رواية شظايا قلوب محترقة الفصل الاربعون 40 بقلم سيلا وليد


 رواية شظايا قلوب محترقة الفصل الاربعون 



اللهم استرنا فوق الأرض وتحت الأرض ويوم العرض عليك 

وكأن الحياة اختارت أن تختبر صبري في أقسى مواضعه… في قلبي وفلذة روحي..ألم تعلم أن
غيابك يشبه يتمًا مباغتًا في عز البرد، حيث لا حضن يدفئ، ولا صوت يطمئن، ولا يد تمسح على الروح المنهكة... كنت أظن أن الرحيل كذبة، حتى جاءني بكامل قسوته، حتى اقتلعني من جذوري، وتركني عارية إلا من الحنين إليك

ليت الرحيل لم يُخلق أبدًا، ليته لم يمر على دياري، فوالله لبنيت لك ألف عذر يمنعك من الذهاب، لكنك رحلت وكسرتني كسرًا لا جبر له.
مدني حزينة، وأريافي تئن، وجدراني لا تزال تحمل صورتك كأنك غائب، ولو قُسّم حبك على هذا العالم لأعاد نبضه إلى القلوب الميتة

توقَّفَ بجسدٍ متجمِّد، وعينانِ متسعتانِ في ذهول، يردِّدُ بصوتٍ متحشرجٍ وقعَ على أذنهِ كالصاعقة: أخاه مخطوف!!كيف يمكن أن يحدثَ ذلك؟ كيف يُختطفُ شخصٌ مثل أرسلان يعرفُ كم هو ذكي وحذر؟!! ارتعدت أطرافهِ وهو يحاولُ استيعابَ الصدمة، 
نزعَ ذهولهِ صوتُ ارتطامٍ قويٍّ خلفهِ، استدارَ بسرعة، وقلبهِ يكادُ يقفزُ من صدره، وهو يرى والدتهِ ملقاةٌ على الأرض، شاحبةٌ كالموتى، وكأنَّ الحياةَ انسحبت من وجهها في لحظة..
انحنى سريعًا يردِّد اسمها..
- ماما!! نطقَ بها بلهفة، لكن صوتهِ خرجَ مرتعشًا، وكأنَّه يخشى أن تكون قد رحلت عن عالمه، نهضَ بجسدٍ مذعور، يرفعها بين ذراعيهِ المرتجفتين، ينادي اسمها بفزع، كطفلٍ فقدَ والديهِ ليواجهَ العالمَ منفردًا..

كرَّر اسمها برجاء، وهو يصيحُ باسمِ الطبيب، مع اقترابِ فاروق منهُ بوصولِ دينا لتقفَ على ذلك المشهدِ كالذي فقدَ النُطق، وهي ترى فريدة بتلك الحالة، رفعت عينيها إلى فاروق بعدما حملَ إلياس والدتهِ إلى الغرفة، وتساءلت
-إيه اللي حصل؟!
مسحَ على وجههِ بإرهاق وهو يستغفرُ ربِّه، كيف سيصمدُ أمام تلك العاصفة:
-عرفت موضوع أرسلان.. 
-موضوع أرسلان؟!..تساءلت بها باستفسارٍ جاهل.. 
ليه هوَّ أرسلان ماله، أوعى يكون تأخيره فيه حاجة؟..دا إسحاق يموت فيها..
أشارَ إليها بالصمت، ثمَّ اتجهَ بنظرهِ إلى غرفةِ أخيهِ المسجَّى على فراشه، كالجثةِ الهامدةِ وأردف: 
-عايزك تيجيبي مفتاح مكتب إسحاق، هتلاقيه في خزنة في دولابه، الخزنة رموزها باسمِ حمزة، هاتي المفتاح وأنا هنا مع إسحاق..
-طيب أفهم إيه اللي بيحصل وليه عايز المفتاح، متزعلش منِّي، معنديش أوامر حدِّ يقرَّب من أيِّ حاجة تخصِّ إسحاق..
رفعَ عينيهِ ورمقها بنظرةٍ أخرستها، ثم أشارَ بعينيه:
-نصِّ ساعة وترجعي بالمفتاح، وإياكي حدِّ يعرف حاجة حتى اللي شغالين في طاقمه، ولا إلياس السيوفي.. 
-بس..مابسش، ياله الوقت مش في صالح ابني. 

بداخلِ الغرفة.. 
مرَّت دقائق كالسيفِ على العنق، وهو واقفًا يتابعُ الطبيبَ الذي يفحصُ والدته...رفع الطبيبُ رأسهِ يشيرُ إلى الممرضة: 
-جهِّزي غرفة العناية، المريضة لازم تتحجز..
نطقَ بها الطبيبُ حتى شعرَ إلياس بنبضهِ يضربُ صدرهِ بعنف:

- مالها يادكتور؟!..تساءل بها بلسانٍ ثقيل..أجابه الطبيب:
- أزمة قلبية حادَّة..

شعرَ كأنَّ الهواءَ قد انسحبَ من حوله، والغرفة تدورُ به، وهو يستمعُ إلى الطبيب..
-الحالة صعبة، وممكن توصل لجلطة.

مرت ساعات وهو جالسًا يحتضنُ رأسه، وكأنَّه يحملُ ثقلًا كثقلِ الجبالِ فوق رأسه، عاجزًا لم يستطع الوصولَ إلى شيئ، وصل إليه إسلام: 
-إلياس مراتك مش مبطَّلة اتصال، رد عليها طمِّنها، رفعَ رأسهِ ينظرُ إلى إسلام بصمت، ثمَّ نهضَ من مكانهِ يربتُ على كتفه:
-خليك جنب ماما وبابا، وأنا عندي مشوار نصِّ ساعة وأرجع.
أمسكهُ إسلام من ذراعه:
-رايح فين؟..أنا بقولك رد على ميرال، ماهيَّ كدا كدا هتعرف، أحسن إنَّك تجبها تشوف ماما فريدة.. 
أومأَ وتحرَّك دون حديث، خرجَ إلى سيارته، رفعَ هاتفه:
-شريف، حاول تعرف لي مين اللي في طقم إسحاق الجارحي، غير أرسلان. 
-هحاول يا إلياس، بس دا صعب، ربِّنا ييسَّر..
-هييسَّر إن شاءالله ياشريف..صعدَ سيارتهِ وتحرَّك إلى وجهته، وصلَ بعد قليل، ترجَّلَ منها ثمَّ دلفَ للداخل: 
-فيه جديد؟!.
-لسة في الغيبوبة يافندم، دلفَ للداخلِ ينظرُ إلى جسدها الساكنِ للحظات، ثم اقتربَ وانحنى بجسده:
-ماهو مش أخطَّط لدا كلُّه وفي الآخر تدخلي غيبوبة، فوقي يارانيا لازم أعرف مين اللي قتل أبويا، ومحدش هيوصَّلني غيرك، زفر بحدَّة يمسحُ على وجهه:
-كلِّ حاجة جت فوق دماغي دلوقتي، رانيا من جهة وإسحاق وأرسلان، أطبقَ على جفنيهِ متذكِّرًا مصيرَ أخيه...اعتدلَ وعينيهِ تحاصرُ جسدها ورجعَ بذاكرتهِ لذاكَ اليوم الذي ألقاها راجح في البحر.. 

قبل عدَّةِ أيامٍ بعدما ألقاها راجح، وصلَ إلى البحرِ بعد إنقاذِ دينا:
-إيه اللي حصل ؟!.
راجح رماها في البحر، والغطَّاس نزل ينقذها، رانيا بتعوم على فكرة علشان فضل واقف فترة لحدِّ ما تعبت وفي الآخر مشي..
أومأ متفهِّمًا ثمَّ أردف:
-أه، بس مهما كانت شاطرة في العوم، البحر موجه عالي أوي..خرجَ الغوَّاص من البحر، فقرَّب إليه اليخت وقامَ بنقلها إلى إحدى العياداتِ الخاصة للكشفِ عليها..

جلسَ إلياس أمام الطبيب يترقَّبُ كلماته:

"هتتحجز لحدِّ الصبح للاطمئنان."

أومأ إلياس رأسهِ بتفهُّم، ثمَّ سأل:

"تمام، فيه حد هيكون مرافق معاها؟"

لكن قبل أن يتلقَّى الإجابة، قطعَ حديثهِ صوتُ رنينِ هاتفه، التقطهُ بسرعة، وما إن وضعهُ على أذنه أردفَ أحدهم:

-"إسحاق انضرب واتنقل المستشفى العسكري!"

نهضَ إلياس، ألقى نظرةً سريعةً على الطبيبِ وكأنَّه يعتذرُ على مغادرتهِ المفاجئة، ثمَّ خرجَ مسرعًا متوجِّهًا إلى المشفى.

بعد عدَّةِ ساعات...

وصلَ فاروق إلى المستشفى بخطواتٍ متسارعة، عيناهُ تبحثُ عن إلياس الذي هاتفهُ حتى وجدهُ يقفُ شاردًا أمام الغرفة..اقتربَ منه متسائلاً بنبرةٍ تحملُ مزيجًا من التوترِ والقلق:

-"إيه اللي حصل؟"

لكن قبل أن يجيبه، وقعت عينيهِ على دينا التي جلست في أحدِ الأركان، تحتضنُ طفلها بقوَّة، ودموعها تنهمرُ بصمت.. اقتربَ منها ببطء، ثمَّ نادى عليها بصوتٍ منخفضٍ لكنَّه لم يخلُ من الذهول:

-"دينا...!!"

نهضت دينا بعينينِ متورمتينِ من البكاء، وأشارت بيدها المرتجفةِ إلى الغرفة التي يُحتجزُ بها إسحاق، قبل أن تهمسَ برجاءٍ مخنوق:

- "قولِّي هيعيش...طمِّن قلبي يا فاروق بيه، لو سمحت."

ظلَّت عيناهُ عليها بذهول،  اقتربَ إلياس منهما، ونظرَ إلى فاروق قبل أن يقول:

- "كنت بزور قبر والدي وعديت على  المينا وعرفت اللي حصل...جيت أطَّمن عليه."لم يقتنع فاروق بحديثه وظل يطالعه بغموض حتى صارت النظرات كحرب بينهما، انتقلت عيناهُ على دينا التي مازالت  لم تبتعد، وعقلهِ يعملُ في كافةِ الاتِّجاهاتِ محاولًا استيعابَ مايحدث..ولكن هناك ماصدمهُ أكثر حينما استمعَ إلى صوتِ الطفلِ الصغيرِ يبكي..

