رواية الطاووس الابيض الفصل السادس والعشرون 26 بقلم منال سالم


 رواية الطاووس الابيض الفصل السادس والعشرون 

خُيل إليه أنه سمع صوت تكسر عظامه مع كل ضربة عنيفة تلقاها منه، وكان يستحقها بالفعل لأنه ارتكب فعلاً مشينًا في حق تلك المسكينة، وربما فعل الأسوأ بسبب حالة الهذيان المزرية التي سيطرت عليه، عاد إلى وعيه وانتحب وهو يزحف للخلف ليستند بظهره على الكومود، تطلع إليه "تميم" بنظرات احتقارية، وحذره من جديد بصوته القاتم:
-إياك تفكر تتعرضلها، سامعني!
هز رأسه وقال بندمٍ واضح عليه وهو يمسح بظهر كفه الدماء التي أغرقت فكه:
-ماشي.. دي ساعة شيطان، مش هيحصل تاني!
سدد له نظرة مهينة والتفت ليفتح الباب الذي أوصده من الداخل لتدفعه "بثينة" وهي تصرخ به في جنون:
-عملت إيه في ابني يا "تميم"؟
بحثت بعينين مرتاعتين عن ابنها فوجدته مُلقى على الأرض في حالة يرثى لها، شهقت لاطمة على صدرها، ونحته للجانب لتجثو على ركبتيها إلى جواره وهي تنوح عليه:
-حبيبي يا "هيثم"؟ إيه اللي جرالك
ثم رفعت عينيها المحتقنتين وصرخت في "تميم":
-كنت هتموت ابني ليه؟
أجابها بجمودٍ:
-بأربيه!
ارتفعت نبرة صراخها قائلة:
-حرام عليك يا مفتري، هو بقى فيه حيل
رد عليها "هيثم" بصوته الواهن وهو يحاول النهوض:
-خلاص يامه.
نظرت له باندهاشٍ وشكوكها تتصاعد، أخبرها حدسها الأنثوي بوجود شيء ما خطير يُخفيه عنها، فسألته مباشرة:
-إيه اللي حصل عشان يبهدلك كده؟
تطلع إليها في صمتٍ قبل أن يتدلى رأسه على عنقه كتعبير عن شعوره بالخجل، هزته من كتفه مُعاودة تكرار سؤالها:
-يا ابني انطق، متخافش منه!
ابتسم "تميم" في سخرية، وكأنها ألقت دعابة طريفة عليه، استطاعت أذناه أن تلتقط قرع الجرس، فاتجه إلى الخارج وصوت خالته يلعنه من الخلف، لكنه لم يكترث بها، فتح الباب فتفاجأ بوجود أبيه، نظر له مليًا وقد أردف موضحًا:
-اطمن يابا، أنا عملت الواجب وزيادة
هز رأسه في استحسانٍ، وعقب عليه:
-كويس.. بس أنا ليا لي كلمتين معاه.
قال في سخرية:
-ده لو قدر يقف على حيله!
اصطحب "تميم" والده إلى غرفة "هيثم" حيث نهض الأخير بصعوبة ليقف على قدميه، نظرت له "بثينة" باستغراب حائر، والفضول يتضاعف بداخلها، باتت متأكدة كليًا من حدوث كارثة، وإلا لما اجتمع أفراد عائلة "سلطان" في منزلها في تلك الساعة المبكرة، التفتت ناظرة إلى "بدير" وهي تسأله:
-عاوز من ابني إيه يا حاج؟
تركزت نظراته على وجه "هيثم" المتورم، وقال بنبرة جافة وهو يشير بعكازه نحوه:
-أنا جاي أعرف الـ ...... ده إن خطوبته اتفركشت
تلاشت كافة الآلام، واختفت الأوجاع مع تلك الكلمات الصادمة، هتف غير مصدقٍ:
-نعم.. إيه؟
أخبره بنفس الصوت الأجوف المزعوج:
-والجماعة بعتولي الدهب على الدكان من شوية.
لطمت "بثينة" على صدرها مولولة:
-يا نصيبتي! ليه كل ده؟
بينما ردد مصدومًا والدموع تُحتبس في عينيه قهرًا على ما حدث ورافضًا استيعاب حقيقة الأمر:
-مش ممكن، أكيد..في حاجة غلط!
تابع "بدير" مضيفًا بلهجة متأففة:
-أنا مش هاسيبلك الدهب، هارجعه للبنت كاعتذار على اللي عملته فيها، إياكش تحس على دمك.
لم يأبه بأمره بتاتًا، وهتف يرجوه في هلعٍ وقلبه قد انخلع في صدره:
-أنا مش عاوزه، ارميه في الشارع أنا عاوزاها هي..
أظهر عدم اهتمامه بمشاعره النادمة، ونظر له باحتقارٍ قبل أن يسبه:
-نجس
وضع "تميم" يده على كتف والده، وقال له:
-بينا يا حاج، هو خد كفايته.
أومأ برأسه موافقًا، وقبل أن ينصرف استطرد موبخًا "بثينة":
-وابقي ربي ابنك كويس، كفاينا فضايح.
كتمثالٍ من الشمع وقفت لوهلة عاجزة عن التفكير، تحاول استجماع نفسها وربط أطراف الخيوط معًا علها تفهم طبيعة الكارثة التي تسبب بها ابنها، التفتت لتمسك به من كتفيه، وهزته في عصبيةٍ وهي تسأله:
-ما تفهمني إنت عملت إيه؟
توسلها وهو يبكي بطريقة استغربتها:
-كلميه ياما، قوليله يرجعلي "همسة".. أنا هتجوزها!
صرخت به بتشنج حتى يتوقف عن التصرف كالأطفال الذين أفسدوا لعبتهم:
-مش أفهم إنت هببت إيه الأول!
...............................................................
يُمكن أن توصف بأنها ليلة كابوسية مُزعجة تُضاف إلى قائمة الليالي الطويلة الموجعة الخاصة بثلاثتهن .. انتهت "فيروزة" من إعداد عصير الليمون الطازج وأتت به إلى غرفة والدتها حيث تنام توأمتها وهي تحتضن والدتها بشكلٍ يدعو للشفقة، قلبت محتويات الكوب بالمعلقة جيدًا، ومدت به يدها نحوها وهي شبه تأمرها:
-اشربي ده يا "همسة"..
وبيدٍ مرتعشة تناولته منها وبدأت في ارتشافه، سعلت في البداية لدخول بعض قطرات السائل المنعش لقصبتها الهوائية، قبلت "آمنة" رأسها وقالت لها:
-على مهلك يا بنتي.
رفعت "همسة" وجهها الباكي نحو أختها تسألها:
-عملتي إيه يا "فيروزة"؟
أجابتها مبتسمة وهي تجلس إلى جوارها على الطرف الآخر من الفراش:
-اطمني، أنا قولت لقريبه على قذارته، ونهيت كل حاجة معاه، معدتش في حاجة تربطه بينا.
ردت "آمنة" في رضا:
-كده أحسن، خليه يتصرف معاه، كفاية الرعب اللي عمله لبنتي.
سألتها "همسة" بصوتها المذعور:
-طب وخالك؟
جاوبتها بنبرة ساخطة:
-يشرب من البحر
وعلى ذكر سيرته غير المستحبة، انتبه ثلاثتهن إلى طرقاته المصحوبة بصوته على باب المنزل، أنزلت "فيروزة" قدميها عن الفراش، وقالت بشموخٍ:
-أنا رايحة افتحله.
تمتمت والدتها في قلقٍ طبيعي ويداها تحاوطان ابنتها:
-ربنا يستر ويعدي الأيام دي على خير.
بكل سخافةٍ وبرود، وابتساماتٍ مستهلكة ولج "خليل" إلى غرفة النوم ملقيًا نظرة حزينة على ابنة أخته، عــاد إلى ذهنه الليلة السابقة بكامل تفاصيلها، حيث صعد إلى زوجته التي طلبت منه إخماد تلك الفضيحة قبل أن يعلم بها أحد بحجة أن الشاب يطمح في الزواج بأسرع وقت، وما فعله كان مجرد لحظة طيش عابرة لن يكررها ولا داعي لتكبير الأمر، أما إن فعل العكس واتخذ موقفًا مغايرًا لخسر كلاهما مكاسب المستقبل المادية التي ستؤمن حياتهما لسنوات قادمة، ولهذا أعاد التفكير بتأنٍ ورتب حساباته وفق أولوياته هو غير عابئ بمصلحة ابنة شقيقته، وبهدوءٍ تام نزل ليصطحب "هيثم" وعاد به لمنزله في حالة الإعياء الواضحة، وتعلل لوالدته بأنه أنقذه من حادث سير أرعن ورأه بالصدفة وأصر على إيصاله ليطمئن عليه.. أفاق "خليل" من شروده السريع، وهتف مدعيًا اهتمامه:
-عاملة إيه دلوقتي يا بنتي؟
ردت عليه "فيروزة" بوجهٍ مقلوب:
-زي ما إنت شايف يا خالي، أكيد مش عاملة فرح!
نظر لها بضيقٍ وانزعاج قبل أن يبعدها من كتفها ليتجه نحو الفراش وهو يقول:
-طب وسعي بس كده عشان النفس.
