رواية صراع الذئاب الجزء الثالث (غابة الذئاب) الفصل الثامن
قاطعته صفعة قوية دوي صداها بين جدران الغرفة!
"أخرس، أنا أشرف و أنضف منك و الكلام ده توجهه لأخوك اللي كان كل يوم مع واحدة و الكاس مكنش بيفارق إيده".
تلقي الصفعة و جز علي فكه في لحظة هدوء خادعة، و في خلال برهة قبض علي عنقها بيدٍ واحدة، يحدق إليها بعينين يندلع منها الغضب كألسنة لهب آتية من الجحيم، كشر عن أنيابه و أخبرها من بين أسنانه:
"أنا ممكن دلوقت أموتك و أدفنك مكانك، لكن الموت ليكِ رحمة عن العذاب اللي هاتشوفيه علي إيدي".
كادت تختنق، فقام ابنها بالدفاع عنها، أخذ يدفعه عن والدته بيديه الصغيرتين:
"أبعد عن ماما، أبعد عن ماما".
ظل يردد الصغير تلك الجملة و يبكي في آن واحد، بينما لاحظ الآخر إنه إذا ظل ضاغطاً أكثر من ذلك سوف تموت لا محالة، تركها تلتقط أنفاسها و هاجمها السعال، تحول نظره إلي الصغير بغضب، فوجده يحدقه بنظرة مماثلة و قوية علي غرار عمره الصغير.
أبتعد قليلاً و أخبرها مُشيراً إليها بسبابته:
"لولا إن عندي حاجة أهم إن أضيع وقتي معاكِ كان زماني عرفتك إزاي تمدي إيدك عليا و تجيبِ سيرة أخويا علي لسانك".
لم يمهلها فرصة الرد عليه، جذب صغيرها عنوة و أتجه نحو الخارج بخطي سريعة، و بكل قوة لديها لحقت به قبل أن يوصد الباب، أمسكت بقميصه من الخلف صارخة:
"سيب ابني يا...
دفعها بعنف إلي داخل الغرفة فسقطت علي الأرض، فقد ترك الصغير و دفعه أيضاً لكن نحو الخارج و عاد هو إليها و يغلق الباب خلفه، يحدق إليها بنظرة لا تنذر بالخير بتاً، أخذت تتراجع إلي الخلف زاحفة، تخشي أن يفعل بها أذى، و طرقات صغيرها و صراخه منادياً عليها:
"ماما، أفتح، سيب ماما".
"واضح أنك فاكراني كنت بهددك و خلاص، أنا بقي هوريكِ".
دنا منها و جذبها من قدميها بقوة، جثي علي ركبتيه أعلاها و أخذ يقبلها بقوة و عنف، بينما هي لم تستسلم لإعتدائه الآثم عليها و قامت بضربه و إزاحته عنها، لم تفلح بأن تزحزحه لو إنشاً واحداً بسبب قوته الجسدية و مهاجمته الشرسة كذئب ضاري ينقض علي فريسته بلا رحمة.
صراخ الصغير مع طرقه الشديد وصل إلي الخدم و السيدة شيريهان التي نهضت بتوجس، تخشي أن ابنها قد أقترف أذى في علا و صغيرها.
بالعودة إلي علا، كانت تقاومه وقامت بخمشه في عنقه بأظافرها الطويلة، زمجر كالوحش و قبض علي يديها و أمسكهما في قبضة واحدة و بيده الأخري قام بخلع حجابها عنها فأنكشفت إليه خصلات شعرها البنية الناعمة و الذي أصبح أشعث بسبب جذب الحجاب بعنف،
مال نحو شفتيها و أخبرها بفحيح:
"أنتِ وجودك هنا عشان مزاجي و بس، و ابنك ده تنسيه خالص".
حدق إليها بشهوة ثم باغتها بتمزيق مقدمة ثوبها
"أحمد؟"
كان نداء والدته التي فتحت الباب للتو و وجدته في ذلك الوضع المشين، أدركت في الحال ما كان سوف يفعله، ترك علا و نهض دون أن ينظر إلي والدته التي رمقته بنظرة حادة قائلة:
"خد الولد و أسبقني علي المكتب".