تشنَّج جسدُ فاروق، وتحوَّلت نظراتهِ إلى دينا التي احتضنت الطفلَ بشدَّة، وكأنَّها تحميهِ من أحدهم..تراجعَ للخلفِ بخطواتٍ مهتزَّة، وصدمةٌ عنيفةٌ تضربُ كيانه.

- "دا حمزة..هوَّ عايش؟!"

نطقها بصوتٍ خرجَ ثقيلًا وهو لم يصدِّق عينيه، وتسارعَ نبضهِ بجنون، وكأنَّ الأرضَ تدورُ من تحته، ثمَّ استدارَ إليها بنظرةٍ اشتعلت بالغضب:

- "عملتي إيه؟! إنتي ضحكتي علينا؟! خطفتي الولد من حضنِ أبوه؟!"

صرخت دينا بصوتٍ مخنوق، وكأنَّها تُخرج ُألماً دفينًا:

- "لاااا"

بكى الطفلُ من صوتها العالي، فاقتربَ إلياس منها بسرعة، وقبل أن تنهارَ تمامًا، تلقَّفَ الطفلُ من بين يديها، محاولًا تهدئتها قبل أن تفقدَ وعيها.

-"اهدي، مدام دينا..ولكن قبضَ فاروق على ذراعيها وصاحَ بنبرةٍ حادَّةٍ غاضبة:
-احكيلي اللي حصل!"

بأنفاسٍ متقطِّعة، ودموعٍ لا تتوقَّف، بدأت تروي ما حدث، بينما كان فاروق لا يزال متجمِّدًا في مكانه، يشعرُ باختناقٍ يجتاحُ صدره، وأنَّ الهواءَ من حولهِ أصبحَ ثقيلاً، وكلماتُ دينا عن ما فعلتهُ والدتهِ كاد أن يصيبهُ بذبحةٍ صدرية، هوى على المقعدِ عندما فقدَ اتِّزانهِ يشعرُ بأن العالمَ انهارَ من حوله.. 

خرجَ إلياس من شرودهِ على همهماتِ رانيا: 
-أشرب..اعتدلَ مقتربًا من جسدها بعدما استدعى الطبيب: 
-مدام رانيا سمعاني، لو سمعاني افتحي عيونك..
رفرفت اهدابها عدَّةِ مراتٍ إلى أن فتحت جفنيها، لتقابلَ عيناها عيني إلياس
-إنتَ..!! قالتها بنبرة بطيئة كادت تُسمع
-حمدَ الله على السلامة يامدام.. 
نظرت حولها بخوف، حاولت أن تتحَّدث ولكن ثقُلَ لسانها بدخولِ الطبيبِ الذي قامَ بفحصها يهزُّ رأسهِ برضا:
-كلُّه تمام، المدام كويسة.
تنهيدةٌ مثقلةٌ أخرجها بعدما شعرَ بالراحة..دلفت الممرضةُ ليشيرَ إليها إلياس:
-ساعدي المدام، الشنطة فيها هدوم، مش كدا تخرج عادي يادكتور؟..
-نظرَ إلى كشفها وأومأ له:
-بس لازم مرافقة طول الوقت..اقتربَ من رانيا وابتسامةٌ ساخرةٌ على ملامحه:
-لا دي متقلقشِ يادكتور..
خرج الطبيبُ بعدما أخبرهُ بما يجب فعله، جذبَ المقعدَ وجلس يضعُ ساقًا فوق الأخرى: 
-طبعًا المفروض تشكريني..لولا وجودي كنتي زمانك وجبة للسمك والقرش، الصراحة مش إنتي بس اللي المفروض تشكريني، المسؤولين عن البحرِ والصيادين..
قطبت جبينها منتظرةً حديثه...انحنى بجسدهِ يحدِّقُ بعينيها: 
-لو السمك أكلك كنتي سمِّمتيه، ومش بعيد سمِّمتي ميِّة البحر، ماهو القذر اللي زيك هننتظر منُّه إيه، شوفتي أنا أنقذت الكائنات البحرية إزاي..
-عايز منِّي إيه يابنِ جمال؟.. 
-أيوة كدا..برافو عليكي مدام رانيا، شغَّلتي عقلك القذر..
هقولِّك بس مش دلوقتي ياستِّ الميتة، راجح أعلن وفاتك، إزاي معرفش بس هوَّ لص وإنتي أدرى بحقارته..بترت حديثه:
-إنتَ إزاي أنقذتني؟..
-كنت مراقبكم، ودلوقتي سؤال واحد وعايز إجابة وبعد كدا هنتِّفق هنعمل مع بعض إيه.. 
-راجح هوَّ اللي قتل أبويا؟..
قابلت عينيهِ الناريَّةِ بسؤالهِ الذي نطقهُ، وأجابت بعد صمتٍ دامَ لثوان:
-هتفرق عندك.؟.اقتربَ بأنفاسٍ حارةٍ كالنيرانِ التي تشتعلُ بداخلهِ ونطقَ بهسيسٍ مُرعب:
-إنتي ميِّتة عند الكلّ، فبلاش شغل الاستفزاز معايا..إجابة السؤال وبس، راجح هوَّ اللي قتل أبويا؟..
-مش هوَّ اللي نفِّذ، بس كان عارف أنُّه هيتقتل..هزَّةٌ عنيفةٌ أصابت جسده، رغم أنَّه كان على ريبةٍ من الأمر، ولكنَّه لم يتوقع أنَّ شكِّهِ يكون بمحله، اعتدلَ وعيناهُ تخترقُ جلوسها، يريدُ أن يطبقَ على عنقها وهي تستطرد:
-جمال طول عمره كان شايف نفسه على راجح، وطبعًا راجح كان جاب أخره معاه وخصوصًا بعد ماأبوك إتجوِّز أمَّك؛ وهوَّ عارف إنِّ راجح بيحبَّها ورغم كدا راح اتجوِّزها..
-اخرسي، أنا مطلبتش منِّك تقولي حاجة، استدارَ وخرجَ بخطواتٍ تأكلُ الأرض، وهو يتمنَّى أن يصلَ إلى راجح، توقَّف على رنينِ هاتفه:
-إلياس عدِّي عليَّا في المكتب عايزك.
-فيه جديد ياراكان باشا؟!
-لماَّ تيجي هتعرف...
تمام..قالها وأغلقَ الهاتف، ينظرُ بشرودٍ إلى شاشته، اتَّجهَ إلى مهاتفةِ شريف:
-شريف عرفت تسحب حاجة من عزيز باشا؟.. 
-للأسف ياإلياس، محدِّش يعرف غير إسحاق باشا..كوَّر قبضتهِ يضغطُ عليها بأسنانهِ كلَّما عجزَ عن الوصولِ إلى أخيه..
باليومِ التالي ذهبَ إلى المشفى التي يُحتجزُ بها إسحاق، توقَّف أمام النافذةِ الزجاجيةِ ينظرُ إلى جسدهِ الساكن، وصلت دينا إليه: 
-أهلًا بحضرتك..أومأ اليها وتساءل:
-مفيش جديد؟..هزَّت رأسها بالنفي وعيناها عليه، ثمَّ أردفت:
-ليه عملوا فيه كدا!!ومين الناس دي؟!. 
استدارَ ينظرُ إليها بصمت، إلى أن نطقَ متسائلًا: 
-مدام دينا أنا اللي المفروض أسألك، مين اللي عمل كدا؟..فتحت فاهها للتحدُّث، ولكن قطعَ حديثهم وصولُ ملك بجوارِ فاروق، التفتَ إلى فاروق: 
-أنا جاي لحضرتك فكَّرتك هنا..
أومأ له وابتعدَ بعضَ الخطواتِ إلى أن توقَّف بعيدًا عن وقوفِ ملك ودينا: 
-مفيش أخبار عن أرسلان؟..
-كلِّ اللي عرفته أنُّه في دولة حدودية، أخرجَ ورقة من جيبه: 
-دا مرسوم عن المكان وطبعًا المكان متشفَّر..
-ليه ماكلِّمتش الجهات المختصَّة؟.
-مينفعش، لأنُّه في نظري معرفشِ عنُّه حاجة..هزَّ رأسهِ متفهِّمًا ثمَّ أمسكَ الورقةَ يقلِّبها بين أصابعه:
-بحر..ودا رمز لدولة أوروبية، يعني كدا هوَّ مش في دولة عربية..بس فيه كذا دولة وكذا اتِّجاه، رفعَ عينيهِ يستعطفه:
-أنا متأكِّد إنَّك تقدر توصل لمعلومات أكتر من كدا..ابتعدَ فاروق عن نظراتهِ ينظرُ إلى دينا وملك وتحدَّث: 
-كلِّ اللي أعرفه قولته لك. 
قبضَ على الورقة وتحرَّك منسحبًا، يتخبَّطُ بمشيهِ إلى أن وصلَ إلى غرفةِ والدتهِ بدخولِ ميرال تبكي، ثمَّ دفعتهُ فجأة: 
-ماما محجوزة بقالها يومين في المستشفى وإنتَ مخبِّي عليَّا، لولا بتِّصل بالفيلا بالصدفة مكنتش عرفت حاجة عن أمِّي، هتفضل لحدِّ إمتى كدا!.. 
-ميرال أسكتي شوية، أنا مش ناقص اللي فيَّا مكفِّيني.. 
سحبتها غادة للخارج: 
-ميرال اهدي إنتي مش شايفة حالته، من جهة أرسلان ومن جهة ماما..
خلِّي بالك من يوسف...قالتها ميرال وتوجَّهت إليهِ وجدتهُ يتحدَّثُ بهاتفه، ظلَّت تراقبهُ إلى أن انتهى، غرسَ أناملهِ بخصلاتهِ يجذبها للخلف وزفرةٌ حادَّةٌ علَّهُ يخرجُ بها مايطبقُ على صدره، اقتربت منهُ بهدوء، ثمَّ ربتت على كتفهِ قائلة:
-آسفة ياإلياس، أنا اضايقت جدًا لمَّا شوفت حالة أمِّي..استدارَ إليها سريعًا يرمقها بغضب:
-دي أمِّي أنا كمان، على ماأظن مش هتخافي عليها أكتر منِّي...كلمات ماهي سوى كلمات ولكنَّها اخترقت صدرها كالرصاصِ المسموم، حدجتهُ بنظراتِ ملامة، ثمَّ هزَّت رأسها بأسف، مبتلعةً غصَّتها التي شعرت وكأنَّها أشواكًا مدبَّبة بحلقها، وهمست بتقطُّع رغم ثقلِ الحروف: 
-عارفة إنَّها والدتك، بس أنا بخاف عليها أكتر من أيِّ حاجة، لأنِّي معرفشِ أمّ غيرها..قالتها وتحرَّكت من أمامهِ سريعًا، ودموعها تفترشُ خطواتها، ولجت إلى مرحاضِ المشفى، تضعُ كفَّيها على فمها تمنعُ شهقاتها، ثمَّ هوت بمكانها تبكي بشهقاتٍ فشلت في منعها.. 

