رواية الطاووس الابيض الفصل التاسع عشر 19 بقلم منال سالم


  رواية الطاووس الابيض الفصل التاسع عشر بقلم منال سالم 

ليلة مُوحشة مُؤلمة تحمل كل قساوة الحياة وأوجاعها مضت عليها وهي لم تنبس بكلمة واحدة بالرغم من توسلات والدتها وبكاء أختها، بدت فاقدة للنطق وإن لم تكن كذلك، فقد اختنق كل شيء في صدرها، خبأتها "آمنة" في أحضانها واحتوتها بين ذراعيها علها تكون الملاذ الآمن لها بعد أن فشلت فشلاً ذريعًا في درء عنف خالها عنها، مسدت على رأسها بحنانٍ كبير، وانحنت تقبل جبينها وهي تُحادثها بالكلمات المواسية التي لا تملك سواها، لكن جروحها أبت الاندمال، انسابت دمعات "فيروزة" في صمت، دمعات العاجز الفاقد لحقه في الاختيار، كانت مغيبة عمن حولها، تشرد بذهنها لتعيش تلك اللحظات العنيفة الصادمة، فتنتفض وهي تئن من الألم لتعاود أمها تهدئتها بقراءة القرآن تارة، وبالمسح على جسدها برفقٍ تارة أخرى حتى توقف عقلها عن التفكير وغابت عن الوعي من شدة إعيائها. 
تركتها "آمنة" على الفراش وتفقدت ابنتها الأخرى، كانت مثلها تشكو أوجاعها، طيبت خاطرها، واتجهت إلى غرفتها تبكي بداخلها في تعاسةٍ واضحة، تكومت على نفسها على فراشها البارد تنوح وحدتها القاتلة بدون زوجٍ يحميها من قسوة الأقرباء قبل الغرباء، تجمعت هموم الدنيا في قلبها، وكادت تغفو من تعبها المضني، شهقة فزعة انطلقت من أعماق جوفها حينما سمعت الدقات الهادرة على الباب، عفويًا التفتت إلى المنبه الموضوع على الكومود، كان الوقت لا يزال مبكرًا، لكن جدسها ينبئها بكارثة قريبة. حركت بدنها المتعب من قلة النوم وإتلاف الأعصاب في اتجاه باب المنزل، وقلبها نظرت من العين السحرية فوجدت أخيها يصيح بها:
-افتحي يا "آمنة"
دب الرعب في قلبها، واهتزت كليا، لا إراديًا استدارت مستندة بظهرها على الباب، وفاردة لذراعيها على حافتيه، وكأنها بذلك تشكل حاجزًا بشريًا تمنعه من اقتحام المنزل، ثم صرخت بصوتها المبحوح:
-مش هافتحلك يا "خليل"، كفاية اللي عملته في بناتي.
صاح بها بعصبيةٍ ويده تضرب بقوةٍ على الباب:
-يوووه، أنا مش فاضي للهري ده، بأقولك مافيش وقت نضيعه، وأنا واقع في مصيبة بسبب عمايل بناتك، افتحي خلينا نخلص من الهم ده كله.
ردت عليه بارتعابٍ وقد زاد تمسكها بحافتي الباب الذي يهتز من خلفها:
-أفتحلك عشان تمد إيدك عليهم تاني؟
قال بنبرة عبرت عن ثقة واضحة:
-لأ يا "آمنة"، المحروسة بنتك زمانتها عقلت بعد الوش التاني اللي شافته مني.
هتفت معاندة بإصرارٍ رافض:
-لأ مش هافتح!
كالحرباء وقفت أعلى الدرج تتابع صياحهما بابتسامة متشفية، وكأن ما فعله زوجها بابنتي أخته قد أثلج صدرها وبرد نيران حنقها نحوهما، ارتدت "حمدية" قناع الضيق على وجهها، وهبطت الدرجات وهي تنادي عاليًا لينتبه لها:
-حاسب كده يا "خليل"، بلاش الافترى ده.
نظر لها بحدة من تصرفها غير المفهوم، لكنها غمزت له بعينها ليفطن أنها تشاركه تمثيلية ساذجة لتتمكن من إقناع أخته بالتخلي عن عنادها وفتح الباب، تنحنح "خليل" يوبخها بتجهمٍ زائف:
-ملكيش دعوة يا "حمدية"، أنا بأتكلم مع أختي.
ردت بصوت عمدت لرفع نبرته:
-هتكلمها وإنت متعصب كده؟ يبقى مافيش حاجة هتنفع.
نفخ في وجهها كتعبير عن عدم رضائه، لكنها تابعت بلطفٍ غير معتادٍ منها:
-اطلع إنت فوق بس يا أبو العيال، اشرب الشاي، وأكون أنا خدت وإديت مع "آمنة"، ماشي؟
هز رأسه على مضضٍ:
-طيب، أما أشوف
وبغمغمة متبرمة أولاها ظهره ليمسك بالدرابزون ويصعد للأعلى، التفتت تحدق في الباب مجددًا وهي تطرق عليه برفق منادية إياها:
-افتحي يا "آمنة"!
صاحت بها الأخيرة وهي ما تزال مصرة على رفضها:
-لأ مش هافتح، قولي لجوزك يبعد الأول.
ردت تطمئنها:
-هو طلع خلاص، مافيش إلا أنا.
اشرأبت "آمنة" بعنقها للأعلى بعد أن استدارت بجسدها لتحدق في العين السحرية حتى تتأكد من صدق قولها، شعرت بالارتياح لغيابه، ارتخى جسدها المشدود وامتدت يدها لتدير المقبض، أطلت "حمدية" برأسها وتلك الابتسامة الزائعة تعلو شفتيها، ربتت على كتفها في ودٍ، وسارت نحو الداخل وصوت "آمنة" من خلفها يدعوها:
-تعالي يا "حمدية".
مصمصت شفتيها لتظهر إشفاقها وهي تعقب عليها:
-قلبي عندك يا حبيبتي
همَّت "آمنة" بالبكاء مجددًا ليخرج صوتها مضطربًا:
-شوفتي أخوكي عمل فينا إيه؟
أومأت برأسها ترد بتنهيدة مطولة، وكأنها تتفق معها في الأمر، لتوحي لها بدعمها الكلي:
-متزعليش يا حبيبتي، أخوكي صعب أوي لما بيتعصب، أنا بس اللي ما بشتكيش!
تنهدت "آمنة" في أسى وقد بدا الإرهاق واضحًا عليها، تأملتها "حمدية" بتفحصٍ فرأت تلك الكرمشة تحت جفنيها، وأثار إحمرار عينيها، شعرت بالنشوة تغمرها وهي تتذكر أصوات الصراخ التي صدحت بالأمس وملأت جدران المكان، برقت حدقتاها بوميض غريب، وتنحنحت متابعة باهتمامٍ مصطنع وهي تجاهد لإخفاء ما يعتيرها من شماتةٍ وانتشاء:
-ها قوليلي فين البنات؟ عاوزة اطمن عليهم.
..............................................
عاونتها أمها على النهوض من رقدتها، وتلك الأنات تخرج من بين شفتيها لتظهر مدى الألم الذي تعانيه، بالطبع لم تسلم "فيروزة" من العبارات الشامتة والتوبيخات المستترة من زوجة خالتها التي واتتها الفرصة على طبق من ذهبٍ لتظهر سعادتها وإن لم تفصح عن ذلك علنًا، لكن كل ما كانت تفعله يشير وبقوة إلى فرحتها بالأذى الذي لحق بها. حاولت "آمنة" إقناعها بإخفاء أثار الكدمات باستخدام مساحيق التجميل، لكنها رفضت، وأصرت أن تريه ما اقترفته يداه عله يشعر بالذنب وتأنيب الضمي وإن كانت تشك في ذلك .. ارتدت ثيابها بتمهلٍ محاولة كتم آلامها، ووضعت نظارة داكنة على عينيها، لم تصغِ لتوصيات والدتها ولا نصائحها الواهية، اكتفت بما يضمره صدرها من كراهية مشبعة لخالها ومن دفعه على إيلامها.
وبتؤدةٍ حذرة ســارت إلى جوار "خليل" متخذة مسافة آمنة بينه وبينها بعد أن هبطت السلم وخرجت من المنزل لتجده بانتظارها، لاذت بالصمت بالرغم من تهديده القوي لها: 
-كلمة واحدة غير اللي قولتلك عليها مش هارحمك، أنا معنديش اللي أبكي عليه.
انفرجت زاوية فمها بابتسامة حانقة، وتلك النظرات النارية مرتكزة على وجهه المشدود، أشــار لها بذراعه لتنحرف عن الطريق وتعبره متابعًا إملاء أوامره:
-واحنا في القسم، مش عاوز أسمع منك نفس، تمضي وإنتي ساكتة، أنا هتولى كل حاجة.
