رواية الطاووس الابيض الفصل الحادي عشر
رمشت بعينيها في بطءٍ وهي تتطلع إلى أختها التي باغتتها بسؤالها ذلك وقد اعتقدت أنها تناسته في خضم تلك المشادة الأخيرة، عقدت المفاجأة لسانها، أحست بجفاف شديد في حلقها، بخوفٍ ممتزج بالتوتر يتسلل تحت جلدها، بالعرق البارد يصيب أنحاء متفرقة من جسدها .. كانت حيرتها جلية على قسماتها؛ فإن تفوهت بما حدث مسبقًا لربما دفعت "فيروزة" للعودة إلى العرس والتشاجر من جديد معه، وهذا ما ترفضه قطعيًا، لأنه سيزج بها في مشاكل جمة لن تُحل بسهولة .. وإن أخفت الأمر عنها لربما غضبت منها إن شاءت الأقدار وتكرر الصدام معه أثناء عملهما بالعربة، أصاب "همسة" الوجوم الشديد، حتى أن ملامحها بهتت ونظراتها زاغت .. طال صمتها مما زاد من غريزة الفضول لدى أختها، استغرقت بلا وعيٍ في أفكارها المتخبطة حتى انتبهت على صوت "فيروزة" حينما ألحت عليها تسألها:
-إيه يا بنتي؟ إنتي نسيتي كنتي عاوزة تقولي إيه عنه؟
لعقت "همسة" شفتيها تجيبها في تلعثم:
-لأ.. ولا حاجة، كنت .. آآآ.....
جفاف أكبر أصاب جوفها مما زاد من طعم المرارة به، ازدردت ريقها الهارب وتابعت كذبًا:
-كنت مفكراه شبه .. ممثل كده، وحتى كنت .. هسألك لو تعرفيه.
ثم حملقت في "فيروزة" تراقب بأعصابٍ مشدودة ردة فعلها، ورغم سذاجة إجابتها إلا أنها كانت كافية لتمنحها فرصة للتفكير مليًا في حجةٍ أكثر إقناعًا إن استمرت في التحقيق معها وحاصرتها بأسئلتها، تنفست "همسة" الصعداء حينما ردت عليها بما يشبه التهكم:
-والله إنتي فايقة ورايقة، ممثل إيه بس!
خرجت ضحكة متكلفة من جوفها وكأنها تضحك على كلماتها فقط لتخفي الاضطراب الذي اعتلاها، تحركت "فيروزة" للداخل دون أن تتفوه بكلمة أخرى وقد بدأت زخات المطر في الهطول، أحست "همسة" بالارتياح لانصرافها، وتمتمت مع نفسها في تضرع:
-الحمدلله يا رب، عدت على خير.
تركت للمطر مهمة تبريد تلك السخونة التي انتشرت في بشرتها بفعل الأدرينالين والانفعال، أغمضت عينيها ورفعت رأسها للأعلى مستمتعة بذلك الإحساس المنعش، ثم تنفست بعمق حتى تتأكد من انتظام دقات قلبها، رفعت "همسة" يدها لتمسح المطر العالق بأهدابها، واشرأبت بعنقها لتنظر إلى ما تفعله "فيروزة" بجوار السلم، فوجدتها تفتح الحجرة المخصصة لتخزين العربة لتجمع صناديق الطعام الصغيرة، تبعتها في صمتٍ لتساعدها وهي تردد كلمات أغنية علقت في ذهنها مما جعل الأخيرة تضحك على صوتها المريع وهي تنظر لها من طرف عينها، ثم بدأت في مشاركتها الغناء بصوتٍ لا يقل عنها نشازًا.
...............................................................
تراصت السيارات أمام البناية المشابهة لأغلب عمارات المنطقة في ارتفاعها الذي لا يتجاوز الأربع طوابق -والمملوكة لعائلة "سلطان"- لتصدح بعدها أصوات الأبواق كإعلانٍ صريح عن وصول العروسين لمسكن الزوجية، وبالرغم من كون ذلك قد أحدث صخبًا وجلبة عالية إلا أنه لم يشكو أحدهم من هذا، فما زالت تلك هي الطريقة التقليدية المتبعة في الأفراح .. ترجل "تميم" أولاً من السيارة واستدار بجسده للخلف لينظر إلى والده الذي ترجل من سيارة أخرى، تحرك الأول في اتجاهه وامتدت ذراعاه لتحتضنه وتشكره على مساندته طوال الساعات الماضية، ثم أطل برأسه من زجاج النافذة ليمسك بكف جده، رفعه إلى فمه وقبله احترامًا وتبجيلاً. اعتدل في وقفته ليجد والدته تربت على جانب ذراعه ووجهها البشوش يلمع بعبرات الفرح، مسحت بأناملها دمعاتها المنسابة وهي تدعو له:
-ربنا يرزقك يا ابني بالسعادة وراحة البال.. إنت تعبت واتظلمت كتير، وعروستك طيبة وتستاهلك
أحنى رأسه على جبينها يقبله في امتنانٍ يشكرها:
-ربنا يخليكي ليا يامه، أنا من غير دعواتك ولا حاجة
نظرت له بحبٍ، وقالت:
-حبيبي يا ابني ....
ثم ابتسمت له قبل أن تستأنف جملتها:
-وبعدين يا ضنايا البت "خلود" طلعالي، وتربية إيدي، يعني هتريحك في كل حاجة
رد ممازحًا:
-يا ريت يامه تبقى شبهك، بس إنتي بردك مافيش زيك يا ست الكل.
علقت عليه بنبرة ذات مغزى وهي تشير بحاجبيها:
-روح لعروستك بقى، مايصحش تسيبها كده مستنياك..
التفت برأسه عفويًا في الاتجاه الذي أشــارت إليه فوجد "خلود" قد ترجلت من السيارة، وتتبادل الحديث مع والدتها التي حتمًا كانت تُملي عليها الوصايا العشر لتفرض سيطرتها على المنزل، هكذا خمن في نفسه، خاصة وأنها كانت ملتصقة بها بطريقة غير طبيعية وزائدة عن الحد منذ بداية العرس وحتى نهايته، تقدم نحوهما متنحنحًا في خشونة، ثم هتف عاليًا لتنتبه "بثينة" له:
-هــا يا حماتي، خلصتي مع مراتي ولا لسه قدامك شوية؟
نظرت له خالته في استهجانٍ قبل أن تجيبه بشفاه مقلوبة وبما يشبه التهكم:
-أديني واقفة معاها لحد ما تخلص إنت، ولا عاوزني أسيبها لواحدها لحد ما سيادتك تفضى؟
حدجها بنظرة حادة عكست ضيقه، واستطرد يحرجها بكلماته القوية:
-ما هو أنا واقف مع أهلي اللي هما برضوه أهلها، مش برده احنا بينا دم واحد؟ ولا الظاهر إنك بقيتي بتنسي كتير الأيام دي يا .. حماتي!
استشاطت غيظًا منه فصاحت تهاجمه في قسوة:
-أنا خالتك قبل ما أكون حماتك، يعني في مقام أمك!!!
رد مبتسمًا بغطرسة ليشعل غيظها أكثر:
-أنا ماليش إلا أم واحدة!
أطبقت "بثينة" على شفتيها في حنقٍ واضح للحظات، ثم هتفت تحذره بنبرة أقرب للتهديد:
-طيب أحسنلك تاخد بالك من "خلود"، وإياك تزعلها! هتلاقيني في ضهرها ووقفالك!