بينما توقَّف إلياس بجسدٍ منتفضٍ بعدما نطقت كلماتها، يتابعُ تحرُّكها بقلبٍ يتجرَّعُ الألمَ لما لفظتهُ بها، تحرَّك خلفها يبحثُ عنها ولكنَّه لم يجدها، قابلتهُ رؤى: 
-إلياس ماما فريدة عاملة إيه؟..تلفَّتَ حولهِ يبحثُ بعينيهِ عنها، وقعت عيناهُ على غادة وهي تجلسُ محتضنةً يوسف بجوارِ إسلام، تحرَّك إليها: 
-غادة فين ميرال؟..
تطلَّعت نحو الجهةِ التي تحرَّكت إليها ميرال قائلة:
-هيَّ مشيت من هنا، قالت خلِّي بالك من يوسف، جلست رؤى بجوارِ غادة تتلقَّفُ يوسف منها: 
-حبيب خالتو ماما سابتك لوحدك وراحت فين..رمقها إلياس بنظرةِ حادَّة:
-قومي شوفي أختك في الحمَّام ولَّا لأ، وبطَّلي كلامك التافه، ثمَّ اتجهَ بنظرهِ الى غادة و إسلام: 
-بابا لسة جوا ولَّا خرج؟..
-لا جوا..تحرَّك للداخل، فتحَ الباب ودلف، وجدَ والدهِ يحتضنُ كفَّها..
خطا إلى جلوسِ والده، وعيناهُ على والدته: 
-عاملة إيه دلوقتي؟.. 
رفعَ رأسهِ وحاورهُ بأعينٍ حزينةٍ حتى ظهرَ خطٌّ من الدموعِ بعينيه:
-قولي عملت إيه مع فاروق، ولسة إسحاق في الغيبوبة؟.. 
جذبَ المقعدَ وجلسَ بجوارهِ متنهدًا ثم تحدَّث: 
- فاروق مش هنخرج منُّه بحاجة، علشان كدا بقول لو حضرتك تشوف حدِّ يوصَّلنا لأيِّ خيط، عايز أعرف هوَّ في أنهي دولة بس..
اتَّجهَ بنظراتهِ إلى فريدة وأردفَ بقلبٍ حزين:
-مش هتوصل لحاجة، أنا متاكد إنِّ  الجهاز اتحرَّك أصلًا من وقتِ ماعرفوا، مستحيل يضحُّوا بيه، الخوف يكون وقع في إيد العصابات السياسية.. 

عند آدم.. 
خرجَ  من القاعةِ متَّجهًا إلى مكتبه، استوقفهُ صوتٌ مألوف:

"عامل إيه يا بني؟"

التفتَ آدم نحو مصدرِ الصوت، ليجدَ أمامه راجح، فنظرَ إليه بذهول:

"عمُّو راجح! خير، في حاجة ولَّا إيه؟"

لم يجبهُ راجح مباشرة، بل أمسكَ بذراعهِ وسحبهُ إلى داخل المكتبِ بخطواتٍ متوَّترة:

"في موضوع مهمّ لازم تعرفه، علشان تقوله لوالدك."

قطبَ آدم جبينه، وهو يضعُ حقيبتهِ فوق المكتب، ثمَّ استدارَ إليه بقلق:

"خير، إن شاء الله؟"

جلسَ راجح قبالته، تنهَّدَ ورسمَ الحزنَ  بصوتهِ قائلًا:

- "من يومين، روحت أنا وعمِّتك السويس..قالت لي إنَّها عايزة تزور أصدقاء وتفطر معاهم..وصلنا الظهر، وبعدها طلبت تتمشَّى على البحر، ما كنتش حاسس بحاجة غريبة وقتها، بس بعد شوية، عرفت إنَّها ركبت اليخت اللي كنت اشتريته لها في عيد جوازنا...ومن ساعتها، مرجعتش!"

حدَّقَ فيه آدم مصدومًا، بينما أكملَ راجح بصوتٍ مرتجف:

-"دوَّرت عليها في كلِّ مكان، لقيت اليخت وهيَّ مش موجودة، بس هدومها كانت هناك..شكلها نزلت تعوم، والموج كان عالي...وغرقت."

اتَّسعت عينا آدم، ونهضَ من مكانهِ مذهولًا، الكلمات وقعت عليهِ كالصاعقة:

-"يعني قصدك..عمِّتو غرقت؟! طيب، فين فرق الإنقاذ؟ واللي أعرفه إنِّ عمِّتو بتعوم كويس جدًا! وجثتها...مش المفروض تكون موجودة؟!"

أطرقَ راجح برأسهِ وأردفَ بصوتٍ متهدِّج:

- "فريق الإنقاذ بقاله يومين بيدوَّر... لقيوا جثة، بس من غير معالم واضحة..هيَّ في مشرحة السويس، وأنا عندي سفرية مهمَّة بكرة، وإجراءات الحكومة هتاخد وقت، أنا متأكد إنَّها رانيا...علشان كده يا بني، ياريت تكلِّم حد من زمايلك هناك يخلَّص الموضوع بسرعة، إكرام الميت دفنه."

شعرَ آدم بقلبهِ ينقبض، حاول التقاطِ أنفاسه بصعوبة، وهو يتمتمُ في ذهول:

-"إيه اللي حضرتك بتقوله ده؟!"

توقَّف من مكانهِ واتَّجهَ يستعطفه:
-الموت علينا حق يادكتور، لازم يابني تساعدني، لو اضطرِّيت تمشِّي الموضوع خاص من تحتِ إيدك أكون شاكر.. 
ظلَّ واقفًا بمكانهِ يتطلَّعُ إليه بصمتٍ متذكرًا حديثَ إلياس وفريدة عليه، تراجعَ إلى مقعدهِ يهزُّ رأسهِ ثم تحدَّث:
-هشوف وأبلَّغك.. 
بعد فترةٍ اتَّجه إلى مكتبِ والده، دلفَ إليه بعدما أذنَ بالدخول:
-آدم خير؟!
-عمِّتو رانيا ماتت.
هبَّ فزعًا من مكانهِ وتساءلَ بنبرةٍ مذهولة:
-إيه اللي بتقوله دا؟!! إزاي ماتت يعني، حادثة ولَّا إيه؟.. 
قصَّ له آدم ماصار، جمعَ أشيائهِ وتحرَّك للخارجِ بعدما أردف:
-لا دا اتجنِّن، يعني إيه أختي تموت وعايز يدفنها من غير ماأعرف!..

بشقَّةِ آدم.. 
خرجت من الحمَّامِ بعدما أخرجت مافي جوفها، احتضنت معدتها متألِّمةً وهوت بجسدها الثقيلِ على الأريكة، استمعت إلى طرقاتٍ قويةٍ على بابِ شقتها، اعتدلت بصعوبة، واستندت متَّجهةً إلى البابِ وقامت بفتحه: 
-هوَّ إنتي!! لو عرفت مكنتش تعبت وقومت لوحدة زيك...دفعتها سهام وتحرَّكت للداخل: 
-دا استقابلك لمرات أبوكي اللي هيَّ في مقام أمِّك..
-أمِّي مين ياحرباية ياخرابة البيوت، إنتي إيه اللي جابك بيتي أصلًا؟..ياله اطلعي برَّة مش مرَّحب بيكي.. 
اقتربت منها وهي تهمسُ بهسيسٍ مُرعب:
-تعرفي ياإيلين، إنتي أكتر شخص في الدنيا دا بكرهه، تعرفي ليه؟..علشان بسببك كنت هموت، بسببك جوازي من أبوكي اتلغى وأبويا اتفضح في الحتة، 
أمِّك لمَّا عرفت إنِّ أنا وأبوكي على علاقة حبِّت تنتقم منِّي وحملت فيكي، رغم الدكاترة منعوها من الحمل، إزاي تخلِّي أبوكي يتهنَّى..أكيد لأ، بس وحياتك موَّتها من القهرة، وإن شاء الله هتحصَّليها يابنتِ زهرة..قالتها ودفعتها بقوةٍ حتى اختلَّ اتزانِ إيلين وسقطت متأوِّهة، لتصرخَ بوصولِ مريم أختها التي شهقت ممَّا رأته، قامت بخلعِ حذائها وهجمت على سهام مع صرخاتها إلى أن ارتفعَ الصياح ليتجمَّعَ من بالمنزل..

قامَ أحمد أخ آدم بتخليصِ سهام بصعوبةٍ بعد انقضاضِ مريم عليها، تراجعت تسبُّهما تنظرُ إلى إيلين بشماتة على بكائها:
-يارب تنزِّليه زي ماأمِّك قهرتني وحرمتني من إنِّي أكون أم، يارب ابنك يموت يابنتِ زهرة.. 
هبَّت مريم من مكانها واتَّجهت إليها بعدما دفعت أحمد وجذبتها من خصلاتها: 
-وحياة رحمة أمِّي ماأنا سايباكي ياقذرة ياخرابة البيوت..صاحَ أحمد بغضبٍ يسحبها بقوةٍ ثمَّ أشارَ إلى سهام: 
-امشي ياله دلوقتي.. 