كان واثقًا من خنوعها له، ومنحته ذلك التأكيد بسكوتها بعد أن انهزمت معنويًا وبدنيًا، توقف عن السير ليستدير نحوها، تجمدت في مكانها وحملقت فيه بغضبٍ من خلف نظارتها، حذرها بلهجةٍ صارمة مستخدمًا سبابته في التلويح:
-ولو الظابط سألك، ما ترديش عليه، مفهوم؟
لم تحرك شفتيها لتنطق، بل تجاهلته كليًا، ولم يكترث هو بردها، واصل سيره المتعجل يقول لها بما يشبه الاستهجان:
-مالوش لازمة الكلام من الأساس.
بات الهواء خانقًا على صدرها وهي تدرك أن آخر آمالها لاسترداد حقها المسلوب على وشك أن يضيع سدى، بالطبع سينتصر ذاك الهمجي وأعوانه من معتادي الإجرام عليها بقوة القانون لتتحقق مقولة الضابط "ماهر": من لا يملك سلطة فهو ضعيف وضائع. تغلغل فيها إحساس الانكسار وبدت محبطة للغاية، انتبهت لحديث خالها الأخير حينما أصبح كلاهما على أبواب القسم:
-أدينا وصلنا، يالا خلينا نخلص من القرف ده كله، والفلوس ترجعلي، كفاية تعب أعصابي طول الليل.
تأوهت من الألم فجأة وقد شعرت بقبضته تعتصر رسغها، تقلص وجهها واحتدت نظراتها المخبأة، شدد "خليل" من ضغطه عليها وهو ينذرها:
-وده يعلمك ماتعصنيش تاني، لأن المرة الجاية بموتك يا "فيروزة"، وأهوو نرتاح منك
نفض أصابعها الغليظة عنها فأمسكت بمعصمها تفركه لتخفف من الألم، همست بصوتٍ محبط واليأس بادي عليها:
-معدتش فارقة.
..........................................................
كان مذهولاً وقد هاتفه محاميه منذ الصباح الباكر ليخبره بضرورة الحضور إلى القسم الشرطي لإنهاء المحاضر بعد أن وافقت الخصمة على التنازل عنها، بدا "تميم" مدهوشًا، حائرًا، مشتت الذهن وهو يحاول استنباط الأسباب التي دفعتها للمواقفة، فعلى حسب خبرته معها لم تكن سهلة الإقناع، إذًا فكيف ارتضت بقرار التنازل؟ طرأ بباله احتمالية كان قد غفل عنها دون قصد، ربما نجح رفيقه في التصرف بحنكة كما أخبره، وتم ترضيتها بشكلٍ أو بآخر بعيدًا عن حضوره مما شجعها على الموافقة، لم يدع الأمر يحيره كثيرًا، وهاتف "ناجي" ليتأكد من شكوكه، وطمأنه الأخير بنجاح مسعاه، شعر بالارتياح وتوسم خيرًا أن تنتهي الخلافات كليًا ليمحي شبحها وما له صلة بها من رأسه للأبد .. ارتدى ثيابه على عجالة، وتوجه على الفور إلى هناك.
وعلى عكس توقعاته وما رسمه عقله من خيالات في فضاءاته الوهمية، كانت "فيروزة" جالسة بوجومٍ في المقعد المقابل له تخفي وجهها خلف تلك النظارة السوداء المتسعة، لوهلة اعتقد "تميم" أنها ليست نفس الشخص الذي تجرأ عليه من قبل .. بدت غريبة، وديعة إن جاز التعبير، ساهمة، شاردة الذهن، مما أشعره بالتوجس، دار بنظراته على الأوجه المتواجدة؛ محاميه الخبير، صديقه "ناجي"، وقريب الفتاة "خليل"، الكل يبتسم في حبورٍ وكأنهم مرتضين بالتسوية، عادت أنظاره لترتكز عليها، راقبها مراقبة حثيثة محاولاً سبر أغوارها، لم تنطق بكلمةٍ واحدة، وكأن لا روح فيها، هي جسد متواجد معهم، لكن بلا حياة .. لم يرقه الأمر وزاد تغلغل إحساسه بالانزعاج، ومع هذا ترك للمحامي إنهاء الإجراءات، واكتفى بالتحديق الصامت فيها، وإن كان يظن أنها تتطلع إليه من وراء حجابها البلاستيكي. 
تنفس "خليل" الصعداء حينما رأى الضابط يضع الأوراق أمام "فيروزة" لتوقع في البقعة التي أشــار لها، تنحنح "وجدي" بصوتٍ عالٍ ثم جال بعينيه على وجوه الحاضرين قائلاً:
-أفتكر إن مافيش داعي يحصل مشاكل تاني بينكم، مهما كان كلكم أهل وجيران ..
ثم مال بجسده نحو "فيروزة" موجهًا حديثه لها:
-ولا إيه رأيك يا "آنسة"؟
اكتفت بهز رأسها فالأمر لم يعد مجديًا، الكل انتصر في معركته، وهي وحدها الخاسرة. ذلك السكوت المثير للدهشة استفز "تميم"، اعتدل في جلسته، وتطلع إليها متوقعًا أن تنفجر فيه بين لحظة وأخرى، لكن تحولت عيناه نحو "خليل" حين هلل مؤيدًا:
-أيوه مظبوط، احنا أهل في بعض، وجيران وعِشرة من زمان، إن شاءالله ما يحصلش حاجة تاني.
زجره "وجدي" بحدةٍ:
-أنا موجهلها السؤال، ممكن تحط لسانك في بؤك وتسكت.
تحرج "خليل" من فظاظته معه، ووضع يده على كتف "فيروزة" ليضغط بأصابعه على عظام ترقوتها حتى تنتبه لحديثها معه، رفعت الأخيرة رأسها لتنظر نحوه بجمود، رمقها بنظرة ذات مغزى فهمتها في صمت، أخفضت رأسها وحدقت في الضابط لتقول له بصوتٍ أجوف بارد:
-كل حاجة خلصت يا باشا.
تضاعفت الهواجس لدى "تميم" من أسلوبها الغريب، وتأهب في جلسته أكثر، ليست تلك الجالسة أمامه هي نفس الشابة المندفعة المنفعلة التي ناطحته الرأس بالرأس، وتجرأت ذات ليلة وصفعته أمام دكانه بكل وقاحةٍ. كانت مستكينة، مستسلمة لأمرها، منقادة لمصيرها وكأنها فتاة ضعيفة لا تملك حق القرار، استراب في أمرها وتضاعفت هواجسه، لذا تقدم نحوها بجذعه وسألها مباشرة دون أن يهتم بتبعات قوله الصريح: 
-في حد أجبرك تتنازلي عن المحضر؟
تطلعت إليه "فيروزة" بتلك النظرات الميتة، شعرت بالحنق يستعر بداخلها من سؤاله المستفز، أبكل تلك البساطة يدعي براءته وهو من يقف وراء كسرها؟ يالدنائته وخسته! تقلصت تعبيراتها وازدادت وجومًا، حتى بشرتها الشاحبة تشبعت بحمرة غاضبة وكأنها ستشتعل، ارتجف "خليل" من سؤال "تميم" المفاجئ، وخشي من تهور ابنة أخته، فهي دومًا تفسد الأمور قبل اكتمالها، فعلى الفور تدخل وهتف نافيًا:
-أجبرها إيه بس يا معلم "تميم"، هي لاقت الموضوع آ....
قاطعه "تميم" بخشونةٍ ونظراته القاتمة مسلطة عليه:
-اديها فرصة تتكلم.
هز رأسه مستجيبًا له، لكن ضغطات أصابعه القاسية على عظامها كانت كفيلة بإيقاظ آلامها وتنشيط ذاكرتها بمشهد الأمس الدامي، تأوهت بصوتٍ خفيض، وأجابت وهي تشيح بوجهها:
-لأ مافيش
أجابةٍ لم يستسغها "تميم" بالمرة، ما زال إحساسه يخبره بوجود شيء مريب، حملق في وجه "خليل" المتولي دور المصلح الاجتماعي حين قال من جديد:
-بيتهيألي كده احنا عدانا العيب وزيادة، نقدر نمشي يا حضرت الظابط؟
جاوبه برسميةٍ وهو يشعل سيجارته:
-أيوه، هنقفل باقي الإجراءات
أضــاف المحامي بابتسامةٍ عملية وهو يمد يده ببضعة أوراقٍ:
-والأستاذ "تميم" هيتنازل برضوه عن المحضر بتاعه.