ظهر عرق نابض في جيبنه بسبب ضيقه من أسلوبها غير المستساغ في التوجيه، استنشق الهواء البارد ليثبط به دمائه التي زاد احتقانها، وزفره دفعة واحدة ليضيف بعدها ضاغطًا على كلمات جملته الأولى:
-اطمني يا .. حماتي، أنا عارف إزاي أعامل أهل بيتي، مش مستني حد ينصحني، و...
ثم سلط أنظاره على أبويه متابعًا في تفاخرٍ وغرور:
-وكفاية إني تربية الحاج "بدير"، ومن قبله جدي "سلطان"، ده غير أخلاق أمي اللي مغروسة فيا، فمتقلقيش...
وما لبث أن تحولت لهجته للقوة ونظراته للصرامة عندما تابع بنبرة خفيضة نسبيًا وقد مال نحوها برأسه:
-إنتي بس ريحي نفسك والدنيا هتمشي!
زمت "بثينة" شفتيها في امتعاضٍ مستنكر وهي ترمقه بنظرة نارية مغتاظة، ثم تقدم "تميم" خطوة للأمام ليتجاوزها ويقف قبالة عروسه التي تضرج وجهها بحمرة نضرة، ثني ذراعه وهو يبتسم لها، فمدت "خلود" يدها لتتأبطه وقد أسبلت عينيها بخجلٍ، التفتت للجانب برأسها قليلاً لتلوح بيدها الأخرى لعائلتها تودعهم، ثم تطلعت أمامها وأكملت سيرها بحذرٍ رافعة طرف ثوب عرسها وكذلك واضعة طرحتها الطويلة على مرفقها حتى لا تتسخ بفعل الأرض المبتلة بزخات المطر، اتجهت مع زوجها نحو مدخل العمارة الذي تم طلائه حديثًا باللونين الأبيض والرمادي الفاتح ليخفي التشققات الناتجة عن الرطوبة المستمرة والظاهرة على الجدران. دق قلبها في حماسٍ وخوف، كما تواترت مشاعرها في تلك اللحظات المصيرية، واضطرب وجدانها مع اقتراب تحقيق حلمها الوحيد.
تراقصت أحلامها الوردية بتمضية ليالٍ رومانسية ناعمة ودافئة في مخليتها وهي تزف إليه بعد صبر طويل وعزيمة قوية، لم تنسَ "خلود" لحظات اليأس التي كادت أن تتملك منها وتفقدها الأمل، ولكن في تلك الليلة تلاشت مخاوفها وتبددت أحزانها، وباتت تنتظر بشغفٍ تذوق رحيق الحب مع معشوق قلبها وفارس أحلامها الوحيد.
أخرجها "تميم" من سرحانها المُشوق بأن يجمعهما سقف واحد حينما استوقفها عند بداية الدرج ليحملها بغتةً بين ذراعيه، خفق قلبها بقوةٍ، وتلبكت من حركته التي هزت كيانها وحفزت مشاعر الحب بداخلها، أخفضت عينيها في استحياءٍ، لكن تأثير أحاسيس الحب عليها بدا ملموسًا، واضحًا، ولا حاجة به إلى برهان، واصل تسلق الدرجات بها في خفةٍ وكأنها لا تزن شيئًا حتى وصل إلى الطابق الثاني حيث تتواجد شقتهما، أنزلها لتقف على قدميها، ثم دس يده في جيب سترته ليخرج المفتاح منه، دسه في مكان القفل وفتح الباب بدفعة خفيفة لينفتح على مصراعيه، عــاد ليحملها من جديد ليزيد من مشاعر الشوق والرغبة بداخلها، وتلك المرة تجرأت على تطويق عنقه بذراعيها، واختلست النظرات نحو وجهه الذي كان قريبًا منها للغاية، كانت تشعر بحرارة أنفاسه اللاهثة، بالإيماءات الحذرة المتشكلة على جانبي شفتيه، انفصلت عن محيطها الواقعي لتبقى أسيرة تلك الهالة الساحرة التي تحاوطه.
وعلى عكسها كان "تميم" مشغولاً بالانتباه إلى خطواته بداخل الشقة التي كانت كبيرة في مساحتها، وبالتالي لم تكن هناك أي صعوبة في شراء الأثاث كبير الحجم أو حتى رصه، بل تبقت زوايا خالية تحتاج للمزيد من اللمسات الأنثوية لملئها، نظرة سريعة في البهو تبعتها أخرى نحو الردهة، ثم تقدم بها في اتجاه غرفة النوم، هناك أنزلها على قدميها بكل رقة ورمقها بابتسامة دافئة قبل أن يستهل حديثه مُبارِكًا:
-نورتي بيتك يا عروسة.
أسبلت عينيها في خجل رقيق، وعضت على شفتها السفلى وهي ترى نظراته المتأملة له، أولته ظهرها لتنظر إلى الفراش الذي تم ترتيبه بشكل منمق ليليق بليلة كتلك، جابت عيناها ثياب كليهما الموضوعة بانتظام على طرفي الفراش، استدارت لتتطلع إلى زوجها وهي تقول بأنفاسٍ شبه متهدجة من فرط فرحتها:
-أنا مش مصدقة نفسي لحد دلوقتي! أنا وإنت في بيت واحد..
رد مبتسمًا وقد دس يديه في جيبي بنطاله:
-لأ صدقي.
اقتربت بغنجٍ متدلل خطوة منه حتى أصبحت المسافة بينهما ضئيلة للغاية، حركت كتفها بإغراء وعذوبة، ثم رفرفت بعينيها وهي تتمعن النظر فيه عن قرب، لاحت ابتسامة رقيقة مغرية على شفتيها الممتلئتين حينما همست بنعومة:
-أنا بأحبك أوي.
وكأي شخص طبيعي تتأثر مشاعره الأكثر صلابة بفعل المغريات اللذيذة المؤججة للمشاعر الذكورية الحميمة أحنى "تميم" رأسه على زوجته بعد أن احتضن وجهها براحتيه ليختطف منها أول قبلة مطولة انحبست فيها الأنفاس واهتز معها الوجدان.
..................................................................
استضافته بترحابٍ فرح للغاية بعد أن جاء إلى زيارتها تنفيذًا للوعد الذي قطعه علنًا أمام الحاج "بدير" قبيل انتهاء العرس، لم تبخل على شقيقها بشيء، تناست خصومتها معه فور أن وطأ أعتاب منزلها، وكأن شيئًا لم يكن، في قرارة نفسها كانت تتلهف لإعادة روابط الود بينهما، أعدت له الأصناف الشهية من الحلويات وملأت الكؤوس والفناجين بالمشروبات الباردة والدافئة، حتى أنها ضيفت زوجته بلطفٍ زائد لتنسيها أي خلاف مما استفز ابنتها الجالستين بالداخل، وخاصة "فيروزة" التي كانت ناقمة على الاثنين لكونهما مخادعين، تلصصت كلتاهما على الحوار الدائر في الصالة معلقتين بهمسات مزعوجة وساخطة، تردد أصداء صوت "خليل" الذي كان عاليًا عاليًا وهو يستطرد مبررًا:
-بردك ياختي أنا خايف عليكي، واللي عملته ده كان عشان مصلحة البنات، ما أنا زي أبوهم.
ردت عليه "آمنة" بإيماءة موافقة من رأسها:
-طبعًا يا "خليل".
في حين علقت "حمدية" بحماسٍ مريب مستخدمة يدها في الإشارة:
-ومهما كان اللي حصل الدم عمره ما يبقى مياه، ولا إيه يا "أبو العيال"؟
أيدها الرأي قائلاً:
-مظبوط .. ومسيرنا كنا هنتصالح.
تحفزت "حمدية" في جلستها، ومالت نحو أخت زوجها تؤكد بقوةٍ وكأنها صاحبة الفضل في فض الخصام بينهما:
-أيوه، هو إنتو ليكو إلا بعض ياختي؟ ربنا يبعد عنكم الشيطان.
