رواية فراشة في سك العقرب ( حب أعمي ) الجزء الثانى الفصل الاول بقلم ناهد خالد
(حب أعمى)..
“أحيانًا لا نعرف كيف نجونا، رُبما بدعوة مخلصة من قلب يحبنا، ورُبما بمشيئة الرب!”
تسمرت محلها حين لمحت بجانب عينيها وقوفه القريب لحد ما، وصمتت تمامًا عن الحديث غير قادره على التفوه بحرف واحد ورد الفعل الصحيح تجهله، فماذا ستفعل وأين ستخفي الهاتف وهو يقف مجاورًا لها وعينيهِ بالتأكيد لا تفارقها، ثواني مرت عليها كالساعات حتى أتت مشيئة الرب حين دلفت “نورهان” لغرفته فجأة ليلتفت لها فتسرع “فيروز” التصرف وهي تسقط الهاتف في اناء زرع قريب منها ووقفت تعدل خصلات شعرها وكأنها لا تنتبه لهم…
_ ايه يا حبيبتي محتاجه حاجه؟
نظرت له بتردد واضح جعله يحثها على الحديث فقالت بحذر:
_ كنت عاوزه اسألك سؤال لو هيعصبك بلاش ترد.
ابتسم لها ابتسامة صغيرة وقال مشجعًا:
_ اسألي..
فركت كفيها بقلق بالغ وسألته:
_ مبتفكرش تحل مشاكلك ما مازن؟
استند على سور الشرفة بإحدى زراعيهِ وقال ببسمة ساخرة:
_ لأ، مبفكرش.
قطبت ما بين حاجبيها بحزن وضيق في آنٍ:
_ ليه؟ عمر العداوة ما تستمر بين الاخوات يا شاهين.
_ بتستمر عادي.. طول ما هم اتفننوا في أذية بعض.. تحبي اعدلك كام مرة مازن أذاني؟ أو محتاجه اعرفك هو أذاني لدرجة ايه؟
احنت رأسها أرضًا وصمتها كان مفسرًا فلوى فمه باستهزاء والتف ينظر خارج الشرفة يتعمق في السماء السوداء الكاحلة والتي بات قلبه يشبهها في عتمتها.
زفرة خانقة صدرت منها وبعدها ربتت على كتفه بمواساة وقالت:
_ أنا أسفة.. مكانش قصدي افكرك.
_ مبنساش عشان تفكريني.
قالها بنبرة ظهر فيها القسوة والألم، فسحبت كفها وانسحبت هي نفسها بعدما القت نظرة على “فيروز” الواقفة بشرفتها تعطيها ظهرها..
بعد ثواني من الانغماس في قسوة الماضي وذكرياته الأليمة نفض رأسه عن كل ما يدور بها، والتف للواقفة على الجهة الأخرى ليجدها تضع كفها على أذنها كما كانت فتجعدت ملامحه قليلاً محاولاً فهم ما تفعله، ولِمَ تضع كفها هكذا!
_ فيروز؟
وعنها فلقد استمرت على نفس الوضع كي لا تثير شكوكه، لأنها تعلم أنه إن نظر لها سيسألها عن وضعها الغريب وحينها ستخترع له حجة تبدد أي شكوك لديهِ..
نظرت له وكأنها تفاجأت الآن بوجوده، رفرفت بأهدابها قبل أن تجيبه:
_ نعم!
_ انتِ حاطة ايدك على ودنك ليه؟
دلكت أذنها بكفها وجعدت ملامحها في ألم مصطنع قبل أن تقول:
_ وجعاني بقالها شوية وحساها بتوش.
سألها بحيرة:
_ دي أول مرة ولا ساعات بتتعبك؟
أنزلت كفها وابتسمت بهدوء وهي تجيبه:
_ لا متقلقش هي ساعات كده بتتعبني اصل مانا وانا صغيرة وانا عندي مشكلة في طبلة ودني اليمين حتى تلاقيني مبسمعش بيها كويس.