تناولها منه "وجدي" معلقًا في استحسان:
-تمام.
........................................................................
كان الأمر محيرًا، مزعجًا، مثيرًا للتساؤلات، ورأسه ليس بالمكان الخاوي ليمتلأ بما يخصها، انتظر على أحر من الجمر انتهاء ما يخصه من إجراءات ليهرع ورائها تاركًا "ناجي" والمحامي يكملان الباقي، وراجيًا في نفسه ألا تكون قد ابتعدت كثيرًا، تنفس الصعداء حينما رأها لا تزال واقفة بجوار خالها على مقربة من القسم، والأخير يتحدث معها وهي غير منتبهة له، تردد في التقدم نحوها وسؤالها مباشرة في حضوره، ولحسن الحظ ابتعد "خليل" عنها ليتجه نحو كشكٍ قريب يبتاع منه شيء ما، استغل الفرصة وأسرع في خطاه ليجذبها بقبضته من ذراعها ويسحبها عنوة بالقرب من شجرة عريضة عند الناصية، تفاجأت من جرأته وجره لها بذلك الشكل السافر والمتحكم، نفضت ذراعها بقوة لتتحرر منه، ورمقته بنظرة نارية يكاد يجزم أنها يراها من خلف نظارتها، تراجع خطوة عنها وسألها دون مراوغة:
-غيرتي رأيك ليه؟
التوت شفتاها ببسمة متهكمة، وهزت رأسها في سخرية قبل أن ترد متسائلة بصوت من أصابه السأم:
-يعني مش عارف؟
تطلع إليها بنظراته المستريبة، كانت مستفزة لأبعد الحدود، تستثير إدراكه وحواسه بشكلٍ جنوني وكأنها طاغية تعرف كيف تذبذبه، هتف يسألها من بين أسنانه المضغوطة وهو يبذل قصارى جهده ليضبط انفعالاته:
-فيكي إيه متغير؟
لم تتحمل نكرانه الكاذب فانتزعت عن عينيها نظراتها لتكشف له عن الكدمات التي تحتل وجهها، صاحت به بهياجٍ غير عابئة بنبرتها التي ارتفعت:
-بص وإنت تعرف كويس!
اهتز كيانه بشكلٍ لم يتوقعه حين رأى علامات العنف ظاهرة على قسماتها، وذاك فقط ما كشفت عنه، لكن الباقي مخبأ أسفل ثيابها، ضاقت حدقتاه في ضيقٍ واستنكار، وسألها:
-إيه ده؟ حصلك من إيه؟
كادت أن تضحك بمرارةٍ من سؤاله السخيف، أيهزأ بها حقًا ويدعي براءته؟ اكتفت بالنظر باحتقارٍ له قبل أن تولية ظهرها وتعود إلى خالها قاصدة تجاهله، لم يغضب منها "تميم"، بل شعر بإحساسٍ متعاظم بالذنب نحوها، وإن لم يعلم تفاصيل الأمور بعد، لكن كلماتها المقتضبة مع نظراتها اللائمة أوحت له بتورطه في إيذائها بذلك الشكل العنيف والسافر، سحب نفسًا عميقًا حبسه في صدره المتأجج ولفظه على مهلٍ، كانت نظراته تتبعها حتى اختفت عند الزاوية، لكنه التفت كالملسوع فجأة وقد صــاح "خليل" عاليًا بذلك الأسلوب الرخيص المستجدي العطف والشفقة:
-بالله عليك يا باشا تخليهم يرجعوا فلوسي، أنا عملت كل اللي طلبوه مني بالحرف الواحد، ودلوقتي مافيش محاضر ولا نيابات ولا غيره.
في البداية ارتبك من وجوده، فكامل تركيزه كان مع ابنة أخته، وبالتالي حضوره باغته، تدارك نفسه، ورمقه بنظرة غريبة وهو يسأله مستوضحًا:
-فلوس إيه؟ أنا مش فاهم حاجة منك!!
أجابه بأنفاسٍ لاهثة وهو يحاول استدعاء دموع التماسيح ليبكي أمامه:
-فلوسي اللي خدوها غصب عني يا معلم، هاروح في داهية وأنا عندي عيال..
لم يستوعب شكواه الغريبة، لكن ما لبث أن اتضحت الأمور أكثر حين أضاف بصوته المتهدج:
-أنا خليتها تحت طوعكم، وقطمت رقبتها وكنت مستعد أموتها عشان ترضى عني!
حدق فيه مدهوشًا بما أملاه على مسامعه، وبدأت ملامحه تقسو تدريجيًا، توتر "خليل" من صمته وظن أنه سيتراجع عن وعده، لهذا ألح عليه:
-رد عليا يا معلم "تميم"، ماتسبنيش كده!
تفقه ذهنه الآن لما حدث، وإن لم يعرف بالضبط كيف تم إجبار "فيروزة" على التنازل، تركه يتوسله باستماتة وسـار بخطواتٍ أقرب للركض عائدًا إلى رفيقه "ناجي"، لحق به "خليل" صائحًا باستعطافٍ أشد:
-بالله عليك ترجعلي الفلوس، هاروح في داهية.
كانت صوته عاليًا بالقدر الكافي الذي جعل "ناجي" يسمعه وهو يبتسم بسماجةٍ غير منتبه للوجه الذي اربد بغضبه المحموم والمقبل عليه مندفعًا، توقف عن الهرولة ليتلقط أنفاسه، ثم استأنف رجائه:
-ده مال ناس يا خوانا، وربنا المعبود ما فلوسي!
انتصب "ناجي" في وقفته، ونظر له بتسلية قبل أن يقول في تفاخرٍ وزهو:
-شكلك اتعلمت درسك كويس يا "خليل".
أومأ برأسه قائلاً بتلهفٍ:
-أيوه، اتعلمته، هترجعلي الفلوس؟
نظر "تميم" بحنقٍ إلى "ناجي" الذي بدا في أوجه وهو يحذر:
-وتاني مرة محدش يقول للغولة عينك حمرة.
ضجر من موقفه الأبله وسأله بعصبيةٍ بدت ملموسة في صوته:
-في إيه يا "ناجي"، فلوس إيه دي؟
تنحنح قائلاً برجفةٍ طفيفة دون أن تخبو بسمته اللزجة:
-احم.. أنا عارف هو بيتكلم عن إيه.. 
مال ناحيته ليهمس له:
-وبعدين مش أنا وعدتك هاحل الموضوع على طريقتي، اطمن، كله تمام!
نظر "خليل" في توتر ممزوجٍ بالخوف إلى الاثنين، خاف من تراجع أحداهما عن إعادة الأموال له، فتساءل الفزع متعمقٍ فيه:
-يا معلمين ريحوني، هترجعوا الفلوس؟
لوح له "ناجي" بكف يده وهو يقول:
-خلاص، اطمن، ارجع على بيتك والأمانة هتلاقيها هناك.
أحس بقليل من الارتياح يغمره، اندفع كالمغيب نحو "فيروزة" التي راقبت توسلات خالها من على بعد ووجهها يعبر عن سخط غير محدود، جذبها من يدها بقساوة وهو يأمرها:
-يالا يا بت، تعالي معايا، هنرجع البيت
تلك المرة رفضت الاستجابة له وأزاحت يده عنها وهي تقول بحدةٍ:
-معلش كده
تقدمت بثباتٍ نحو "تميم" تناديه بصوت يلهث من الانفعال:
-ثانية واحدة يا معلم ...
استدار نحوها من ندائها الذي استرعى انتباهه وقد حلت الدهشة على خلجات وجهه، وقفت قبالته تنظر له بعينين تنطقان بالغضب، وقالت بنبرتها المتهدجة وهي بالكاد تسيطر على ثورتها الهائجة بداخلها:
-كده إنت خدت حقك وزيادة، بس حقي أنا .. لسه!
ضاقت نظراتها نحوه، كان مشدوهًا بحديثها، مأخوذًا بعينيها المليئتين بالشجن، ما زال يحاول جمع قطع الأحجية ليفسر كيف ومتى تم إنجاز الأمر بسلاسة، نفذ صوتها المنكسر إلى قلبه كالخنجر الحاد حين همست بألمٍ عميق:
-ومش مسمحاك فيه! 
أحس بزلزال يعصف به، بانهيارٍ لشيء كان مترسخ به، وكأن كلماتها قد أحدثت الشرخ المطلوب. تنفست "فيروزة" مطولاً لتكبح نوبة البكاء التي تهاجمها الآن، لن تنهار أمامه! استقامت في وقفتها وتوعدته بنبرة لا تعرف الغفران:
-وهايجي يوم وهاردهولك.