بشركةِ العامري.. 
بقاعةِ الاجتماعات كان يجلسُ يترأسُ الاجتماعَ يستمعُ إلى بعض الاقتراحاتِ للمشروعِ الجديد، دفعَ راجح الباب ودلفَ للداخل: 
-إنتَ مين يالا، علشان تعمل اجتماع وأصحاب رأسِ المال مش موجودين؟!.. 
اقتربَ منه أمنُ الشركةِ لإخراجه، ولكن أشار لهم يزن بالتوقُّف:
-سبوه، ثمَّ استدارَ إلى أعضاءِ المجلس: 
-آسف ياجماعة، هنأجِّل الاجتماع لوقتِ تاني..جُنَّ راجح واقتربَ منه كالمجنون:
-إنتَ بتقول إيه ياحيوان، ياحرامي، هيَّ فين اللي مشغَّلاك ماإنتَ جوز المدام.. 
-راجح ياشافعي، مش عايز أسمع صوتك، إنتَ واقف في ملكي واللي ليك تعالَ خده بالقانون، ودلوقتي اطلع برَّة طابق على صدري. 
قالها وهو يشيرُ الى رجالِ أمنه:
-الراجل دا ارموه برَّا، ولو حاول يدخل تاني اطلبوله الشرطة، تمتمَ بها واستدارَ يجذبُ سجائرهِ وتحرَّك إلى الشرفةِ ينفثُ رمادها باستمتاعٍ مع صرخاتِ راجح ومحاولاتهِ الإفلات من قبضةِ الامن، سحبهُ الأمنُ الى أن وصلَ إلى بابِ القاعة: 
-هموِّتك يايزن، اعمل حسابك ياجعان هحسرك على كلِّ أحبابك..

بفيلَّا الجارحي.. 
فتحت عينيها التي ثقُلت بالدموعِ تهمسُ اسمهِ بأنينٍ ينزعُ ضلوعه
- معقول طول الوقت مشغول، ومعرفتش تكلمني، ولا ناوي وترجع من غير ماتقولِّي، مسَّدت على بطنها واستأنفت حديثها:
-بابا وحشني أوي ياحبيبي، نفسي أرتمي في حضنه، معرفشِ ليه قلبي وجعني.. 
استمعت إلى طرقاتٍ على بابِ غرفتها.. أذنت بالدخول، دلفت ملك تحملُ كوبًا من العصير: 
-غرام، ماما عملت لك العصير دا وقالت لازم تشربيه، قطعَ حديثها دفعُ تمارا لبابِ الغرفة: 
-لا والله وبتخدميها كمان، اعتدلت غرام تنظرُ إليها باستفهام: 
-إيه اللي جاب البنتِ دي هنا؟!..استمعوا إلى صرخاتِ أحلام بالخارج، فنهضت من فوقِ الفراش رغم ترنُّحِ جسدها توقَّفت ملك أمامها:
-غرام رايحة فين إنتي تعبانة..سحبت روبها ترتديهِ وعيناها على تمارا: 
-خلِّي البنتِ دي تطلع من أوضتي ياملك، وخلِّي جدِّتك ماتجبش سيرة أهلي.. 
اقتربت منها تمارا عاقدةً ذراعيها وأردفت متهكِّمة:
-لا والله، بتطرديني من بيتي، دا بيت ماما، مش جربوعة زيك، قالتها واقتربت تسحبها من ذراعها تهدرُ بغضب ثمَّ دفعتها للخارجِ بعنف:
-أنا هعرَّفك يازبالة إزاي تقولي لستِّك اطلعي برة.. 
صرخت ملك بها ثمَّ صاحت على اسمِ والدتها التي هرولت إلى مكانهما، رغم كلماتِ أحلام، لطمةٌ قويةٌ من صفية على وجهِ تمارا بعدما وجدت غرام على الأرض تحتضنُ بطنها وتبكي بشهقات، وصلت أحلام على ضربها لتمارا، فاشتعلت نيرانُ الغضبِ الجحيمية، لتقتربَ منها كالأسدِ الذي يريدُ الانقضاضِ على فريستهِ صارخةً:
-مبقاش إلَّا الخدامين اللي يطلَّعونا من بيتنا، ساعدت صفية غرام على النهوضِ واتَّجهت بنظرها نحو ملك:
- اتِّصلي بدكتورة مرات أخوكي بسرعة..قالتها وتحرَّكت متجاهلةً صرخاتِ أحلام، مما جعلَ أحلام تصلُ إليها وتجذبها من ذراعها بقوة:
-إنتي إزاي تسبيني أتكلِّم ياصفية؟!..
نظرت إلى يدها التي تطبقُ بها على ذراعها، ثمَّ رفعت عينيها لتغرزها بمقلتيها قائلة:
-زمان كنت بحترمك علشان أرسلان، بس دلوقتي حرام عليَّا الاحترام لأمثالك، يالله خُدي بنتِ بنتك واطلعوا برَّة بيتي، بدل ماأخلِّي الأمن يطردكم.. 
تجمَّدت تنظرُ إليها بذهول لكلماتها التي وقعت على أذنها كعويل.. 

-الله الله، والله طلع لك لسان ياصفية..
ملك صاحت بها وهي تشيرُ الى غرام:
-ساعدي مرات أخوكي حبيبتي..
قاطعتها أحلام وهي تسحبُ ملك:
-مرات أخو مين ياختي، شكلك نسيتي إنَّها بنتِ الجارحي، إنَّما الواد اللي لبِّستيه لعيلة الجارحي اصبري عليَّا..دا أنا هلبِّسك الكلابوش ياصفية، وهثبت إنِّك أقذر ست، فوقي أنا مش فاروق.. 

-إيه اللي بتقوليه دا يانانا!! ماما صفية عمرها ماتعمل حاجة وحشة.. 

جحظت أعينُ صفية تجزُّ على أسنانها: 
-واحدة مريضة طول عمرها شايفة نفسها أعلى من اللي حواليها، لا، فوقي ياأحلام هانم، ملك بنتي أنا ومالكيش حق فيها، أنا زمان كنت بسكت علشان موضوع أرسلان بس دلوقتي الكلِّ عرف..

اقتربت خطوةً منها ورفعت رأسها تتطلَّعُ إليها بعيونٍ تنطقُ بالتهديد، وأردفت بصوتٍ حاد:
-اللي يقرَّب من ولادي هاكله بأسناني، وأوعي تفكَّري أنا ستِّ ضعيفة، يكفيكي شرِّ الستِّ اللي بيحاولوا يبعدوها عن ولادها وجوزها، أنا اسكندرانية ياأحلام، روحي اسألي عشيقك عن ستَّات اسكندرية؛ ويالَّة تعبتيني وأنا قلبي وجعني وصايمة ماليش في المناهدة..أشارت على الفيلا واسترسلت قائلة:
-الفيلا وكل أملاك فاروق واسحاق باسم ارسلان، يعني انت هنا مالكيش حق، وقبل ماتتشطري علينا، روحي عاتبي ولادك دا لو قدرتي ياأم فاروق واسحاق، اقتربت صفيه وهمست بأذنها 
-اسحاق هيفوق يااحلام، ويحاسبك، وحياة وجع قلبي على ابني أنه هيحاسبك وانا متأكدة من دا، نصيحة مني دوري على قبر لمي نفسك فيه 

ربتت أحلام بقوَّة على كتفها وهمست بفحيحٍ أعمى:
-وعد من أحلام ياصفية لأخليكي تبوسي رجلي باعتذار على اللي قولتيه، الصبر حلو..قالتها وصاحت باسمِ الخادمة: 
-شنطي في العربية طلَّعيهم أوضتي، قالتها بابتسامةٍ ساخرة حينما وجدت الذهولَ على وجهِ صفية..ثمَّ استدارت تجذبُ تمارا ومازالت تصرخُ بالجميع..

داخلَ غرفةٍ طبيةٍ مجهَّزةٍ بأحدثِ الأجهزة، علت أصواتُ أجهزةِ المراقبة للحالة، وقف الطبيبُ فوق رأسِ أرسلان، يتابعُ مؤشراتهِ الحيوية بعينينِ يقظتين، بينما تحيطُ به الممرضات، يراقبنَ أدنى تغيير..

-ما زال تحت تأثيرِ المخدِّر؟

أجابتهُ إحدى الممرضات بصوتٍ منخفضٍ لكنَّه قلق:

- نعم، سيدي، لقد أعطيتهُ الجرعة التي طلبتها، لكنَّه ما زال متأثرًا بالضرب..لقد فقدَ الكثيرَ من الدماء.

ارتسمت على وجهِ الطبيبِ ملامحَ التوترِ والقلق، ثم أمرَ بحزم:
-أريد مراقبةِ الحالة أربعة وعشرين ساعة؛ دلف أحدُ الأشخاص الذي يبدو على ملامحهِ أنَّه شخصًا ذو مكانة: 
-هل من مستجدِّات بحالته؟..هزَّ رأسهِ بعمليَّةٍ مجيبًا: 
-الآن لا يوجد مايقلق والحالةُ ستكون على مايرام..لا تقلق سيدي..
نظرَ بساعةِ يدهِ مردفًا:
-علينا التحرُّك قبل الصباح، هل هذا يُعدُّ خطرًا على حياته؟.. 
-لا أعلم ولكنِّي أتمنَّى أن يحدثَ تطورًا بحالته.. 
بعد عدَّةِ ساعاتٍ توقَّفت سيارةٌ أمام أحدِ  المباني السكنية، ترجَّلَ أحدُ الأشخاص وقامَ بحملهِ مع السائقِ إلى أحدِ الشقق، دلفَ بهدوءٍ وتمَّ وضعهِ على الفراشِ المجهَّزِ لحالته: 
-لابدَّ أن نغادرَ قبل أن يشكَّ بنا أحدهم.. 
أشارَ إليهم الشخصُ بالخروجِ مع دلوفِ الطبيبِ لفحصِ حالة أرسلان: 
-المركب ستغادرُ البلادَ فجرًا، هل نستطيعُ المجازفة؟..
-مستحيل سيدي، فحالتهُ خطرةً للغاية.. 

عند إلياس.. 
وقفَ في ردهةِ المشفى، بقلبٍ مفتَّتٍ بالوجع، ناهيكَ عن الإرهاقِ الذي حفر خطوطًا عميقةً على ملامحه، شخصت عينيهِ نحو الطبيبِ الذي وقف أمامهِ بنظرةٍ متأسِّفة، لم تحمل جديدًا، ثم أردف:

-الأمر بيدِ الله، للأسف الحالة زي ما هيَّ..