وقد كانت حقيقة فعلية، فهي لديها مشكلة في أذنها اليمنى أثر حادث تصادم حدث لها حين قررت العمل في بيع الفل لأول مرة.. كانت تائهة وتشعر بالتوتر والتخبط في آنٍ فلم تكن قد اعتادت بعد المرور بين السيارات واشارات المرور المغلقة والمفتوحة! وكعادة أي فتاة فكانت سرعة السيارات تربكها وتخيفها، وفي أول يوم لها في العمل حين فُتحت إشارة المرور دون انتباه منها وبدأت السيارات تتحرك أصابها الارتباك وهي ترى السيارات تمر من حولها دون توقف وأصوات الزمور القوي عزز ارتباكها، فتحركت بعشوائية جعلت إحدى السيارات تصطدم بها، لم يكن الصدام قوي، ولم يحدث بها ضرارًا واضحًا، لكن بعد عدة أيام عانت من ألم في أذنها التي سقطت عليها على الأرضية الصلبة، لتكتشف أنها قد أصيبت بثقب صغير في طبلة الأذن.. يسبب لها ألم من حين لآخر، ومع علو الأصوات تحديدًا يفقدها صوابها وهذا كان له السبب الأكبر في عدم تحملها لصراخ الرجل الذي كان في القبو…
_ مقلقتش.
قالها ببرود، فرفعت حاجبيها باستنكار لرده وقالت ساخرةً:
_ حتى قولي انك قلقت ولو بالكدب! وانا اللي كنت بسأل نفسي ليه المسافة دي كلها بينك وبين مراتك.. دلوقتي فهمت.
استند على سور شرفته الجانبي ليصبح قبالتها وهو يسألها بتهكم:
_ايه بقى اللي فهمتيه يا فيلسوفة؟
ربعت ذراعيها أمام صدرها وهي تجيبه بتهكم مماثل:
_ مش محتاجة فلسفة ولا حاجة.. يعني بصراحة أنا شايفة إنك شخص ملكش تعامل مع البشر، فأكيد مراتك كمان مش عارفة تتعامل معاك وده سبب الخلاف اللي مش فهماه بينكوا، رغم أنها متتخيرش عنك يعني المفروض تليقوا مع بعض جداً.
ارتفع جانب فمه ساخرًا:
_ وانتِ بقى اللي بتعرفي تتعاملي مع البشر، عشان كده مش عارفه تاخدي قرار في حياتك وأي حد يقولك كلمتين تقفي في صفه.
قطبت ما بين حاجبيها غاضبًة بعدما فكة عقدة ذراعيها وسألته بتحفز:
_ يعني ايه؟
اعتدل في وقفته هو الآخر وقال:
_ يعني أول ما مازن اقنعك انه هيحللك مشكلة القضية وهتبقى شقة امك ملك ليكي وقفتي في صفه ونفذتي اللي هو عاوزه، وبذكائك عشان تكسبي قضية كان ممكن تكسبيها بطرق كتير تانية وقعتي نفسك في مصيبة مش هتعرفي تخلصي منها.. ده طبعا لو الحكاية حكاية قضية.. وشقة.. ميكونش ماسك عليكي حاجه كده ولا كده.
_ المصيبة دي اللي هي انتَ مش كده؟
مسد وجهه بكفه وحرك رأسه يائسًا منها فلقد تركت كل ما تحدث فيه وعلقت على أتفه ما بهِ..
_ مش بقولك ذكية!
اقتربت من السور المشترك بين الشرفتين حتى أصبحت ملاصقة له وبات يفصلها عنه عدة سنتيمترات قليلة، نظرت له بغضب حقيقي وهي ترغب في سبّه لكنها تحكمت في لسانها بالكاد وهي تقول:
_ انتَ مش بس مصيبة، ده انتَ مصيبة سودا ووقعت على دماغي.. لو كنت اعرف اني هتقابل مع شخص زيك عمري ما كنت وافقت وتغور الشقة، بس للاسف دلوقتي مازن عنده فعلا اللي يهددني بيه عشان اكمل..