نهضت علا سريعاً تمسك بتلابيب ثوبها التي مُزقت و بيدها الأخري التقطت حجابها من الأرض و وضعته بعشوائية علي رأسها، تصيح في وجه السيدة شيريهان:
"عايزين مننا إيه أنا و ابني حرام عليكم، أنا مش عايزة أنا و لا هو حاجة منكم، بس سيبونا نمشي من هنا".
حدقتها الأخري بنظرة زهو و ازدراء:
"إحنا مش هنأذي ابنك، هناخده نعمله تحليل و هانعرف الحقيقة قبل ما يتم إعلان الوراثة، يعني هاتفضلي هنا في أوضة الخدامين لحد ما الإجراءات دي تخلص، و لو اثبتت نتيجة التحليل العكس أنا بنفسي اللي مش هرحمك".
قالتها و ولت إليها ظهرها إستعداداً للمغادرة، لحقت بها علا بعدما وجدت لا مفر و ضاقت بها كل السبل، وقفت أمامها و بتوسل أخبرتها:
"و الله حمزة يبقي حفيدك و لما جيت لكم من سنين كان كل غرضي عايزاه يعيش زي أي طفل و يتنادي بإسم أبوه و يبقي من حقه يتعلم و كل ده كان لازم شهادة ميلاد، أنا لو طماعة كنت طلبت بحقه من زمان، و دلوقت أنا بقولك مش عايزة و لا ورث و لا فلوس، بس تسيبونا نعيش بعيد عنكم و في حالنا زي ما كنا عايشين".
نظرت إليها الأخرى ثم رفعت حاجبها و قالت:
"كله هيبان".
حدقتها علا بنظرة استعطاف و رجاء:
"أنا موافقة علي اللي حضرتك قولتيه، بس ممكن تسيبي لي ابني، محدش هيعرف يتعامل معاه غيري أنا".
نظرت إليها بإستهزاء و بسخرية سألتها:
"ليه هو مجنون؟".
ابتلعت الأخرى التهكم ثم أجابت:
"حمزة مريض بالتوحد".
و بعد أن تركت علا و ذهبت إلي المكتب، أشارت إلي ابنها للمجئ إليها، نهض الأخر و لبي أمرها لكن يتهرب من النظر إليها، بينما هي بدأت بتوبيخه بصوت خافت:
"اللي أنا شوفته من شوية ده ياريت ما يتكررش تاني".
أجاب بتردد:
" أنا كـ...
قاطعته بحدة:
"وفر كذبك، أنت ابني اللي مربياه و عارفة بتفكر في أي من نظرة واحدة، ياريت تخلي كل تركيزك و مجهودك في الموضوع اللي بلانا بيه باباك، أول حاجة تعملها تاخد الولد و تعمله تحليل DNA، عشان نتأكد إنه ابن أخوك و لا لاء".
"طيب كدة المفروض يبقي نوقف اعلان الوراثة لحد ما تطلع النتيجة!، يبقي ليه كلمتي المحامي يجي من الأول؟".
ردت بندم:
"للأسف أتسرعت، و بيني وبينك قلبي حاسس أبوك هيفاجأنا بكارثة عشان كدة طلب حضور الولد".
ابتسم أحمد بسخرية قائلاً:
"هايكون مثلاً كتب له كل أملاكه!".
أجابت والدته بحنق:
"أتوقع أي حاجة من أبوك، زي ما خلي أخوك زمان يبعد عشان يتجوز اللي إسمها روح".
تبدلت ملامحه في الحال من الابتسامة إلي النقيض تماماً
"خلاص أقفلي علي السيرة دي، أنا هاخد الولد دلوقت علي أقرب مراكز تحاليل، و ابقي اتصرفي مع الأڤوكاتو اللي جوه".
أوقفته و أمسكت بيده تخبره:
"خد بالك منه و عينك عليه، الولد أمه قالت مريض توحد و محدش بيعرف يتعامل معاه غيرها".