رفع عينيهِ التي أرسلت إليه سؤالًا يأملُ في أيِّ بارقةِ أمل، لكنَّه قُطعَ فجأةً برنينِ هاتفه، زفرَ بضيق، وتراجعَ معتذرًا للطبيبِ وسحب الهاتفَ من جيبه:

- أيوة يا بابا؟

على الطرفِ الآخر، أردفَ مصطفى بنبرةٍ جادَّة تحملُ شيئًا من القلق:

- تعالَ على المستشفى يا إلياس.

استقامَ في وقفتهِ سريعًا مع انتفاضةِ كلِّ خليةٍ في جسده، حتى شعرَ بتلاشي الأصواتِ من حوله، وقلبهِ يخفقُ بقوةٍ متسائلًا في تلهُّف:
-ماما كويسة يابابا؟
صمتَ للحظةٍ بدت كدهر، ثمَّ جاء صوتُ والدهِ مطمئنًا لكنَّه متعب:

- أيوة حبيبي، متخافش.

أغلقَ إلياس المكالمة دون أن يضيفَ شيئًا، ثمَّ ألقى نظرةً سريعةً على غرفةِ إسحاق من خلفِ الزجاج، يهمسُ لنفسه:
-حياة أخويا متعلَّقة بيك ياإسحاق، لو سمحت لازم تفوق..قالها ثم تنهَّدَ بثقل،  متَّجهًا نحو بابِ المشفى، عازمًا على المغادرة، لكن خطواتهِ تباطأت عندما وقعت عيناهُ على دينا..

خلعَ نظارتهِ ببطء، وكأنَّه يسحبُ بين أصابعهِ صبرهِ على تحملِّ مايمرُّ به، ثم قال بصوتٍ هادئ، لكنَّه محمَّلًا بألمٍ دفين:
- سلامته إن شاء الله..
أومأت دينا برأسها دون أن ترد..ظلَّ بينهما صمتًا مشحونًا لثوان، ثم رفعَ عينيهِ إليها يستعطفها بنظراتهِ مع حديثهِ المشحونِ بالألم:
- أستاذة دينا، محتاج منِّك خدمة لو سمحتي..
رفعت حاجبيها قليلًا، وهزَّت رأسها بالموافقة:
- اتفضل.
اقترب خطوة، ومازال مصوِّبًا نظراتهِ على وجهها:
- عايز تليفون إسحاق باشا ضروري.

تغيَّرت ملامحها،  لكنَّها أخفت ذلك بسرعة وهي تعقدُ ذراعيها أمام صدرها:

-وحضرتك مفكَّر إنِّي ممكن أدهولك يا حضرةِ الظابط؟
قالتها وهي تنظرُ إليه بثبات، لكن عينيها التقطتا أدقَّ التفاصيلَ في وجهه..الإجهاد المتراكم، العروقُ البارزة في يده، الطريقة التي شدَّ بها فكِّه..هذا الرجلُ ليس هنا بصفتهِ ضابطَ شرطة فقط، بل أخًا يبحثُ عن نصفهِ الآخر، هل ظلمهُ إسحاق مثلما أخبرها عن علاقتهِ بأرسلان..ظلَّت صامتةً بنظراتها، هزَّ رأسهِ بعدما وجد صمتها، رفعَ كفَّيه ومرَّر أصابعهِ في شعره، يزفرُ بقوة، كأنَّ الكلماتَ تخونه، لكنَّه قال أخيرًا بصوتٍ يحملُ يأسًا:

- عارف إنِّك هترفضي، بس أنا بحاول أوصل لأيِّ معلومة توصَّلني لأخويا لو سمحتِ، لو عارفة أيِّ حاجة قوليلي..

للحظة، خُيِّلَ له أنها ستقولُ شيئًا..بدا وكأنَّ هناك صراعًا في عينيها، كأنها تفكِّر في كلامه، ولكنها حسمت الأمر سريعًا، وألقت كلماتها كمن يغلقُ الأملَ للأبد:

- أنا معرفشِ حاجة، شكل حضرتك نسيت إنِّي مكنتش موجودة..

حدَّق فيها للحظات، كأنَّه يحاولُ اختراقَ عينيها، لكنَّه أدركَ أن لا جدوى..شدَّ على فكِّه، ثمَّ ارتدى نظارتهِ من جديد:

- تمام، آسف على الإزعاج.

بشركةِ العامري..
انتهى من الاجتماعِ الذي جعلهُ يقسمُ بداخلهِ أن يجعلَ تلك الشركة مثلما تركها العامري..استمعَ إلى طرقاتٍ على بابِ المكتب.. 
دلفت السكرتيرة الخاصَّة به: 
-فيه ورق عايز إمضى ياباشمهندس..نقرَ بالقلمِ على مكتبه ينظرُ إليها بصمتٍ ثم أردفَ متسائلًا: 
-إيه أكتر الدول اللي كانت بتتعامل معاكم؟..
-يعني إيه يافندم؟..استقامَ بجسدهِ متوقِّفًا ثمَّ استدارَ إلى وقوفها: 
-عايز أعرف أكبر المموِّلين للشركة، وابعتيلي المحاسب الخاص، والمسؤول عن إدارةِ المشروعات.. 
-أمرك يافندم، أيِّ أوامر تانية؟.. 
-لا..
هبعت لحضرتك المهندس عادل فورًا، قالتها وتحرَّكت للخارج.. 
بعد فترةٍ وصلَ إلى منزلهِ بترجُّلِ كريم من سيارته..
-حمدَ الله على السلامة ياكبير.
نزلَ من فوقِ درَّاجتهِ البخارية وخلعَ الخوذة وهو يبتسم: 
-أهلًا يادوك، عامل إيه، رجعت إمتى من البلد؟.
من ساعات قالها وهو يدلفُ للداخل.. 
-حمدَ الله على السلامة ياعم، شكلك هتفطر معانا ولَّا إيه، أوعى تكون عازم نفسك؟..خرجت إيمان على أصواتهم:
-حمدَ الله على السلامة..اقتربَ يزن يحتضنها من أكتافها ثم أردفَ بمشاكشة:
-ودي ليَّا ولَّا للدكتور ياإيمي؟.
تورَّدت وجنتيها قائلة: 
-إنتَ طبعًا ياحبيبي..
-لا والله، يعني بعتيني في أوَّل اختبار.
هزَّت كتفها بجهل..فضحكَ يزن يشيرُ إلى أخته:
-ياله حبيبتي جهِّزي السفرة واقع من الجوع 
-طيب اتِّصل بميرال ورؤى شوفهم اتأخَّروا ليه؟.
جذبَ المقعدَ وجلسَ عليه ثمَّ أشارَ إلى كريم: 
-اقعد يابني، مفيش حدِّ جاي، ميرال، طنط فريدة اتحجزت في المستشفى، هاكل وأعدِّي عليهم..
قطبَ جبينهِ متسائلًا بحيرة: 
-خير مالها؟..مسحَ على وجههِ ينفخُ بكفَّيهِ ثم تحدَّث قائلًا: 
-أرسلان ميعرفوش عنُّه حاجة، بقاله أسبوعين محدش عارف يوصلُّه..المهمِّ ياكريم عرفت توصل لحاجة في موضوع راحيل؟.. 
-راحيل سافرت بعد ماطلَّقتها بأسبوع الإمارات..بس هيَّ مش في الإمارات سافرت مكان تاني، وطبعًا مش هنعرف، أومأ متفهِّمًا..

عند إلياس.. 
جلسَ بمقابلةِ والدهِ وعيناهُ على والدته:
-الدكتور قالَّك حاجة؟..توقَّف مصطفى يشيرُ إليه بالخروج: 
-تعالَ نتكلِّم برة...
وصلَ إلى أحد الكافيهاتِ الموجودةِ بجوارِ المشفى، جلسَ يشيرُ إليه بالجلوس..
جلسَ بجوارِ النافذةِ يتطلَّع إلى أضواءِ النجومِ المنيرةِ بالسماء التي تغطِّي الكرة الأرضية قائلًا: 
-النهاردة زعلت ميرال منِّي يابابا، وهي متستهالشِ مني دا، حاسس إنِّي ضايع وبخبَّط في الكل، اختفاء أرسلان كسرني رغم إنُّه مش عشرة عمري، ولا اتربِّينا مع بعض، بس دابحني من جوا يابابا، وكمان رقدة أمِّي بين الحياة والموت، ضعفت يابابا..

تنهَّد مصطفى بصوتٍ عالٍ ثمَّ نطق: 
-إلياس السيوفي مش ضعيف، والواد اللي قاعد يولول زيِّ الستَّات دا مش ابنِ مصطفى السيوفي، فوق ياإلياس وشوف إنتَ مين وابنِ مين، مش إلياس اللي يهزُّه الريح، طول ماأخوك مالوش جُثة يبقى أملك في ربِّنا لازم يكون أقوى من كدا، أخوك مش هيرجع وإنتَ بتعدِّ النجوم، وأمَّك مش هتقوم وإنتَ بتشكي لها حالك، إنتَ راجل يالا مش عيل شوية ريح هتهدُّه..

سحبَ مصطفى نفسًا عميقًا ثمَّ زفره: 
-عارف إنِّي بقسى عليك بالكلام، بس ياحبيبي أنا مبحبش أشوفك ضعيف كدا، أخرجَ ورقةً من جيبه: 
-أرسلان المفروض يكون في الدولة دي، وفي المدينة المتشفَّرة دي، هتعرف توصلُّه؟.. 
-إن شاءالله يابابا، أنا بس كنت محتاج خيط أمشي وراه، بس ليه المدينة حروف متشبكة؟..
-إيه ياحضرةِ الظابط هوَّ أنا اللي هقولك ولَّا إيه، بس إنتَ ناسي حاجة مهمَّة أوي، إنَّك مينفعشِ تسافر من غير إذن، إنتَ ناسي وظيفتك؟.. 
-هقدِّم على إجازة وبكدا هعرف أتصرَّف..رفعَ فنجانَ قهوتهِ وارتشفَ بعضه:
-أتمنَّى تعرف تتصرَّف، متفكرشِ الموضوع هنا سهل، بالعكس هتواجهك مشاكل أكتر..
-سيبها على ربِّنا، واللي عند ربنا مابيخسرش..
-ونعمَ بالله ياحبيبي.. 