وتركته دالفة لغرفتها وقد اغلقت باب الشرفة بالقفل الالكتروني…
حسنًا لقد اعترفت.. هناك شيء ما لم تقوله وهو ما يهددها مازن بهِ، إذًا الأمر بات واضحًا، الحقيقة ليس لها أي علاقة بشقة وقضية الوضع أخطر بكثير، ولكن ما الشيء الذي يضغط بهِ مازن عليها؟ هل الأمر يتعلق بالشرف أم شيء آخر؟؟!!!
والغريب أنه حين خطر بباله أن الأمر قد يتعلق بعلاقة ما جمعتها بمازن أو بغيره شعر بنفسه يضيق، وكأن صدره يرفض ما توصل إليه عقله، والاغرب أن هناك صوت في قاع عقله يخبره أنها لا تفعلها، لا تتورط بهذا النوع من المصائب القذرة، وهناك في قمة عقله صوت يخبره ولِمَ لا؟ ألم تفعلها غيرها؟ وغيرها لم تتوقع منها أن تكون على هذا القدر من الحقارة.. هل ستثق مرة أخرى؟ ألم تأخذ عهدًا على نفسك ألا تضع رأيًا في أي امرأة أيًا كانت.. مجرد رأي! وأن تتوقع منهم دائمًا أن يدهشوك بالخيانة والغدر والحقارة التي يتلاعبن بها!
زفرة قوية أخرجت الكثير والكثير من خبايا صدره، تبعها بدلوفه لغرفته ليخلد لنوم جديد يهرب فيهِ من الماضي الأليم والحاضر المؤذي..
حين سمعت اغلاق باب شرفته فتحت بابها برفق وحذر وخرجت تأخذ الهاتف من اناء الزرع ودلفت مسرعة للداخل تتنهد براحة.. وما ان فتحت شاشة الهاتف لتطلب رقم والدتها حتى تفاجأت أن مكالمة مازن قيد الاستمرار!
_ الو؟
_ أمان؟
جلست فوق الفراش وهي تجيبه:
_ ايوه تمام انا في اوضتي، انا فكرت الخط فصل.
_ لأ.
كان صوته غريبًا لم تفهم سبب وجومه وحدته، ولم تدع نفسها حائرة كثيرًا وهي تسأله بتردد:
_ مال صوتك؟ في حاجة حصلت؟
بالطبع لن يخبرها انه استمع لحديث “نورهان” و “شاهين” الذي حرك بهِ شيئًا ما يمقته، وأثار الضيق في نفسه حتى أنه فكر أن يغلق المكالمة لكن الفضول دفعه للاستمرار ومعرفة ما سينتهي اليه الأمر.. وكالعادة “شاهين” ينال اعتذرًا مُحملاً بالأسف، و “مازن” ينال اتهامًا مُحملاً باللوم، متى سيقف أحدهم في صفه دون أن ينصر” شاهين” عليهِ؟ متى سيجد من يفهم ألمه هو الآخر ومبرراته كما يفعلون معه؟
_ زعلت من كلام شاهين؟ ولا إن نورهان مقالتش في حقك كلامك تدافع عنك؟
تجمدت ملامحه تفاجئًا بحديثها، هل فهمت ما أزعجه دون أن يبوح؟
_ الاتنين.
تنهدت قبل أن تقول بنبرة لينة:
_ أمي دايمًا كانت تقولي مفيش حد بيعترف بغلطه، عشان كده ملكش حق تزعل من كلام شاهين.. هو طبيعي مش شايف نفسه غلطان حتى لو هو فعلاً غلطان، ونورهان حتى لو عاوزه تدافع عنك مش هتعمل كده لأنها شافته ازاي مضايق، فهتأجل انها تقول كلمة تضايقه أكتر حتى لو كانت كلمة الحق.
ولأول مرة يقرر الإفصاح عن بعض ما يعتمر صدره فسألها:
_ ولو نورهان فعلا شايفة شاهين مظلوم ومعندهاش كلمة أصلا تقولها في حقي تدافعي بيها عني.
_ يبقى ده لسببين.. إما شاهين عارف يقنعها كويس بغلبه ومسكنته وانه مستحيل يأذيك وده أنا شوفته بعيني وشوفت ازاي ألف حكاية عني أنا وهو واقنعها بيها.. إما انتَ فعلاً مش مظلوم بس زي أي انسان مبيعترفش بغلطه.
