رواية أنا لها شمس الجزء الثانى ( اذناب الماضي ) الفصل العاشر بقلم روز امين
داخل مسكن "يوسف"
يجلس بجوار شقيقتهُ يقابلهما والدته وزوجها، انتهى فؤاد من سرد جُل ما توصل إليه من أخبار عن والدهما لينطق يوسف ساخرًا:
-يعني الباشا كان عايش حياته بالطول والعرض في فرنسا، سايبنا إحنا نسدد في فواتيره القذرة وندفع تمن إنحرافه وإجرامه، وهو داير يحب ويتجوز وكمان يخلف
صمت الجميع وقلوبهم تتمزقُ على قهرة الشاب وحديثهُ الموجع، تابع بقلبٍ نازف:
-طب راجع ليه ، مكفهوش إنه دمر لنا كل اللي فات من حياتنا، جاي يكمل على اللي باقي من صبرنا وقدرتنا على مواجهة المجتمع ؟!
طالعت صغيرها وبعينين يملؤها الوجع تحدثت:
-مش أنا قولت لك يا ابني،ظهوره المفاجيء وإنه يطلب رقمك من عمك حسين ده أكيد وراه مصيبة
دقت فوق ساقيها وتابعت بدموعٍ قطعت بها نياط قلب الشاب:
-واللي حسبته لقيته يا يوسف، أبوك راجع علشان يدمرك ويدمر نفسيتي من جديد، وكأن مكفهوش اللي عمله فيا طول السنين اللي فاتت، جاي علشان يكمل علينا كلنا
إيثـــار... قالها فؤاد بحزمٍ ونظراتٍ شزرة جراء غضبه الحاد من ظهورها بهذا الهوان أمام الشباب والفتاة،نطق يوسف لتهدأتها:
-ممكن تهدي يا ماما،أنا مش فاهم حضرتك عاملة كل ده ليه،أنا وبابا جنبك ومش هنسيبك لحظة
وتابع بعينين تطلقُ حممًا بركانية:
-وأنا مش هسمح له يقرب منك بأي شكل من الأشكال
الكل غافلٍ عن الفتاة وما أصاب داخلها من زعزعةٍ وحسرة،كانت تنظر أمامها بنقطة اللاشيء،وبدون مقدمات تحدثت بشرودٍ:
-لما عمي حسين إضطر يسيب البلد وقرر ياخدنا معاه على مصر،مرات عمي راحت البيت الكبير وخدت معاها كل ألبومات الصور
وتابعت وهي تقطم أظافر يدها بتوتر:
-ولما كبرت ودخلت الإعدادية وبدأت أوعى لنفسي ، خدت الألبومات وقعدت اتفرج عليهم، لقيت صور للعيلة كلها مع بعض، جدي وجدتي واعمامي وكل ولادهم
تنهدت لتسلط بصرها على أخاها وتابعت:
-لقيت لك صور كتير قوي يا يوسف، مع جدي وجدتي ومعاه، كان حاضنك وبيبص لك وهو فرحان، وصور تانية وهو بيلاعبك بلعب عمره ما فكر يجيب لي منها،
ابتسمت ساخرة لتكمل مسترسلة:
-المشكلة مش في اللعب، الغريبة إني ملقتش ولا صورة بتجمعني بيه!
ضحكت والألمُ ينخر بعمق قلبها:
-بعد كده فهمت وعرفت اللي عمي ومراته خبوه عليا علشان ما اتقهرش وأحس بالعار
تابعت بإبانة:
- لما خالتي بدأت تسأل عليا بعد سنين من سفري مصر مع عمي، وجابت بنتها معاها علشان أتعرف عليها، اتصاحبنا وبقينا بنتكلم كتير في التيلفون
صمتت لبرهة لتنظر أسفل قدميها ثم استرسلت بما أذهل الجميع:
-وفي مرة وإحنا بنتكلم، فتحت لها قلبي وقولت لها على اللي جوايا وتاعبني، وكتر خيرها عرفتني اللي جاوب على كل أسألتي اللي كانت محيراني
صمتت لبرهة لتنساب دموعها وكأنها أنهارٍ لتتابع بقلبٍ يصرخُ ألمًا:
-وعرفت إني كنت بنت الخطيئة لإبن الحسب والنسب "عمرو البنهاوي"،بنت الفضيحة ولعنته في الدنيا اللي كان بيحاول يغمض عينيه عليها علشان ميفتكرهاش
إحتوى كف شقيقته وضمه بقوة كي يشعرها بالاحتواء، نطق بصوتٍ ضعيف:
-كفاية يا زينة، اسكتي يا حبيبتي
تطلعت إلى إيثار الباكية لأجل الفتاة وتحدثت بانكسارٍ:
-حقك عليا يا خالتي، واحدة غيرك مكنتش سمحت لابنها يقعدني معاه أبدًا، ولا حتى قبلت تشوفني قدامها
وقفت وتحركت صوبها لتجاورها الجلوس ثم ضمتها لاحضانها وباتت تربت على ظهرها قائلة:
-إوعي تتأسفي بالنيابة عن حد يا زينة، إنتِ ملكيش ذنب في أي حاجة حصلت ومحدش يقدر يحاسبك على غلط غيرك، أبوكِ وأمك الله يرحمها هما اللي مسؤلين مش إنتِ
نظر فؤاد إلى يوسف الذي كور كفهُ بقوة حتى نفرت عروق يده وابيضت من شدة القبضة، حزن لأجله ولأجل الفتاة وسخط داخلهُ أكثر على ذاك الحقير الذي دمر أبنائه وما ترك ذنبًا عظيمًا إلا وارتكبهُ وألقى بإثمه عليهما،لتلاحقهما" أذنابُ الماضي" اللعين.