بالمشفى كانت تجلسُ بجوارِ النافذةِ تحتضنُ طفلها وتنظرُ بشرودٍ للمارَّة كالحاضرِ الغائب، جذبَ المقعدَ وجلسَ بمقابلتها: 
-سرحانة في إيه؟..
التفتت على صوتهِ ورسمت ابتسامة: 
-أهلًا حبيبي، عامل إيه؟..
رفعَ حاجبهِ يهزُّ رأسه: 
-أنا كويس، بس إنتي اللي مش كويسة، بقالي ساعة واقف بكلِّمك وإنتي مابترديش..
-آسفة مسمعتش..
فين إلياس؟..
نطقَ بها متسائلًا بعدما تلقَّف يوسف منها، تلفَّتت حولها وكأنَّها تبحثُ عنه ثمَّ ردَّت قائلة: 
-كان هنا من شوية، ممكن يكون عند ماما وعمُّو جوا..قطعَ حديثهما وصولُ إلياس:
-عامل إيه يايزن ؟..
-أنا كويس، كنت لسة بسأل عليك، جلسَ بجوارِ ميرال يمسحُ على وجههِ بإرهاق قائلًا:
-خير فيه جديد، قابلت راجح ولا حاجة؟.. 
-إيه اللي سمعته دا ياإلياس، هيَّ رانيا ماتت فعلًا؟!!
شهقت ميرال تطلَّعُ إليه بذهولٍ مردِّدة:
-ماتت، إزاي؟!..
تجمَّدت عيناهُ عليها قائلًا: 
-زعلانة عليها ولَّا إيه؟!!
لوَّحت عيناها بخطٍّ من الدموعِ ثم نهضت دون أن تجيبهُ متَّجهةً إلى يزن: 
-هدخل أشوف ما..توقَّفت عن تكملةِ النطق، وارتجفت شفتيها بغصَّتها المتألمةِ كالأشواكِ لتستطردَ قائلة:
-هشوف طنط فريدة وتاخدني في طريقك..
ارتجافةٌ عميقةٌ اجتاحت روحهِ من نبرتها المتهدِّجةِ بالبكاء، نهضَ من مكانهِ وتحرَّك خلفها دون إضافةِ أيِّ حديثٍ آخر مع يزن، وصلت إلى بابِ الغرفةِ وبسطت كفَّها تفتحُ البابَ بدموعِ عينيها التي فشلت في حجزها؛ وضعَ كفِّه فوق كفِّها وسحبها بهدوءٍ دون أن ينطقَ بحرفٍ إلى أحدِ الغرفِ التي تُحجزُ لوالدهِ للإقامةِ بها مرافقًا لفريدة.. 
دلفت خلفهِ تاركةً نفسها دون اعتراض، أغلقَ البابَ خلفهِ ثمَّ جذبها لأحضانهِ يعتصرها حتى شعرت بإذابةِ ضلوعها.. 
أخرجها يحتوي وجهها بين راحتيه، يتعمَّقُ بالنظرِ لغزالتهِ التي كانت غارقةً بدفءِ أحضانه:
-آسف..رغم أنَّها بسيطة وحروفٌ قليلة إلَّا أنَّها شعرت بأنها تزنُ حروفَ اللغاتِ جميعًا؛ وهي ترى ندمهِ الذي تجلَّى بملامحهِ ونبرتهِ المتألِّمة..
رفعت كفَّيها تمرِّرها على وجنتيه، وأردفت بصوتٍ متهدِّجٍ بالحزنِ الذي يكوي صدرها: 
-رغم إنِّي اتوجعت منَّك أوي بس خلاص مش زعلانة منَّك، كفاية عيونك دي..
أمالَ يقبِّلها بتمهُّل، أغمضت عينيها من فرطِ ماشعرت به وهي بين أحضانه، ولكن قبلاتهِ شعرت بأنَّ بها شيئًا مريبًا، وكأنَّه يحاولُ أن يبتعدَ بها عن مايحيطه، لم تعترض على ما يفعلهُ رغم أنَّه ليس من طبيعته، دفعتهُ بعدما فقدت أنفاسها حدَّ الاختناق..

تراجعَ معتذرًا يطبقُ على جفنيهِ ينهرُ حاله، اقتربت منه وعيناها تتفحَّصُ هيئته:
-إلياس إنتَ كويس؟..
هزَّ رأسهِ دون حديثٍ واستدارَ للمغادرة إلَّا أنها أمسكت كفِّهِ تحتضنُ ذراعه:
-مش عايز تقولِّي مالك؟..هوَّ أنا مش مراتك ولَّا شايف مش من حقِّي أعرف جوزي فيه إيه..

احتضنَ وجهها وطبعَ قبلةَ اعتذارٍ فوق جبينها ثمَّ أردف:
-ميرال أنا كويس، قلقان بس على ماما وأرسلان، ياله علشان نروَّح.. 
-إنتَ هتروح معايا؟..أومأ وتحرَّك للخارجِ قائلًا:
-هوصَّلك وأعدِّي ساعة على المكتب كدا، كنت طلبت من شريف يدوَّر على حاجة توصَّلنا بأرسلان..

بفيلا راجح.. 
بعد إعلانِ خبر وفاةِ رانيا، ومساعدةِ أعوانهِ ببيانِ الجثة، ذهبَ إلى زيارةِ ابنه، جلس بمقابلته: 
-عامل إيه ياطارق؟..
-حضرتك شايف إيه، قولت لي كام أسبوع وهخرَّجك، دخلت في سنة وزي ماأنا، ليه حضرتك ساكت؟!. 
-خلاص النقض اتقبل وإن شاءالله هتخرج في الجلسة الجاية، أنا محتاجك معايا، حمحمَ ثم أردف: 
-رانيا ماتت.. 
-إيه!..نطقَ بها مفزوعًا ثمَّ تساءلَ:
-إزاي يعني ماما ماتت!..وليه محدش قالِّي؟..
-اقعد يابنِ راجح وبطَّل تنطيط، ماتت من قرفها لأنَّها ستِّ طماعة وواطية، ومالهاش غالي.. 
-يعني إيه يابابا؟!
-يعني رانيا مش أمَّك ياروح أبوك، علشان تزعل عليها، افتكر انها السبب في رميتك هنا لولا خططها الهابطة مكنشِ زمانك مسجون..
جزَّ على أسنانهِ يضربُ فوق المنضدة الموضوعة أمامه: 
-أنا هنا بسبب ابنِ السيوفي والبنتِ اللي اسمها ميرال، قسمًا عظمًا لأموِّتهم لمَّا أخرج. 
-طارق ..صاحَ بها غاضبًا ثمَّ اقترب بجسدهِ مستندًا على الطاولة: 
-إحنا ورانا شغل، لا فاضيين لابنِ السيوفي ولا غيره، أبوك دلوقتي بقى المسؤول الأوَّل في مصر، وقريبًا هيكون في الشرق الأوسط، دلوقتي لازم نفكَّر إزاي نرجَّع حقِّنا من بنتِ العامري والصعلوك جوزها، عايزك تتكتك في الكام يوم دول إزاي أرجَّع مالي اللي اتسرق، اللي حضرتك كنت السبب فيه بعد ما كتبته لبنتِ الشحَّاتين.. 

نار تحرقُ كرامتهِ كلَّما تذكَّر ماصار له، وصراعُ الشياطينِ يضربُ داخل عقلهِ المريض وهو يهمسُ بهسيسٍ مرعب:
-كلِّ واحد هياخد حقُّه من اللي عملوه فيَّا يابابا، وأوَّلهم بنتك الحلوة.. 
قطعَ حديثهم الشرطي: 
-الزيارة انتهت..نهضَ راجح من مكانهِ بعدما سحبهُ الشرطي وهو يقول: 
-فكَّر في اللي قولته، وإن شاءالله خلال شهر واحد هتخرج من هنا. 

مرَّت الايامُ سريعًا إلى أن سافرَ إلياس إلى إحدى الدولِ..وخاصةً تلك المدينةِ التي وصل إليها بعد محاولاتٍ كثيرة.. 
ظلَّ يبحثُ ببعض الأماكنِ المشكوكِ بها، وصل خبرُ سفرهِ إلى فاروق الذي جنَّ جنونهِ وذهب إلى مصطفى: 
-إنتَ عارف إلياس سافر ورا أرسلان؟.. 
تطلَّع عليه بعدمِ فهم، اقتربَ فاروق وأشار بيدهِ محذَّرًا إياه:
-إنتَ كدا بتحطِّ الاتنين في خطر، اتِّصل بيه خليه يرجع فورًا، أرسلان هيرجع أنا متأكِّد، بس سفر إلياس ممكن يوقَّع الدنيا.. 
دقَّق النظرَ إليه بعيونٍ متسائلة:
-وإيه المشكلة في سفر إلياس؟..إحنا عدِّينا شهرين يافاروق باشا ومفيش أخبار جديدة، إنتَ مش فارق معاك بس أنا مراتي بتموت.. 
-غلط اللي بتعمله غلط، مراتك مش حاسة بحاجة، ويوم ماتفوق هتعيط شوية لأنُّه هيرجع، إنَّما هتعمل إيه لو فاقت والتاني مش موجود؟..
طالعهُ بنظراتٍ معترضة: 
-إلياس هيوصل لأخوه وهيجيبه دا لو عايش، إنَّما لو حضرتك عندك معلومة بغير كدا تبقى دي المصيبة فعلًا، وابني وقع في المصيدة.. 
هزَّ رأسهِ قائلًا:
-مش عارف أقولَّك إيه، بس ادعي ربنا أنُّه يرجع بالسلامة دا لو سبوه عايش أصلًا. 

أسبوعٌ آخر مرَّ والحالُ كما هو، مع تحرُّكاتِ إلياس بحذرٍ بحثًا عن أخيه، علم بوجودهِ أحدُ الأشخاصِ المساعدين لأرسلان، ذات ليلةٍ دلف لأحدِ المقاهي، وجلسَ يتناولُ مشروبًا ساخنًا بسبب برودةِ الجوِّ التي بدأت تجتاحُ المكان، اقتربَ منه أحد الأشخاصِ وجذب مقعدًا بمقابلتهِ مبتسمًا..وبدأ يلقي عليه حديثًا بلهجةِ تلك البلدة كأنَّه يعرفهُ منذ زمن..ضيَّق عينيهِ وحاولَ أن يستنبطَ شيئًا ممَّا يدور، إلى أن ابتسمَ وفعلَ كما يفعل، توقَّف الرجلُ يرتدي نظارته: 
-شكرًا لك، مذاقُ القهوةِ حقًّا رائع..قالها وهو يشيرُ للفنجانِ بطرفِ عينيه..
ظلَّت نظراتُ إلياس على فنجانِ قهوتهِ كشيفرةٍ أمامهِ يريدُ حلَّها، حتى توقَّف بعدما قرأَ اسمَ الشركةِ المصنِّعة لذاكَ الفنجان..ظلَّ يبحثُ عن أيِّ مكانٍ لهذا الاسمِ إلى أن عرقلَ أحدهم سيرهِ ودارت مناوشات بينهما، أدَّت إلى عراكٍ ولم يشعر بتلك الإبرةِ التي غُرزت بعنقه.. 