_ وتتوقعي انهي الصح فيهم؟
صمتت قليلاً، وأخذت نفسًا تبدد بهِ حيرتها:
_ انا شوفت بعيني ازاي قدر يقنعها بحكاية مزيفة في دقايق.. حكاية لو أنا مش طرف فيها كنت صدقتها وكرهتك.. وفي نفس الوقت قلبي بيقولي انك مش السبب في الخلاف بينكوا، وبعدين امتى المجرم بيكون بريء وصادق!
لقد اعطته الشعور الذي يفتقده، أن يثق بهِ أحد دون أن يحتاج لكثير من الدلائل والمبررات المقنعة، أن يؤكد أحد على أنه الطرف المظلوم وليس الظالم، الطرف الصادق والبريء.
وبالتأكيد هذا ما جعله يخرج عن صمته ويبوح بالكثير من الأسرار التي لم يتحدث بها مع أحد من قبل:
_ شاهين كان اخويا الكبير وابويا وصاحبي، كان مثلي الأعلى وقدوتي، كل حاجة كنت عاوز اكون شبهه فيها، طريقة لبسه وتسريحة شعره، نوع البرفان اللي بيستخدمه، الوانه المفضلة واللي بيلبسها معظم الوقت، طريقة كلامه ومشيته.. لو قولتك اني كنت مهووس بيه لدرجة اني طول الوقت براقبه عشان اكون نسخة منه هتقولي عني ببالغ، بس دي كانت الحقيقة..
صوت صمت ساد لثواني جعلها تجلس مستريحة على الفراش وهي تدرك أن المكالمة ستطول، وصوته الشاجن المحمل بلوم وعتاب خفيان ربما يلقيهما على أكتاف شقيقه، وربما يقصد بهما الزمن الذي بدل الأحوال وفرق العزيزين جعل ملامحها توصم بالحزن دون أن تدرك.
وعنه فقد ترك الهاتف فوق الفراش واسترخى جاعلاً ذراعيهِ أسفل رأسه وكأنه يتحدث مع نفسه ويري مشاهد الماضي تتجسد أمامه على سقف الغرفة!
_ دايمًا الأخوات بيحبوا يكونوا مختلفين عن بعض، حتى التوأم اللي شبه بعض في الشكل بيكونوا حابين يكونوا مختلفين في الطريقة والكلام ومجال الدراسة والهوايات كنوع من التميز، لكن أنا كنت العكس خالص.. شاهين بيحب اللون البني والأسود يبقى أنا كمان احبهم، شاهين بيكره الأصفر.. أنا كمان أكرهه، شاهين بيلعب بوكس يبقى انا كمان العب زيه، كل حاجه كنت ماشي وراه فيها، ومكنتش شايف ده عيب على قد ما كان حب مني له، كان بابا دايمًا يقولي انتَ تابع لشاهين.. انت بتحاول تكون نسخة منه لكن هتكون نسخة ماسخه ومهما حاولت تكون شبهه هتفشل، كان دايما يقولي انتَ ملكش شخصية وبتعمل كل حاجه شاهين بيعملها مبتعملش حاجه من نفسك ابدًا، كل الكلام ده على قد ما كان بيوجعني على قد ماكنت مبهتمش افهمه او حتى افكر فيه، وفضلت ورا شاهين في كل حاجه..
صمت آخر، وتنهيدة طويلة..
_ ماما كانت مهتمة بيه اكتر مني ومدياله مكانة وحب اكتر مني بكتير، كنت فاهم إن المكانة دي لأنه الكبير، لكن ليه بتحبه وبتخاف عليه اكتر؟
_ مجربتش تسألها؟
انتفض بخفة على صوتها كأنه نسى وجودها، ولكن سريعًا ما استكان وهو يجيب وكأن ذكرياته أبت أن تتركه:
_ سألتها… مرة، قالتلي عشان شاهين اتيتم بدري وابوه مات وهو لسه صغير فبحاول اكون له الأب والأم واعوضه.