أومأ لها في صمت و علم الآن لما كانت علا تقوم بمهاجمته عندما أخذ منها ولدها، لاحت ابتسامة في نظرة عينيه و بداخله صوت شيطانه يخبره بالآتي
"كدة عرفت إزاي هخليكِ تيجي لحد عندي و بإرادتك يا علا!".
༺༻
في مطعم شهير أعلي ناطحة سحاب حيث تطل النافذة الزجاجية علي النيل مباشرةً، يقطع قطعة اللحم بالشوكة و السكين ثم غرس الأولي في القطعة و تناولها داخل فمه ثم أغلقه ليبدأ المضغ بإستمتاع
"واضح ذوقي المرة دي في إختيار الأكل عجبك".
ابتلع ما بفمه و أجاب:
"أنا علي فكرة من زمان و بعشق الإستيك المشوي، و لا نسيتِ أيام الجامعة لما كنت باخدك بعد المحاضرات و نروح علي أقرب مطعم!".
ابتسمت بتهكم و عقبت:
"طب كويس إنك لسه فاكر الذكريات دي".
ترك ما في يديه و حدق إليها بحاجبين كاد كليهما يلتقيان:
"هو أنا ليه حاسس بسخرية في كلامك؟".
نظرت نحوه عدة ثوان ثم تنهدت و قالت:
"مفيش".
رفع إحدى حاجبيه و أخبرها بغضب كامن:
"بلاش أسلوب التنقيط في الرد و ياريت تنجزي و تقولي فيه إيه؟".
استندت بساعديها أعلي المنضدة و أجابت:
"بصراحة كل ما أفتكر الأيام اللي كنت بتتكلم عنها دلوقت، ما بيجيش في بالي غير حاجة واحدة بس، و هي يوم ما خلتني أستناك أنت و أهلك و في الآخر ماجتش عشان بتتجوز بنت خالك، و بابا الله يرحمه لما تعب و مات من زعله و قهرته عليا".
زفر الأخر بضيق و تناول منشفة ورقية لمسح يديه ثم ألقاها بغضب علي المنضدة قائلاً:
"يعني كل واحد فينا سايب اللي وراه عشان نيجي هنا نستمتع بجو هادي و شاعري محتاجين نجدد فيه شوية من الروتين و التعب اللي بنشوفه في شغلنا، و أنتِ بكل بساطة بتنكدي علي الواحد".
تظاهرت بالبرود و قالت:
"يعني اللي قولته ده ما حصلش!".
عادت بظهرها لتريح علي المسند الخلفي للكرسي و أردفت:
"أنا بحب أفكرك كل فترة عشان أنا ذات نفسي عمري ما نسيت و لا هانسي".
جز علي أسنانه و سألها من بينها:
"و لما هو قلبك أسود أوي كدة من ناحيتي، و مش قادرة تنسي اللي فات، ليه وافقتي علي جوازنا من الأول!".
"نعم!".
صاحت بتعجب و أعين متسعة، ألتفت من حوله ليتأكد من عدم سماع المحيطين إلي صياح زوجته، أمرها بغضب:
"وطي صوتك الناس بدأت تاخد بالها مننا".
"حاضر هوطي صوتي، بس ياريت ما تجبش سيرة أي ذكري لينا من الماضي بتقلب عليا مواجع ما بصدق أعمل نفسي نسيتها".
"تمام يا دكتورة، أوعدك مش هاجيب سيرة أي حاجة قديمة".
قالها و نهض ليهم بالذهاب، أوقفته و سألته:
"أنت رايح فين؟".
أجاب بوجه عبوس:
"رايح التويليت و راجع".
ذهب و تركها بمفردها تزفر بضيق، لا تعلم لما تشعر بتلك الغصة التي تلاحقها كلما تأتيها ذكري من الماضي، أو ربما تغير الهرمونات لديها في ذلك التوقيت من الشهر يجعل حالتها المزاجية سيئة دون سابق إنذار و تصبح أكثر حساسية من أي كلمة أو موقف يحدث معها!