بتلك الأثناءِ حاولَ مصطفى الوصولَ إليه ولكن هاتفهِ مغلق، ثلاثة أيامٍ ولا يعلمُ عنهُ شيئًا..

دلفَ إلى الداخل، بأنفاسٍ متقطِّعةٍ تحت وطأةِ الألم، توجَّهَ بعينيهِ الذابلتينِ لوالده، الذي كان متشبِّثًا بكفِّها وكأنَّ روحهِ تتلاشى، اقتربَ بخطواتٍ متردِّدة، وكأنَّ قلبهِ يرفضُ أن يراها بتلك الحالة، وصل إلى والدهِ وربتَ على كتفه، وأردفَ  بصوتٍ واهن، محمَّلًا بكمِّ الألمِ والانكسارِ الذي يمرُّون به:

-بابا..وبعدين؟ إحنا المفروض نعمل إيه؟ عملنا إيه علشان نستحقِّ كلِّ دا؟ ليه الوجع دا كلُّه؟

رفع رأسهِ ببطء، كأنَّ كلَّ سنواتِ عمرهِ قد انسكبت فوق ملامحه..وعكست عينيهِ حزنًا عميقًا لا دواءَ له، ثم نطقَ بصوتٍ خافت:

متقولشِ كده، يا بني..أحيانًا، ربِّنا بيبتلينا مش علشان يعذِّبنا، لكن علشان يرفع عنا…الألم، رغم قسوته، ممكن يكون باب للفرج…حتى لو إحنا مش شايفين الحكمة دلوقتي..
هزَّ رأسهِ في ضعف، وطافَ على جسدها الشاحبِ بعينينِ زائغتين، وكأنَّ روحهِ ترفرفُ على حافَّةِ الانهيار..بلع ريقهِ بصعوبة، وكلماتهِ خرجت كأنَّها تستنزفُ آخر ما تبقَّى منه:
-اللي أعرفه إن الستِّ دي تعبت…شالت فوق طاقتها…واتحمِّلت وجع الكون كلُّه..

ساد صمتٌ يصرخ، ينزف، ينهار، بين ضلوعهم كوحشٍ لا يرحم..
إلى أن نطقَ جملتهِ وكأنَّه يلفظُ الشهادةَ حينما قال: 
وأنا عندي يقين أنُّهم هيرجعوا وقريب كمان حتى لو إسحاق فضل في الغيبوبة..هنعرف نوصلُّهم، استخدم نفوذك ولو مرَّة واحدة يابابا، حضرتك مابتعملشِ حاجة حرام، ولا بتخون بلدك.. 

بإيطاليا خرجت بعد انتهاءِ عملها، متَّجهةً إلى الطبيبِ للفحصِ بعد شعورها بأعراضِ الحمل، تسطَّحت على فراشِ الكشفِ بعدما أخبرت الطبيب بما تشعرُ به، قام بفحصها ثمَّ أشارَ إلى الممرضة: 
-اعتني بها..اعتدلت تزيلُ ذلك السائلَ بعد مساعدةِ الممرضة، ثم توجَّهت نحو المقعدِ تجلسُ بمقابلةِ الطبيب:
-يجب عليكي أن تعتني بطفلكِ أكثر من ذلك مدام راحيل.. 

رفعت رأسها ببطء، وتسمَّرت عيناها القلقتانِ على الطبيب، كأنَّها لم تستوعب كلماته، وتسارعَ نبضُ قلبها كالمتسابقِ بمارثون رياضي.. 

ابتسمَ الطبيبُ ابتسامةً هادئة، وأردفَ  قائلًا وهو ينظرُ إلى الملفِ أمامه: 
-"يجب عليكِ الاهتمام بنفسكِ، سيدتي، فالجنين يحتاجُ بعض العناية..." 

قطَّبت جبينها بجهلٍ للمرةِ الثانية وتردَّدت كلماتهِ في عقلها كتعويذةٍ سحريةٍ مستحيلة…ثمَّ تساءلت بصوتٍ متردِّد، وحروفٍ خرجت بصعوبةٍ من بين شفتيها: 
-"ماذا…ماذا تقصد؟" 

أغلقَ الطبيبُ الملفَّ ونظرَ إليها بابتسامةٍ مطمئنة، بعدما وجدَ قلقها البائن بملامحها، ونطقَ بنبرةٍ سعيدة، وكأنَّه يزفُّ لها خبرًا سعيدًا: 
-"مبروك، مدام...أنتِ حامل في شهرك الثاني، ألم تشكِّين." 

شعرت وكأنَّ الأرض تميدُ تحت قدميها..
ازدحمت صورُ تلك الليلةِ بعقلها، تردِّدُ في ذهنها..حامل؟! 

لم تشعر إلا بجسدها يرتجفُ قليلًا، وكأنَّ قوَّتها تخونها للحظة، رفعت يدها على بطنها دون وعي، تحدِّقُ ببطنها وكأنَّها تنتظرُ أن تشعرَ بشيء…بأيِّ دليلٍ يؤكدُ ما سمعتهُ للتو، ثمَّ رفعت عينيها مجددًا نحو الطبيب، نظرةً تحمل مزيجًا من الذهولِ والخوفِ والدهشةِ تكسو ملامحها، بينما تسلَّلت همسةٌ ضعيفةٌ من بين شفتيها: 
"حامل...؟!"
أغمضت عينيها بعدما هزَّ الطبيبُ رأسهِ دليلًا على صدقِ حديثه، حجزت دموعها تحت أهدابها بعدما تراجعَ الماضي بكلِّ آلامهِ وهمسه يتردَّد بأذنها بتلك الليلة، نهضت بترنُّحٍ تخطو خطواتٍ متعثِّرة ولم ترَ أمامها سوى صورتهِ بتلك الليلة بانفجارِ مشاعرِ كلاهما..استندت على الجدارِ بعدما اهتزَّ جسدها وكادت أن تفقدَ وعيها، لتهرولَ الممرضةَ إليها، ولكنَّها رفعت كفَّها قائلة:
-أنا على مايرام أشكرك..قالتها وتحرَّكت بساقينِ ثقيلتين، تسيرُ بالشوارعِ دون هدي، حتى وصلت إلى إحدى الشواطئِ تجلسُ أمام البحر، وهنا تركت انفجارَ عيناها تبكي بصوتٍ مرتفعٍ حتى جثت على ركبتيها وآاااه صارخة كادت أن تفقدَ بها حنجرتها..تضربُ بكفَّيها على رمالِ الشاطئ:
-لييييييه، ليه بيحصل معايا كدا..

عند يزن.. 
خرجَ من الشركةِ متَّجهًا إلى دراجته، شعر بحركةٍ خلفه، استدارَ سريعًا يلتفتُ حوله، وصلَ إليه أحدُ رجالِ أمنه:
-في حاجة يابيه، تحرَّك يزن من مكانهِ ذاهبًا إلى جهتهِ وأردف: 
-لا، بس خلِّي لم يكمل حديثهِ لتنطلقَ رصاصةُ الغدرِ تخترقُ جسدَ الرجلِ الذي توقَّفَ بمكانِ يزن ليهوى جسدهِ على الأرض، مع وصولِ باقي الأمن وتبادلِ الطلقاتِ النارية، بينما يزن الذي جثى على ركبتيهِ محاولًا إسعافَ الرجل، وصياحه:
-إسعاف بسرعة… 

بمنزل إلياس وخاصة بغرفة ميرال الذي يسودها الظلام 
جلست تحتضن هاتفها، مررت أناملها  التي ترتعش كحال شفتاها ترتجفان وهي تلامس صورته بأطراف أناملها، اغروقت عيناها بدموع لا تنضب، وخرج صوتها هامسًا، كأنها تحاكيه:

– حبيبي... انت فين؟ هونت عليك متعرفنيش؟ روحت فين يا إلياس؟

شهقة ممزقة أفلتت منها، شعرت بها تمزق صدرها ، وانسابت الدموع على وجنتيها بصمت قاتل، كأنها صارت منهكة حتى من البكاء. أخيرًا، رفعت هاتفها بتردد، تبحث عن اسم مصطفى بيد مرتجفة، ثم ضغطت على زر الاتصال، تتشبث ببصيص أمل.

رنّ الهاتف للحظات، بدت لها دهرًا كاملاً، قبل أن يأتيها صوته المبحوح، المثقل بالوجع:

- عمو مصطفى، مفيش أخبار جديدة؟

أطلق تنهيدة طويلة، وكأنه يبحث عن كلمات تهوّن عليها دون أن يخدعها، فقال بصوت مختنق بالحزن:

- هيرجع، حبيبتي... إن شاء الله هيرجع.

ضغطت ميرال أسنانها على شفتيها، تحاول كتم شهقاتها، لكنها لم تستطع، فخرج صوتها مرتجفًا، يفيض بالدموع:

- إن شاء الله...

أنهت المكالمة بيد مرتخية، كأنها فقدت القدرة على التمسك بأي شئ، أغمضت عينيها بقوة، ارتفع صوت يوسف وهو يبكي لييقظها من دوامة الحزن، فرفعت رأسها ببطء لترى رؤى تدخل الغرفة حاملة الطفل بين ذراعيها، بنظرات متبرمة.