نظر لها بفمٍ مفتوح وعيناه تتطلعان إليها في حيرة، لم يلومها أو حتى يبادلها الكراهية، كان مأخوذًا بالتحول السريع في طباعها، لكنه كان واثقًا أن الفتاة المتهورة قد عادت إلى طبيعتها التي يعهدها. استطاع "تميم" أن يلمح خالها وهو يخطو بعصبية نحوها، تأوهت "فيروزة" من الألم وقد أمسك بها من كتفها بشراسةٍ ليديرها إليه، رفع كفه للأعلى يعنفها ونناويًا صفعها علنًا:
-إنتي مش هتتلمي أبدًا.
وقبل أن تطال يدها وجهها المتألم، كانت قبضة "تميم" تمسك بمعصمه، أبعد ذراعه وهو يهدر به بصوت اخشوشن بقسوةٍ:
-إيدك عنها!
ارتجف من نظراته النارية وهيئته المتحفزة التي أنذرته بعدم المساس بها دون أن يتفوه بذلك الأمر المنطوق، أخفض "خليل" ذراعه وهز رأسه بخنوعٍ قائلاً:
-خلاص يا معلم، احنا ماشين..
وبحذرٍ واضح أشـار لابنة أخته لتسير معه، وبقي يختلس النظرات ناحية "تميم" الذي كان مستعدًا للانقضاض عليه في أي لحظة دفاعًا عنها .. نظرة أخيرة حزينة حانت بها "فيروزة" نحوه أوغرت صدره أكثر، ابتعدت بالفعل لكن بقيت كلماتها ترن في أذنيه لتشعره أن انتصاره في معركتهما القصيرة لم يكن نزيهًا أو حتى بالتراضي ............................................ !!
...............................................................
بمجرد أن وطــأت قدماه المدخل حتى هرول قفزًا على الدرجات ليصعد إلى منزله، والتلهف يقتله ليتأكد من عودة النقود المسروقة إليه، لم يهتم بـ "فيروزة" التي كانت تطالعه بحقدٍ أكبر، أو حتى أظهر ندمًا زائفًا لما فعله بها، لم يكن يعنيه سوى نفسه فقط، وليحترق البقية. أخرج "خليل" المفتاح من جيبه ودسه في قفله، فتح الباب على مصراعيه، وبنظرات يملأوها القلق صاح عاليًا:
-يا "حمدية"، إنتي يا ولية.
أتته الأخيرة تمشي بتمهلٍ وكسل، نظرت له بعبوسٍ قبل أن ترد:
-في إيه يا "خليل"؟ بتجعر كده ليه على الصبح؟
سألها بأنفاس متلهفة:
-محدش خبط عليكي ولا ....
قاطعته بوجهها الجامد وهي تشير بيدها نحو مقعدٍ منزوٍ بجوار مرآة طولية تحتل الركن الأيمن من الصالة: 
-أيوه، في واحد شكله مش ولابد كده سابلك الشنطة دي يا "خليل".
مر ركضًا بجوارها نحو المقعد، والتقط الحقيبة الجلدية بيده، ألقى نظرة سريعة على مافيها، ارتسمت تعابير الارتياح على ملامحه، زفيرٌ بطيٌ خرج من جوفه قبل أن ينطق:
-الحمدلله، الفلوس رجعت، كنت هاروح في داهية.
رددت مستفهمةٍ وقد دنت منه:
-هي دي فلوس الشغل اللي قولتلي عليها.
هز رأسه بالإيجاب وهو يرد:
-أيوه يا "حمدية"، دي مرتبات الموظفين...
ابتسامة عريضة احتلت وجهه ليكمل بعدها وهو يهم بالتحرك:
-بس خلاص كله تمام، دلوقتي أطير أسلمها وأخلي مسئوليتي.
أوقفته من ذراعه وسألته بضيقٍ ظاهر عليها قبل أن يتركها هكذا بين فضولها المتزايد:
-استنى بس وفهمني جوم إزاي وعملت إيه و...
قاطعها نافضًا قبضته عنه ليرد بنفاذ صبر:
-خلاص يا ولية، حلي عن نافوخي دلوقتي، أنا مش فاضيلك.
أصرت على عدم تركه، وأسرعت في خطاها لتغلق الباب، وقفت قبالته تسد عليه السكة، وهتفت بعنادٍ أزعجه:
-لأ مش هاسيبك، هو أنا في الحزن مدعية والفرح منسية!!!
نفخ في استياءٍ وهو يعقب عليها:
-يا ولية بأقولك دي فلوس الشغل.
كتفت ساعديها أمام صدرها، ونظرت له غير مبالية لتضيف بعدها بإلحاح:
-قولي الحكاية من طأطأ لسلامو عليكم الأول، عملت إيه في القسم، والفلوس دي رجعت إزاي.
تأكد "خليل" أن زوجته لن تتركه يخرج من المنزل دون أن تقف على أساس الموضوع، لذا أوجز معها وأخبرها بالعناوين العريضة لما دار في الساعات الماضية، هزت رأسها في استحسان حين سألها:
-ها ارتحتي كده؟
ابتسامة باردة تشكلت على شفتيها وهي ترد:
-ايوه.
نهرها بحدةٍ بائنة:
-طب أوعي من سكتي.
اعترضت طريقه مشيرة بكفها بعد أن حلت مرفقيها:
-اسمع بس، ما جايز ابن المعلم "بدير" يستقصدك تاني، هو إنت ضامنه
استرعت انتباهه بجملتها المثيرة للقلق، واستطرد يقول:
-مش فاهمك، قصدك إيه يعني؟
أوضحت برويةٍ وقد لمعت عيناها بخبثها المعتاد:
-اللي زي ده نابه أزرق، ورد سجون، ومايعرفش يامه ارحميني.
نظر لها بتأففٍ، وقال:
-يا ولية احنا قفلنا اللي بينا خلاص، معدتش في حاجة، لا مصالح ولا خناقات.
وكأنه أضاء عقلها الشيطاني بكلماته الأخيرة، فلمعت فكرة جهنمية في طيات عقلها، تحفزت هاتفة بنزقٍ وقد زاد اتساع بسمتها الماكرة: ف
-تصدق، احنا ممكن نعمل مصلحتنا من الحكاية دي.
التوت زاوية فمه بابتسامة استجهان، وسألها باستخفافٍ استشعرته في نبرته:
-إزاي
تغنجت "حمدية" بكتفيها، وســارت مبتعدة عن الباب لتقول له بأسلوبها البارع الذي تنجح به في استدراجه إليها:
-بس هتمشي ورا كلامي الأول؟
وقع "خليل" في شباكها بكل سذاجة، والتفت نحوها يرد: 
-أوزنه وأشوف إن كان ينفع ولا لأ
قهقهت ضاحكة كنوعٍ من التعبير عن تفاخرها بأفكارها الجهنمية، ثم انتقت أقرب أريكة لتجلس عليها واضعة ساقها فوق الأخرى، غاصت في مقعدها وصاحت مزهوة بنفسها:
-ده أنا حلولي هتأكلنا الشهد وتطلعنا في العلالي.
أسند زوجها الحقيبة في حجره بعد أن جلس إلى جوارها، ركز كامل حواسه معها، وهتف كمن يسيل اللعاب من فمه:
-ها، قولي يا فالحة، أنا سامعك.
.................................................................
سحبه من معصمه بشكلٍ غريب محكمًا أصابعه الغليظة عليه بعد أن ابتعدا عن قسم الشرطة، وكأنه لا يريد إفلاته أبدًا إلى أن وصــل به إلى دكانه، هناك دفعه بقساوةٍ وعنف من جسده نحو الأقفاص المهملة بالداخل، استغرب المتواجدون بالمكان من ردة فعله الهائجة، ولكن لم يتدخل أحد. كاد توازن "ناجي" أن يختل من أثر الدفعة القوية لولا أن استند بيده على المكتب الخشبي، اعتدل في وقفته لكنه انتفض مذعورًا وقد أشهر "تميم" مديته التي يقطع بها ثمار الفاكهة في وجهه، أمسكه الأخير من تلابيبه بعد أن انقض عليه، ثم دفعه مجددًا نحو الحائط ليحاصر صدره بذراعه، ثم وضع النصل الحاد على عنقه يريد نحره، ارتجف "ناجي" من تصرفه الخطير، وهتف بصوته المهزوز يرجوه:
-إنت.. بتعمل إيه بس؟ اعقل كده يا "تميم".
هدر به بجنونٍ شديد وقد اربد وجهه بغضبٍ لا حصر له:
-ده اللي قولتلي هاتصرف فيه وأعمله؟
توسله برجاءٍ ونبرته ما زالت مرتعشة:
-اهدى بس، ده أنا صاحبك.