༺༻༺༻٭༺༻༺༻
يقف بطولهِ الشامخ خلف الحائط الزجاجي المطل على تلك الحديقة الشاسعة،يتطلعُ بشرودٍ إلى الأمام،يدخن سيجارهة بهوادة وتأنِ عكس طبيعتهِ الأولى، فمن يراه يلمس التغير الكُلي الذي حدث بشخصيته وكأنهُ تبدل لآخر، نزلت تلك الجميلة الدرج تتهاوى بمشيتها وثوب نومها الرقيق، كانت ترتدي قميصًا رقيقًا من القماش الناعم بلونٍ قرمزي، يعتليه مئزرًا بنفس اللون، شعر بأقدامٍ تتحرك خلفهُ فأغمض عينيه لينفث دخان سيجارته للأعلى،لفت ذراعيها حول خصره ثم مالت برأسها تستندُ على ظهره دون حديث، ظل على حالهِ وسألها بهدوءٍ:
-الولاد ناموا
تنفست براحة قبل أن تنطق بصوتٍ ناعم:
-أي نامو،كتير تعبتني نور لحتى غفيت عيونها،ما كان بدها تغفى إلا بحضنك، بالزور لحتى نامت
ابتسم حين تذكر صغيرتهُ ودلالها عليه، قطع شرودهُ صوت تلك التي تعشقهُ بجنون:
-شو بك حياتي، بشو صافن؟!
اعتدل ليحاوط كتفها وتحدث وهو يتطلع من حوله:
-بتفرج على الفيلا
-عجبتك؟
-شو رأيك بالحديئة... وأشارت إلى حوضٍ من الزهور وتابعت:
-شوفت هادول الوردات ،أنا ونور يلي زرعناهن بدياتنا
ابتسم ثم احتضنها فتحدثت وهي تخرج من بين أحضانه:
-ما بدك نطلع لفوق؟
أكيد هنطلع... قالها ثم تابع وهو يطالعها برغبة ذكورية:
-ده أنا هموت عليكِ، وحشتيني قوي يا "رولا"
بنظراتٍ متلهفة بالغرام نطقت:
-وأنا كمان يا عمرو، كتير اشتقت لريحتك ولعيونك، يا الله مبعرف من وين إجاني الصبر لحتى أقعد هون كل هالمدة من دونك
أجابها بثبات:
-دي كانت خطوة مهمة لازم تتم علشان تمشي الأمور هنا بدالي لحد ما أرجع تاني.