كتمت غيظها منه في نفسها، وظلت تتابعه بعينيها المشتعلتين وهو يدنو من "همسة"، مسح على رأسها وقبلها من جبينها وهو يسألها:
-إن شاء الله شدة وتعدي.
احتجت "فيروزة" على عبارته غير اللائقة، وصححت له:
-هي كانت عيانة لا سمح الله، ده واحد ماترباش حاول يعتدي عليها
قال مدافعًا عنه:
-مكانش في وعيه يا "فيروزة"، متكبريش الموضوع
أدركت أنه لن ينصف أختها مهما حدث، فالأفعى الخبيثة قد بخت سمها، والدليل ما رأته بحدث خلسة من تهريب وطمسٍ للحقائق، لذا قررت إفســاد انتصاره الزائف، وقالت مبتسمة بزهوٍ:
-عمومًا يا خالي الموضوع خلص.
لم يستوعب مقصدها، وسألها:
-يعني إيه؟
استرسلت بابتسامة أكثر اتساعًا:
-يعني أنا اتصرفت، وقولت لقريبه الحاج "بدير" على اللي عمله، وفركشت الخطوبة!
بدا كمن ألقى عليه دلو ماء مثلج، حملق فيها بعينين شاخصتين، وردد في ذهولٍ صادم:
-إنتي.. عملتي.. إيه؟
ابتسمت في انتشاءٍ، وتابعت:
-اتصرفت زي ما المفروض كنت تعمل، ارتاح إنت يا خالي، أنا قومت بالواجب وزيادة.
تكاد تُجزم في نفسها حين تطلعت إليه في تلك اللحظة بأن دخانًا كثيفًا كان ينبعث من شدة غضبه أو غيظه، لا تعرف تحديدًا، لكنها أصابته بما فعلته في مقتل، ودمرت كل مخططاته التي بنيت على حساب عائلتها، خرج "خليل" عن شعوره، وصرخ بها بجنونٍ غير اعتيادي:
-إنتي عملتي إيه؟
نظرت له نظرة ذات مغزى، وأجابت بإيجازٍ:
-الصح.. يا خالي!
تدخلت "آمنة" في الحوار، وقالت مدعمة ابنتها:
-اللي حصل امبارح ده مايتسكتش عليه، وده أنسب حاجة تتعمل مع قليل الرباية ده
صرخ بتشنجٍ وهو يضع يديه على رأسه:
-إنتو ضيعتوا كل حاجة بغباءكم.
ردت عليه "فيروزة" ببرود:
-معلش يا خالي، مافيش أغلى من أختي عندنا
ثم تلوت شفتاها بابتسامة مستفزة وهي تسأله:
-تحب أعملك لمون تروق به دمك؟ وشك مصفر ومش عاجبني
هدر بها وهو يشيح بيده:
-امشي من قدامي السعادي.
حركت رأسها متابعة بنبرتها الباردة:
-ماشي يا خالي.
كتمت ضحكتها الشامتة بصعوبة وهي توليه ظهرها، لا تنكر أن رؤيته يغلي كمدًا أثلج صدرها وأشعرها بقليلٍ من الارتياح، تمنت فقط لو عاد لصوابها وتصرف كما يجب أن يكون الخال الحقيقي الذي يعد بمثابة أب ثانٍ للعائلة.
................................................................
-مش هاتطلع معايا يا "تميم"؟
تســاءل "بدير" بتلك الجملة وهو ينظر إلى ابنه الذي أوقف السيارة أمام مدخل بيت خطيبة "هيثم" السابقة، في البداية ظل صامتًا، وكأنه يفكر مليًا في الأمر، وظهر التردد على محياه، أمسك بكلتا يديه على المقود، والتفت ينظر لأبيه قائلاً:
-لا يا حاج، أنا هستناك في العربية
ابتلع ريقه بصعوبة، فما زال ذلك التوتر المريب يجتاح كامل حواسه كلما دنا من منزلها، أو أتى شيء ما على ذكرها، وكأنها تملك عصا سحرية قادرة على تبديل أحواله في لحظة ليصبح فاقدًا للسيطرة على مشاعره، بل ويصبح لا حول له ولا قوة حين تعتريه تلك الأحاسيس الغريبة، تبدو كما لو كانت تتكاتف جميعها وتتعاون في حضرتها بشكل قوي لتجذبه نحوها بصورة غامضة فتزيد من توتره وتضاعف من ربكته .. تنحنح والده بصوتٍ خشن، وقال مستعينًا بالمولى وهو يترجل من السيارة:
-توكلنا على الله، وربنا يقضي المشوار ده على خير.
ورغم معرفة "تميم" المحدودة بـ "فيروزة" إلا أنه كان واثقًا بأنه لا رجعة لها في قرار تتخذه بشــأن أسرتها إلا بحد السيف، لاح على ثغره ابتسامة ساخرة حين حدث نفسه:
-إنت وقعت مع غولة يا "هيثم"!
كان يقصد "فيروزة" بذلك الوصف الذي وجده ملائمًا لشخصها القوي في تلك النوعية من المواقف المصيرية، اقتحم ذهنه صورتها المستبسلة ونظراتها التي لا ترتدع بسهولة، كانت بها هالة غريبة تحثه على استمرار التفكير بها دون مللٍ أو ضجر، اتسعت ابتسامته التي امتزجت مع ضحكة عذبة وهو يستعيد وصفه السابق:
-بس معايا طاووس!
ضحك في مرحٍ وقد ملأ طيف وجهها صفحة خياله، تناقصت وبدأت تخبو بعد لحظة مع رنين هاتفه المحمول، تطلع إلى شاشته فوجد اسم "خلود" يُنير عليه، نفخ في ضيقٍ، وقال لنفسه بامتعاضٍ:
-عاوزة إيه دلوقتي؟
لم يكن بحاجة لتخمين الإجابة المناسبة، فتابع قائلاً لنفسه بصوته المنزعج:
-أكيد أمك بلغتك باللي عملته في أخوكي، وأنا مش ناقص صداع على الصبح!
ترك الهاتف يرن على تابلوه السيــارة غير مكترث بضجيجه المؤذي، وحملق في المنزل بنظراتٍ كانت تبدو في المنتصف ما بين ساهمة وحالمة.
...................................................................
استقبله "خليل" في منزل أخته بحفاوةٍ تناقض طبيعة الموقف المحرج الذي يمس طرفي العائلة، كان من حسن حظه وجوده في ذلك التوقيت، وإلا لمات بحسرته على خسارة بئر نقوده بسبب عناد ابنة أخته المميت .. وبتهذيبٍ وأسف سعى "بدير" لرأب الصدع في العلاقات الودية بين الأسرتين، استأذن يقول له بلطافةٍ بعد أن ارتشف القليل من فنجان القهوة الموضوع أمامه:
-لو مافيهاش تعب هاطلب منك يا "خليل" تناديلي الحاجة وبنتها.
رد عليه متصنعًا الابتسام:
-ده إنت جيتك على راسنا يا حاج، بس إنت فاهم نفسية البت و..
قاطعه وهو يرد بخزيٍ ملموسٍ في نبرته:
-مفهوم.. مفهوم، مافيش داعي تبرر، حقها تنهي الخطوبة.
عاجله مرددًا بتلهفٍ:
-أنا والله اتكلمت معاهم.
تنهد "بدير" معقبًا عليه دون أن يفقد رزانته:
-يا "خليل" أنا مقدر ده كله، بس عاوز البنت في كلمتين مهمين، جاي أقدر أعوضها عن اللي حصل.
وقبل أن يختلق له الأعذار أتت "فيروزة" ومعها "همسة" تسحبها بتمهلٍ من يدها، وقفت كلتاهما على مقربة منه، واستطردت الأولى تقول بجسارةٍ: 
-هي جت بنفسها تقول إنها مش عاوزة تكمل الخطوبة دي، ده لو مش مصدقني يا حاج
نهض "بدير" واقفًا، ودارت عيناه على وجه "همسة" الذابل وعينيها المنتفختين من البكاء المتواصل، تقدم نحوها واعتذر منها:
-حقك عليا يا بنتي، امسحي اللي عمله فيا، مافيش حاجة تعوضك عن اللي حصل من الجبان ده، أنا ربيته ولسه هاربيه من تاني
ثم امتدت يده بعلبة من القطيفة الحمراء موضوع بها المشغولات الذهبية التي تخص الشبكة، لوح بها أمامها وهو يقول بكلامٍ شبه نافذ:
-ده حقك، ومش هترجع.
تدلى فكها السفلي في استغرابٍ مما يفعله، ونظرت إلى أختها بحيرةٍ، علقت عليه "فيروزة" رافضة عرضه السخي:
-احنا نهينا الخطوبة، يعني الشبكة ماتخصناش.