لكزه بعنفٍ في صدره قاصدًا إيلامه، وواصل صراخه المنفعل به:
-قولتلك حلها بالعقل، مش بالبلطجة وضرب الحريم!
أنكر تورطه في إيذاء "فيروزة" قائلاً:
-وأنا مجتش جمبها، ولا حد من رجلتي، كان الحوار كله مع خالها.
استفزه بقوله وشعر بدمائه المحتقنة تندفع بقوة إلى رأسه المشتعل، وما زاد من وهج غضبه تجسد وجه "فيروزة" المتورم في مخيلته ليفقده عقلانيته، لكزه بقسوة أكبر وضغط على صدره ليزيد من إحساسه بالوجع، ثم هدر به صارخًا والنصل يهتز بين أصابعه:
-أومال اللي خالها عملوا فيها ده تسميه إيه؟
ارتعد "ناجي" من عصبيته البائنة، ازدرد ريقه وردد مستنكرًا ومحاولاً في نفس الآن تبرئة ساحته:
-وأنا كنت هاعرف منين إنه هيعجنها؟ قولت هايتكلم كلمتين بالعقل معاها ويقنعها بالهدوء.
حدجه بنظرة مميتة كأنه يريد الفتك به، ورد عليه باستهجانٍ ساخط:
-يا سلام، يا برودة دمك يا أخي! إنت أغبى خلق الله.
لعق "ناجي" شفتيه قبل أن يضيف بحذرٍ:
-أنا غرضي كان أقرص ودن الراجل وبس.
طاقة من الغضب نفذت من عينيه إليه، ثم رد عليه في تهكمٍ صارخ:
-يا شيخ، بإنك تسرق الراجل وتلبسهالي أنا؟!
تدخل "محرز" قبل أن تسوء الأمور، وحاول إبعاد "تميم" من كتفيه ليخلص "ناجي" من براثنه وهو يرجوه:
-خلاص يا "تميم"، كل حاجة هتتحل، هدي أعصابك.
نفض الأخير كتفيه عنه وتراجع بضعة خطوات للخلف، لكن ظلت مديته في يده .. تنفس "ناجي" الصعداء لتخلصه من عنف وتعسف رفيقه، تحسس بيده عنقه الذي جرح قليلاً، نظر إلى خط الدماء المطبوع على أصابعه بصدمةٍ، كان بالفعل مهددًا منه، انتفض واكتسى وجهه بعلامات الرعب من جديد حين تقدم "هيثم" نحوه يقول بصوتٍ ميت:
-لو عاوزني أدخل يا ابن خالتي فأنا جاهز، خلي الطلعة دي عندي!
استدار "تميم" نحوه، ورمقه بنظرة صارمة من عينيه المحتقنتين، لم يحبذ مطلقًا اللجوء للغير لفض نزاعاته الذكورية، يكفيه محاولة واحدة فاشلة تورط فيها وجرت عليه مصائب أخرى، قست تعابيره وقال له ملوحًا بذراعه:
-لا سيدي، مش عاوز خدمات من حد.
احتدت نظرات "هيثم" من أسلوبه الجاف معه، وتجهمت قسماته وهو يعاود التراجع للخلف، ي حين راقب "بدير" ردات فعل ابنه بحذرٍ، وبثباتٍ وتؤدة تقدم نحوه ليقف بجسده الشامخ بين الاثنين المتلاحمين، وزع نظراته بينهما قبل أن يقول بصوته الأجش:
-اعتبره موضوع وراح لحاله.
نظرة مستنكرة كست عينا "تميم" بعد تلك الجملة، ازداد حنقه، وهتف محتجًا وعروقه النابضة قد اشتدت بشكلٍ أكبر:
-يابا لأ، كده حرام، واللي حصل مع البت دي كان بسببي في المرتين، حتى لو مكونتش أعرف، أنا اللي محقوقلها دلوقتي.
وقبل أن ينطق والده بكلمة بادر "ناجي" مبررًا عله ينجح في ضمه إلى صفه:
-يا حاج "بدير" أنا فكرت رجالتي هيحلوها ودي، هما جودوا من عندهم، دي دماغهم وده تفكيرهم.
علق عليه "تميم" وعيناه تقدحان بغضبه الشديد:
-أه طبعًا، ما إنت باعت شبيحة وولاد ليل يتصرفوا، طبيعي حلهم زيهم.
هتف "محرز" وهو يشير بيديه لكليهما:
-نهدى بس يا رجالة، وكل حاجة وليها حل.
ثم اتجه نحو "تميم" يدفعه برفقٍ من كتفه ليحثه على المشي وهو يغمغم في أذنيه بكلماته المستهلكة عله يمتص غضبته الثائرة، سحب الأول مقعدًا وأسنده خارج الدكان دون أن يستمع له، ثم جلس عليه وقد وضع سيجارة بين شفتيه، أخرج "محرز" ولاعته وأشعلها له وتلك الابتسامة اللزجة محفورة على وجهه معتقدًا في نفسه أنه خبير العائلة النفسي الناجح ذو الخبرات العريضة والتي من خلالها يُطيع الأمور المستعصية. تركزت الأعين كلها فجأة على ذاك المنادي بالصوت الراجي من بعيد:
-يا حاج "بدير"!
هب "تميم" واقفًا حينما رأى "خليل" مقبلاً عليه، بدا متحفزًا للغاية، جسده متصلب، وكتفاه مشدودان، توقف الضيف ليتلقط أنفاسه وصوته ما زال ينادي:
-حاج "بدير"، أنا واقع في عرضك.
تحرك "بدير" في اتجاهه والدهشة تحتل قسمًا كبيرًا من ملامحه، قطب جبينه مرددًا في تعجبٍ:
-"خليل"!
كاد الأخير ينحني على يده يقبلها في توسلٍ قبل أن يسحبها سريعًا ليقف بعدها في خزيٍ وهو يستميل مروءته بكلماته المستعطفة:
-بالله عليك ما تردني مكسور الخاطر.
-استغفر الله العظيم
قالها "بدير" وقد تراجع خطوتين للخلف.. حضوره المفاجئ استثار "ناجي" الذي لم يفق بعد من محاولة اعتداء رفيقه عليه، كانت فرصته ليصب غيظه المكبوت عليه، لذا خطا ناحيته يصيح به بشدة وهو ينعته بألفاظٍ مهينة:
-في إيه تاني يا ....... ؟ فلوسك مش رجعتلك، ولا جاي ترمي بلاك هنا!
رفع "بدير" يده يحذره بلهجته الصارمة:
-متدخلش يا "ناجي"!
هز رأسه بانصياعٍ وقد أُرغم على طاعته، لكن بقيت نظراته الحادة مثبتة على وجه "خليل" اللئيم، حتى "تميم" زاد شعوره بالعدائية نحوه، لم يكن مُدينًا له بشيء، بل على العكس كان يكن له غضبًا متعاظمًا، لذا هدر فيه بخشونةٍ:
-إنت جاي تعمل دور هنا ولا إيه؟
اهتز بدن "خليل" من صوته الجهوري المتعصب، وأدار رأسه لينظر في خوفٍ إلى "بدير"، وكأنه يطلب نجدته، استجاب له الأخير وهتف بلهجته الصارمة الرافضة للجدال:
-ماسمعش نفس حد هنا، هو أنا مش مالي عينكم؟!
قال "تميم" على مضضٍ وهو يكور قبضة يده:
-اتفضل يابا.
استقام "بدير" في وقفته المهيبة، وتطلع من جديد إلى "خليل" بنظراته المتفرسة قبل أن يسأله بهدوءٍ وروية:
-عاوز إيه؟ 
اختلس "خليل" النظرات نحو الأوجه الحانقة المتطلعة إليه، وابتلع ريقه قائلاً بصوتٍ خفيض يميل للانكسار:
-حاج "بدير"، أنا.. كنت آ...
عَمِد إلى اقتطاع جملته ليظهر ارتعابه مما دفع "بدير" للقول بنفس اللهجة النافذة:
-اتكلم متخافش، محدش هيعملك حاجة!
وكأنه اكتسب حماية مطلقة بتصريحه العلني، تشجع في وقفته وانتصب كتفاه قليلاً، ثم قال بنبرة تعبر عن تعاسة واضحة متعمدًا أن ينظر إلى موضع قدميه:
-يا حاج، احنا ناس غلابة، جيران من زمان وإنت عارفنا أبًا عن جد، وطول عمرنا ماشيين جمب الحيط، ومالناش دعوة بحد
أومأ برأسه يرد عليه ويداه قد ارتكزتا على رأس عكازه:
-مظبوط.