"و يا تري دكتورتنا العظيمة قاعدة لوحدها و سرحانة ليه؟".
انتبهت إلي صاحب الصوت، نظرت نحوه في الحال فأبتسمت علي الفور و نهضت لتصافحه:
"آسر، أزيك؟".
بادلها المصافحة و سألها:
" تمام الحمدلله، أومال فين چو؟".
أشارت إليه نحو الممر القريب منها و أجابت:
"دخل التويليت و جاي دلوقت، هاجر معاك و لا جيت لوحدك؟".
وضع يديه في جيبي بنطاله:
"معاها تليفون بتكلمها منة بنت خالتكم بتأكد عليها ميعاد الفرح".
وضعت كفها علي جبهتها تردد:
"يا الله، ده أنا نسيت فرح منة ده خالص من دماغي، خالتو عزمتني من شهر و نسيت حتي أقول ليوسف".
"خلاص أنا هاخدها أوصلها بكرة و هاعدي عليكِ أخدك معانا، إيه رأيك؟".
ابتسمت بإمتنان قائلة:
"طبعاً موافقة، شكراً جداً".
هناك زوج من العيون الحادة تراقب ذلك المشهد من بعيد، فقد خرج للتو من المرحاض و يمسك بالهاتف حيث جاءت إليه مكالمة هاتفية و أجاب، بينما عيناه ما زالت تتأمل ابتسامة زوجته و هي تتحدث مع صديقه و الذي كان يضحك أيضاً.
بالعودة إليهما، تذكرت الحين أمر قدومه إليها صباحاً فسألته:
"ألا قولي صح، أنت الصبح لما جيت لي المكتب قولتي لي إن بعت لك رسالة و بقولك فيها تعالي المكتب ضروري، إزاي و أنا ما بعتش الكلام ده خالص، غير علي ما أتذكر كنت نايمة".
أصاب ملامحه الوجوم فقال حائراً:
"إزاي!، أنا بصراحة أفتكرتك عايزاني في حوار بخصوص لوچي".
"أنا جيت فتحت الرسايل عندي ما لقتش أي شات بيني و بينك برغم كنت فاكرة كويس بعت لك قبل كدة أسألك عن حالة كنت بعالجها عملت عندك عملية قبل كدة".
أومأ لها و عقب:
"أيوة أنا فاكر كويس المحادثة دي، عموماً ممكن يكون الواتس بيخرف زي الفيس اللي كل شوية يزاولني بإشعارات و أدخل أشوف ألاقيها منشورات قديمة و كان جايلي إشعارات منها قبل كدة كذا مرة".
ضحكت و قالت:
"الحمدلله أنا مريحة دماغي من السوشيال ميديا، أخري واتس عشان بتواصل مع الحالات اللي بتابعها، أكتر من كدة مفيش".
"و الله أنتِ كدة في راحة".
تنهدت و عقبت بحزن دفين:
"و مين فينا مرتاح يا آسر، التعب ورانا ورانا".
"ألف سلامة عليكِ من التعب يا حبيبتي".
كان صوت يوسف و يجذبها من خصرها و يحاوطها بذراعه، و في ذات اللحظة يحدق آسر بنظرة مبهمة لم يدرك الأخر منها شيئاً و أردف:
"رب صدفة خير من ألف ميعاد يا دكتور آسر".
أجاب الأخر بشبه إبتسامة:
"علي رأيك فعلاً، ده لو كنا متفقين نتقابل مكنش هيحصل، النصيب خلاني قولت أخد هاجر و نتفسح شوية بعد ما ودينا الولاد عند حماتي، قولنا نيجي هنا نتعشا، أصلهم بيعملوا أحلي إستيك مشوي مش هتلاقيه في أي حتة تانية غير هنا".
نظر يوسف إلي علياء ثم عاد ببصره إلي آسر و قال:
"اه فعلاً هنا بيعملوه حلو جداً، كنت لسه واكل منه حالاً".
حدق زوجته بنظرة أصابتها بالحيرة و الخوف معاً، قائلاً لها بأمر:
"يلا هانروح".