ابتسمت لها في امتنانٍ، ثم أدارت رأسها في اتجاه شقيقها تشكره:
-ربنا يخليك ليا ياخويا، ومايحرمنيش منك أبدًا.
أضافت "حمدية" في خبثٍ وابتسامة سخيفة باردة متشكلة على شفتيها:
-وإن كانوا البنات غلطوا فيا، فأنا مسامحة في حقي، دول زي إخواتي الصغيرين، مش هاقول عيالي عشان أنا لسه صغيرة ..
ثم أطلقت ضحكة لزجة وكأنها قالت دعابة من المفترض أن يكركر عليها الجميع بهيسترية، لكن لم يضحك أحدهما، فأطبقت على شفتيها لاوية ثغرها قليلاً. تنهد "خليل" معلقًا بعد أن تنحنح:
-طول عمر قلبك طيب يا "آمنة"، زي أمنا الله يرحمها، كانت بتحب الناس كلها وعمرها ما شالت من حد.
لمعت عيناها نوعًا ما تأثرًا بذكراها العطرة، ورددت بخفوتٍ في تضرعٍ راجٍ:
-الله يرحمها ويجعلها في الفردوس الأعلى.
تناول "خليل" رشفة أخرى من فنجان قهوته، ثم تركه على الطاولة البيضاوية التي تنتصف الغرفة ليهب واقفًا وهو يختم تلك الزيارة اللطيفة الودية:
-لو عوزتي حاجة ياختي تعاليلي في أي وقت، بابي مفتوحلك
نهضت واقفة تحملق فيه بعينين مليئتين بالحنو والمحبة، وردت عليه قائلة:
-تعيشلي يا رب، ده إنت اللي باقي لي من الحبايب.
ربت على كتفها برفقٍ وهو يودعها بالمزيد من العبارات المستهلكة على الأذن، لكن لها مفعولها العجيب على النفس، شعر "خليل" بالانتشاء يغمره، وارتسمت ابتسامة انتصارٍ على محياه اللثيم، حيث أدت طريقته الجديدة لنتائج باهرة ونجح في استقطابها إلى جبهته لتغدو مرة أخرى طوع بنانه وتحت إمرته، حتى إن أمعن لاحقًا في الضغط عليها للموافقة على أحد الأمور لأظهرت استجابتها الفورية له ولم تقاوم رغباته الطامعة.
..........................................................................
نوبة حب رائعة عاشتها خلال تلك اللحظات المحدودة انتقلت فيها لعالم مشبع بالمشاعر الدفينة التي تحتاج ليد الخبير لإظهارها على السطح، أرخى قبضتيه عن وجهها فتحررت من حصاره الحابس للأنفاس، لكن بقيت آثار أصابعه على وجنتيها اللاتين تضرجتا بحمرة ساخنة، أخفض "تميم" ذراعه ليمسك بـ "خلود" من كفها، جذبها برفق نحو الفراش وأجلسها على طرفه، ثم جلس إلى جوارها، شهيق طويل سحبه إلى صدره ثم لفظه بتمهلٍ، وكأنه بذلك يستحضر ما سيقوله بعد ذلك. اكتسبت نبرته عمقًا عكس جدية ما قاله حينما استطرد:
-شوفي يا بنت خالتي، قبل ما نبدأ حياتنا سوا، عاوزين نتفق على كام حاجة عشان حياتنا تمشي من غير مشاكل
هزت رأسها بالإيجاب وهي تنصت له باهتمامٍ، فتابع:
-أنا طول عمري دوغري في كل حاجة، لا بأحب اللف ولا الدوران، ولا كلام الضحك على الدقون، كلمتي زي السيف مع أي حد، وحتى مع أهل بيتي، اللي إنتي بقيتي دلوقتي منهم
-تمام.
شدد عليه بلهجته الجادة ودون أن يرف له جفن ليبدو صارمًا نوعًا ما فيما يقوله:
-أي حاجة تحصل بينا هنا، حلوة أو وحشة، مشاكل أو اتفاقات، يا ريت تفضل بينا ما تطلعش برا!
أجابت دون تفكير:
-حاضر يا حبيبي.
تابع في لهجة جمعت بين الصرامة والنصح:
-أنا عاوزك تكوني الأمان بالنسبالي، وزي ما أنا مش هاسمح لحاجة تضايقك، إنتي كمان بلاش تخلي حاجة تزعلني منك.
هتفت تعقب عليه دون ترددٍ:
-أنا مش هاعمل غير اللي يسعدك وبس.
ابتسم لها بعذوبة، ثم أكمل بنبرة عقلانية حتى تتضح الصورة كاملة:
-وارد يحصل بينا مشاكل، أتمنى ساعتها محدش يعرف بيها، وخصوصًا أمي وأمك.
كان شاغله الأكبر خالته الثرثارة، التي لا تتوانى أبدًا عن خلق المشكلات من توافه الأمور وتعظيمها، وخاصة أنها تقف الند بالند له ولعائلته بسبب هاجسها الخاطئ، خشي أن تنزعج "خلود" من طلبه، أو حتى تعارضه، لكنها خالفت توقعاته حينما أكدت عليه بصدرٍ رحب:
-حاضر، وعشان تبقى عارف أنا مش نقالة للكلام!
صحح لها جملته حتى لا تسيء فهمه:
-وأنا مقولتش كده، أنا بس مابحبش حد يتدخل في حياتي أو يفرض عليا رأيه، أو حتى أبرر تصرفاتي ليه.
هزت رأسها ترد:
-معاك حق، محدش كمان بيسيب حد في حاله يا حبيبي.
أوضح "تميم" أكثر وهو يومئ برأسه:
-بالظبط، والموضوع الصغير هايكبر ويبقى حكاية، واحنا في غنى عن ده كله
ابتسامة رقيقة احتلت صفحة وجهها الناعم وهي تقول له عن طيب خاطر وبمحبة لا حدود لها:
-خلاص يا حبيبي، كل اللي إنت عاوزه أنا هاعمله وأنا مغمضة عينيا.
وضع "تميم" إصبعيه على طرف ذقنها يداعبه في رقة قائلاً لها بنبرة عميقة عبرت عن شخصيته الرجولية وشهامته الكبيرة:
-ربنا يخليكي يا حبيبتي، وليكي عليا أعاملك بما يرضي الله، لا هاقل أدبي، ولا هامد إيدي عليكي، بس إنتي راعي ربنا فيا.
مالت برأسها للجانب لتستند بوجنتها على راحة يده، ثم همست له بدلالٍ:
-ده إنت أغلى ما في حياتي.
ابتسم لها ممازحًا:
-أنا عاوزك كده على طول، رقيقة وهادية، بلاش تقفشي ولا أشوف جنان البنات
ردت بوجه مدعي العبوس:
-أنا مش مجنونة، أنا بأغير بس عليك
-ماشي يا ستي، وبالله عليكي ماتحاوليش تضايقني وأنا متعصب، سبيني أهدى وبعدين نتكلم
ردت وضحكة عابثة تتلاعب على شفتيها
-عندك حق في دي، لأحسن زعلك وحش أوي، وأنا مش أده.
قال مؤكدًا:
-أيوه، ببقى غبي بجد!
انتهى "تميم" من فرض ما بدا أشبه بالتعليمات عليها قبل أن يهب واقفًا، تطلع إليها بنظرة مطولة تجوب على زينتها الرقيقة وجمال جسدها الممشوق في ثوب الزفاف، أشاح بوجهه قائلاً بنحنحة خفيفة:
-أنا هاغير هدومي برا وأسيبك هنا تلبسي براحتك.