ابتلع ريقه بعد أن استجمع جأشه قليلاً ليمضي في حديثه قائلاً:
-البت مقصوفة الرقبة بنت أختي مكانتش تعرف هي بتعادي مين، وأنا رجعتلها عقلها، وندمت على هبلها، بس آ...
بتر عبارته من جديد ليستثير فضوله، فهتف "بدير" يسأله:
-قول.. في إيه؟
كانت كل الآذان تصغي إلى ما يقوله بالرغم من مشاعر الكراهية والحنق التي تملأ الأجواء، ومع هذا حافظ "خليل" على قناع الوجه المنكسر الذي يرتديه مستمتعًا بترقبهم، حانت فرصته الثمينة ليغتنمها، تلك الفرصة التي لا تأتي في العمر مرتين، أخفض رأسه ليظهر خذلانه، وقال بنبرة أقرب للتسول واستجداء الإحسان:
-هي كانت بتساعد أمها وأختها من القرشين اللي بيطلعولها من العربية، ما هما أصلهم يتامى ومكسورين الجناح، وأنا زي ما إنت عارف موظف ومرتبي على أدي، يدوب مكفي بيه الجماعة بتوعي والعيال اللي مصاريفهم ما بتخلصش، وبعد اللي حصل ده، والخراب اللي جه علينا، فـ ... فيعني آ...
فطن "تميم" لأسلوبه الملتوي لطلب المساعدة، فقال بنزقٍ:
-أنا عرضت عليها تعويض، وهي موافقتش!
تفاجأ الحضور بما فعله في الخفاء ونظروا إليه في حيرة واستغراب، لكن كان "خليل" الأكثر صدمة بينهم، همس لنفسه في غيظٍ:
-آه يا بنت الكلب، ومقولتيش!
حاول أن يحافظ على انكسار نظراته وذبول صوته وهو يكمل:
-كتر خيرك يا معلم "تميم"، أصل احنا نفسنا عزيزة، وآ.. ومانقبلش ناخد فلوس كده من غير ما نتعب فيها.
زجره "هيثم" قائلاً بنفاذ صبر بعد أن مل من ثرثرته الطويلة:
-قول دوغري إنت عاوز إيه، ورانا أشغالنا ومش فاضينلك.
ابتلع "خليل" ريقه وهو ينظر إليه في توترٍ، عاد ليحدق في وجه "بدير" وردد بتلعثمٍ:
-حاضر..
ثم سحب شهيقًا عميقًا لفظه دفعة واحدة قبل أن يتابع بنفس اللجلجة المفتعلة:
-يعني لو.. تكلملنا يا حاج "بدير" عم "فايد" يأجرنا المحل اللي على ناصية الشارع، وتضمنا عنده بكلمتك اللي زي السيف إنه يصبر بس عليا في العربون والمقدم كام شهر لحد ما أفتحه وأسترزق منه، وبعد كده أسددله الفلوس، ما إنت كبيرنا، والحال واقف معانا، وأكيد ميرضكش قطع الأرزاق!
أسبل عينيه ليراقب ردات الفعل المرسومة على الأوجه، لكن كان جل من يهمه هو صاحب المال، نكس رأسه في تواضعٍ وهتف يرجوه وهو يشير بيده:
-واللي هتأمر بيه يا حاج فوق راسي.
مط "بدير" فمه يفكر في طلبه الغريب، ثم حسم أمره قائلاً:
-ماشي، معنديش مانع.
ذهل الحاضرون من موافقته، والتي بدت كما لو كانت قد أعدت مسبقًا، ومع هذا لم يجرؤ أحدهم على الاعتراض عليه، هلل "خليل" في سعادة غامرة:
-الله يخليك يا حاج "بدير"، ده احنا مالناش بركة اللي إنت، وأنا هامشي في الحتة كلها أقول للناس على معروفك معايا.
تابع "محرز" المشهد الهزلي المكشوف بنظراتٍ ثاقبة وابتسامة مهترئة، لم يكن ساذجًا لتلك الدرجة لتنطلي عليه تلك الحكايات المستهلكة التي يمليها عليهم "خليل"، كان أكثر إحساسًا بلؤمه، حيث قابل عشرات الأشخاص من صنفه المتغذي على الآخرين، وبالتالي لم يتعجب من تسوله السخيف، لوهلة ومض عقله بفكرة ماكرة، ربما ستساعده في تنفيذ شيء لطالما خطط له، لكنه تعثر بسبب مستجدات الأمور .. وبسماجة مصحوبة ببسمة مصطنعة هتف ملوحًا بيده:
-تسمحلي يا حاج أقول حاجة كمان
التفت "بدير" برأسه نحوه مرددًا:
-خير يا "محرز".
تنحنح بصوتٍ عالٍ، ووزع نظراته على الجميع قبل أن يستطرد:
-أنا عندي اقتراح تاني يا حاج، هيفرق معانا ومع سمعتنا في الحتة بعد اللي حصل يعني
صاح "خليل" من تلقاء نفسه:
-قطع لسان اللي يجيب سيرتكم بكلام بطال، ده إنتو ولاد أصول!
نظر له "بدير" في امتنانٍ معقبًا:
-متشكرين، ها قول يا "محرز".
دار الأخير حول الواقفين بخطواتٍ متريثة يراقب نظراتهم كلاً على حدا، وكأنه أفعى سامة تتلوى لتنتقي ضحيتها التالية، ثم أضاف:
-إنت عارف إن الناس ما بتصدق تلاقي حاجة وتعمل منها حكايات وروايات، فاحنا هنسكتهم باللي ما يخليهمش يتجرأوا يفتحوا بؤهم أبدًا
أثار فضولهم بكلماته ذات الدلالات الغامضة، وتابع بنفس الأسلوب المشوق:
-ده غير إن الكل هيتأكد إن مقام الحاج "بدير" ابن الحاج "سلطان" فوق الكل.
 رد عليه "خليل" متخذًا نفس الأسلوب المدعم:
-مقام الحاج كبير طول عمره، هو حد يستجري يقول غير كده؟
حدج "تميم" الاثنين بنظراته النارية المتنمرة، وهتف يسأله بضيقٍ واضح:
-ما تقول يا "محرز" اقتراحك إيه! بلاش لف ودوران
هز رأسه بإيماءة إيجابية، ثم أدار رأسه في اتجاه "خليل" ليسأله:
-إنت بنات أختك دول متجوزين يا "خليل"؟
بدا مأخوذًا من سؤاله الغريب، وقال في ترددٍ طفيف:
-هــاه .. لأ
برقت عينا "محرز" حين قال له موضحًا:
-خلاص، يبقى محلولة، احنا عندنا عريس لواحدة فيهم.
بفمٍ مفتوح ووجهه مشدوه ردد "خليل" عاليًا:
-عريس؟!!!
.......................................................
على جمرات مشتعلة ظل يدور ويتحرك بطاقة مضاعفة في الدكان مدعيًا انشغاله بمتابعة عماله أثناء تفريغهم للثمار الطازجة وتخزينها بالثلاجة التي تحتل القسم الخلفي من المكان، حاول "تميم" إشغال نفسه وإضاعة الوقت ليلتهي عن التفكير في ذلك الاقتراح الصادم ريثما ينفرد بوالده، لكن عقله أبى الإنصات وألح عليه بهواجسه المعقدة، لم يكن ليتصور أن يحظى ابن خالته الأرعن بـ "فيروزة" إن جاء نصيبها معه وإن كان الخلاف يجمعهما، لوهلة تخيل أنها تخطب إليه ويُقترن اسمها به، شعر بمعدته تتقلص وكأن النيران قد اضطرمت في أحشائه، رفض استيعاب الفكرة ونبذها عقله بشدة، بل أحس بدمائه تفور لمجرد طرح الفكرة، حاول تهدئة نفسه وإفراغ المشاعر المكبوتة فيه بأداء الأعمال الشاقة بنفسه آملاً أن تخور طاقته المستثارة .. وما إن تحقق مراده وأصبح والده جالسًا بمفرده حتى أقبل عليه حاملاً كرسيه الخشبي في يده، أسنده إلى جواره، وسأله بصوته المتجهم:
-إنت عاجبك الكلام اللي "محرز" قاله ده يا حاج؟
ببساطة شديدة وهدوء مبالغ فيه رد عليه "بدير":
-والله مش عيب ولا حرام، هو بيتكلم بالعقل.
هتف محتجًا بشدة ونظرات الاستنكار ظاهرة عليه:
-جواز إيه ده، لأ ولـ "هيثم" كمان؟
علق بهدوئه المعتاد:
-محدش يقول للحلال لأ، وبعدين مسيره في يوم هايتجوز، وأكيد لما يلاقي نفسه شايل مسئولية بيت وعيال هيعقل.