༺༻༺༻٭༺༻༺༻
داخل مدينة كفر الشيخ
يقف "عزيز"أمام المطعم الخاص به وبشقيقيه المطل على الطريق السريع، يشاهد العمال الذين يعملون على قدمٍ وساق لتجهيزات إفتتاح ذاك المطعم الفخم المكلف برأس مال ضخم،زفر بضيق لينضم إليه"وجدي"عندما رأه ينظر إلى ذلك المكان المنافس، تنفس بصوتٍ عالي وتحدث يحث شقيقهُ على الدخول:
-إدخل أقعد جوة يا عزيز، مينفعش وقفتك دي
دس كفه داخل جيب جلبابه ليهتف بغلٍ ظهر من بين أسنانه:
-لو أعرف بس المكان المشؤوم ده بتاع مين، كنت هديت وناري بردت يا وجدي
وتابع يهز رأسهُ باستسلام:
-ألا محدش راضي يريحني أبدًا، وكل ما اسأل حد من العمال يقول لي معرفش، ولا حد في البلد كلها أصلاً يعرف هو بتاع مين
وتابع بزفرة شديدة:
-حتى نجدت أبو عمران اللي باع لهم الأرض، ميعرفش حاجة عن المشتري غير اسمه الغريب
تحدث" وجدي"ساخرًا:
-وهو "نجدت" كان هيعمل إيه بإسم الشاري يا "عزيز"، ده قابض حق تمن الارض مرتين من المحامي اللي جاله علشان يخلص فيها، زغلل عينيه بالمبلغ علشان يلين وميعصلجش معاه في البيع
هتف عزيز بسخطٍ:
-راجل واطي وبياع، لهث على الفلوس وباع الجيرة والعشرة
-وهو كان هيعرف منين إن الشاري هيبني عليها مطعم مشويات ويضاربنا في أكل عيشنا
وتابع مبررًا تصرف الجار:
-وبعدين خليك حقاني، الراجل لقاها فرصة متتعوضش، وإنتَ نفسك لو اتعرض عليك المبلغ اللي اتعرض عليه، كنت هتبيع له حتة من أرضك من غير ما تفكر.
زفر بحدة وتحدث:
-مكذبش عليك يا وجدي، أنا مرعوب من اللي جاي، المطعم متشطب على أعلى مستوى وشكله هياكل مننا الجو، ده صاحبه مسميه" التحدي" يا وجدي!
أجاب شقيقهُ بتوكلٍ ويقين:
-خليها على الله يا عزيز، محدش بياخد رزق حد يا ابن أبويا.
ولچ الحاج محمد ناصف من البوابة الداخلية للمنزل، وجد شقيقتهُ تجلس بالفناء بجوار الأطفال، هتف موبخًا بنبرة مرتفعة بثت الرعب في قلوب الأطفال:
-إبنك راجع يقاسم الناس في أرزاقهم ليه يا إجلال؟
وتابع بحدة:
-مكفهوش أذية أبوه للخلق زمان، راجع علشان يكمل مشواره النجس؟!
بنبرة باردة سألته:
-قصدك إيه بالكلام ده يا حاج؟
تحدث بسخطٍ:
-متستعبطيش عليا يا إجلال، إنتِ عارفة أنا أقصد إيه كويس
نطقت باستخفاف:
-وأنا هعرف منين يا حاج...وتابعت متهكمة:
-كنت بضرب الودع إياك؟!
سأم لؤمها فقرر كشف أوراقه أمامها بعدما أصابهُ الضجر:
-بتكلم عن المطعم اللي على الطريق الجديد يا إجلال
وتابع مؤكدًا:
-مبقاش الحاج محمد ولا أستحق أكون إبن الحاج ناصف، إن ماكان اللي ورى موضوع المطعم ده هو عمرو
ضحكت وتحدثت بلامبالاة:
-طب دي المفروض حاجة تفرحك يا حاج، مش تخليك داخل مش طايق نفسك كده
هتف بحدة أظهرت مدى سخطه:
-وإيه اللي هيفرحني برجوع نسل نصر الملعون في الكفر من جديد، ده أحنا مصدقنا البلد نضفت والبركة حلت عليها بعد ما غار في داهية هو وعياله
ثم هدر بها متوعدًا بتهديد من سبابته:
-خليكي فاكرة إني حذرتك من رجوع حد من عيالك هنا تاني
لم تهتز منها شعرة ونطقت بثقة عالية:
-منك لعمرو يا حاج، إبقى أقف قدامه وقول له الكلام ده بنفسك، أهو راجع لبلده قريب قوي
استشاط غضبًا ولم يجد بداخلهِ ما يتناسب مع برودها من حديث فقرر الإنسحاب من أمامها لينأى بحاله من ارتكاب جريمة إذا استمرت تلك المناقشة أكثر من ذلك
ابتسامة ساخرة ارتسمت على محياها ليسألها حفيد شقيقها متسائلاً بلهفة:
-هو صحيح المطعم اللي جنب مطعم الجوهري بتاع إبنك يا جدتي؟!