_ واقتنعت بإجابتها؟
ابتسم ساخرًا وهو يجيبها وقد بدأت الدموع توخز مقلتيهِ دون شعور:
_ مش بس اقتنعت ده انا كمان بدأت أمارس دور الأب واهتم بيه زيها واخاف عليه اكتر منها، ماما من غير ما تقصد زودت هوسي بوجود شاهين، فبقيت شايف ان أي حاجه في الدنيا تغور بس شاهين ميزعلش، اي حاجه تغور بس شاهين ميتأذيش، وهكذا بقى..
ظهر التأثر واضحًا في صوتها، والحزن زين نبرتها وهي تسأله:
_ وبعدين؟ ايه اللي بعدكوا عن بعض كده؟
_ عارفه لما يكون في شخص كل ده بالنسبالك وفجأة ينزل من نظرك؟ احساسك ايه لو في شيخ معين بتحبيه أوي ووخداه قدوة، وفجأة شوفتيه بيشرب خمرة مثلاً..
_هحس بالقرف ناحيته.
قاطعته قبل أن يكمل، ليبتسم برضا وهو يؤكد كلامها:
_ بالضبط ده اللي حسيته ناحية شاهين لما اكتشفت متجارته في السلاح، اتصدمت وحسيت بالقرف ناحيته و ناحية نفسي انا كمان، خصوصا اني وقتها كنت في كلية الشرطة فكان إحساسي إن حاميها حراميها.. وعلى فكره شاهين هو اللي ساعدني ادخل الكلية لما عرف انها حلمي من سنين بس كنت عاوز اضيعه عشان اكون بيزنس مان زيه.
_ هو اللي ساعدك! مكانش خايف تكتشف شغله وتنقلب ضده؟
_ معرفش، يمكن مكانش متخيل اني اكتشف شغله أصلاً.
_ طب ليه محاولتش تتكلم معاه وترجعه عن الطريق ده، انا حاسه انه بيحبك بجد واكيد وقتها كان هيسمع منك.
جاء صوته مختنقًا:
_ عشان اللي حصل يوم ما اتواجهنا كان أصعب من انه يتلم..
وسرح في ذكريات الماضي الأليم يتذكر تلك الليلة التي تحولت لكابوس يطارده في يقظته ومنامه.
قبل ثلاث سنوات..
_ وطي صوتك امك هتسمعنا!
نظر له بأعين تتقد غضبًا:
_ يعني هو ده كل اللي هامك؟ امك هتسمعنا! رد عليا وجاوبني انتَ ازاي مشيت في الطريق الو** ده!
توترت نظراته وهو يشيح بها بعيدًا وقال:
_ انا معملتش حاجه غلط، انا كل اللي بعمله اني بدخل السلاح البلد.. يروح فين او يروح لمين مش شغلي، وبعدين مش كل اللي بيشتروا سلاح بيستخدموه في الأذية في بدو كتير بياخدوا أسلحة عشان يدافعوا عن أهلهم في المناطق الصعبة اللي عايشين فيها.
جذبه من كتفه بقوة ليلتف له ويصبح في مواجهته وصرخ به:
_ انتَ بتبرر!! هي البجاحة واصله معاك للدرجادي؟ أنا تخيلتك هتتكسف مني، هتعترف بغلطك وندمك، لكن انتَ حتى مش شايف نفسك غلطان!
نظر له بقوة يناطحه:
_ لا مش غلطان، عارف ليه؟ لأن كل انسان فينا عنده عقل يفكر بيه عشان كده هو مسؤل عن افعاله، أنا بدخل السلاح اه، لكن مبقولش لفلان يروح يقتل بيه فلان عشان خناقة تافهه! السلاح زي ما له أضرار له فوائد كتير ولا انتوا مبتستخدموش السلاح في شغلكوا يا حضرة الضابط المستقبلي عشان تحمي بلدك ونفسك!
ارتد “مازن” للخلف مصدومًا من منطقه، وقال بدهشة تعبر عن صدمته:
_ مش شغلك! دخول السلاح البلد هو شغلة الحكومة وبس، ثم إنك لم توفر مسدس لشخص ده مش تحريض منك له انه يخلص بيه كل مشاكله، كام واحد بيشتري سلاح عشان ياخد تاره ولا حتى يقتل حد ويسرقه وغيره وغيره!
