! قبّلوا الخشب! حياتكم رح تتغير!"، صرخ الرجل، ثم أشار إلى أحد رجال الطاقم ليرسل إليهم الحبل.
ارتفعت مشاعر سادن. لا شيء في هذه اللحظة كان يمكن أن يوقفه، وبكل قوته أمسك بالحبل الذي أُرسل إليه، وابتسم مهيار في اللحظة ذاتها.
"أنا... ما صدقت!"، همس مهيار وهو يستعد للصعود.
سادن كان ينهض بصعوبة. لم يكن يشعر بقدميه، كان الجهد كله يتركز في عقله، في فكرة واحدة، أن ينجو. أن يخرج من هذه المياه، وأن يجد الأمان.
"الله يفرجها!"، تمتم سادن وهو يبدأ في سحب نفسه ببطء على الحبل.
مع كل حركة، كان يشعر بالهواء يملأ رئتيه من جديد، وكأن الحياة تدب في جسده مرة أخرى. مهيار كان يساعده، يمد يده له بكل ما لديه من قوة، حتى وصلوا أخيرًا إلى متن السفينة.
على متن السفينة، كان الطاقم مشغولًا بمحاولة تقديم المساعدة للناجين، بينما كانت الأضواء تملأ المكان بشكل يبعث الراحة في النفوس. سادن، وقد شعر أن قدميه تخذلاه، كان يجلس على أحد المقاعد في زاوية السفينة.
أما مهيار، فقد أخذ يتنقل هنا وهناك بين الناجين، يتحدث مع الجميع، يسألهم عن أحوالهم، لكن سادن بقي صامتًا، غارقًا في أفكاره. كان البحر قد ابتلع الكثير من الأشياء، لكن هل سيكون قد ترك له شيئًا ليعود إليه؟
في اللحظة التي شعر فيها مهيار أنه قد استجمع قوته، اقترب من سادن وجلس بجانبه.
"ما فينا نضل على هيك، رح نواجه أكتر من هيك."، قال مهيار، محاولًا أن يخفف من توتر الموقف.
"أنا مش عارف إذا رح أواجه شي تاني."، رد سادن بنبرة غارقة بالحزن، ثم تابع: "اللي خسرناه، ما رح نقدر نرجع له."
مهيار نظر إليه وكأنما كان ينتظر هذه الكلمات، ثم قال له:
"اللي رح نوصل له هو حياة جديدة، حياة فيها فرص أكتر، على الأقل هاي المرة فينا نختارها."
سادن نظر إلى مهيار للحظة، ثم هز رأسه بهدوء. كان يعرف أن الكلام وحده لا يغير شيئًا، لكن لم يكن في يده سوى الموافقة.
مرت عدة ساعات على وصولهم إلى السفينة، وكانت الأضواء قد بدأت تخفت قليلاً مع اقتراب الفجر. كانت السفينة تسير الآن في عرض البحر، بعيدة عن خط الساحل، حيث لا شيء سوى المياه الهادئة.
"مهيار، وين إحنا رايحين؟"، سأل سادن، وهو يشعر بأن العيون تتجه نحوهما بين الحين والآخر.
"إلى مكان ما في بعيد… ممكن نبتدي من جديد، بعيد عن كل شيء."، أجاب مهيار، ثم أضاف وهو ينظر إلى الأفق: "النجاة مش معناها إنك تظل واقف في مكانك. النجاة معناها إنك تلاقي فرصة."
كان الصوت الذي يخرج من فم مهيار في هذه اللحظة مليئًا بالحكمة، كأنما تعلم أن الحياة لا تُمنح بسهولة، وأن النجاح يحتاج إلى معركة دائمة.
سادن أغمض عينيه للحظة، ثم أخذ نفسًا عميقًا، وكأنه يقرر أن يواجه ما هو قادم بكل ما أوتي من قوة.
لكن اللحظة التي بدأ فيها سادن يشعر بالهدوء، فجأة جاءه صوت الرجل المسن الذي رآه سابقًا.
"يا شباب، فيكن ترتاحوا شوي، بس لازم تحكوا معي بعد."
سادن ومهيار تبادلا النظرات، ثم تبعاه إلى غرفة القيادة حيث كان الرجل في انتظارهم.