شعرت "خلود" بتقلصات خفيفة تضرب معدتها بعد جملته تلك، لوهلةٍ أصابها الوجوم كما لو كانت قد تلقت صدمتها الأولى، لم يكن ذلك مثل ما خططت له في مخيلتها، أليس من المفترض أن يتلهف عليها ويحترق شوقًا لضمها إلى أحضانه وتأملها بما خف وقل من الثياب؟ أفاقت من دهشتها المؤقتة والمستنكرة حينما بادر مبررًا بابتسامة صغيرة قاصدًا أن يخفف من توترها الطبيعي في هذا الموقف الحرج وغير الاعتيادي:
-أنا عارف إن البنات بتتكسف في اليوم ده .. فعشان ماتتحرجيش مني وآ....
قاطعته بنبرة مختنقة نسبيًا وقد امتدت يدها لتقبض على معصمه حتى يظل واقفًا في مكانه:
-أنا عاوزاك معايا.. ماتسبنيش!
بدا صوتها أقرب للرجاء عن أي شيء آخر، تطلع إليها في اندهاش بعد أن تركزت أنظاره في البداية على كفها الممسك به، ثم تنهد قائلاً لها بهدوءٍ:
-لو ده اللي إنتي عاوزاه، فأنا معنديش مانع
عللت رغبتها في وجوده بعفويةٍ، وكأنها بذلك تزيح ثقلاً كئيبًا كان جاثمًا على صدرها:
-إنت مش متخيل أنا استنيت اليوم ده أد إيه، أكتر من 7 سنين يا "تميم" بأحلم إني أكون جمبك ومعاك، عيشت تفاصيل كل لحظة فيها بخيالي، وبقيت بأصبر نفسي إنك في النهاية هاتكون ليا.
مَسَّت كلماتها المفعمة بمشاعرها الصادقة قلبه، فرفع راحته ووضعها على وجنتها ليشعر بنعومتها المغرية على جلده، داعبها بإبهامه، وطالعها بنظرة ممتنة مليئة بالود والألفة، ثم دنا منها بشفتيه ليطبق على خاصتها وقبلها من جديد بقبلة أشد عمقًا ضاعفت من لهيب الشوق والرغبة، استسلمت لما يبثه فيها من مشاعر محفزة لتعيش معه أحد أهم أحلام يقظتها، ولكن على أرض الواقع
أمسكت بفرشاة تنظيف الثياب الخشبية، ونفضت العالق من الأتربة والشوائب الصغيرة عن جلباب زوجها الذي ارتداه في تلك الليلة قبل أن تعلقه على الشماعة ليحصل على التهوية الجيدة ومن ثم تغسله حينما يتسنى لها الوقت لفعل ذلك لتعيده بعدها في مكانه بالدولاب. انحنت "ونيسة" بتمهلٍ لتمسك بالحذاء وتضعه في مكانه قائلة بفرحة صادقة وابتسامة عريضة تغزو صفحة وجهها الضاحك:
-أما كانت ليلة يا حاج، مافيش بعد كده! حاجة تِشرح القلب بصحيح!
هز "بدير" رأسه في استحسانٍ وهو يتمدد على الفراش ليريح جسده المنهك من عناء مجهود اليوم، ثنى ركبته اليمنى إلى صدره، وأراح ظهره للخلف، ثم قال لها:
-الحمدلله، المهم يكون الكل اتبسط ..
ردت بعبوسٍ زائف وقد وضعت يدها أعلى منتصف خاصرتها:
-هو حد يقدر يتكلم بعد اللي عملته يا حاج؟!
ثم ما لبث أن ارتخت ملامحها حينما أضافت بتفاخرٍ:
-ده ليلة "تميم" هيتحكى عنها لشهور قدام
رد باقتضابٍ:
-ربنا كريم
لانت نبرتها أكثر وهي تضيف ونظراتها مرتفعة للسماء:
-الحمدلله إنك مديت في عمري يا رب عشان أشوف ابني وهو بيتزف لعروسته.
استطرد مضيفًا بابتسامةٍ صغيرة:
-ده أبويا كان فرحان بيه أوي، تحسي إن الدموية ردت في وشه لما شافه
قالت بنبرة مزهوة:
-لازمًا يفرح بيه، مش حفيده البكري، ربنا يديه الصحة
-يا رب
التفتت "ونيسة" نحو الشفونيرة لترص ما طوته من ثياب نظيفة عليها، استرعى انتباهها الدرج العلوي المفتوح قليلاً، ضاقت نظراتها نحوه متفحصة إياه دون أن تلمسه، ورددت متسائلة في اندهاشٍ كبير، وكأنها تفكر بصوتٍ مسموع:
-هو إنت يا حاج نسيت الدرج ده مفتوح؟
استدار برأسه نحوها يسألها:
-أنهو درج؟
امتدت يدها لتشير إليه قائلة بتلقائية مما شد انتباهه بالكامل:
-الدرج ده يا حاج.
اعتدل "بدير" في جلسته المسترخية وأخفض ساقه ليقول نافيًا:
-محصلش.. وريني كده.
ثم هب واقفًا على قدميه واقترب من الشوفنيرة ليدقق النظر في الدرج بعد أن تنحت زوجته للجانب، اكتشف كسر القفل الخاص به، وهرع يفتحه ليجد مفاجأة صادمة في انتظاره، حيث كان خاليًا من الأموال التي احتفظ بها بداخله، حلت أمارات الحنق على تعابيره المجهدة، وغطى الغضب الجم نظراته كليًا، التفت كالمسلوع نحوها يسألها بحدةٍ:
-الفلوس اللي هنا راحت فين؟
على الفور هتفت "ونيسة" ترد لتدافع عن نفسها وتنفي تلك التهمة عنها:
-والله ما أعرف يا "بدير"! أنا مشوفتش حاجة، وإنت بنفسك اللي بترص فلوسك في الدرج.
صاح في عصبيةٍ شديدة وهو يعتصر ذهنه محاولاً التفكير فيما حدث لتلك النقود أو حتى أين أنفقها:
-أومال راحوا فين؟
هزت كتفيها تجيبه:
-معرفش
حك "بدير" رأسه في ضيق متعاظم، ولكن ما لبث أن تذكر شيئًا، الأموال الأخرى الموضوعة في الدرج السفلي، ذاك المبلغ الضخم الذي ما زال محتفظًا به ريثما يرسله للبنك، امتدت يده عفويًا لتسحب الدرج، لكنه وجده موصدًا فأشعره ذلك بالارتياح، زفر قائلاً بصوتٍ خفيض خفف بنسبة قليلة من حنقه:
-الحمدلله
التفت عائدًا للخلف ليمسك بمفاتيحه المسنودة على الكومود، وأسرع نحو الدرج وقام بفتحه، قليل من الارتياح تسرب إليه، ومع هذا هتف بصوته الأجش الحانق:
-الحرامي ابن الـ ..... مخدش باله من الدرج ده، كان فيه يجي فوق الـ 100 ألف جنية وأكتر محطوطين هنا.
شاركته التعليق:
-ألف حمد وشكر ليك يا رب
ثم غلف الخوف نبرتها وهي تُعاود سؤاله:
-بس مين هيتجرأ ويسرقنا يا حاج؟
تطلع إليها في حيرة قبل أن يجيبها:
-مش عارف!
رددتت "ونيسة" في ذعرٍ وهي تتلفت حولها بنظرات مرتعدة:
-لأحسن يكون الحرامي لسه مستخبي هنا ولا هنا.