أصــر عليها قائلاً:
-بعد اللي حصل، مالوش الواد ده حاجة عندي، خديها، بعيها، اتصرفي فيها، محدش هيلومك
شكرته "آمنة" قائلة من الخلف:
-تسلم يا حاج "بدير" على تقديرك، دي صفحة وقفلناها
ســال لعاب "خليل" وقد رأى مدى سخاء ضيفه الذي يستثير أطماعه بشكلٍ جنوني، ارتعب من تزمت "فيروزة" وعنادها المهلك، لذا دون تفكيرٍ اختطف العلبة من بين أصابعه، وضمها إلى صدره، وكأنه يخشى ضياعها، وبادر يمتدحه ونظراته الطامعة تغطي حدقتيه:
-بصراحة عداك العيب يا حاج "بدير"، أبو الأصول كلها.
استشاطت عينا "فيروزة" من وقاحته، وهبت تعترض بنبرة مختنقة:
-لو سمحت يا خالي رجع الحاجة، احنا مش ناقصنا دهب.
نظر لها بغلٍ وقال متحديًا:
-إنتي عاوزة تكسفي عمك الحاج وتحرجيه؟ مايصحش وهو في بيتنا وجاي لحد عندنا...
والتفت إلى أخته يزجرها بعتابٍ:
-ما تعرفي بنتك الأصول يا "آمنة"!
ردت عليه "فيروزة" بتشنجٍ غير مبالية به وقد اِربد وجهها بحمرته المنفعلة:
-أنا مقبلش إن أختي تاخد آ....
اخشوشنت نبرته وهو يقاطعها بعبارته النافذة:
-"فيروزة" خلاص، أنا قولت كلمة..
ثم أشاح بيده لها يأمرها:
-روحي اعملي قهوة تانية لعمك بدل اللي بردت دي.
بلباقةٍ اعتذر منه "بدير" وهو يهم بالتحرك نحو الخارج:
-مالوش لزوم، يدوب أرجع الدكان.
وضع يده على كتفه كنوعٍ من إظهار الود، وقال مبتسمًا في نشوة:
-استنى يا حاج أنا جاي معاك أوصلك
لاحقه في خطواته ليهرب والعلبة لا تزال في يده، اهتز جسد "فيروزة" في عصبيةٍ جلية، التفتت إلى والدتها التي كانت تتابع الموقف بصمتٍ غريب، وهتفت بحنقٍ:
-شوفتي يا ماما خالي وعمايله؟
ضربت كفها بالآخر، وردت بتنهيدة حائرة:
-والله ما عارفة أقول إيه، أخويا الفلوس لحست عقله
نما إلى مسامع ثلاثتهن صوته المنادي:
-يا "آمنة" تعالي لحظة
أدارت ظهرها لابنتيها وهي ترد بسأمٍ:
-هاروح أشوفه، عديها على خير يا رب.
ســارت بتباطؤٍ فوجدت "خليل" يقف أمام باب المنزل والتلهف يملأ محياه، أعطاها علبة الذهب، وشدد عليها بعدم التفريط فيها ريثما تتضح توابع الأمور، أخذ وعدًا منها بالاحتفاظ بها في دولابها دون أن تُطلع ابنتيها معللاً لها:
-لو "حمدية" شمت خبر إنهم معايا هتاخدهم، وتشبط فيهم وجايز تعمل شوشرة ومترداش تفرط فيهم، سبيهم معاكي يومين كده وأنا بنفسي هارجعهم للحاج "بدير" لما الدنيا تهدى، مش عاوزين نزعل الراجل مننا، مهما كان دي كبيرة عليه إنه يتأسف بنفسه عن غلطة غيره، ماشي ياختي؟
-معاك حق. 
كان صــادق النية في النصف الأول من جملته، فأطماع زوجته لا حدود لها، وربما ستحتفظ بهم كأنه حقها المكتسب، في حين أنه دس السم في العسل في باقي عبارته، فما تفوه به كان مجرد أكذوبة مخادعة ودَّ أن تنطلي على شقيقته لتوافق دون تذمرٍ على رغبته، واستجابت له بسجيتها غير المشككة فيه معتقدة أنه يفعل الصالح لابنتيها.
...............................................................................
مضت بضعة أيامٍ حُصرت فيهم ما بين رجاوات وتوسلات ابنها، وبين عصبية وانفعالات هائجة لا حدود لها، في النهاية اضطرت أن تتخلى عن كرامتها من أجله، وتذهب في زيارة استثنائية بدون ميعاد مسبق لـ "همسة" على أملِ أن تُصلح ما أفسده "هيثم"، علها تنجح في مسعاها. لم تتواجد "بثينة" بمفردها، استعانت بابنتها لتكون داعمًا لها، وبالرغم من امتعاضها إلا أنها احتفظت بتلك البسمة اللطيفة على محياها، استقبلتها "آمنة" بترحيب لائق كما اعتادت مع كل زائر يطأ منزلها، وجلست مع ضيفتيها تتجاذب أطراف الحديث العام بعيدًا عن الموضوع الرئيسي إلى أن قالت "بثينة" في الأخير لتظهر ندم ابنها:
-أنا عارفة إن ابني اتصرف بقلة أدب، بس طيش شباب والله، ده هايتجنن على "همسة"، وقلبه محروق عليها من بعد اللي حصل.
سألتها "آمنة" في عتابٍ وتعبيراتها توحي بعدم تساهلها أو لينها:
-طب يرضيكي اللي عمله؟!
نفت على الفور مستخدمة أسبابها للتبرير حتى تسترق قلبها:
-لأ طبعًا، ولو كان لا سمح الله حصل لـ "خلود" كنت قلبت الدنيا، وجبت حقها، بس هو اتربى وخد جزاته، ومش هاقولك الحاج "بدير" عمل فيه إيه، ولا "تميم"، يا لهوي، ده الكل اتكاتر عليه لحد ما رقد يا حبة عيني في السرير من القهرة
تحرجت منها "آمنة"، وبدت مذبذبة نوعًا ما لتجاريها بنفس الأسلوب الجاف في الحديث بعد الذي أفصحت عنه، تجنبت النظر نحوها وردت مبتلعة ريقها:
-مش عارفة أقولك إيه، بس كل شيء قسمة ونصيب.
هتفت ترجوها بقلبٍ ملتاع:
-ده هايموت عليها، مش شايف إلا هي يا "آمنة"، وإنتي أم زيي، والله ما يرضي حد اللي بيحصل ده!
حاولت الضغط على مشاعرها الحنون ربما تنجح في إقناعها، لكنها ما زالت محافظة على صلابتها، وقالت مبتسمة:
-ربنا يرزقه بالأحسن.
احتقنت نظرات "بثينة" من صدها لها وردودها الجافة معها، بذلت مجهودًا عنيفًا لتبدو مستكينة بالرغم من رفضها القيام بذلك الأمر المذل من وجهة نظرها، تدخلت "خلود" حين رأت أمارات الضيق تتصاعد على وجه والدتها، واقترحت بلطفٍ:
-طب ما تناديلنا يا خالتي "همسة" نسألها، يمكن رأيها غيرك.
تطلعت نحوها "آمنة"، وقالت بجدية:
-كلامها مش هيختلف عني!!
ورغم إحراجها عن عمدٍ إلا أنها ألحت بنفس الأسلوب السمج:
-معلش أهوو نسمع منها بردك، عشان خاطري يا خالتي
تنهدت قائلة في استسلامٍ وهي تهم بالنهوض من على الأريكة:
-حاضر.
وقبل أن تخرج من الغرفة كانت "همسة" تقف على أعتابها بقامةٍ منتصبة ووجه حزين، منذ لحظة وصولهما وهي متواجدة بالخارج مع توأمتها، لكنها لم ترغب في الاشتراك بالحوار، استمعت إلى كل كلمة قيلت عنه، وبالرغم من ألمها إلا أنها شعرت بالتعاطف نحوه، وكأن قلبها أبى الانصياع لتعسفها، قاومت ذلك الإحساس الخائن باللين حتى لا يطغى عليها وتتراجع، منحتها "فيروزة" إحساس القوة والثبات إلى أن أصرت "بثينة" على حضورها، شعرت بالخوف يتسلل إليها، استدعت كامل مشهده المؤسف معها حتى لا تظهر بمظهر الضعف واللين أمام تلك المرأة، لا مجال للتراجع في موقف أوضح لها معدن ذلك الرجل كما قالت لها أختها، تحلت بالشجاعة، وغالبت خوفها لتبدو قوية الشكيمة، وبثباتٍ تحركت خطوة للأمام .. وزعت نظراتها بين الضيفتين، وقالت:
-أنا موجودة يا ماما، خليكي مرتاحة.
ربتت "آمنة" على جانب ذراعها لتشجعها على الدخول، وأشــارت بعينيها إلى "فيروزة" لتظل باقية بالخارج حتى لا تتدخل في الحوار وتشعل الأجواء بعباراتها المهاجمة .. دنت منهما "همسة"، مدت يدها لمصافحة الاثنتين أولاً قبل أن تتبادل معهما القبلات والأحضان دون ودٍ ظاهر عليها وهي ترحب بهما:
-أهلاً وسهلاً بيكم.
جذبتها "بثينة" من رسغها لتجبرها على الجلوس إلى جوارها على الأريكة العريضة قائلة لها بابتسامة متشوقة:
-تعالي يا بنتي جمبي كده، ده إنتي وحشاني أوي.