أشار إليه أسر نحو زوجته التي تقترب نحوهم:
"هاجر جاية أهي، رايحين فين، خلينا نسهر سوا مع بعض".
أومأ له الأخر بشبه إبتسامة:
"خليها في وقت تاني، يلا يا حبيبتي".
قالها و ذهب جاذباً زوجته من يدها خلفه، و عندما وصلت هاجر سألت زوجها:
"إيه ده هم مشيوا ليه كنت عايز أسلم عليهم".
رفع كتفيه و أجاب بإقتضاب:
"معرفش".
و في ساحة الإنتظار، فتح باب السيارة لها آمراً إياها:
"أدخلي".
"فيه إيه يا يوسف، بتعمل تصرفات غريبة و تحرج صاحبك و تمشي و دلوقت متنرفز عليا من غير سبب".
بماذا يخبرها عن سبب غضبه الناتج عن إندلاع شرر شكوكه، و التي أصبحت مسيطرة علي عقله و يرفضها قلبه الذي يحذره من تلك الهاوية التي علي وشك أن يلقي بنفسه داخلها فيصبح صريع أفكاره، حينها لن يجد سوي الندم و لا سبيل إلي الغفران قط.
صاح بغضب ليجعلها تكف عن طرح تلك الأسئلة الهالكة:
"قولت أدخلي".
في ثوان كانت داخل السيارة، تحدقه بتوجس، كما شعرت بالخوف لأول مرة من ردة فعله التي لم تجد لها سبباً واضحاً، ما زالت تجهل لما هو غاضب، فكان الصمت سيد الموقف و خير ما حدث في تلك اللحظة العصيبة.
༺༻
أقترب الشروق علي الظهور، و كانت بجوار ابنتها تلمس جبهتها من حين لآخر، نظرت في ساعة الهاتف و الوهن يتملك منها، جسدها يريد الراحة، و كيف لها أن تنعم بها بعد أن علم زوجها ما كانت تخفيه!
بينما هو بعد أن عاد من المشفي و أطمئن علي صغيرته، ذهب إلي غرفة مكتبه و ظل داخلها، يقف خلف زجاج النافذة، ينفث دخان سيجارته و يراقب شروق الشمس التي تزداد أشعتها تدريجياً، يخترق ضوئها الزجاج و يتسلط علي عينيه ذات النظرة الحادة حالياً.
بالعودة إليها، انتبهت إلي دخول المربية، اقتربت نحوها قائلة بصوت خافت حتي لا توقظ الصغيرة:
"صبا، قومي يا حبيبتي نامي في أوضتك و أنا هخليني جمبها أخد بالي منها و لو فيه أي حاجة هنادي عليكِ".
نهضت الأخري و تتجنب النظر إليها مباشرة حتي لا تري إلتهاب جفونها من كثرة البكاء، كلما تذكرت نظرته في المشفى بعد أن علم إنها تخدعه، التزمت حينها الصمت لا تملك الشجاعة الكافية بأن تبرر له لما فعلت ذلك، فهي أكثر مَنْ يحفظون خصاله عن ظهر قلب، تدرك عاقبة كذبها و خداعها، يُخيل إليها العديد من السيناريوهات عن ردود أفعاله مقابل ما أقترفته في حقه، لديها يقين لا يشوبه أدني شك بأن القادم سوف يكون الأسوأ لا محالة و عليها أن تتحمل عاقبة فعلتها إلي أن يمنحها الغفران.
ولجت إلي الغرفة بتردد تظن إنه بالداخل، وجدت الفراش شاغراً بل و مرتب، يبدو لم يخطو هنا منذ أن عادوا من المشفى، ها هي أول القصيدة الإبتعاد، داهمتها نوبة بكاء من جديد، وضعت يدها علي فمها لتمنعها و ظلت تأخذ شهيقاً و تطلق زفيراً حتي هدأت.
و بعد أن انتظمت أنفاسها اتخذت قرارها الحاسم و الأخير، و هو الذهاب إليه و تتحدث معه بكل هدوء.