ابتسمت تحدثهُ بكبرياء:
-أيوه بتاعه، بس متقولش لحد يا وَلاَ، علشان عمرو بيه عاملها مفاجأة للكل
-وهناكل فيه ببلاش يا جدتي؟!...نطقها الفتى متلهفًا لشدة تعلقهُ بالتهام الطعام المصنوع خارج المنزل فضحكت وأجابتهُ:
-أيوا يا طفس، هتاكل فيه ببلاش، بس بشرط
-إيه؟... قالها الصغير متعجلاً فأجابتهُ بحقدٍ ظهر بَين بمقلتيها:
-إياك أشوفك تشتري أي أكل من مطعم اللي ما يتسموا ولاد الجوهري تاني
هز رأسهُ عدة مرات فتابعت بشرٍ:
-وتخلي أصحابك كلهم يشتروا من مطعم "التحدي"
ضيقت بين عينيها بشرٍ وهمست بهسيسٍ:
-وقت الحساب جه يا ولاد منيرة، قيامتكم خلاص، قربت،آن الأوان لكفة الميزان المايلة تتعدل من جديد، وكل واحد لازم يرجع لأصله
وتابعت بقامة مرتفعة:
-السِيد سِيد،والعبد يرجع لمكانه.
تحركت إلى غرفتها واوصدتها ثم طلبت رقم نجلها الحبيب وما أن استمعت إلى صوته حتى صاحت بزهوٍ:
-حمدالله على سلامتك يا قلب ستهم
كان يجاور زوجتهُ الفراش، استمع لصدوح صوت الهاتف وعلى الفور أجاب عندما رأى نقس اسمها:
-الله يسلمك يا ماما
طلب من زوجته إحضار كأسًا من المشروب ليتحدث بخصوصية مع والدته التي هتفت بحفاوة:
-هتيجي البلد إمتى علشان ترفع راسي وترجع حق أبوك يا عمرو؟!
أجابها بهدوء:
- الموضوع مش بالسهولة دي يا ستهم، ده محتاج ترتيبات على أعلى مستوى
نظر أمامهُ لينطق بقوة:
-لازم أدخل أنا وأخواتي مرفوعين الراس،والدخلة لازم تليق بولاد نصر البنهاوي علشان نرجع الهيبة من تاني، ولازم المركز كله يتكلم عن رجوع مجدنا من جديد.
هتفت بحدة تسألهُ لعدم تحملها للوقت أكثر:
-أيوا يعني هستنى لسه قد إيه، خمستاشر سنة كمان ؟!
-إصبري يا ماما،هما يومين بالظبط،أوعدك
نزلت دموعها وتحدثت بمرارة:
-الصبر مرر عيشتي سنين يا ابن نصر،سنين والغل والقهرة بياكلوا في قلبي لما خلاص، فاض بيا ومعدش فيا حيل للصبر
هتف بنار الحقد التي غزتها هي بداخله لسنواتٍ طوال:
-صدقيني لفش قلبك وأبرد لك نار السنين ،هخليكي تمدي إيدك جوه صدر كل واحد ظلمك وتنتشي قلبه وتفعصيه تحت جزمتك
وتابع لتهدئتها:
-بس اصبري،علشان كل حاجة تمشي صح.
༺༻༺༻٭༺༻༺༻
صباح اليوم التالي
توقف بسيارتهِ الخاصة أمام الشركة التابعة لعائلته،شركة"الزين" للإستيراد والتصدير، أسرع أحد رجال الأمن ليفتح له الباب، ترجل ليقف بشموخٍ ثم أغلق ذر بدلته وتوجه للباب المقابل، فتح الباب لسيدة قلبه ثم قام ببسط كفه لتستند عليه، وقفت بقبالته وتحدثت بابتسامة جذابة:
-ميرسي يا حبيبي
نطق غامزًا وهو يشير إليها لتتأبط ذراعه:
-إحنا دايمًا تحت الأمر يا باشا
تبسمت وتحركت بجواره باتجاه مدخل الشركة تحت أنظار رجال الحراسة المنتشرين حولهما، سألتهُ مستفسرة:
-يا ترى عمو أحمد جه ولا لسه؟
أجاب مستفيضًا:
-أكيد هنا، لما كلمته إمبارح أكد عليا إنه هييجي مع بسام، هشرب معاه فنجان قهوة قبل الإجتماع علشان أتكلم معاه في كذا نقطة لوحدنا
تحدثت بارتيابٍ وتوتر:
-أنا خايفة للباشمهندس يزعل يا فؤاد
وصلا إلى المصعد وفتح بابهُ أحد الحراس ليشير هو إليها فدلفت وجاورها ثم تحدث:
-هيزعل ليه؟، المفروض أنا اللي أزعل من الفوضى والهبل اللي عياله عاملينها في إدارة الشركة
نطقت بريبة:
-ممكن ياخدها من باب إنك عامل إجتماع وجايبه علشان تصغره وتعنف ولاده قدامه.