قال معترضًا عليه ومستنكرًا استهانته بتلك المسألة المصيرية تحديدًا:
-اللي فيه طبع ما بيتغيرش يابا، متصدقش إن ابن خالتي ده حاله هينصلح.
تنهد "بدير" ناطقًا:
-أدينا بنديله فرصة.
صاح في عصبية وقد اختلج وجهه حمرة غاضبة:
-ونظلم بنات الناس معاه؟
التفت "تميم" كالملسوع فجأة حينما قال "محرز" بسماجة وقد فرض نفسه عليهما:
-إنتو بتتكلموا عن جوازة "هيثم"
هب واقفًا ليرد عليه بنظراتٍ يملأوها الإظلام:
-أيوه، أنا مش موافق على اللي قولته
رد يسأله ببروده السخيف:
-ليه بس؟ إنت تكره الخير لابن خالتك؟ ده إنتو لحم ودم!
كان "تميم" سهل الاستفزاز، سريع الغضب، وبذل أقصى ما يستطيع ليظهر هدوئه، لكن لم تتطاوعه ردات فعله .. استغرب "بدير" من حمية ابنة الزائدة، ومع ذلك قال له معللاً تشجيعه لذلك الاقتراح:
-يا ابني الجواز سترة للبنات في الأول وفي الآخر، ربنا يقدم اللي فيه الخير للجميع.
بينما أضاف عليه "محرز" متشجعًا:
-احنا مش خسرانين حاجة، مسير "هيثم" كان هايجي للحاج ويقوله عاوز أتجوز، وبعدين هما ناس غلابة وهيرضوا بأي حاجة.
اغتاظ "تميم" من تدخله وكلامه المستفز فنهره بتزمتٍ:
-بلاش تتحشر، وسيبني أخد وأدي مع أبويا!
نظر له في ضيقٍ، وقال معاندًا له:
-أنا نيتي خير، والحاج عارف إن يهمني مصلحة الكل.
وقبل أن يثور عليه مجددًا صاح "بدير" فيه منهيًا الجدال بينهما:
-خلاص يا "تميم"، كلام "محرز" موزون، وفيه الصالح.
أصــر على احتجاجه قائلاً بوجهٍ متصلب:
-مش مع "هيثم"، أنا عارف طبعه.
وقف "بدير" لتصبح نظراته نافذة له، ثم حذره بلهجته الصارمة
-وأنا الشيبة اللي على راسي دي مش من قليلة، ومش هارضى بحاجة فيها أذية لمخلوق.
لامس "محرز" بوادر أزمة وشيكة، فهتف بسماجته وهو يفتعل الضحك:
-يا عم "تميم" ده الحاج "بدير" هايبقى ضهر ليهم، هو حد يطول يناسب الجاه والنسب ده.
أدرك "تميم" أنه لن يصل لشيء في نقاشه العقيم، فقال مستسلمًا وهو يدير ظهره للاثنين ليعود للداخل:
-اعملوا اللي يريحكم.
راقبه "محرز" بعينين ثاقبتين تضمران خبثًا خفيًا، أخفض رأسه وقال بعبوسٍ زائف:
-والله يا حاج أنا غرضي مصلحة الكل
زفــر "بدير" ببطء قبل أن يرد عليه:
-أنا عارف يا "محرز"، وفاهم قلق ابني، بس عشمي في المولى كبير
عادت البسمة لتشرق على محياه من جديد وهو يعقب عليه:
-إن شاءالله مش هايحصل غير كل خير يا حاج .. ولا إيه!
برقت حدقتا "محرز" بذلك الوميض غير المريح وقد بدأت ملامح خطته المعدلة تدخل في حيز التنفيذ.
...........................................................................
صداقة ممتدة وغير معلومة جمعت بين ثلاثتهم حرصوا فيها جيدًا على إخفائها ليبدو أمام العيان كغرباءٍ يجمعهم النسب والمعرفة السطحية لا كرفقاء قدامى دمغوا أحلامهم بسبب فقرهم المدقع .. وفي ذلك المنزل المتهالك حيث يسكن "نوح" جلسوا سويًا بعد أن وضبوا ما يحتاجون إليه لتكتمل جلستهم الترفيهية..
-إنت بتورطني يا "محرز"؟ هو أنا كنت ناقص بلوى!
تساءل "هيثم" بهذه الكلمات الناقمة وهو ينفث دخان نارجيلته دفعة واحدة في الهواء ليعبق بها الغرفة شبه المعتمة، حانت منه نظرة محتدة نحو "محرز" الذي بدا في أوج هيمنته وهو يستمتع بتدخين سجائره غير البريئة، أخرج سحابة كثيفة من جوفه، واعتدل في جلسته على المقعد الجلدي المتآكل أطرافه ليقول بخبثٍ، وكأنه بذلك يحمسه على القبول:
-ياض افهم، هتطلع بسبوبة حلوة من ورا الجوازة دي.
زوى ما بين حاجبيه متسائلاً:
-إزاي؟
أجابه بلؤمٍ:
-يعني هتعرف تسحب فلوس من جوز خالتك على حس إنك متجوز وفاتح بيت ومصاريفك كتير ومش مقضية، واللي معرفتش تاخده وإنت لوحدك، هتاخده دلوقتي براحة راحتك، ومن غير ما حد يحاسبك ولا يذلك.
كركر "نوح" ضاحكًا وهو يرص حجر الفحم على ناريجيلته لتزداد توهجًا، ثم هتف يمتدح عقله الداهية:
-يخربيت شيطانك، إبليس قاعد معانا!
التفت "محرز" نحوه ليسأله في تباهٍ واضح:
-عجبتك يا "نوح"؟
هز رأسه يثني عليه في إعجابٍ:
-دمـــاغ يا "محرز"، كلنا لازم نتعلم منك، حتى الشيطان
شعر بالانتشاء من مدحه المبالغ فيه، وقال مجاملاً:
-تُشكر يا حبيبي.
ألقى "هيثم" بخرطوم النارجيلة في عصبيةٍ، وانتفض بجسده يقول مقررًا:
-وأنا مش عاوز أتجوز
مال "محرز" نحوه محاولاً إقناعه باللين:
-اسمع بس وبلاش قفش يا عمنا ..
نفخ الأخير في استياءٍ وأشاح بوجهه للجانب الآخر، لم يبدُ "محرز" من ذاك النوع اليائس المستسلم، كان مثابرًا لأقصى الحدود، سحب نفسًا عميقًا من سيجارته، ثم استند على مرفقه ليساعده على تحريك جسده المتراخي ناحيته، وما إن بدا قريبًا منه حتى مال عليه، ووسوس في أذنه ليقنعه: 
-لازمًا تعمل كده، ده لو عاوز ترجع حق أبوك، دي السكة اللي هتدخل منها ليهم، ومن غير سجن ولا بهدلة أقسام، ولا حد يتحكم فيك!
نظر له على بعينيه المجهدتين، وسأله مباشرة:
-طب أنا هتنيل أتجوز، إنت بقى هتستفاد إيه؟
أراح "محرز" ظهره المتعب وأرجعه للخلف ليغوص في المقعد أكثر مستمتعًا بمذاق التبغ المطعم بذلك المخدر في جوفه، فــرد ساقه وفرك بيده -وفي حركة دائرية متعاقبة- ركبته قبل أن يجيبه بنوع من المراوغة وتلك النظرات الشيطانية الماكرة تملأ حدقتيه:
-بعدين .. كلها مصالح في الآخر.
..............................................................
 وأخيرًا ابتسم الحظ له، بل فتحت الدنيا أبواب سعادتها على مصراعيها بذلك العرض غير المتوقع من "محرز"، كاد "خليل" أن يتخلى عن وقاره الزائف ويرقص طربًا في الشارع كتعبير عن فرحته الغامرة، حتى أنه اعتقد في نفسه بكونه قد بات شريكًا في أموال عائلة "سلطان" الثرية، لا يشكل أي فارق معه إن كان قريبه "هيثم" فقيرًا معدمًا أم لا، المهم أنه سيصير نسيبًا لتلك العائلة ذائعة الصيت والغنى، تبقى أمامه مهمة شاقة؛ ألا وهي إقناع إحدى الفتاتين بالارتباط به، بالطبع لم يكن ليجرؤ على مفاتحة أخته أو ابنتيه دون الرجوع أولاً لرأس الأفعى والعقل المدبر؛ "حمدية"! استشارها في تلك المسألة الحيوية، وقالت له بمكرها المعتاد:
-إنت ماتديهومش فرصة يفكروا، اعتبر رأيهم تحصيل حاصل
تطلع إليها متسائلاً:
-أقصدك أجبرهم؟
هزت برأسها مؤكدة:
-أيوه، أومال تسيبهم يقولوا أه يا لأ، وتضيع من إيدينا الفرصة دي؟ كام مرة حد بيناسب عيلة زي دول!