ابتسمت لها ابتسامةٍ متكلفة، وقالت مجاملة:
-تشريف حضراتكم ليا على عيني وراسي..
استطردت تقول لها:
-بصي يا حبيبتي، أنا عاوز أفهمك إن اللي حصل ده كان في لحظة شيطان، مش هاتكرر تاني، وأنا أوعدك بده.
ردت عليها بجمودٍ مصطنع:
-صعب أكمل معاه!
سألتها "خلود" بنبرة متأثرة:
-يا "همسة" هو  إنتي لحقتي تعرفيه؟ حرام والله تظلميه!
التفتت نحوها لترد بحرقةٍ ظاهرة في نبرتها:
-ما اللي عمله فيا كفاية إنه يخوفني منه، ده كان شارب، والله أعلم لو أختى ملحقتنيش.. كان...
وجدت صعوبة في إتمام جملتها، ومع ذلك تسلحت بالشجاعة لتقول بحسمٍ:
-أنا مش هآمن لنفسي معاه، مقدرش، أنا أسفة.
استعطفتها "خلود" بصوتٍ شبه مبحوح وبدموع التماسيح التي حاولت جاهدة استدعائها لتبدو مقنعة:
-اديله فرصة تانية، ده ربنا بيسامح، وهو هيتجنن من ساعة اللي حصل.
أضافت عليها "بثينة" لتزيح الصورة السيئة المتشكلة في ذهنها عنه:
-والله ما بياكل ولا بيشرب، وشغله سايبه يضرب يقلب، مافيش على لسانه إلا إنتي، ده ربنا هداه على إيدك وساب الزفت اللي كان لاحس مخه.
لم يكن الأمر بتلك البساطة لتمحوه من عقلها أو لتتأقلم معه وكأنه شيء مُعتاد منه، طفرت دموعها في عينيها، ومسحتها بيدها قبل أن تنهض لتقول بغصة مؤلمة في حلقها:
-معلش يا طنط مضطرية أقوم، ورايا حاجات لازم أعملها، فرصة سعيدة إني شوفتكم
نظرت لها "بثينة" في يأسٍ وهي تفر من أمامها، استدارت نحو ابنتها لتأمرها والحزن يغطي تعبيراتها:
-بينا يا "خلود"، الظاهر مافيش فايدة!
.............................................................
ركضت هاربة وقلبها يُعتصر آلمًا دون أن تعرف إن كانت عشقته حقًا، أم لأنها تكره تلك الذكرى المؤسفة التي لوثت تفكيرها عنه، هربت والدموع تنساب بغزارة من حدقتيها، ارتمت في أحضان توأمتها التي واستها وهونت عليها من الأمر، امتدحت تماسكها قائلة:
-برافو عليكي، أنا عارفة إنه صعب عليكي، بس إنتي أدها
ابتعدت عنها لتنظر إليها بعينين تفيضان بالدمع، وسألتها بنهنهةٍ:
-تفتكري.. أنا ظلمته؟
أجابتها "فيروزة" بردٍ قاطع مظهرة عدم تعاطفها مع موقفه الناد:
-هو اللي عمل كده في نفسه.
أشــارت برأسها للخلف وهي تتابع بنبرة متقطعة بسبب بكائها:
-بس على حسب.. كلام مامته.. شكله لسه.. متمسك بيا.
وضعت كلتا يديها على ذراعيها، هزتها منهما برفقٍ وهي تحذرها بلهجة قوية حتى لا تتراجع:
-اجمدي يا "همسة"، اللي زي ده مايتبكيش عليه.
نكست رأسها في حزنٍ وقالت وهي تتنفس بعمقٍ لتخفف من نوبة بكائها: 
-حاضر
ابتسمت لها "فيروزة" في حبٍ، وأضافت بثباتٍ لتشد من أزرها:
-احنا مالناش إلا بعض يا "هموس"، وبكرة هايجي اللي أحسن منه، إنتي متستعجليش، ولا شكلك هتحني ليه؟
حملقت بعينين تعيستين في وجهها قبل أن تنطق بمرارةٍ:
-لأ يا "فيروزة"، ده موضوع واتقفل!
..................................................................
أبلغته والدته برفضها القطعي للعودة إليه وإتمام الخطبة، وكأنها بذلك نزعت فتيل قنبلة جنونه الموقوتة ليهتاج أكثر ويحطم ما تطاله يداه، كانت محقة حين وصفته بالأرعن الأهوج الذي انساق وراء نزواته، ولهذا عليه ألا يلوم أحدًا إلا نفسه، ثارت ثائرته، وفقد عقلانيته ليخرج من المنزل قاصدًا الذهاب إلى رفيق السوء "نوح"؛ ذاك الذي نصحه في غيابات الخمر باستباحة عرضها، لم يكن الأخير متواجدًا في منزله، دق الباب بعنفٍ عليه، أوشك أن يخلع الكتلة الخشبية التي تمنعه من اقتحام المكان، ونجح بعد عدة ضربات قوية من كتفه في إزاحة الباب، وحين تواجد بالداخل، انهال على ذاكرته تفاصيل تلك الليلة المنحوسة، هاج على الأخير وأطاح بالزجاجات الفارغة وهشمها، وركل النارجيلات المتراصة عند الزاوية بكل عصبية لتتحطم وتتبعثر محتوياتها على الأرضية، عاث في المكان الخراب وهو بالكاد يلتقط أنفاسه اللاهثة من فرط انفعالاته، لكن قلبه الموجوع لم يهدأ بعد.
جلس "هيثم" على الركام المحطم وهو يشبك يديه أمام ركبتيه يتطلع أمامه بنظرات غائمة، عــاد "نوح" من الخارج ليتفاجئ بالدمار الذي لحق بمسكنه، وخاصة عدة السهر الخاصة، نظر في صدمة إلى ما افترش الأرض من بقايا زجاجية مختلطة بأحجار الفحم، تساءل في بلاهةٍ:
-هي الحرب قامت هنا ولا إيه؟
في البداية تجمدت عينا "هيثم" عليه، وكأنه يستوعب مجيئه، شحذ قواه الغاضبة ليصبها عليه، أرخى كفيه واستند عليهما لينهض، ثم انقض عليه ليمسك به من تلابيبه وهو يصرخ به في عصبيةٍ:
-إنت السبب، إنت اللي خربتها على دماغي!
حاول "نوح" انتزاع قبضتيه من عليه وهو يسأله مصدومًا:
-في إيه يا عم؟ بالراحة عليا، واحدة واحدة خليني أفهم!
واصل صراخه المهتاج قائلاً دون أن يفلته من بين أصابعه:
-كانت شورة مهببة منك، الله يحرقك البت راحت مني
سأله مستفهمًا:
-هو إنت عملت إيه بالظبط؟
في وسط نوبة انفعاله المتأججة أخبره باقتضابٍ عن تصرفه المتجاوز، ابتسم "نوح"، وعلق بما يشبه التهكم:
-إنت اللي غلطان، أنا مقولتلكش روح اغتصابها، دماغك كانت من الأول شمال معاها!
هتف مدافعًا عن نفسه في حرقةٍ:
-مش حقيقي! أنا.. مكونتش دريان بسبب الهباب اللي بلبعته
نجح رفيقه في تخليص نفسه من قبضتيه، نفض ياقته وعدلها، ثم قال ببرودٍ:
-طيب، إنت حمار وعملت فيها كده، أنا مالي بقى بغباءك ده؟!
نظر له "هيثم" بنظراتٍ مغلولة وهو يكاد يطبق على عنقه من جديد ليخنقه، لكنه كان محقًا، هو من تصرف بوقاحةٍ، وأفسد بيده خطبته مع تلك الفتاة، كز على أسنانه وهو يلعنه:
-منك لله يا شيخ، كانت معرفتي بيك معرفة سودة!
أطلق سبة نابية وهو يوليه ظهره قبل أن يخرج من منزله، لحق به "نوح" ليستوقفه، شده من معصمه مُعاتبًا بخبثه الشيطاني:
-أوام كده هتنسى الليالي الحلوة؟ عامةً مش هاخد على خاطري منك يا "هيثم"، أنا عارف إنك مضايق شوية، يومين هتفك وترجعلي.
استل يده من أصابعه الممسكة به بتشنجٍ، ورمقه بنظرة مطولة من عينيه المحتقنتين بغضبٍ وألم، ثم رد بعدها بغصةٍ متحسرة وهو يهبط الدرجات وإحساس الهزيمة يحتل كامل كيانه: 
-ولا تاخد، كله ضـاع خلاص، و"همسة" راحت مني 

كالطريد العاجز ســار بغير هدى يجوب الشوارع والطرقات دون أن يحدد وجهته، انتهى به المطاف على الكورنيش، توقف لبرهة ليلتقط أنفاسه، لم يعرف ماذا يفعل تحديدًا، لكنه واصل سيره عليه وعقله المشحون لا يتوقف عن التفكير، تقلصت عضلات وجهه بشكلٍ مريب وكأنه تذكر ما يؤلمه، للحظة انسالت على مخيلته ذكريات قديمة راحت تسطع وتختفي كومضاتٍ من ظلمة الماضي البعيد، عــاد بالزمن للوراء حين كان صبيًا صغيرًا، تجسد في عقله دكان والده بكل تفاصيله، رائحة الطلاء ومشتقاته زكمت أنفه، ما زال يذكر براعة أبيه في إعداد القهوة على (السبرتاية) لتبدو ذات مذاقٍ خاص، آنذاك وقف متذمرًا أمامه يُلح عليه بعناد الصبية الذين نبت لهم خط رفيع ليشكل شاربًا أعلى أفواههم:
-يعني مش هاتيجي معايا؟
نظر له "غريب" في صمتٍ قبل أن يلتهي بخلط تلك المواد العجيبة في علبة الطلاء التي فتحها، ظل "هيثم" ساكتًا وهو يراقبه آملاً أن يذعن لرغبته ويستعطف معلمه الذي تشاجر معه ليضمه إلى مجموعة التقوية التي سبق وطُرد منها، ضجر من عدم مبالاته فهتف بتشنجٍ:
-إنت وعدتني تكلم الأستاذ تاني.