نظر له” شاهين” هازئًا:
_ تحريض مني! ماهو يا حضرة الضابط انا لو اتخانقت معاك دلوقتي وطلعت في دماغي اقتلك مش لازم يكون معايا مسدس أنا ممكن بكل سهولة اجري على المطبخ اجيب سكينة ادبها في قلبك، يا ترى بقى هتمنعوا السكاكين من البيوت؟ مهو تحريض على القتل بقى!
صمت ولم يستطع مجابهته في الرد، بالطبع ليس لصواب حديثه، ولكن ربما لتفاجئه بردوده، او صدمته فيه التي لم تزول بعد..
_ من أول ما اكتشفت انك ماشي في الطريق ده وانا كنت عارف انك خلاص روحت بلا رجعة، واني يوم ما هقف في وشك مش هاخد فيك حق ولا باطل، عشان كده خليت ليلى تبعد عنك.. محبتش اشيل ذنبها هي كمان وتتغش فيك.. عرفتها حقيقتك وهي اختارت تبعد عشان بتفهم.
وقد كانت القشة التي قسمت ظهر البعير، هو السبب في بعد حبيبته عنه، هو السبب في اختفائها الغريب والمفاجئ دون ان يستطيع الوصول لأي معلومة عنها وكأنها قصدت هذا، هُزمت ملامحه وهو ينظر له بعتاب جم:
_ مانا عرفت، اصلي نسيت اقولك اني وصلت لليلى وحكتلي اللي حصل، وقالتلي إنك بعدتها عني وفرقت بينا رغم إنك أكتر واحد عارف اني مدبوح من الموضوع ده بالذات بعد اللي عملته شدوى، انتَ اكتر واحد كان شاهد على اللي عشته وقتها وكان عارف ان حبي لليلى كان آخر أمل لقلبي انه يعيش.. يمكن مكنتش بحب شدوى للدرجة اللي تكسرني فيها، بس هي كسرتني بطريقة تانية.. كسرة رجولتي وحنت راسي قدام الكل، ٣ سنين مكنتش عارف ادخل حد حياتي لحد ما ظهرت ليلى وحبيتها، حسيتها الدواء اللي ربنا باعتهولي عشان يطيب خاطري من كسرة مكانش ليا يد فيها ولا ذنب…
قاطعه مازن بصياح غاضب:
_ فوق يا شاهين.. فووووق، انتَ محبتش شدوى ولا حبيت ليلى.. كل واحده فيهم كانت محطة في حياتك لكن مش حب.. انتَ عجبك المحاولات اللي ليلى كانت بتعملها عشان تقرب منك وتكون جنبك، عجبك دورها في انها تصلح كل اللي اتكسر فيك، ليلى حبتك.. وانتَ حبيت حبها ليك، لكن محبتهاش.. بطل توهم نفسك بقى، ليلى محدش حبها… غيري.
جحظت عينا “شاهين” بصدمة زلزلت كيانه وضربته في الصميم وهو يردد ذاهلاً:
_ انتَ بتقول ايه؟ ليلى! انتَ كنت بتحبها؟؟؟ ازاي!؟
ابتسامة مريرة زينت ثغر “مازن” وهو يقول:
_ متفاجئ عشان عمري ما بينت، ولا كنت هبين، وكنت هسيبك تتجوزها ومكانتش هتكون في نظري غير مرات اخويا، لكن لما لقيتك بتخدعها وحسيت انها ممكن في يوم تتكسر بسببك، اخترت لها البعد عن الكل.. عني وعنك.. بعدها أهون من إني اشوفها بتتوجع قدامي واقف عاجز.
استند “شاهين” على مكتبه بهم وضعف واضحين، كل ما سمعه الآن كان صدمة مزلزلة له، لم يتوقعها حتى في اتعس احلامه.
_ مش وقت تفكير، اللي حصل حصل، خلينا في دلوقتي.. قولي انك هتسيب الشغل.