كان مقتنعًا بكل ما ينطق به لسانها لكونه يشجع طمعه المادي، سال لعابه ورد مؤيدًا:
-معاكي حق، أنا هالبسلهم الوش الخشب، وإياكش يولعوا.
اتسعت ابتسامتها اللئيمة وهي تقول بقلب يشتعل حقدًا وبغضًا:
-الله ينور عليك، دول ما ينفعش معاهم إلا كده.
..............................................................
ظنت أنه قد جاء لرأب الصدع مع ابنتيها، وخاصة المكلومة "فيروزة"، حين جلس يبادلها الحديث الودي وينهال على أذنيها بكلماتٍ عطوفة حانية مذكرًا إياها بصلة الرحم ورابط الدم، توسمت فيه خيرًا بسجيتها النقية غير متوقعة الشر الكامن خلف قناع اللطف الذي ارتداه .. أعدت "آمنة" كوبين من الشاي وأضافت نكهة القرنفل عليه، ثم عادت إلى أخيها، وأسندت الصينية أمامه لتجلس بعدها على مقربة منه، وبتلذذ واضح على تعابير "خليل" المسترخية بدأ يتناوله رشفة تلو الأخرى محدثًا صوتًا شبه مزعج، رفع عينيه إليها ونظر لها مليًا قبل أن يستهل حديثه قائلاً:
-شوفي يا "آمنة" الموضوع اللي جاي أكلمك فيه النهاردة ده عشان مصلحة البنات قبل أي حاجة، مهما حصل بينا فهما لحمي وعرضي
ابتسمت ترد عليه:
-طبعًا ياخويا، والضفر عمره ما يطلع من اللحم.
غاص في الأريكة وقال:
-وبما إني خالهم، والخال والد، فأنا هادور على اللي فيه الفايدة وأعمله.
شعرت بقليل من التوجس ينتابها، ومع ذلك التزمت الصمت ريثما يفرغ ما في جعبته، تنحنح "خليل" متابعًا كلامه المرتب:
-دلوقتي في عريس متقدم لواحدة من بناتك، هو محددش مين اللي عاوزها بالظبط، بس يكفيكي تعرفي إنه ابن الحسب والنسب، وهيعيشها في نعيم وعز ماكنتش تحلم بيه.
ارتفع حاجباها للأعلى في دهشة كبيرة، ورددت بفمٍ مفتوح:
-عريس!!
قال بهدوئه المريب:
-أيوه.
ابتلعت ريقها وسألته:
-مين ده؟
أجابها بزهوٍ غامض وهو ينتصب في جلسته:
-قريب الحاج "بدير".
انقبض قلبها في خوفٍ وقد لاحت مشاهد تهديدات "ونيسة" حين أتت لزيارتها في مخيلتها لتصيبها بالهلع، تشتت تفكيرها، ولطمت على صدرها في استنكارٍ قبل أن تهب واقفة لتبدي اعتراضها الكلي:
-قريبه؟ يا نصيبتي؟ واحنا إيه اللي يشبكنا مع الجماعة دول بالذات، أنا مصدقت بعدنا عنهم، وكفاية اللي حصل لبناتي!
نظر لها "خليل" في غيظٍ بعد أن أفصحت عن رأيها بصراحةٍ، ومع هذا قال ببرودٍ وقد قست تعابيره:
-بناتك اللي غلطانين من الأول، وبعدين المفروض يحمدوا ربنا إني بأصلح وراهم، مش بدل ما الحتة كلها تعادينا بسبب قرفهم؟
ردت عليه محتجة:
-هما خلاص اتعلموا من اللي حصل، وكفوا خيرهم شرهم و...
قاطعها بتزمتٍ وقد أظهر لها تشدده:
-أنا اديت للراجل كلمة ومش هارجع فيها!
سألته في لوعةٍ وعلامات الجزع تكسو وجهها:
-قصدك إيه يا "خليل"؟
نهض من مقعده ليقول بحسمٍ:
-يعني أنا وافقت على جواز واحدة فيهم لقريبه ده، ومش هارجع في كلامي مهما حصل!
لم يدرِ "خليل" أن ابنتي أخته كانتا تتلصصان على حوارهما المحتد، سيطر على الاثنتين حالة من الدهشة والصدمة المستنكرة، تبادلا مع بعضهما البعض نظرات مذعورة متوترة، لكن أبت "فيروزة" البقاء منزوية بالداخل .. فاض بها الكيل من تدخله السافر في شئون حياتهما الخاصة، بل وتقرير مصير مستقبلهما بكل هذا التعنت، لم تقبل بالخنوع أو الإذلال أكثر من ذلك، خرجت إليه مندفعة في عصبيةٍ وقد اختلج وجهها بحمرته الغاضبة، تقدمت نحوه حتى أصبحت على بعد خطوات منه، زجرته قائلة وتلك النظرات النارية تحتل حدقتيها:
-من غير ما تاخد رأينا؟
نظر لها باحتقارٍ قبل أن يرد:
-رأي إيه تاني بعد اللي هببتوته؟ ده كتر خيري إني عمل كده!
صاحت فيه "آمنة" كأنها تلومه:
-إنت كده بتبيع بناتي بالرخيص!
التفت ناحيتها برأسه ليرد ببرودٍ ساخر:
-لأ بالغالي يا ناصحة، وهما مسيرهم كان للجواز، ولا هيفضلوا كده أعدين عوانس جمبك؟
ارتفع الكدر في عيني "آمنة"، وأصابها تعاسة لا حصر لها، سارت في تخاذل لتجلس على الأريكة وقد شعر بثقلٍ في قدميها، تدخلت "همسة" في الحوار المحتدم وقالت بضيقٍ كبير:
-بس مش بالشكل ده يا خالي، ده احنا منعرفش شكله ولا بيعمل إيه ولا معاه شهادات ولا آ...
قاطعها بشبح ابتسامة ماكر لاح على زاوية شفتيه:
-كفاية إنه من طرف الحاج، هتعوزوا إيه تاني؟
وما لبث أن تحولت نبرته للإهانة وهو يكمل:
-ده إنتو شوية وهتشحتوا، بوسوا إيدكم وش وضهر إن في حد راضي بيكم!
كانت كلماته كالسوط اللاذع تهبط على أجسادهن فتحرقهن بقسوتها ومرارتها، احتجت أخته بشدةٍ وجسدها ينتفض في عصبيةٍ:
-يعني عاوزني أرمي بناتي كده في الشارع؟ يرضي مين ده يا ناس؟
أسرعت نحوها "همسة" لتهدئها وجلست على مسند الأريكة لتمسح على كتفها وجانب ذراعها في رفقٍ، بينما نظر "خليل" لأخته بعينين قاسيتين وهو يصحح لها:
-دول جيرانا من زمان، واحنا عارفينهم كويس، دلوقتي بقوا ماينفعوش ومن الشارع، هو حد يطول أصلاً يناسب عيلة "سلطان".
ردت عليه بنبرة أقل حدية لتسترق قلبه:
-على عيني وراسي الكلام ده، بس مش ده اللي اتمناه ليهم.
نفخ هاتفًا بنفاذ صبرٍ:
-بأقولكم إيه، أنا خدت قراري خلاص، واحدة فيهم هتتجوز قريب الحاج، ومافيش نقاش في الموضوع ده
هدرت فيه "فيروزة":
-ده ظلم، وإنت بتجني علينا.
قال لها وهو يتنفس أنفاس الضيق محاولاً ألا يثور حتى ينجح في مسعاه:
-ده جواز، مش حكم بالإعدام يا بت.
ردت عليه في تشنجٍ:
-لأ، أسوأ..
هتف بخبثٍ:
-ده إنتو هتستفيدوا، فتحي مخك يا غبية!
توحشت نظراتها من جملته الأخيرة التي تضمنت إيحاءً خاصًا استطاعت أن تستشف المغزى الخفي ورائه، وبكل نزقٍ قالت له وكأنها تفضحه:
-تلاقيك إنت اللي طالع منها بمصلحة!
اتسعت عيناه في حنقٍ من وقاحتها الفظة، وقبل أن يرد عليها لإخراسها بصرامته وتعسفه -البدني والمؤذي- هتفت "همسة" من الخلف بصوتٍ مرتفع تعمدت أن يصل صداه للجميع:
-أنا موافقة أتجوزه يا خالي .

تعليقات



×