"إنتو مش لوحدكم هون، السفينة هاي جاي من مكان بعيد، وما فينا نروح لباب المسافر إذا ما أتمينا مهمتنا."
سادن لم يتفاجأ من كلامه، بل شعر بأن شيئًا أكبر من مجرد إنقاذ حياة ينتظره في المستقبل.
"مهمة؟"، سأل سادن.
"إيه، مهمتكم تبدأ من هون. إذا بدكن تبقوا على قيد الحياة، لازم تساعدونا."، قال الرجل مبتسمًا.
داخل غرفة القيادة، وقف سادن ومهيار أمام الرجل المسن، الذي راح يتفحصهما بعينيه الحادتين. الجو في الغرفة كان حادًّا، مشحونًا بأسئلة لم تجد أجوبتها بعد.
الرجل: "يا شباب، أنتو بتعرفوا لوين رايحين؟"
مهيار (بقلق): "الحقيقة لا… بس واضح إنه ما عنا خيارات كتيرة."
الرجل (يبتسم بخبث): "بالضبط! أنتو ركبتوا سفينة ما بتعرفوا وجهتها، وهون السؤال… بتفضلوا تبقوا ركاب، ولا تصيروا جزء من الطاقم؟"
سادن (يحاول يفهم): "وشو الفرق؟"
الرجل: "الفرق إنه الركاب بيتركوا لمصيرهم، أما الطاقم، عنده دور… ونجاته بتكون مضمونة أكتر."
مهيار: "تقصد إنه لازم نشتغل معكن؟"
الرجل: "ما ضروري تسميه شغل… خلينا نقول مشاركة. السفينة محملة بأشخاص كتير، بس مو الكل عنده القدرة يساعد. إذا بدكن تضمنوا بقاءكم هون، لازم تكونوا مفيدين."
سادن (بشك): "ومنين بدنا نعرف إذا هاد الشي بيفيدنا أو لا؟"
الرجل: "أنتو يلي بتقرروا… بس فكّروا بسرعة، لأن البحر ما بينطر حدا."
سادن التفت إلى مهيار، نظرًا لبعضهما بصمت للحظات. كانا يعرفان أن أي خيار سيتخذانه الآن سيحدد مصيرهما القادم.
مهيار (بنبرة محسومة): "أنا مع… على الأقل رح يكون إلنا دور، مو بس ضحايا عم ننتظر المجهول."
سادن (بتردد بسيط): "طيب… شو المطلوب؟"
الرجل (يبتسم لأول مرة): "هيك أحسن… جهزوا حالكم، رح تبلشوا بأول مهمة بعد شوي."
على سطح السفينة، كان الهواء البارد يلفح وجوههم بينما وقفوا بجانب مجموعة من الرجال الذين بدوا وكأنهم يعرفون تمامًا ما يفعلونه.
مهيار (وهو يراقبهم): "شكلهم محترفين… هدول شو بيشتغلوا؟"
شاب من الطاقم (يسمعه ويرد): "ما بيهم شو كنا قبل، المهم شو صرنا هلق."
سادن (بحدة): "وشو صرتوا؟"
الشاب (يبتسم): "ناجين."
لم يكن هناك وقت للمزيد من الأسئلة، لأن الرجل المسن ظهر مرة أخرى، ومعه رجل آخر يبدو أكثر جدية.
الرجل المسن: "أول مهمة بسيطة… البحر هون بيحمل أسراره، وأنتو رح تساعدونا نفهم شو عم يصير. لازم نعرف شو صار لقارب كان مفروض يكون بهالمنطقة، بس اختفى بدون أي أثر."
مهيار (بانتباه): "وإذا كان غرق؟"
الرجل الآخر (بصوت جاف): "إحنا ما بندوّر على احتمالات… بندوّر على أدلة."
سادن: "وكيف بدنا نلاقي دليل ببحر واسع متل هاد؟"
الرجل المسن: "لهيك عندكن أول اختبار… إذا قدرتوا تلاقوا أي شي، بتكونوا أثبتتوا حالكم."
سادن ومهيار تبادلا النظرات مجددًا، ثم تنفسا بعمق، مستعدين لمواجهة المجهول مرة أخرى.