نطق ليطمئنها:
-متقلقيش، عمي دماغه أكبر من يفكر بالتفاهة دي، وبعدين إحنا جايين نحط النقط على الحروف علشان كل واحد يعرف حدوده كويس وميتعداهاش بعد كده
نظر عليها وتحدث غامزًا بعينه:
-إنتِ إزاي حلوة قوي كده
باستطاعته أن يقلب جميع موازين حياتها، فبمجرد نطقه لكلماته البسيطة جعل فراشات العشق تدور من حولها لتحول نظراتها لهائمة وابتسامة رائعة شقت ثغرها واخرجتها في الحال من دائرة التوتر،نطقت بعينين في العشق هائمتين:
-بحبك يا فؤاد
نطق بابتسامة أظهرت كم سعادته:
-حبيبة حبيبها اللي هتجننه يا ناس
اشتدت سعادتها وحمدت الله بسريرتها على زوجها الحنون، فهو على عِلمٍ بتوترها الزائد فأراد أن يهدأ من روعها ويسحبها بعالمهُ قليلاً للتخفيف من وطأة التوتر، وبالفعل استطاع.
ولچت إلى مكتبها الخاص بعدما تركها فؤاد وذهب إلى عمه حيث أخبرته مساعدة إيثار أن أحمد ينتظر حضوره بغرفة الإجتماعات،خلعت عنها معطفها لتتناولهُ منها "عالية"لتنطق هي:
-إبعتي لي أستاذ أيهم بسرعة قبل الإجتماع ما يبدأ يا عالية
-حاضر يا هانم
بعد قليل كان يدخل من الباب قائلاً:
-صباح الخير يا إيثار
-صباح الخير يا أيهم، تعالى عوزاك
مدت يدها بأحد الملفات لتتابع مسترسلة بجدية:
-الملف ده تشتغل عليه بسرية تامة، مش عاوزة مخلوق يعرف إنه معاك
قلب الملف بين يديه ليسألها بجبينٍ مُقطب:
-ملف إيه ده؟!
-ده ملف صفقة الحديد الجديدة... وتابعت بحذرٍ بعدما قررت أخذ التدابير الإحتياطية لتستبق الأحداث وتسيطر على الموقف:
-ده اللي هيتقدم للمناقصة وهيتحدد جواه السِعر الحقيقي اللي هنقدمه للهيئة
وتابعت بحذرٍ وتشديد:
-الملف ده ميظهرش لمخلوق يا أيهم، ولا حتى لـ" أميرة" مراتك
سألها مرتابًا:
-إنتِ قلقانة من إيه، مظنش إن حد هيقدر يتلاعب تاني بعد اللي اتعمل في موافي
اجابتهُ بفطانة:
-بسام بعت جاب اخته من دُبي يا أيهم،يعني رسم الخطة وأعلن الحرب عليا صريحة
أجابها نافيًا تفكيرها بحكم العقل:
-بس ده ماله زي ما هو مال جوزك يا إيثار، يعني مستحيل يتعاون مع المنافسين ويدمر شركة عيلته
نطقت بتعقلٍ:
-الشيطان لما بيدخل لبني ادم من باب الحقد بيعمي بصيرته
تنهد لتتابع هي بحزنٍ ظهر بمقلتيها:
-خد الجديد عندك
تعمق بتمعن لتتابع بما صدمه:
-شركة الصخرة، طلعت ملك عمرو البنهاوي
اتسعت عينيه بصدمة:
-نعم، إنتِ بتقولي إيه؟!
قصت عليه ما حدث لينطق بعدم استيعاب:
-هي العيلة دي ربنا مش هيتوب علينا منهم ولا إيه
༺༻༺༻٭༺༻༺༻
بعد قليل كانت أفراد العائلة مجتمعة حول طاولة الإجتماعات، فؤاد وزوجته، أحمد ونجليه، تحدث فؤاد بحزمٍ موجهًا الحديث لعمه:
-رأي حضرتك إيه في اللي حصل من بسام وسميحة يا عمي؟
نطق أحمد بما يمليه عليه ضميره مصطفًا لجانب الحق:
-غلط طبعاً، وأنا لا يمكن أوافق على التسيب والمسخرة دي
أشار بسام بكفه وتحدث للإعتراض:
-ثانية واحدة بس يا بابا، أنا مش فاهم سيادة المستشار جامعني مع سميحة في نفس الخانة ليه؟!