وكأنها بعفويتها قد نبهت زوجها إلى خطورة ذلك، تحرك على الفور إلى خارج الغرفة بعد أن جذب عكازه ليستخدمه في الدفاع عن نفسه وضرب السارق إن وجده، جاب "بدير" غرف المنزل يفتش في كل زاوية وركن وأي مكان يحتمل أن يختبئ به، لكن لا أثر له، العجيب في الأمر أنه لم يعرف بعد كيف اقتحم المنزل، وكيف قام بالسرقة مما ضاعف من فضوله وتساؤلاته، حاول كذلك خلال بحثه عنه ألا يزعج والده الكهل الذي استغرق في نومه بعد مشقة اليوم إلى أن يحل الصباح فيطلعه على الأمر، ومع هذا تأكد من خلو غرفته منه.
ظلت أطراف "ونيسة" ترتجف بالرغم من بحث زوجها المتأني عن اللص، وبقي إحساس الخوف متغلغلاً في أعماقها، لحقت بـ "بدير" كظله ولازمته حتى توقف عن التفتيش، ابتلعت ريقها وقالت بصوت مهتز ينطق عن هلعها:
-أنا خايفة أوي يا حاج.. تفتكر الـ .. الحرامي ممكن يرجع تاني؟
علق في استهجانٍ شديد، ونظراته امتلأت بالغيظ:
-ده يبقى غبي أوي، هو خلاص خد النهيبة وخلع!
سألته مستفهمة:
-طب هتبلغ البوليس ولا هنتصل بـ "تميم" نعرفه؟
أجابها مستنكرًا آخر جملتها:
-وده كلام يا "ونيسة"؟ نتصل بابنك ليلة فرحه نقوله إلحق اتسرقنا؟ انسي الكلام ده خالص، "تميم" مش هايعرف دلوقتي، مفهوم
-طيب..
-خليني أفكر هاعمل إيه.
عادت لتسأله في إلحاحٍ:
-يعني هتكلم البوليس؟
رد نافيًا:
-لأ مش هاطلب أي حد!
اقترحت عليه بعفوية:
-طب وجوز بنتك؟
ردد بوجهٍ ممتعض:
-"محرز" ده لا بيحل ولا بيربط، هيعملي زيطة على الفاضي.
-أومال هتعمل إيه يا حاج؟
-لسه مش عارف.
قالت "ونيسة" بصوتها المرتجف:
-أديلنا زمن من يوم ما سكنا في الحتة ماحد عمره هوب ناحيتنا ولا فكر يسرقنا
أيدها الرأي قائلاً:
-معاكي حق.
-أول مرة تحصل الحكاية دي، الظاهر ولاد الحرام كانوا مراقبينا.
-الله أعلم.
انكمشت "ونيسة" على نفسها تقول له:
-بس أنا خايفة أوي يا حاج.
حاول طمأنتها فقال لها بهدوءٍ بالرغم من الثورة المستعرة بداخله جراء ما حدث:
-ماتخافيش يا "ونيسة"، أنا هتصرف..
أومأت برأسها عدة مراتٍ وتبعته أينما ذهب، ولم يعلق هو عليها، كان متفهمًا لخوفها الغريزي، إلا أنه كان عكسها يغلي من داخله، عاد ليفحص باب المنزل في دقةٍ عله يجد آثار الاقتحام، لكن لا شيء، انشغل تفكيره في اكتشاف طريقة دخول اللص للمنزل، امتلك "بدير" من الفراسة والخبرة الحياتية العريضة ما يجعله مؤهلاً لتحليل الأمور بشكلٍ منطقي، والوصول لنتائج واستنتاجات هامة. فرك طرف ذقنه في حركة ثابتة، وقال بصوتٍ خفيض:
-القفل مش مكسور، والباب زي ما هو.
علقت في سذاجة:
-يكونش الحرامي معاه مفتاح البيت؟
قال مستنكرًا محدودية تفكيرها:
-ليه كنت مديله نسخة وأنا مش دريان؟
زمت شفتيها معقبة عليه:
-أهوو اللي جه في بالي!
فكر "بدير" بعمقٍ مشاركًا زوجته ما يدور في رأسه:
-الحرامي ده عارف هيسرق إيه بالظبط، ولو كان دور كويس، كان شاف الفلوس التانية
-مظبوط
-أنا حاسس كده إن الموضوع ده مخرجش برا حد نعرفه.
سألته مستوضحة:
-قصدك مين؟
نظر لها بغموضٍ وقد بدا وجهه صارم التعبيرات، التزم الصمت رافضًا البوح بما يراود عقله من هواجس وشكوك تدفعه للتفكير في شخصٍ بعينه.
...................................................................
أخرجت تأويهة متألمة بعد أن نزعت حذائها الجديد عن قدميها بمجرد جلوسها على الأريكة، شعرت بوخزات حادة في أصابع قدميها التي بدت متورمة قليلاً جراء ارتدائها له لفترة طويلة، انحنت للأمام لتفركها في رفقٍ، ثم عادت بظهرها للخلف لتسترخي في جلستها. سمعت "بثينة" جلبةً تأتي من داخل غرفة ابنها فانتصب جسدها، أجبرت نفسها على النهوض واتجهت إليه بخطواتٍ متأنية .. وقفت عند أعتاب الغرفة تتأمل ما يفعله على عجالة، انخفضت نظراتها نحو الفراش لتجده واضعًا لحقيبة سفره عليه، حملقت فيه مجددًا فرأته يحشر ثيابه دون ترتيب فيها، ولجت للداخل وهي تعرج قليلاً، ثم سألته مباشرة ونظراتها موزعة بينه وبين حقيبة السفر الصغيرة:
-إنت بتعمل إيه؟
نظر لها في فتورٍ وكأن سؤالها لا يعنيه، ألحت عليه مكررة تساؤلها المستفهم:
-يا واد قولي بتعمل إيه؟ ولا رايح فين السعادي؟
رد بنبرة ساخطة تنم عن عزمه للأمر:
-بأوضب هدومي للسفر زي ما إنتي شايفة.
-يعني إنت مسافر؟
-أيوه، طالع أغير جو يومين كده مع أصحابي
هتفت مرددة في استغرابٍ مُبرر:
-في الجو ده يا "هيثم"؟ طب ليه؟
أجابها بزفيرٍ منزعج ووجهه مغطى بتعابير جامدة:
-مخنوق.
رفعت حاجبها للأعلى متسائلة:
-في حد ضايقك؟
أجابها بنظراته المتنمرة وتعابير أقرب للتزمت:
-هو في غيره
لم تكن بحاجة لامتلاك ذكاء خارق لتفطن إلى الإجابة الصحيحة لسؤاله، حيث علقت عليه بنظراتها الحادة:
-جوز خالتك "بدير"، صح؟
تابع معللاً سفره المفاجئ مستغلاً تلك الحجة الزائفة ليبدو جيدًا في إقناعه لها:
-ما هو لازم يسمم بدني بكلمتين بايخين من بتوعه، حتى لو كان ده فرح أختي
وقفت "بثينة" قبالته تقول له بتجهمٍ:
-معلش يا حبيبي، ولا تحرق دمك، هو كده غاوي ينكد على الناس، اطلع سافر وغير جو، وروق مزاجك، وأنا ليا لي كلام معاه و...
قاطعها في عصبيةٍ:
-يامه أنا مش عاوزك تتحشري في مشاكلي معاه كل مرة، بيمسكهالي ذلة ويعايرني بيكي
ردت بنبرة منفعلة:
-فشرت عينه، ده إنت راجل ابن راجل، هو نسى نفسه ولا إيه بتاع الجرجير ده؟!!