نفخ والده في سأم، ورد بفتورٍ:
-مالوش لازمة يا "هيثم"، اللي اتعلموا خدوا إيه
حك جانب عنقه في إحباطٍ، بالطبع لم يكن من أصحاب العقول النابغة أو متفوقًا بين أقرانه ليهرع الأول لدعمه، كان ببساطة متعثرًا في دراسته، بالكاد ينجح بالمحسوبية والواسطة، تجمدت نظراته عليه وسأله بعبوسٍ: 
-طب عاوز أروح سيما مع أصحابي، اديني فلوس تبقى معايا
ترك "غريب" ما في يده وأشــار له بسبابته معترضًا:
-مصروفك كله رايح على القرف ده، خليك واقف معايا واتعلم صنعة تنفعك، ده أنا هودكك على أصول الشغل كله وأسراره وهخليك تكسف بدل الجنية ألف، مايبقاش مخك ضلم في التعليم وأكل العيش...
بتر عبارته حين لمح "بدير" وولده يمران بجوار دكانه فأردف بتفاخرٍ انعكس في نظراته نحوهما:
-شوف ابن خالتك فهلوي إزاي وأبوه بيتبهاهى بيه في كل حتة، خليك كده زيه ناصح والناس عملالك قيمة.
أدار "هيثم" رأسه للأمام لينظر إلى الاثنين بحنقٍ، ثم علق عليه بتنمرٍ:
-هو أنا مابعملش حاجة تعجبك خالص؟ مش لازم أبقى زيه عشان أملى دماغك، أنا ماشي.
ظهر الانزعاج على تعابيره وهو يوليه ظهره مبتعدًا، لحق به والده ليوقفه قائلاً بحنوٍ:
-يا واد استنى.. ما تقفش كده، خد وإدي معايا!
نظر نحوه مُتسائلاً:
-طيب، هتعمل إيه دلوقتي؟
وقبل أن يجيبه كان أحدهم يقف على أعتاب الدكان يلوح بيده مرحبًا، وبيده الأخرى يمسك بطفلة صغيرة:
-سلامو عليكم.
أرخى قبضته عنه ليرحب بالضيف قائلاً:
-وعليكم السلام اتفضل يا عم "علي".
تقدم خطوتين منه، استأذن منه بحرجٍ دون أن تفتر ابتسامته الودودة:
-ممكن يا "غريب" البت تخش الحمام عندك.
أبدى موافقته هاتفًا:
-أه وماله، على إيدك اليمين
رد "علي" يشكره:
-تسلم يا حبيبي.
استدار "غريب" نحو ابنه يأمره:
-وري الكتكوتة مكان الحمام يا "هيثم".
ألقى نظرة شاملة جالت عليها من رأسها لأخمص قدميها.. كانت ملامحها الطفولية حادة، ونظراتها قوية تخترق من تتطلع إليه، حتى ثوبها الصيفي الذي كانت ترتديه يعلوه رسمة طاووس مزركش، وبامتعاضٍ لم يخفه قال:
-ماشي
سارت معه الصغيرة نحو الركن الخلفي من الدكان حيث يتواجد حمام صغير الحجم، في حين مسح "غريب" يده بخرقة قديمة ليزيح بقايا الزيت العالقة بأصابعه وهو يسأل ضيفه الي بدا على معرفة جيدة به في اهتمامٍ:
-قاعدين أد ايه المرادي؟
أجابه مسترسلاً في الحديث:
-أسبوع وبعد كده الجماعة هوديهم البلد لحد ما أرجع من رحلتي
-ربنا يوسع الرزق على عبيده
-يا رب.
أوصــل "هيثم" الطفلة إلى الحمام وتجول في الركن الخلفي دون هدفٍ محدد إلى أن لمح درج النقود الموجود أسفل المكتب الخشبي العريض مفتوحًا، خفق قلبه وومض عقله بفكرة عبثية جامحة، لما لا يستغل فرصة انشغال والده بالحديث مع صديقه ويأخذ بعض النقود على سبيل الاقتراض؟ أليس من المفترض أن يعطيه مصروفًا ينفقه كيفما يشاء؟ برر لنفسه أسباب السرقة، وتسلل بحذرٍ تام ليسحب بضعة أوراقٍ نقدية من فئة بسيطة ودسها في جيبه، استدار فجأة ليجد الطفلة محدقة به بعبوسٍ وهي تكتف ساعديها أمام صدرها، وكأنها تؤكد له أنها رأت ما فعله، توتر ودفع السبرتاية الموضوعة أعلى السطح الخشبي بتوترٍ قبل أن يهرب من نظراتها المراقبة التي حتمًا كشفت سرقته، اندفع نحو الخارج دون أن يتفوه بكلمة مما استرعى انتباه والده الذي صاح يناديه:
-واد يا "هيثم" رايح فين؟
أجاب دون أن يلتفت نحوه:
-راجع كمان شوية يابا.
بعدها ببضعةِ ساعاتٍ نما إلى مسامعه الحريق المروع الذي اشتعل في الدكان وأودى بحياة والده حرقًا، بكى لوعةً على فراقه وإحساسه بالذنب يقتله، تمنى فقط لو أخذه في أحضانه، واعترف له بما اقترفه مبديًا ندمه على فعلته النكراء، آنذاك أقحمت والدته في رأسه فكرة واحدة لتسيطر عليه، فقدان والده كان نتيجة سعيه الدؤوب للإنفاق على أسرته ليعيشوا في حياة كريمة، وأن المال وحده قد يعوض حرمانه من حنان الأب واشتياقه، نعم وحدها النقود تشتري السعادة أيًا كانت ماهيتها، ومع مرور الوقت تناقص اهتمامه بأي شيء مُجدي في الحياة سوى البحث عن الفرص لاصطياد المال السهل.
لم يعول "هيثم" على مستواه العلمي المتوسط ولا على شخصيته لاجتذاب النساء حين بلغ سن الشباب، ظل هاجس المال يتحكم في أفعاله، إلى أن دخلت "همسة" في حياته، اعتقد أنها مجرد صفقة مادية رابحة إلى أن تعرف إليها، كانت تذكره باللحظات التي سبقت وفاة والده، حين كان لا يزال صبيًا يرتكب الحماقات الصغيرة معتقدًا أنه سينجو من عقاب والده، بات مهتمًا لأمرها، خاصة مع يقينه الداخلي إن أفسد الخطبة بأنه لن يحصل على فرصة مثلها، فمن سترضي به وهو متسكعٌ، شبه عاطل عن العمل، يضيع أغلب وقته بالجلوس مع رفاق السوء، لكن بسبب جموحه أضاعها في لحظة طيش .. عاد إلى واقعه الأليم وقد انسابت دموعه دون أن يدري، فَقد كل السبل في استعادتها، هتف يقول لنفسه بإصرارٍ:
-لازم تسمعني، أنا مش هاسيبها.
....................................................................
أحنت رأسها قليلاً لتبحث عن مشبك الرأس الجديد الذي ابتاعته في درج التسريحة، كان مُصممًا على رسمة طاووس ومزينًا بالفصوص اللامعة، اعتدلت "فيروزة" في وقفتها، ومشطت خصلات شعرها بعنايةٍ، ثم أحدثت فارقًا عند الجانب وثبتت فيه المشبك، ضبطت ياقة سترتها البيضاء، وعقدت شرائط بلوزتها البيضاء المتدلية لتصبح أنشوطة، أطبقت على شفتيها معًا لتملأ أحمر الشفاه بهما، تبقى لها ارتداء حذائها على بنطالها الجينز لتبدو مستعدة للذهاب إلى حفل عيد ميلاد رفيقتها "علا"، التفتت نحو توأمتها تسألها وهي تنثر عطرها على جانبي عنقها وثيابها:
-برضوه مش هاتيجي معايا؟
أجابتها "همسة" بفتورٍ وهي تمد يدها بالهدية المغلفة إليها:
-ماليش مزاج.
كانت متفهمة لرغبتها في الانعزال اجتماعيًا عمن حولها، لم تضغط عليها، وقالت مبتسمة وهي تأخذها منها:
-أنا مش هتأخر، هاعمل الواجب وأديها الهدية وهارجع تاني
هزت كتفيها قائلة:
-اتبسطي يا "فيرو".