صُدمت سميحة من تخلي شقيقها وتركها لتواجه المصير داخل ساحة الحرب بمفردها، ليتابع بسام مسترسلاً بإبانة:
-أنا ذنبي إيه في اللي سميحة عملته
ضيق فؤاد بين عينيه وهو يتابع تنصل نجل عمه من مسؤلياته تجاه شقيقته ليسترسل الاخر:
-أنا نبهتها وقتها من اللي هتعمله، وأهي قدامكم أهي، إسألوها
خرج صوت فؤاد حادًا كالسيف وهو يقول بصرامة:
-وإنتَ لزمتك إيه في الشركة يا باشمهندس وإنتَ مش عارف تمنع أختك من تصرفها الأهوج اللي خلى شكلنا كعيلة مسخرة قدام الموظفين
-خلاص يا فؤاد، سوري إني تعديت على مكتب حرمكم المصون...نطقتها بسخرية وتهكم لتتابع بضجر:
-ممكن بقى نتكلم في المهم
نطق بحدة وثبات:
-هو أنتِ فاكرة اللي حصل هيعدي بالبساطة دي يا دكتورة؟
تحدثت باستهانة وسخرية:
-إوعى تكون هترفع عليا قضية، أزعل منك قوي يا فؤاد
-سميحة... نطقها أحمد بلهجة تحذيرية ليتابع بحدة وغضب:
-إتكلمي مع ابن عمك بإسلوب كويس وإحترمي قيمة المكان اللي إنتِ قاعدة فيه
زفرت لتخرج شحنة الغضب وهي تتطلع بحقدٍ دفين على تلك التي تتابع بهدوءٍ ولم تنبس ببنت شفةٍ إحترامًا للحضور ولزوجها قبل الجميع، برغم منصبها الذي يسمح لها بالتدخل إلا أنها قررت أخذ مقعد المتفرج لحين انتهاء تلك المناوشات وتراشق الكلمات والاتهامات،
نطقت بهدوء بعدما أخذت نفسًا عميقًا:
-سوري يا بابا
وتابعت وهي تنظر إلى فؤاد لاستعطافه:
-سوري يا فؤاد، أنا أعصابي تعبانة شوية من يوم اللي حصل هنا في الشركة
وتابعت تشتكي بعينيها ما بين ابيها وفؤاد:
-كتير عليا قوي إني أجمع حاجتي واخرج قدام الموظفين كلهم من مكتب أنا اختارته بنفسي
بهزة من رأسه تحدث أحمد مستسلمًا:
-مفيش فايدة فيكِ يا سميحة، هيفضل تفكيرك محدود وعقلك عقل طفلة برغم المستوى التعليمي والوظيفي المرموق اللي وصلتي لهم
هتف بسام مستغلاً غباء شقيقته للنأي بحاله:
-شفتوا بعيونكم، علشان بس تعذروني
صُدمت واتسعت عينيها من دنائة شقيقها ليتابع هو متنصلاً:
-والله يا فؤاد قعدت أقنع فيها وأقول لها بلاش يا سميحة، لكن زي ما انتم شايفين، مبتقتنعش غير باللي في دماغها
سأم فؤاد تلك الجلسة وغباء نجلي عمه، أقسم بداخله أن زين وتاج بهما عقلاً عن ذاك الثنائي الغريب، فتحدث بحسمٍ:
-بعد إذنك يا عمي، أنا هدخل في الموضوع على طول علشان مضيعش وقت حضرتك ووقتي أنا كمان
-ياريت يا ابني لأني زهقت... قال كلمته الاخيرة وهي يرمق كلاهما شزرًا وخجلاً من تصرفاتهما الصبيانية التي ترجع لترك تربيتهما واسنادها إلى زوجته "نجوى"
نطق فؤاد بجدية وهو ينظر إلى إبنة عمه:
-الوقت الدكتورة جاية علشان تشتغل، صح يا دكتورة؟
اومأت بنعم ليتابع فؤاد:
-تمام،أنا وعمي قررنا إنك هتمسكي مدير التسويق الإلكتروني للشركة، ودي أنسب وظيفة تنفع لك وتقدري تفيدي الشركة من خلالها
أرجعت ظهرها للخلف لتنطق وهي تنظر إلى إيثار بتحدي:
-بس أنا عاوزة أكون رئيس مجلس إدارة الشركة
-مش هينفع...قالها أحمد ليتابع مفسرًا:
-أولاً لأن فؤاد مالك 65% من أسهم الشركة، ومن البديهي إن الإدارة تكون معاه، وبحكم إن إيثار مراته فهي أولى بالمنصب من أي حد