قال "هيثم" في عدم اكتراث وهو يجرجر حقيبة سفره خلفه بعد أن أنزلها من على الفراش:
-أديني هسيبهاله وهاغور من وشه، إياكش يرتاح
سارت خلفه محاولة تهدئته، فقالت:
-ولا تضايق نفسك، أنا هاعرف أجيبلك حقك منه
لم يكلف نفسه عناء الرد عليها، تابع سيره المتعجل متجهًا نحو الصالة، سألته باهتمامٍ مدللة إياه:
-ناقصك فلوس يا نور عيني؟
للحظة تجمد في مكانه وكأن صاعقة أصابت جسده، التفت نحوها ينظر لها بعينين غائمتين متذكرًا سطوه على منزل خالته في ظلام الليل وحصوله على مبلغ لا بأس به، بدت تعابيره غريبة نسبيًا ووالدته تتأمله، تدارك شروده السريع ليقول بتلعثم وهو يهرب من نظرات والدته:
-مـ.. مستورة
أصرت عليه قائلة:
-يا حبيبي ماتكسفش، هو إنت بتطلب من حد غريب، ده أنا أمك، وكل ما أملك ليك يا "هيثم"
استدار ناحيتها متصنعًا الابتسام، ثم شكرها وهو يحني رأسه نحو جبينها ليقبله:
-تعيشيلي يامه.
أوصته "بثينة" بنظراتها التي تبدلت للجدية:
-خد بالك من نفسك وكلمني كل شوية عشان أطمن، ماتسبنيش قلقانة
-طيب.
قالها وهو يدير مقبض الباب ليفتحه، اتجه للخارج في سرعة وهو يعد نفسه بسَفرةٍ ممتعة مع رفقاء السوء ينفق فيها ما حصل عليه من غنيمته الثمينة على شهواته دفعة واحدة، وكأنه بذلك يفرغ غضبه المكبوت في إضاعتها سدى مقنعًا نفسه بأن ما سرقه ليس إلا جزءًا ضئيلاً من حقه المسلوب.
.......................................................................
رفعت رأسها لتستند على كتفه بعد أن ذاب الجليد بينهما وغابا في لحظات حميمية مميزة تأكد فيها من عفتها، وشعرت فيها بتأثير أنوثتها عليه، استلقى "تميم" على الفراش وشبك ذراعيه خلف رأسه تاركًا إياه تداعب صدره بأناملها الرقيقة، أغمض عينيه ليغفو مما حمسها لتأمله عن كثب بعينين تشعان بهجة، بدت أنفاسها دافئة وهي تلطم صدغه حينما همست له بنعومةٍ:
-مش عاوزة أفوق من الحلم الجميل اللي أنا عايشة فيه معاك، نفسي نفضل كده على طول، أنا في حضنك، وإنت معايا مابتفارقنيش.
رد عليها بصوت يميل للنعاس، ودون أن يفتح جفنيه:
-بكرة تزهقي مني.
اكتسى وجهها بتعبير مزعوج، وقالت محتجة:
-استحالة يحصل ده، أنا ماليش إلا إنت وبس!
شعر بتلك القبلة الناعمة التي انطبعت على جانب وجهه ففتح عينيه ليجد "خلود" تكاد تلتصق به، وتتطلع إليه بنظرات هائمة مليئة بالعشق، بسمة عذبة ظهرت على شفتيه قبل أن يرفع رأسه نحوها ليطبق على خاصتها مبادلاً إياها قبلة ناعمة جعلت بشرتها تتضرج بحمرتها النضرة، تثاءب في تعبٍ وربت على كتفها، ثم أزاحها ليتقلب على جانبه وهو يقول لها بإرهاقٍ:
-تصبحي على خير يا "خلود"
اكفهرت قسماتها وردت متسائلة بتذمرٍ:
-إنت هتنام دلوقت؟ مش هانقعد مع بعض شوية؟
أجابها في ثقلٍ وقد انطبق جفناه على بعضهما البعض:
-معلش يا حبيبتي، أنا مش قادر خالص، جسمي كله مكسر، ومش شايف قدامي!
أحست "خلود" بقليل من الإهانة والتجاهل من خلال جملته تلك، فمن المفترض أن يقضي ليلته الأولى معها حتى الصباح، انزعجت من عدم اكتراثه بما يجيش في صدرها من ضيقٍ، واعتدلت في رقدتها لتكتف ساعديها أمام صدرها، تعمدت أن تنفخ بصوتٍ مسموع ليعبر عن استيائها، ثم رددت عاليًا:
-يعني هاسهر لوحدي؟ بقى ده ينفع؟ ده أنا نفسي أحكي معاك ومانمش خالص.
أدرك "تميم" أنها لن تتوقف عن التذمر والشكوى حتى ينهض، نفض النعاس عن جفنيه متخليًا عن رغبته الشديدة في الحصول على قسطٍ وافر من النوم، والتفت نحوها متسائلاً بخلجاتٍ عابسة:
-عاوزة تحكي في إيه يا "خلود"؟
شعرت بالزهو لنجاحها في اجتذابه إليها، تطلعت إليه بنظراتها الوالهة، ثم صمتت لتفكر فيما تريد الحديث عنه، طرأ ببالها سؤاله عن الندوب التي تحتل الجانب الأيمن من كتفه، بدت لها كآثار حروق قديمة، لكنها لا تعرف سببها مما استرعى فضولها، استندت بطرف ذقنها على مرفقها المسنود على الوسادة متسائلة في نشوةٍ وبابتسامتها الفاتنة:
-هو اللي في ضهرك ده جالك من إيه؟
وأشـارت بعينيها نحو جانب كتفه لتتحرك أنظاره عفويًا مع إيماءتها، ويا ليتها لم تتطرق إلى تلك الذكرى المؤلمة! فقد اشتدت تعابيره المسترخية قساوة واحتقنت نظراته، رمقها "تميم" بنظرة غريبة قاتمة هادرًا بها:
-ملكيش فيه!
انتفضت من صوته الأجش الذي جعلها تتخشب في مكانها وتحملق فيه في ذهول، تدلى فكها للأسفل وهو يتابع تحذيره القاسي:
-في حاجات مابحبش أحكي عنها ولا حتى أفتكرها، منها حروق ضهري! يا ريت تفهمي ده!
ارتجفت شفتاها، وشعرت بالاختناق يضرب صدرها من حدته معها، حاولت أن تتماسك حتى لا تبكي أمامه، ثم هتفت مبررة سؤالها البريء:
-أنا.. مقصدش يا "تميم"، إنت عارف إن أي حاجة تخصك تهمني، و.. معرفش إن سؤالي ده بالذات.. هـ.. هيضايقك
رد بشراسةٍ وقد غامت عيناه:
-وأديكي عرفتي، يا ريت ماتكرريهاش
-بس .. كده آ....
قاطعها بحسم وبلهجة ذات طابع رسمي جليدي وهو يوليها ظهره:
-تصبحي على خير.
تطلعت له في قهرٍ وحسرة، دمعة حزينة فرت من طرف عينها تأثرًا بموقفه الصارم معها، مسحتها بيدٍ مرتعشة، واستدارت للجهة المعاكسة ملقية برأسها على الوسادة، ضغطت على شفتيها لتمنع شهقة باكية من الخروج من جوفها لتفضحها بعد أن أشعرها بالخذلان، لم تستطع السيطرة على الرجفة الخفيفة التي سيطرت على جسدها، نهنهة تكاد تكون مسموعة انفلتت منها حينما أحست بذراعه تحاوطها من الأعلى، حاولت الابتعاد عنه لكنه رفض إفلاتها، أطبقت على جفنيها في قوة مقاومة تيار المشاعر الحزينة الذي غزاها، تردد صوته الهامس في أذنها معتذرًا:
-حقك عليا يا "خلود".
عاتبته بنحيبٍ:
-ليه دايمًا بتكسر بخاطري يا "تميم"؟ وأنا اللي بأحبك!