وعدت توأمتها بحماسٍ طغى على وجهها الناعم:
-وأوعدك بكرة هنخرج مع بعض نتفسح ونروق دماغنا على الآخر
قالت بخفوتٍ:
-إن شاءالله.
ولجت "آمنة" إلى غرفتهما وهي تحمل كومة من الملابس المطوية، وضعتها على طرف الفراش، وألقت نظرة خاطفة على هيئة ابنتها الأنيقة، ثم أوصتها بصوتٍ جاد:
-خدي بالك من نفسك يا "فيروزة"، امشي في شوارع واسعة ونور، وكلمينا كل شوية.
ردت دون اعتراضٍ:
-حاضر.
حذرتها بلهجة أشد جدية:
-وبلاش تأخير، مش عاوزين حد يتكلم.
ابتسمت قائلة في زهوٍ، وكأنها تمتدح ميزة خاصة بشخصها:
-إنتي عرفاني كفيلة أقطع لسان أي حد يتطاول عليا.
أكدت عليها بشدة:
-طبعًا، بس الحرص واجب!!
لم تجادل كثيرًا، وقالت وهي تعلق حقيبتها الفضية الصغيرة ذات السلسلة الرفيعة على كتفها:
-حاضر يا ماما، يالا سلام.
اصطحبتها للخارج لتودعها قائلة:
-في رعاية الله يا حبيبتي
........................................................
أقسم على نفسه بيمين غليظٍ ألا يعاقر الخمر من جديد، وإن كان في ذلك نجاته، كان يعتبرها النقاء الوحيد الذي أتى إلى حياته المدنسة مصادفة، وصــل بعد مجهود عضلي زائد إلى منزلها، انعطف عند الزاوية ليدخل البناية، لكن صوت "فيروزة" المرتفع جمد قدميه وأصابه بالقلق، خشي "هيثم" أن تفسد محاولته الأخيرة في الانفراد بـ "همسة" ومصارحتها بأخطائه وإعلان توبته إن رأته توأمتها المتزمتة، على الفور تراجع عن الصعود على الدرك، واختبأ في ركنٍ معتم حابسًا أنفاسه حتى انصرفت، تنفس الصعداء وألقى نظرة للأعلى راجيًا بشدة ألا يخفق تلك المرة، تهيأ بدنيًا وذهنيًا لرؤيتها، استجمع نفسه واتجه للدرج ليصعد عليه من جديد، قرع الجرس مترقبًا بشغف أن تطل عليه وليست والدتها.
في تلك الأثناء، ظنت "همسة" أن شقيقتها قد نست شيئًا وعادت لإحضاره، فلم يمضِ على غيابها سوى بضعة دقائق، ودون احترازٍ فتحت الباب لتتفاجأ به مرابطًا أمامها، حلت الصدمة على تعبيراتها، شخصت أبصارها في ذهولٍ مصدوم، رجفة مرتعبة اجتاحت كل أوصالها، تراجعت تلقائيًا للخلف وهي تغلق الباب في وجهه، لكن قدمه امتدت لتحول دون ذلك، توسلها بصوتٍ مختنق:
-استني يا "همسة" ماتقفليش الباب.
صرخت مستغيثة وهي تبذل أقصى طاقاتها لدفع الباب لغلقه حتى لا يقتحم المنزل:
-الحقيني يا ماما.
صاح بها بأصواتٍ لاهثة:
-اسمعيني يا "همسة"، اديني فرصة.
أتت "آمنة" على صوتها المستنجد، استطاعت أن تلمح "هيثم" وهو يقاتل لإزاحة الكتلة الخشبية حتى يلج للداخل، وكاد يفعل ذلك، شهقت في ارتعاب:
-يا لهوي، إنت بتعمل إيه؟
اندفعت دون تفكير لتزيد من الثقل عليه وهي ترجوه:
-يا ابني امشي بالذوق مايصحش اللي بتعمله ده!
هدر بعنادٍ مقاومًا الاثنتين:
-لأ مش هامشي غير لما "همسة" تسمعني.
ردت عليه بصوتها المرتجف:
-احنا مافيش بينا حاجة، كل واحد راح لحاله.
أبدى "هيثم" ندمه الشديد فقال دون تمهيد:
-أنا غلطان، وابن ستين .....، وماليش أي عذر على قلة أدبي معاكي، أنا مكونتش في وعيي ساعتها، بس اقسم بالله ما كنت أقصد أذيكي، اديني فرصة أصلح اللي فات.
وبالرغم من تبريراته التي امتزجت بنحنحة مسموعة إلا أنها قالت مهددة:
-امشي بدل ما أطلبلك البوليس!
لم يرغب في إخافتها فسحب قدمه لتتمكن من غلق الباب، تحمل الألم الشديد الذي أصابه، لكنه لا يقارن بألم قلبه، استطاع أن يسمع صوت غلق القفل من الداخل، استند بكفه على سطحه وهتف بصوته الباكي:
-والله مكونتش في وعيي
ردت عليه "آمنة" بصوتٍ مشفق ترجوه أن يتخلى عن عناده ويبتعد قبل أن يحدث ما تخشاه:
-اللي حصل حصل يا ابني، روح لحال سبيلك.
لوهلة دارت الهواجس في رأسه، وظن أن موقف "همسة" المعادي له راجع فقط لرغبة أختها، كور قبضته بتشنجٍ، ثم صاح بنزقٍ وهو يدق على الباب بعنفٍ:
-أكيد أختك اللي مقوياكي عليا، أنا عارف، إنتي غيرها!
استنكرت اتهامه الصريح، وردت بقوةٍ:
-ملكش دعوة بـ "فيروزة"، ده قراري ومش هارجع فيه
هتف معاندًا برغبة أشد إصرارًا وهو يفترش الدرج بجسده:
-وأنا مش هاسيبك!
اشرأبت "همسة" لتنظر من العين السحرية له، لم تتبينه وسط تلك الإنارة الخافتة، تحسست صدرها المتهدج بيدها، وسألت والدتها بصوتٍ خفيض لكنه خائف:
-هنعمل إيه دلوقتي يا ماما؟
.............................................................
احتضنتها مطولاً بعد أن انتهت من تقبيل خديها، ثم ابتعدت عنها لتنظر إليها في إعجابٍ وقد كانت فاتنة الحفل، ولما لا؟ وهي صاحبة ذلك العيد ميلاد المميز والذي أقيم بالنادي الشهير، تأملت "فيروزة" بإعجابٍ رفيقتها "علا" التي ارتدت ثوبًا براقًا من اللون القرمزي يغطي كامل جسدها بدءًا من عنقها وكتفيها لينتهي عند قدميها بذيل قصير، ابتسمت لها في رقةٍ، وهنأتها قائلة:
-كل سنة وإنتي طيبة يا "لولو"
ردت مجاملة:
-حبيبتي يا "فيروزة"، وإنتي طيبة يا قلبي..
ثم تساءلت في اهتمام:
-أومال فين "همسة" مجاتش معاكي ليه؟
مدت يدها بالهدية الصغيرة، وتحججت قائلة:
-تعبانة شوية، اتفضلي يا "لولو".
تناولت منها الهدية، وسألتها بدلالٍ:
-ولا خطيبها مرضاش؟
اكتسى وجهها بتعابيرٍ واجمة، وضغطت على شفتيها للحظة قبل أن تخبرها:
-لأ مش كده خالص، بس الموضوع آ.....
ابتلعت باقي جملتها حين حضر "ماهر" ليقول بمرحٍ:
-طبعًا أختي الحلوة مستنية هديتها مني.
ردت عليه "علا" بحماسٍ:
-أكيد.
التفت إلى الجانب ليجد "فيروزة" بجوارها، رحب بها بودٍ:
-إزيك يا "فيروزة"؟ عاملة إيه؟
أجابته مبتسمة بلباقةٍ:
-تمام الحمدلله، وحضرتك أخبارك إيه؟
رد بتنهيدة مرهقة:
-يعني.. ماشي الحال
أضافت بتفهمٍ:
-الله يكون في العون، مشاغل حضرتك كتير.
هز رأسه معقبًا وهو يسحب سيجارة من علبتها ليضعها بين شفتيه:
-طبعًا، المشاكل مابتخلصش في شغلنا.
استدار برأسه نحو الجانب المعاكس حين سمع صوتًا رجوليًا يناديه:
-"ماهر" بيه
لوح لرفيقه بيده بعد إشعاله لسيجارته:
-"آسر"، جايلك..
ثم وزع نظراته بين الشابتين وقال:
-عن إذنكم لحظة.