وتابع بجدية وتعقل:
-ده غير إنها أجدر حد بالمنصب، وبالفعل ليها سنين في الشركة أثبتت فيها جدارتها وقدرت تكَسب الشركة أرباح مهولة
اخيرًا خرجت عن صمتها لتشكر كلمة الحق:
-ميرسي لذوق حضرتك يا عمو
أجابها بضميره اليقظ:
-ده حقك ونجاحك اللي محدش يقدر ينكره عليكِ يا بنتي
استشاط داخل بسام ليتحدث فؤاد من جديد:
-كده يبقى كل واحد عرف اختصاصاته وإيه المطلوب منه
وتابع وهو يفرق نظراتهُ على الثلاث المعنيين:
-ياريت بدل ما تكسروا في بعض وكل واحد يحاول يعلي على التاني، تحاولوا تتحدوا وكل واحد يثبت جدارته في حتته
وتابع بتوجسٍ:
-الشركة ليها أعداء يا سادة
وتابع قاصدًا بسام:
-وإنت بنفسك شوفت اللي حصل من الخاين موافي يا باشمهندس، في النهاية إحنا كلنا هدفنا واحد، الحفاظ على شركة العيلة ورفع إسمها أكتر، وطبعًا كل ما الشركة عليت كل ما الاستفادة كانت أكبر للكل، سواء ماديًا أو معنويًا
-برافوا عليك يا فؤاد، في النهاية إحنا أهل... وتابع مسترسلاً بحكمة رجل تخطى السبعين من عمره:
-وبدل مانبقى فُرجة للناس ونشمتهم فينا، نخليهم يرفعوا عنيهم لفوق قوي علشان يقدروا بس يلمحونا
ونظر إلى سميحة قائلاً:
-إتأسفي لمرات إبن عمك على الموقف البايخ اللي حطتيها فيه
بذهولٍ نطقت:
-إنت بتقول إيه يا بابا، انا اللي اتهنت قدام الموظفين وانا خارجة بحاجتي؟!
وتابعت بحدة:
-وأنا اللي ابن أخوك بهدلني قدام السكرتيرة بتاعت الهانم مراته وهو بيقولي مراتي خط أحمر
-وهكررها تاني قدام عمي يا سميحة... قالها فؤاد ليشير بأصبعه بينها وبين بسام بتحذيرٍ حاد:
-مراتي، خط، أحمر.
هامت روحها وتراقص قلبها على أنغام كلمات فارسها، تنهدت براحة لينطق أحمد بحدة ولهجة صارمة:
-إتأسفي لـ إيثار يا سميحة ومش عاوز كُتر كلام
ثار داخلها وتحول لنارٍ مستعره، لكنها خمدتها لتنطق من بين أسنانها:
-سوري يا مدام
ما زاد من اشتعال نارها هو عدم رد تلك المستفزة التي اكتفت بهزة من رأسها وتحدثت وهي تزحزح مقعدها للخلف لتقف:
-لو مش عاوزين مني حاجة أنا لازم أستأذن علشان عندي شغل كتير
-لا يا بنتي خلاص روحي... قالها أحمد ليقف فؤاد متحدثًا:
-أنا كمان هستأذن يا عمي
أومأ له فمال فؤاد مقبلاً رأسه:
-مبسوط إن شوفت حضرتك النهاردة، والباشا مستنيكم يوم الجمعة علشان نتغدى سوا
-إن شاء الله يا حبيبي
خرج محتضنًا كف زوجته برعاية وما أن أغلق الباب حتى تحدث أحمد بأسى:
-عاجبكم اللي حصل ده، أنا حزين وأنا شايفكم قدامي بالتفاهة دي
وتابع وهو ينظر لابنته:
-عمالة تتكلمي وتقاوحي في كلام فاضي، مش شايفة مرات ابن عمك وعقلها، دي البنت منطقتش بكلمة واحدة طول القاعدة
نطق بسام متهكمًا:
-وتنطق ليه وتتعب نفسها والمحامي بتاعها موجود يا باشا
أكملت سميحة بسخطٍ:
-عندك حق يا بسام، ده قعد عشر دقايق بالظبط مع بابا لوحدهم، غسل له دماغه فيهم وخلاه طالع يقول شعر في الهانم
-مفيش فايدة فيكم... قالها الرجل باستسلام وتحرك للخارج، وقفت هي وتحركت خلف والدها ليجذبها بسام من رسغها وتبسم قائلاً:
-مبروك عليكِ المنصب يا دكتور، جهزي نفسك بقى للشغل اللي بجد