ندم الأخير لسوء تصرفه وقساوته غير المفهومة معها، فقال لها موضحًا أسبابه:
-والله ماقصدش، متزعليش مني، وبعدين ده أنا لسه مفهمك إن في حاجات بتضايقني، وإني عاوزك تصبري عليا لما أتعصب.
ردت في غير اقتناعٍ:
-وسؤالي عمل كل العصبية دي؟
تنفس بعمقٍ ليثبط انفعالاته كليًا، ثم لفظ الهواء في زفير بطيء قبل أن يجيبها بهدوءٍ يناقض عصبيته قبل لحظات:
-أكيد لأ.
تابعت متصنعة اللا مبالاة:
-عمومًا حصل خير
مرر "تميم" ذراعه الآخر أسفل جسدها لتصبح أسيرة ذراعيه، ثم سألها بصوتٍ رخيم:
-لسه زعلانة مني؟
هزت كتفيها تُجاوبه:
-عادي .. مش هاتفرق، ما أنا لسه غريبة عنك!
زادت كلماتها الأخيرة من إحساسه بالذنب، أراد "تميم" أن يعوضها عن ذلك، فشدد من ضمه لها لتشعر بحرارة جسده عليها، ارتجفت من لمساته التي تُجيد اللعب على أحاسيسها المرهفة، وتشعرها باحتلاله لوجدانها، لهيب أنفاسه الساخنة وترها أكثر، خاصة حينما لامست جانب عنقها وهو يستأنف همسه المعتذر:
-حقك عليا.
ردت بصوتٍ لان بدرجة كبيرة وقد استجمعت نفسها:
-خلاص يا حبيبي.
وبكل ودٍ ولطف أدارها إليه ليجثم فوقها وتصبح أسيرة نظراته التي تفتنها، ابتسم لها بطريقة ساحرة أشعلت جذوة الحب في كيانها، مال عليها يقول بنبرة ذات مغزى، وتلك العبثية المغرية تتراقص في حدقتيه:
-سبيني أصالحك على طريقتي!
تورد وجهها بالكامل وقد فطنت إلى تلميحه المتواري بمنحها المزيد من اللحظات الشغوفة التي حتمًا ستمحو تعاستها.
..................................................................
ليلة طويلة باردة انقضت عليه حتى سطع النهار وهو جالس في الصالة بمفرده رابط الجأش يفكر مليًا وبعمقٍ فيما حدث، كان المكان غارقًا في الهدوء مما ساعده كثيرًا ليصفو ذهنه وينشط ذاكرته، فقد تركته زوجته لتستسلم لسلطان النوم حينما تمكن منها التعب وغفت في غرفة ابنها بعد أن رفضت النوم في غرفة نومها كردة فعل طبيعية لتأثير الصدمة المرتعدة عليها. أطفأ "بدير" سيجارته العاشرة في منفضته التي امتلأت بأعقاب السجائر مُنشطًا ذاكرته بالأحداث التي يمكن أن تحفز ذلك اللص وتدفعه للتجرأ واقتحام منزله في غفلة منه، وكأنه يعرف جيدًا متى سيخلو البيت من ساكنيه لينفذ جريمته. كل الشواهد حامت حول شخص بعينه، ولا ينكر "بدير" أنه استعان هاتفيًا بأحد أصدقائه القدامى ممن يعملون بالسلك الشرطي ويحتلون منصبًا متقدمًا فيه، أفادته تلميحاته الدقيقة، ونصائحه الخبيرة مع محترفي الإجرام في إرشاده لضالته وتأكيد شكوكه التي اتجهت نحو "هيثم" تحديدًا .. نعم إنه أول من فكر فيه ليقوم بتلك الفعلة النكراء، خاصة وأنه الوحيد الذي تواجد مؤخرًا في غرفة نومه، وربما لمح الأموال مصادفة في الدرج العلوي، تبقى له فقط أن يتأكد من معلومة واحدة إجابتها لدى زوجته، فإن أعطته المال حقًا دون علمه وعرف أين يتواجد، فستكتمل الصورة في ذهنه. ضغط "بدير" على أصابعه في غيظٍ حتى ابيضت مفاصله، ثم ردد مع نفسه يتوعده بوجه لا يبشر بالخير:
-أه لو طلعت إنت! هاعلقك وأعرفك مين أنا يا ابن "بثينة"!
..........................................................................
ازدهرت الأعمال خلال الأيام التالية بعد أن تذوق معظم رواد منطقة الكورنيش السندوتشات الشهية، أصبح لديهما زبونهما الخاص ممن يفضلون الأطعمة المختلفة وذات المذاق المميز، وبدأت تتكون علاقات ودية وطيبة مع الكثير من العائلات التي تصادقت مع الشابتين وأمهما، تلك السيدة الوقورة صاحبة الملامح الوديعة، والقلب الحنون التي تعامل الجميع برحابة صدر ولطف محبب للجميع. وبالرغم من امتعاض "خليل" ورفضه لذلك العمل غير المجدي -من وجهة نظره- إلا أنه اتخذ موقفًا سلميًا وتابع بنفسه ما تقوم به الفتاتين، والحق يُقال أنهما كانتا مثالاً يحتذى به للأخلاق والجدية، التزمت كلتاهما في التعامل مع الجنس الآخر، وانشغلتا فقط بتأدية المطلوب منهما في سرعة ودقة..
إلى جواره، وعلى مقربة من العربة، جلست "حمدية" التي كانت أحشائها تحترق كمدًا من حيادية زوجها تتابع المشهد العبثي بنظراتها الناقمة؛ تارة تحدق في "خليل" شزرًا، وتارة أخرى تحملق في الاثنتين بسخطٍ متعاظم، نفخت متسائلة بنفاذ صبر وهي تهز ساقيها في عصبية:
-هو احنا هنفضل قاعدين الأعدة الهباب دي كده كتير؟
رد بفتورٍ دون أن يحيد بنظراته عن عربة الطعام:
-لو زهقتي روحي!
قالت بنبرة مستهجنة ووجهها متجهم الملامح:
-وأقعد لوحدي بوزي في بوز العيال؟
زفر ببطءٍ قبل أن يعلق بإيجازٍ:
-هانت يا "حمدية".
تابعت الأخيرة شكواها فأكملت وهي تحكم لف شالها السميك المصنوع من الصوف حول كتفيها لتحصل على الدفء:
-ده البرد نخر في عضمي، معنتش قادرة من كتافي.
رد على مضضٍ:
-اصبري.
أضافت بحقدٍ وعيناها تبرقان في غيظٍ:
-لأ وبنات أختك معندهومش دم! إن مافي واحدة عزمت علينا بسندوتش ولا حتة فطيرة سخنة تطري علينا، وهما مولعينها من بدري، آل يعني اللقمة دي هاتخسر معاهم!
زجرها مرددًا في تهكمٍ ساخر:
-بطلي طفاسة يا "حمدية"!
شقهت تعنفه مستخدمة يدها في الإشارة:
-طفاسة؟ لأ عندك! ده أنا جاية من بيت شبع يا "خليل"، أكل إيه اللي أبصله وعيني فيه؟! حاسب على كلامك معايا!
رد بضحكة مستهزأة من إنكارها الزائف:
-ما هو باين.
زمت شفتيها في حركة متأففة وهي تدور بعينيها على المارة مغمغة بعبارات ناقمة لم يفهم معظمها "خليل" إلى أن ضجرت من انتظارها الممل، لذا قالت مرة أخرى وقد نفذ صبرها:
-مش ناوي تقوم معايا؟
أجابها معاتبًا:
-وأسيب أختي وبناتها لواحدهم في الشارع؟
ردت عليه بازدراءٍ ونظراتها الاحتقارية تجوب أوجه ثلاثتهن:
-يعني هيجرالهم إيه، ما الناس حواليهم أد كده زي الرز، مش هياكلهم البعبع ياخويا!