انسحب في هدوءٍ ليلاقي صديقه "آسر" الذي صافحه بحرارةٍ، وقف الاثنان مبتعدين عن الزحام ليتدثا بأريحيةٍ، ارتكزت أنظار الأخير على "فيروزة"، ظهرت علامات الاهتمام بها جلية على قسماته، لفتت أنظاره منذ أن أطلت على الحفل بوجهها الناعم ومظهرها الجذاب رغم عدم تكلفها، كانت ملامحها مألوفة بالنسبة له، تذكر أنه رأها من قبل، اعتصر ذهنه عصرًا ليتذكر أين تحديدًا، لم يحتر كثيرًا، تنشط عقله بوجهها وضحكتها الفاتنة؛ إنها نفس الفتاة التي تواجدت بالمطعم البحري حين جاء للقاء رفاقه به، كانت تبدو غير منسجمة آنذاك مع رفاقها، لم ينكر أنها أثارت انتباهه حينها بثوبها البراق، واليوم حركت فيه نزعة غريبة كانت تزداد توهجًا مع متابعته الكثيفة لها، مال برأسه نحو "ماهر" وسأله بفضولٍ: 
-مين دي يا "ماهر"؟ 
بدا الأخير غير منتبهٍ، فأضاف:
-اللي واقفة جمب "علا".
أجال "ماهر" بنظراته على المتواجدات حول شقيقته قبل أن يجيبه متسائلاً في حيرة واضحة:
-قصدك مين؟
أجاب موضحًا أكثر:
-البنت اللي لابسة جاكيت أبيض وفاردة شعرها دي.
أدرك أنه يقصد "فيروزة" بحديثه، ابتسم له متسائلاً بعبثية:
-دي صاحبة "علا"، مالك بيها؟
أجاب مراوغًا:
-أنا كنت شوفتها معاكو قبل كده، يوم المطعم.
رفع حاجبه الأيسر مؤكدًا صحة ما تفوه به:
-أيوه.
فرك "آسر" طرف ذقنه، وتساءل:
-إنت تعرفها كويس؟
لم يرد بإجابةٍ مباشرة، وقال كأنه يحقق معه:
-ليه في حاجة؟
تنحنح معلقًا عليه ببسمة سخيفة:
-لا عادي.. 
بدا رده منقوصًا، وافتضح أمره حين تابع من تلقاء نفسه:
-أنا مش شايف دبلة في إيدها.
نظر له في ضيقٍ وهو يكمل محذرًا:
-على طول لحقت تفحصها، بأقولك إيه ملكش دعوة بأصحاب أختي، وخصوصًا "فيروزة"!!!
قال مبتهجًا وقد انفرجت أساريره:
-ده اسمها؟
على مضضٍ رد:
-أيوه.
لكزه في جانبه ممازحًا:
-طب ما تخليك جدع معايا وتعرفني بيها.
غامت نظراته مرددًا في ضيقٍ، وكأنه لا يستسيغ تلك النوعية من التصرفات:
-إنت مابتضيعش وقت؟!
أجابه بابتسامة غامضة وهو يغمز له:
-مش جايز ربنا يهديني وألاقي بنت الحلال هنا.
أنذره "ماهر" بلهجة اكتسبت جدية مُريبة:
-ماشي يا "آسر"، بس إياك تعملي مشكلة، أنا بأحذرك تاني.
قال في حبورٍ، وذلك الإحساس المتحمس يتخلله:
-اطمن .. ده أنا حبيبك.
أعمل "ماهر" عقله حتى يبادر معرفًا به دون أن يثير الشكوك أو يبدو في موقفٍ حرج، دنا من شقيقته وقد تأكد من تواجد "فيروزة" بقربها ليقول بابتسامةٍ عريضة متعمدًا لفت أنظارها:
-يا "علا"! "آسر" وفى بوعده وجه عيد ميلادك مخصوص.
بهجةٌ غير عادية طفت على تعبيراتها وهي ترد:
-مش مصدقة، ده احنا لازم نعمله تمثال!
ادعى "آسر" شعوره بالإحراج وقد وقف في مواجهة "فيروزة" لتصبح شبه قريبة منه:
-يا جماعة مش للدرجادي، إنتو كده بتحرجوني!
ردت عليه "علا" بقليلٍ من المرح:
-مش بعوايدك تلتزم بأي ميعاد.
ثبت عيناه المتفحصان على وجه "فيروزة" وهو يجيبها:
-ده بس عشان أنا لسه موجود ومسافرتش.
توردت بشرتها معقبة عليه:
-ده من حظي بقى
اتخذت "فيروزة" موقف المشاهد الصامت الذي لا داعي من وجوده معظم الحوار إلى أن استطرد "ماهر" يقدمها له:
-دي بقلا يا سيدي صاحبة أختي الأنتيم "فيروزة".
نظرة مشرقة ظهرت في عينيه وهو يرحب بها بودٍ زائد:
-تشرفت بيكي، ماشاءالله اسمك حلو ومختلف
قالت "فيروزة" باقتضابٍ وقد سطع على وجهها تعبير مهني بحت:
-ميرسي.
تساءل "آسر" باهتمامٍ وهو يخطو نحوها خطوة محسوبة ليجبرها على التحرك معه ويوجهها وفق خطواته:
-طالما إنتي صاحبة "علا" يبقى خلصتي دراسة زيها، صح؟
شعرت بعدم الارتياح لأريحيته الزائدة في الحديث معها، وكأنه يعرفها منذ زمن، لهذا ردت بإيماءة مؤكدة من رأسها دون أن تنطق، ومع ذلك تابع متسائلاً بفضولٍ أكبر:
-بتشتغلي يا آنسة "فيروزة"؟ ولا أعدة في البيت؟
لم تحبذ تلك النوعية من الأسئلة التحقيقية التي يفرضها الآخرين عليها ليتدخلوا في شئونها دون مراعاة لعدم رغبتها في الاندماج اجتماعيًا مع الغرباء، أدركت أنها ابتعدت عن رفيقتها بمسافة شبه كبيرة مما وترها قليلاً، لذا أجابته بنوعٍ من الغموض وهي تحاول عدم إحراجه حتى لا تفسد بهجة الحفل بغلظتها:
-كنت.. وسبت الشغل.
سألها كأنه يلاحقها:
-مشاكل ولا محبتيش الشغل؟
تطلعت إليه وقد امتقع وجهها، ثم أجابته باقتضابٍ قبل أن تتركه لتعود لرفيقتها:
-يعني، عن إذنك.
لم يرغب "آسر" أن يصبح ثقيلاً معها، فأشار لها بيده قائلاً بتهذيب:
-اتفضلي، وسوري إن كنت ضايقتك
لم تلتفت نحوه حين ردت:
-مافيش مشكلة.
نفخت في ضيقٍ من أسلوبه وعادت لتقف بجوار رفيقتها، ولكن وسط بقية الفتيات حتى لا يتكرر الأمر إن كان مقصودًا منه، حانت منها نظرة سريعة لتتأكد أنه لا يتطلع إليها، أُصيبت بالذهول والارتباك وقد كان محدقًا بها بابتسامة هادئة، أخفضت نظراتها وادعت انشغالها بالحديث مع من حولها، لكن أخبرها حدسها بأنه ما زال يخترقها بنظراته النافذة .. تزينت الكعكة الكبيرة بالشموع التي ملأت أطرافها، قام "ماهر" بإشعالهم ليلتفت حولها الضيوف ، ثم بدأوا في ترديد أغاني العيد ميلاد الشهيرة، أطفأتهم "علا" جميعًا على دفعتين من الهواء، وتلقت التهنئات من صديقاتها الجميلات، جاء دور "فيروزة" فقالت مودعة إياها:
-كل سنة وإنتي طيبة يا "لولو"، مضطرية أمشي عشان وعدت ماما متأخرش.
انزعجت من انصرافها مبكرًا، وقالت بتذمرٍ:
-هو إنتي لحقتي؟
بررت لها بابتسامةٍ صغيرة ظهرت على شفتيها:
-معلش يا "لولو"، هابقى أعوضهالك، وخليكي إنتي مع ضيوفك.
تفهمت موقفها، وقالت:
-ماشي يا ستي، بس عاوزة أشوفك تاني
-أكيد
رددت تلك الكلمة قبل أن تنحني عليها لتحتضنها لمرة أخيرة، ثم انسلت من بين الحضور معلقة حقيبتها على كتفها، استوقفها "آســر" فجأة وقد ظهر لها فجأة ليعترض طريقها:
-إنتي ماشية يا آنسة "فيروزة".
انزعجت من تطفله عليها، وردت بتجهمٍ شديد:
-أيوه
همت بالتحرك لكنه أوقفها بفرد ذراعه أمامها، رمقته بنظرةٍ حادة وذلك التعبير الساخط منتشر على محياها، تساءل "آسر" بلطافةٍ مهذبة:
-تحبي أوصلك؟ أنا معايا عربية، يعني بدل بهدلة المواصلات وكده
ارتدت قناع الجمود، وسددت له نظرات قوية نافرة لتقول بنبرة جافة:
-لا شكرًا، بيتي قريب
ألح عليها مبتسمًا:
-على فكرة دي حاجة عادية خالص، و...
قاطعته بنظراتٍ صارمة:
-مش هاينفع، وعن إذنك.
خطت للجانب حتى تتمكن من السير، لكنه لحق بها، وسألها بعفويةٍ وعيناها تدرسان قسماتها التي تتباين في ردات فعلها في وقت قياسي:
-طب هاشوفك تاني؟
هتفت توبخه بنظراتها دون أن تتوقف:
-أفندم؟ تشوفني؟
ابتلع ريقه حين قرأ بوضوح تعابيرها المزعوجة، ثم برر بلطفٍ حتى لا تنفر منه:
-قصدي يعني أتمنى أشوفك مع "علا" مرة تانية قبل ما أسافر.