جذبت رسغها بعنفٍ لتهتف من بين أسنانها وهي ترمقهُ بغضبٍ جهنمي:
-إنتَ لسه ليك عين تتكلم بعد ما اتخليت عني وبعتني قدام أول مشكلة
أجابها ليسحبها بصفه من جديد:
-كان لازم أعمل كده علشان أبريء نفسي قدام فؤاد
وتابع بإبانة:
-امال عوزاه يفتكر إننا شكلنا جبهة ضد مراته، خليكِ ذكية يا سميحة
هتفت بحدة وعنف:
-إبعد عني يا بسام لأني مش طيقاك، ومن النهاردة أنا هشتغل لوحدي، وهوريك هوصل لإيه
-تعالي هنا يا مجنونة وبلاش تهور... قالها وهو يحاول اللحاق بها
داخل مكتب إيثار
ولچت إلى الداخل بجواره لتغلق الباب وتُلقي بحالها داخل أحضانه الحنون وهي تقول بامتنانٍ وحنان الدنيا بصوتها:
-ربنا يخليك ليا حبيبي وميحرمنيش منك أبدًا
شدد من ضمته لها وتحدث:
-ويخليكِ ليا يا أحلا وأجمل وأعقل ست في الكون كله
تبسمت لترفع جسدها للأعلى متشبثة بعنقه لتضع شفتيها فوق خاصته فالتقطها هو وذابا في قُبلة عنيفة بث كلاهما من خلالها مدى عشقه للأخر، بعد مدة ابتعدا يلهثان ليستطيعا التنفس، فتحدث بممازحة:
-أنا لازم أمشي حالاً، علشان لو فضلت هنا دقيقة واحدة هتهور وهيحصل ما لا يحمد عقباه
ضحكت بدلالٍ أنثوي لتتعلق أكثر بعنقه قبل أن تهمس بما جعل دقات قلبه تقرع كطبول الحرب:
-طب وماله، وأهو يبقى تغيير وكسر للروتين
-قد كلامك ده؟!
وجدت بعينيه ما جعلها تُفلت حالها سريعًا لتهرول خلف مكتبها وهي تقول:
-لا طبعاً مش قده، ما انتَ عارف مراتك يا فؤش، بوق على الفاضي
نطق بتحدي:
-طب بعد كده متلعبيش معايا وتقولي كلام منتيش قده يا ست البوق
-الباشا يؤمر... قالتها بدلال ليرد بنبرة هائمة وقلب رجلاً تملك من كيانهُ الغرامِ واستوطن:
-الباشا مبقاش يؤمر، الباشا بقى بيقدم فروض الولاء والطاعة لسلطانة قلبه علشان ينول الرضى
-بحبك... نطقتها بنظراتٍ ولهة ليقترب منها يطبع قُبلة حنين قبل ان ينصرف متوجهًا إلى عمله
༺༻༺༻٭༺༻༺༻
ليلاً
كان يجلس فوق الأريكة المتواجدة بفناء مسكنه الخاص،يضع جهاز الحاسوب الخاص به ويعمل عليه بجدٍ وتركيزٍ شديد ،فمنذ عدة أيام وهو يعمل على شيءٍ خاص بمجاله وبرغم حلول عدة مصائب عليه، إلا أنهُ منشغلاً للغاية به،أما شقيقته فكانت بغرفتها تذاكر دروسها، قطع حبل أفكاره جرس الباب حيثُ صدح، إنتصب للخلف وزفر بقوة ناعتًا الطارق بسريرته،خلع عنه نظارتهُ الطبية وفرك عينيه وهو يقول بازدراءٍ:
-ده مين السخيف اللي جاي في الوقت ده ومن غير ميعاد
ارتفع صوت الجرس من جديد فاستمع لصوت شقيقته التي خرجت وهي تقول:
-خليك لمذكرتك وانا هفتح الباب يا يوسف
هب واقفًا وتحدث بصوتٍ رخيم:
-لا يا حبيبتي خليكِ إنتِ، أما اشوف مين ده كمان
توقفت الفتاة أمام باب غرفتها يسوقها الفضول لمعرفة الطارق، فتح الباب ليري رجلاً بالخمسين من عمره، بجسدٍ رياضي ممشوق، سألهُ بفضولٍ حين رأى صمته ونظراتهُ الغريبة:
-أفندم؟
-إنتِ مش عارفني يا يوسف؟... قالها الرجُل بحنينٍ ونظراتٍ تجمعت بهم الكثير من قطرات الدموع ، ضيق بين عينيه يسألهُ مستفسرًا وهو يُشير على حاله:
-وهو المفروض أكون عارف حضرتك؟!
بسط يده للأمام ليحتوي ذقن الشاب ونطق بصوتٍ باكِ:
-أنا أبوك يا يوسف.