أصر على بقائه مشددًا:
-بردك مايصحش، أنا هافضل معاهم.
أومأت بحاجبها تسأله بنبرتها المتنمرة:
-ده إيه الحنية اللي نزلت على قلبك دي؟ من إمتي الحب ده كله يا "خليل"؟
جاوبها بضيقٍ وقد غلف تعابيره الانزعاج:
-يعني عاوزة الناس تاكل وشي بعد ما اتعرف إن بنات "آمنة" فاتحين عربية أكل وأنا مش واقف جمبهم؟!!
لم تصدق بالطبع مبرراته الواهية التي يختلقها ليظهر اهتمامه الزائف بعائلته، فقالت ساخرة منه بحدية أكبر:
-وهما لما يشوفوك أعدلهم كده هيشجعوك؟ ده مش بعيد يقولوا عليك طرطور، أو آ.... ولا بلاش تسمع مني كلام يوجعك، لأحسن تزعل!
قال لها في نفاذ صبرٍ:
-انزلي عن دماغي يا "حمدية"، أنا مش ناقصك.
تمتمت ترد عليه وهي تزم شفتيها:
-حِكَم!
تابع "خليل" مضيفًا مشاركًا إياها ما يدور في عقله:
-أما أنا في مخي ترتيب حلو، لو مشى زي ما أنا عاوز هنطلعلنا بمصلحة!
سألته بفضول وقد توهجت نظراتها:
-ترتيب إيه ده؟ ما تقولي عليه!
رمقها بنظرة مزعوجة قبل أن يقول على مضض:
-ما أنا خايف لتبرمي فيها وتفسد!
زجرته بعصبية وقد هبت واقفة على قدميها:
-ليه؟ حد قالك إني بومة؟ خلاص يا إدلعدي مش عاوزة أعرف!
أمسك بها من معصمها ليستوقفها، ثم جذبها منه ليجلسها في مكانها وهو يقول مرغمًا:
-هاقولك وربنا يستر!
ادعت عدم اكتراثها، وأشاحت بوجهها للجانب لتظهر ضيقها، فأكمل بحذرٍ عارضًا عليها فكرته الخبيثة:
-دلوقتي الحاج "بدير" عليه دين في رقبته لينا، عشان اللي حصل من قريبه مع أختي، أنا عاوز أستغل ده بقى وأخد منه قرشين كده ندفعهم عربون لدكان محندق حاطط عيني عليه بقالي فترة، أل يعني بحجة إننا بنساعد البنات اليتامى بدل وقفتهم في الشارع
انتبهت له وسألته مستوضحة:
-أها، وبعدين؟
قال بإيجازٍ مليء بالغموض:
-ولا قبلين، هاجيب الدكان وأشغله لحسابي
رددت في قلقٍ:
-طب وبنات أختك، هتعمل معاهم إيه؟
أجاب ببساطة وكأنه قد أعد الرد مسبقًا:
-هخليهم يبيعوا العربية دي وأخد فلوسها واحطها في الدكان وتوضيبه.
-طب ما جايز يشبطوا فيه وتخسر المصلحة كلها!!
-مش هايحصل، ما أنا هاعمل الورق كله باسمي ويبقوا يقابلوني لو طالوا مني حاجة
حذرته من جديد بلهجة مغلفة بالجدية:
-إنت ضامن الحكاية دي؟ بنت أختك "فيروزة" مش عبيطة، ولا سهل يضحك عليها
استطرد محتقرًا قدراتها:
-دي جعجاعة على الفاضي، قطتها جمل، ومش هاتقدر تعمل حاجة.
كانت غير راضية عن استهانته بها، فعادت لتحذره:
-أنا بأنبهك بس، هي مش سهلة!
تقوست شفتاه قليلاً وأظهرت ابتسامة مغترة عليهما حينما قال عن ثقة كاملة:
-متقلقيش، جوزين أقلام مني على وشها هيربوها!
نظرة مطولة منها إلى وجهه الخبيث، بدت كما لو كانت تدرسه، ثم تنهدت قائلة:
-هانشوف.
............................................................................
بابتسامة عملية بحتة وإيماءة رأسٍ بسيطة مدت يدها بكيسٍ ورقي مليء بالسندوتشات من نافذة العربة نحو أحد الأشخاص المنتظرين ليحصل على طلبه، تلقت "فيروزة" النقود من شخص آخر ودونت في ورقة صغيرة ما يريد، ثم استدارت نحو أختها تسألها بتلهفٍ:
-أوردر 36 خلص؟
أجابتها "همسة" بلهاثٍ وهي تدور حول نفسها لتنجز عملها في أسرع وقت:
-بأقفله أهوو.
أشارت الأولى بالورقة الصغيرة التي في يدها متابعة حديثها:
-طيب في أوردر تاني مستعجل
هزت رأسها بالإيجاب وهي ترد عليها ويداها مشغولتان في تغليف السندوتشات بطريقة جذابة:
-ماشي.. هاعمله بعد ده على طول
-أوكي
تطلعت "فيروزة" من النافذة مجددًا لتراقب وتقرأ ردات الفعل على أوجه الزبائن الذين لم يغادروا المكان بعد، وآثروا تناول السندوتشات على الكورنيش بجوارهم، رأت علامات التلذذ والاستحسان واضحة على محياهم، شعرت بالانتشاء والرضا لنجاحها في إرضاء جمهورها من الذواقة، استمرت في تحريك عينيها على باقي المنطقة إلى أن توقفت عند البقعة التي يجلس فيها خالها، لم تصدق بقائه حتى تلك الساعة، قالت في ذهول لاكزة أختها في جانب ذراعها لتنتبه لها:
-تصدقي يا "همسة" خالك لسه قاعد لحد دلوقتي!
رفعت الأخيرة عينيها لتنظر إلى الأمام باحثة عن مكانه وهي تقول:
-بتهزري!!
تابعت "فيروزة" جملتها بتأفف مشمئز:
-لأ والعقربة مراته لازقة فيه!
ردت عليها أختها تمازحها:
-تلاقيها مش رحمانا من كتر أرها علينا
أيدتها الرأي فاستطردت:
-ايوه، ربنا يستر من عينيها، ومن شر حاسد إذا حسد!
-يا رب، الأوردر جاهز للتسليم يا "فيرو".
قالتها وهي تناولها آخر ما أعدته من طعامٍ لتضعه في الكيس الورقي حتى يتسنى لها إعطائه لصاحبه، ولزمة معتادة منها مسحت كفيها في مريلة المطبخ التي تحاوط خصرها قبل أن تنظر مصادفة أمامها، وكأنها على موعد مع القدر، كانت أكثر إحساسًا بالتوتر والضياع، جحظت عيناها في ارتعابٍ منه حينما أبصرته أمامها يطالعها عن قصدٍ، جف حلقها وانتفضت عروقها خوفًا من قدومه المحمل حتمًا بالمشاكل، رددت مع نفسها في رجاءٍ كانت واثقة أنه لن يستجاب:
-شكل الليلة مش هاتعدي على خير، يا رب ما يجي هنا!
تراجعت تلقائيًا خطوة للخلف وقد بات بالفعل واقفًا أسفل نافذة العربة وكامل نظراته مرتكزة عليها أولاً قبل أن تتحول عيناها تلقائيًا وبشكلٍ آلي نحو "فيروزة" وقد هتف صائحًا بصوته الرجولي الأجش:
-سلامو عليكم ............................................... !!
........................................................................