نظر له بغضب لون خضرواتيهِ:
_ اسيبه! لو كنت عاوزني اسيبه كنت واجهتني قبل ما تعرفها حقيقتي وتبعدها عني.. اسيبه بعد ما نفذت عقابك فيا قبل حتى ما تواجهني!! ده انتَ حتى ياخي مكنتش هتواجهني لولا إني وصلت لليلى وهي اللي عرفتني.. كنت هتفضل مستغفلني وعمال تضرب فيا من تحت لتحت من غير ما تفكر تواجهني..
_ خوفت عليها.
ابتسم هازئًا بعدما وجده يتخطى جزئية عدم مواجهته:
_ حد قالك اني كنت هعذبها ولا كنت هشغلها معايا!
_كنت هتخدعها، وفجأة تكتشف ان جوزها او خطيبها تاجر سلاح.
_ كان هيبقى وقتها ليها حرية الاختيار يا تكمل معايا يا تسبني، محدش طلب منك تكون فاعل خير، زي ما محدش طلب منك تكون مُضحي.. انتَ شوفت ان ليلى فضلت كام شهر تحاول تقرب مني وانا كنت قافل ورافض أي محاولة منها، ليه ملفتش نظري عشان انسحب من الصورة؟ انا وانتَ قريبين كفاية اوي انك كنت تصارحني خصوصا وانت عارف انها مكانتش في بالي لسه.. بس انتَ اخترت تعيش دور الضحية.
ضحك بألم والتمعت الدموع في عينيهِ وهو يقول:
_ عشان كنت مفضلك عليا، كالعاده… كنت بسبلك فرصة تحبها عشان تنسى وجع شدوى اللي انا عشته معاك، ضحيت بحبي عشانك زي ما بضحي بكل حاجه عشانك، وانتَ دلوقتي رافض تضحي بشغلك الشمال عشاني وعشان العيلة كلها.
تحرك بعيدًا عنده وهو يقول بصرامة يعرفها:
_ متفتحش معايا الموضوع ده تاني.. عشان منخسرش بعض، كفاية الحاجز اللي اتكون بينا بسبب عملتك.
وكنوع من انواع التهديد ليس إلا، كحل أخير.. أخرج “مازن” مسدسه وسدده لرأسه وهو يقول:
_ يبقى قدامك حل من اتنين.. يا تسيب شغلك و توعدني دلوقتي يا هتخسرني.
التف “شاهين” ليرى المنظر الذي قلب الدنيا فوق رأسه، لم يستطع أن يشهق الهواء الذي زفره، أو يرمش بعينه التي جحظت كأنها ستخرج من مكانها، فقط وجد نفسه يردد بلا توقف وهو يمد ذراعه له:
_ لأ لأ… بطل جنان، انتَ بتعمل ايه نزل الزفت ده.. نزله بقولك..
صرخ بالأخيرة لكنه لم يتحرك وهو ينظر له بقوة، ويخبره:
_ عاوزني انزله اوعدني انك تبعد عن الشغل ده.
كلاهما يعرف أن وعد “شاهين” لا يُخنث، وعده لا يخلفه ابدًا تحت أي ظرف ومهما كان الوضع، لذا هو واثق أنه إن وعده سيصدق..
_ بطل جنان!
ابتسم وكأنه مجذوب:
_ طب ده حتى الفرق بينا، اني مجنون ومتهور، وانتَ العاقل الرزين.
مال برأسه بعيدًا وهو يسّب “مازن” من بين أسنانه هو يدرك ما يحاول فعله لكن في نفس الوقت يخشى تهوره وجنانه الذي يعرفه خير المعرفة، يخشى أن يؤذي نفسه..
وعلى غرة انقض عليهِ لتبدأ مناوشة خطيرة بينهما، الأول يريد أن يأخذ السلاح، والثاني يريد أن يظل محتفظ به حتى يحقق غايته..
وبين هذا وذاك… ضغط “مازن” على الزناد دون قصد، في نفس الوقت الذي فُتح فيه باب الغرفة لتخرج رصاصة غادرة في اتجاه الضيف المفاجئ…