- يوسف بيعيط وعايزك... هتفضلي قافلة على نفسك كده؟ وليه قاعدة في الضلمة؟

حدقت بها ميرال ثم بسطت ذراعيها إلى طفلها، احتضنته بقوة، دفنت وجهها في عنقه الصغير، وهي تشهق بين أنفاسه، كأنها تسحب رائحة زوجها،  تهمس بشفتين مرتعشتين
-حبيبي ريحة باباك فيك، جلست رؤى بجانبها، تنظر إليها بنظرات صامتة لبعض اللحظات، ثم نطقت بجملة أشعلت النار في هشيم روح ميرال الممزقة:

- أنا مش قادرة أفهم... إزاي إلياس بيحبك وماقالكيش هو فين؟ حب إيه ده؟

رفعت ميرال عينيها إليها ببطء، بنظرات مثل بحر هائج، يغلي بالغضب والقهر، بقيت صامتة لثوان، ثم اردفت بنبرة هادئة وصلت الى رؤى كأنها مميتة كالسهم المسموم:

- خلصتي كلامك؟

حاولت رؤى الرد، لكنها أشارت بيدها إلى الباب قائلة بصوت جليدي:

- أنا لما وافقت أقعدك معايا هنا، كان علشان أحس إن عندي أخت، علشان أحاول أشوف فيكي حاجة من غادة. رغم إن إلياس رفض، لكني قلت "أختي". رغم قلبك اللي دايمًا مليان ناحيتي بالغل، لكني تغاضيت. لكن تيجي تشككي في حب جوزي ليا؟ لا. دي حدودي. والباب اهو... لو مش عجبك كلامي.

تراجعت رؤى قليلًا بجلوسها تتلفت حولها وتمتم بكلمات غير منظمة
-أنا خايفة عليكي، يمكن إلياس بيدبر حاجة لراجح، مالت ميرال على يوسف، واحتضنته بقوة، كأنها لا تريد أن تستمع للمزيد، ثم رفعت عينيها إليها مجددًا، وقالت بصوت متحشرج:

-مش هسمح لأي مخلوق على وش الأرض يدخل بيني وبين جوزي. بيحبني؟ ليا لوحدي. حتى لو بيكرهني؟ ليا لوحدي. والآن... اتفضلي على أوضتك، أنا تعبانة، وماليش خلق للمناهدة.

لم تجد رؤى ما ترد به. فقط حدقت بها للحظات، ثم استدارت بصمت، تاركة ميرال تحتضن صغيرها وكأنها تخشى أن يسلبها القدر آخر ما تبقى لها.

عند إلياس.. 
رفرفَ بأهدابهِ عدَّةَ مرات، لقوَّة ِالإضاءة ثم اعتدلَ بعدما استفاقَ بالكامل، وجدَ أحدُ الأشخاصِ يجلسُ على مقعدٍ بجوارِ الفراش: 
- حمدَ الله على السلامة 
-إنتَ مين؟!
نهضَ من فوق مقعدهِ ينظرُ بساعةِ يدهِ:
-لازم نتحرَّك، ميعاد الطيارة بعد تلاتين دقيقة بالظبط.. 
-ممكن أعرف مين حضرتك؟..
-التفتَ إليه الرجلُ وأشارَ إليه ِبسبَّباتهِ وتشدَّق: 
-أخوك معاك على الطيارة، وكلِّ حاجة خلصانة، الوقت بيعدِّي ياحضرةِ الظابط، وياريت بعد كدا بلاش شغلِ التزوير، عيب دا حتى إنتَ ظابط يعني رجل قانون.

ضيق عيناه باستفهام مردفًا:
-أنا مش هتحرك من هنا من غير مااعرف انت مين؟! 
اقترب منه الرجل وحدجه بتحفز:
-إلياس ياسيوفي، ولا اقولك ياشافعي، ألحق الطيارة، قبل مايوصلوا لأرسلان 
الأمن مستنفر في كل مكان، مش عايز اقولك خسرنا ايه علشان نخرج من هنا،وأحمد ربنا أننا وصلنا لك قبل ماحد يوصلك 

اومأ له قائلاً:
-طيب ليه ارسلان ماقابلنيش بدل عارف اني هنا 
-اخوك في غيبوبة، وخرجناه من هنا على أساس جثة لأحد الأقارب لرجال أعمال...كدا اطمنت 
-لا ..عايز تليفوني، لازم اطمن !!
بسط كفيه بهاتفه وأردف:
-مينفعش تليفونك، ممكن تستخدم دا 
- اجابه إلياس بنبرة غاضبة
-وأنا بقول لحضرتك انا مش واثق فيك عايز تليفوني 
زم شفتيه وأخرج هاتفه يبسطه إليه
-اتفضل

-قالها وتحرَّكَ للخارجِ دون إضافةِ شيئٍ آخر. 

رفع الهاتف يفتحه إذ به يتلقى الكثير من الرسائل فتح اول رسالة قابلته 

عند اسحاق 
كانت تحتضن كفيه تقص له ماصار اليوم، ف منذ دخوله الغيبوبة، تجلس بجواره تقص له يومياتها بالكامل 
-اسمع ياسيدي، اخوك فاروق اتخانق من كام يوم مع مصطفى السيوفي، علشان إلياس سافر ورا ارسلان، بس تعرف يااسحاق مكنتش اعرف انهم هيحبوا بعض اوي كدا، سبحان الله عمر الدم مايكون مية..اه في حاجة كمان انا معرفتش فاروق ارسلان فين، لقيت الخرايط بتاعتك، بس مقدرتش اعمل حاجة بيها، خوفت علشان عارفة أنها مسؤلية كبيرة ..رفعت كفيها على خصلاته، ثم مررتها على ذقنه
-حبيبي ياله بقى افتح عيونك، بقالك كتيير اوي، اسحاق لازم تفوق، احلام هانم بتدور عليا زي المجنونة، خايفة اوي تيجي في أي وقت، حبيبي ممكن تموت حمزة، دي كانت بتقول أنه مش ابنك، وقالت هطلع شهادة طبية بأنك عميق، فاروق كتر خيره لحد دلوقتي، بيحاول يحمينا، بس انا خايفة، تخيل ابنك موجود في مكان انا معرفش غير اسمه، قالي دا المكان الوحيد اللي محدش يقدر يوصله، معرفش انت عارفه ولا لأ، بس انا شوفت الظابط المسؤل عن حماية ابننا اسمه جاسر الألفي، وكمان الحي باسم عيلته، اسم حي الألفي، على الرغم اني معرفوش، بس قلبي مرتاح أنه هناك، ولما اتكلمت مع الظابط حسسني بأمان غير عادي، يارب يكون احساسي صح يااسحاق، 
سحبت نفسا وزفرته وهي تحتضن كفيه، ثم رفعته ولثمته قائلة:
-معرفش اني بحبك اوي كدا، علشان خاطري لازم تفوق كلنا محتاجينك، ارسلان ممكن مايرجعش يااسحاق لو فضلت كدا 
اقتربت من أذنه تهمس بداخلها
-اسحاق ارسلان مخطوف، ومحدش عارف يوصله ممكن يموتوه، فوق علشان تنقذ ابنك، مش كنت دايما تقولي ارسلان ابني، ابنك بيموت دلوقتي ومفيش حد بينقذه..قالتها وتراجعت بجسدها بدموع بعدما فقدت الامل، تتذكر حديث الطبيب بأنها تحادثه
مرت عدة ساعات حتى غفت وهي تحتضن انامله، فتحت عيناها على حركة أنامله بين اصابعها، دققت النظر ظننًا أنها تحلم، ولكن حركة أنامله مرة أخرى جعلتها تضحك وتبكي بصوت مرتفع حتى وصل بكاؤها الى صرخات
-اسحاق فاق، فاروق اسحاق فاق.. قالتها بدخول صفية وفاروق إلى الغرفة

عند راجح..
جلسَ في مكتبه، يتأمَّل مشروبهِ المحرَّم في كأسه، يستمعُ إلى الموسيقى باستمتاع، أغمضَ عينيهِ للحظة، لكن أفاقهُ رنينُ الهاتف..
رفعَ الهاتفَ إلى أذنه يستمعُ باهتمامٍ كأنَّه ينتظرُ أحدِ الأخبارِ المهمَّة..

- العملية فشلت يا باشا...ورجل الأمن هوَّ اللي اتصاب.
تجمَّدت ملامحهِ لثوانٍ ثم ضغطَ بأسنانهِ على شفتيهِ وزمجر:
- فاشل...
أغلقَ الهاتف بحدَّة، وقذفهُ بقوةٍ على المكتب، نهضَ غاضبًا، واشتعلت عينيهِ بنيرانِ الغضب وهو يضربُ بقبضتهِ على سطحِ المكتب:
- شوية فشلة...أنا مشغَّل شوية فشلة..

قطعَ غضبهِ طرقاتٍ خفيفةٍ على الباب، ثمَّ دخلت الخادمة بتردُّد:
- فيه واحد برَّا عايز يقابل حضرتك، يا باشا.
لم يكلِّف نفسهِ عناءَ النظرِ إليها وهو يردُّ بنبرةٍ حادة:
- مش عايز أقابل حد، امشي من هنا..
استدارت الخادمة لتنصرف، لكن صوتَ خطواتٍ ثابتةٍ ملأ الغرفة، رفعَ راجح بصرهِ ليرى هشام يتقدَّمُ بثقة، يشيرُ للخادمة دون أن ينظرَ إليها:
- اعمليلي قهوة سادة.

أومأت الخادمة برأسها سريعًا وخرجت، بينما طافت عينا هشام بالمكتب، يتفحَّصهُ بنظرةٍ ساخرة، هزَّ رأسهِ بإعجابٍ مصطنع وهو يقول:
- حلو مكتبك يا راجح..عجبني ذوقك.

رفعَ راجح قدمهِ فوق المكتب، مائلًا بجسدهِ إلى الخلف، ناظرًا إليه ببرود:
- عايز إيه يا عطوة؟…ولَّا أقولَّك، يا هشام؟

أخرجَ هشام سيجارةً من علبته، أشعلها ببطءٍ وزفرَ الدخانَ بابتسامةٍ جانبية:
- هشام "بيه" يا راجح…بلاش تقلب عليَّ..

رفعَ راجح حاجبهِ ساخرًا، وقال بنبرةٍ لا تخلو من السخرية:
- بيه؟ وياترى البيه دا على إيه؟ قتل الناس، ولَّا خطفهم؟ ولا تجارةِ المخدرات والسلاح؟ ولَّا اللعب بعقولِ الشباب باسمِ الدين، يا سيادةِ البيه؟

تبدَّلت ملامحُ هشام في لحظة، وتصلَّبت عضلاتُ وجهه، واحتدَّت نظراتهِ وهو يضغطُ على أسنانهِ قبل أن ينطقَ بصوتٍ منخفض، لكنَّه مفعمٌ بالغضبِ المكبوت:
-راجح...

تعليقات



×