اختلج وجهها بحمرة متوترة، رن صوتها الرسمي في أذنيه حين ردت وحاجباها معقودان في ضيقٍ:
-إن شاءالله.
...........................................................
كان الطقس لطيفًا بالرغم من التجمعات الكثيفة للسحب منذ وقت الظهيرة، اعتقد "تميم" أنها لن تمطر، سيظل الجو غائمًا فقط، ولكن بدأت زخات المطر في الهطول ليضطر أسفًا أن ينهي أعماله في الميناء مبكرًا بعد تعبئة السفن بأطنانٍ من الفواكه والخضراوات، استقل سيارته، وتحرك ببطءٍ في الشوارع الرئيسية عائدًا إلى منزله، ولكنه توقف عند أحد محال البقالة ليبتاع ما ينقص بيته تنفيذًا لأوامر زوجته، وكالعادة أزعجته "خلود" باتصالاتها المتعاقبة على مدار ساعات اليوم الطويلة، أجابها لينتهي من ذلك الكابوس المستمر قائلاً بتبرمٍ:
-يا ستي أنا جبت كل حاجة، ارتاحي شوية.
سألته بدلالٍ لا يستلطفه:
-طب هترجع امتى؟ أنا مستنياك عشان ناكل سوا، يومي ما بيكملش من غيرك!
رد على مضضٍ:
-شوية كده..
-موحشتكش
-أكيد وحشتيني
-طب قولي النهاردة كان آ...
وقبل أن تستأنف باقي أسئلتها كتحقيقٍ متبع خلال يومه الممل هتف منهيًا المكالمة:
-يالا سلام دلوقتي يا "خلود" عشان في لجنة قصادي.
رأى "تميم" بضعة أفراد من الشرطة يقفون على مسافة منه يفحصون كل المركبات السائرة على الطريق ليتأكدوا من صلاحية رخصة قائديها، لم يلقِ بالاً للأمر لالتزامه بمعايير القيادة الآمنة، لكن رنين اتصالات "خلود" الزائد كان مرهقًا بالنسبة له بعد عناءِ يومٍ شاق، ردد مع نفسه في تذمرٍ:
-إيه .. طلباتك مابتخلص!!!
التفت على يســاره ليلقي نظرة خاطفة على المتجمعين أسفل تندة تخص أحد محال الثياب، خفقة مباغتة ذات تأثير قوي داعبت قلبه حين رأها تحتمي بينهم من المطر، تطلع بإمعانٍ ليتأكد منها، لم يكذب الفؤاد، بالفعل كانت متواجدة بشحمها ولحمها تضع حقيبتها أعلى رأسها حتى لا يبتل شعرها، توترت أنفاسه وردد مذهولاً وهو يرمش بعينيه:
-مش معقول، دي هي!
وكأنه أصيب بحمى عجيبة تسببت في ارتفاع حرارة جسده، بل وأصابت عقله بلوسةٍ غريبة، تنفس بعمقٍ ليهدئ من انفعالاته التي اهتاجت فجأة، أوقف السيارة على الجانب المقابل من الطريق وتلك الرجفة تسري فيه، أدار رأسه مرة أخرى لينظر نحوها، كانت تجذب عينيه ليتأملها مليًا دون مللٍ، بدت فائقة الإغراء وقد ابتلت أطراف شعرها، انقبض قلبه من جديد بقوةٍ حين نفضته لتزيح العالق من مياه الأمطار، ضحكة رجولية عالية غير مريحة لفتت انتباهه وانتشلته من تحديقه الواله بها لتتبدل بعدها تعابيره الساهمة لوجوم غاضب، حرك رأسه بسرعةٍ ليجد بعض الشباب يمرحون فيما بينهم، هاجت دمائه من احتمالية تفكير أحدهم في مضايقتها، خاصة أنها كانت بمفردها، لذا دون إعادة تفكير ترجل من سيارته مقنعًا نفسه أنه سيتعامل معها بدافع الشهامة.
وبخطى متعجلة كان يقطع الطريق أشواطًا ليصل إليها، وقف قبالتها، كانت ذات رونقٍ مثير وجذاب بشكلٍ لا يُحتمل جعلت أنفاسه تضطرب، دارت عيناه على ثيابها الأنيقة لتحفر وصفها في مخيلته، بدت بيضاء للغاية، تنفس ببطءٍ ليستعيد ثباته، وبالرغم من كفاحه المستميت إلا أنه حين استطرد يناديها خرج صوته مغلفًا بلعثمةٍ طفيفة:
- آ.. يا .. يا أبلة
تدلى فك "فيروزة" السفلي في اندهاشٍ مستهجنٍ حين رأته أمامها، الآن اكتملت ليلتها برؤيته، غامت نظراتها مرددة بضيقٍ بائن عليها:
-إنت؟!
نظرة واحدة منها كانت كفيلة بإرباكه، توتر أكثر وفقد تركيزه وهو يحاول إيجاد المقدمة المناسبة ليستهل بها حديثه معها، خاصة أنها من النوع المتهور المندفع الذي يتحين الفرص للانقضاض عليه، مرر يده على رأسه وتنحنح قائلاً بتمهلٍ:
-أنا مش جاي أضايقك، بس الجو وحش زي ما إنتي شايفة، ومافيش مواصلات كتير.
نظرت له متسائلة:
-والمطلوب؟
ضغط على شفتيه للحظة قبل أن يجيبها بحذرٍ:
-ماينفعش وقفتك كده.
على الفور حدث ما يخشاه، بدأت فاصلاً من الهجوم عليه، فقالت بتهكمٍ أزعجه:
-وحضرتك مالك؟ أخصك في حاجة وأنا معرفش؟ قريبتك مثلاً؟...
توقفت للحظة عن عمدٍ لتصيبه بالضيق أكثر قبل أن تواصل بنفس الأسلوب الساخر:
-يمكن خطيبتك، أه ولا جايز مراتك؟
راقب عصبيتها بنظراتٍ غريبة، وكأنه يدرسها، ما زالت تثير كلاً من دهشته وتحفظه بالرغم من الحنق المتبادل بينهما، لكنها كانت محقة في كلامها الأخير، لا توجد صلة بينهما، ومع هذا قال بخشونةٍ حتى لا تتمادى في هجومها القاسي عليه: 
-في إيه لكل ده؟ أنا كنت عاوز أوصلك، باعتبار إن سكتنا واحدة، حاجة إنسانية يعني.
تقوست شفتاها بضحكة مستهجنة قبل أن تغمغم بوقاحة:
-لما أعوز أركب سفلأة (مجانًا) هاقولك!
صدمه ردها الفظ، وردد بعينين متسعتين:
-نعم!
هتفت باستعلاءٍ، وكأنها تحتقره:
-اللي سمعته!
سدد لها نظرة نارية حانقة، ورد عليها بغلظةٍ:
-يا ستي أنا غلطان، إن شاءالله ما ركبتي..
لكن لانت نبرته بمقدار بسيط حين تابع:
-بس الوقفة وسط الرجالة ماتصحش، مافيش آمان يا أبلة لحد!
نبع خوفه الصادق عليها من قلبه، استشعرت ما ينتابه من قلقٍ، وبعفويةٍ التفتت للجانب لتجد ذلك التجمع الرجولي الزائد، تلبكت من وجودهم الكثيف، أحست بالخطر مُحاوطًا بها وإن كانت تدعي شجاعتها، بعض المواقف تحتاج للتقييم جيدًا قبل اتخاذ القرار الحاسم، انتصبت بكتفيها، وعلقت حقيبتها التي تهدلت سلسلتها على كتفها من جديد، ثم قالت بنبرة عازمة دون أن تنتظر الرد منه:
-خلاص هامشيها، والمشي رياضة!
وبخطوات جمعت بين الثقة والخيلاء بدأت بالسير على الرصيف متجاوزة إياه لتبتعد عنه وهو يكاد لا يصدق أنها فعلت الأسوأ وســارت تحت المطر لتبتل كليًا، ضرب كفًا بالآخر متعجبًا من عنادها وهو يردد لنفسه:
-رهيبة، بالله ما شوفت كده!
أزاحت "فيروزة" بيدها خصلاتها التي التصقت بجبينها، ولم تدرك أنها أسقطت مشبك رأسها بحركتها المتعصبة، لمح "تميم" ذاك الشيء الذي وقع منها وأحدث ارتطامه بالرصيف تناثرًا للمياه، ســار خلفها باحثًا عنه، كان بريقه واضحًا ليتمكن من العثور عليه، انحنى ليلتقطه، تأمله في استمتاعٍ وقال مداعبًا وتلك النظرة الدافئة تلتصق بطيفها المبتعد:
-طاووس فعلاً.
تراءى له بوضوحٍ ما يجب أن يفعله معها دون أن يثير الجلبة، سيتبعها كظلها بسيارته إلى أن تصل إلى منزلها في سلامٍ .. بالفعل منح نفسه الوصاية عليها، ونصب نفسه حارسًا عليها وإن لم تعلم ذلك ................................................... !!
...........................................................................

تعليقات



×