غادرت الغرفة و نزلت علي الدرج ثم سارت إلي الغرفة حيث يوجد، طرقت الباب و لم تجد رد، فتحت الباب و ولجت فقابلها رائحة نفاذة لدخان سجائر.
وقعت عينيها عليه، يقف كالجبل الساكن يحيطه هدوء مخيف، داخله بركان مليئ بالحمم التي تستعد إلي الإنفجار في لحظة ما
دقات قلبها تسبق خطوات قدميها و رجفة يديها التي تتشابك معاً، وقفت علي مقربة منه، ابتلعت ريقها و استعادت رباطة جأشها لتبدأ في التحدث إليه و عينيها تنضح بالندم:
"قصي؟".
كان صمته أبلغ من إجابته عليها، و مازال يقف مولياً إليها ظهره لا يريد النظر إليها، يخشي أن يخرج لها أسوأ ما فيه دون وعي منه، فهو الآن تحت سطوة غضبه الذي علي وشك أن يبلغ ذروته، ابتلعت غصتها ثم تحدثت من جديد:
"أنا مش جاية أبرر اللي عملته و لا أدافع عن نفسي، و راضية بأي حكم هتقوله، بس قبل ما تاخد مني أي موقف عايزاك تعرف أنا...
"برة"
بتر حديثها بتلك الكلمة، لم تستسلم رغماً عن الدموع التي أبت الأسر داخل رماديتيها، انهمرت علي خديها في التو
"لازم تسمعنـ...
"برة".
صاح بصوت بلغ عنان السماء، و جعلها انتفضت ثم تراجعت بضع خطوات إلي الوراء، ألتفت لتعود أدراجها فأوقفها قائلاً:
"من اللحظة دي ملكيش معايا كلام نهائي، ياريت تلتزمي بكدة ده لو كنتِ لسه باقية علي آخر خيط ما بينا".
أنتهي من إلقاء كلماته التي كان تأثيرها أقوي من إطلاق الرصاص، أخترقت قلبها قبل أذنيها، سار نحو المكتب و أخذ سترته و ألقاها علي ساعده ثم غادر الغرفة عابراً أمام عينيها، لم ينظر حتي إليها بطرفة عينه، لكن علي يقين كيف حالتها الآن و الصدمة التي جعلتها كالجماد دون حراك، لا يتحرك بها سوي دموع الندم.
༺༻
بعد أن حسمت قرارها و هو أن عليها الإبتعاد لعله يشتاق إليها، تقف أمام الإطار الكبير المعلق علي الحائط، صورة من يوم الزفاف تجمع كليهما، إذا دققت النظر سوف تري أن السعادة تنضح من عينيها هي فقط بينما عيناه يغلفها نظرة باردة كما هو الحال حتي الآن.
انسدلت من عينها عبرة، كيف تحملت جفاء مشاعره منذ سنوات، تغدقه بحنانها و عطائها بلا حدود، فما هو الذنب الذي أرتكبته لأجل أن يعاملها هكذا!
قامت بمسح العبرة من وجنتها و ذهبت إلي الغرفة لتفتح الخزانة، أخرجت حقيبة كبيرة ثم وضعتها علي الفراش، وقفت أمام ثيابه المعلقة علي المشجب و أخذت تستنشق رائحة عطره التي تفوح منها، تناولت إحدى قمصانه و خلعت منه المشجب لتأخذه معها و تحتضنه كأنه هو عندما تنام، قد بدأت بطيه فوقع منه شيئاً معدنياً وقع من الجيب، نظرت إلي هذا الشئ لتكتشف إنها حلقة معدنية تحتوي علي مفتاحين إحداهما كبير و الأخر صغير.
تذكرت علي الفور عندما رأته من قبل يغلق الغرفة الخاصة بتلك المفاتيح، كما كان يمكث بداخلها لساعات، كلما سألته لما يمنعها و يمنع صغاره من دخول تلك الغرفة، كانت إجابته واحدة و هي يوجد بها ملفات و أوراق هامة خاصة بعمله و لا يريد لأحد أن يعبث بها.
ظلت تنظر إلي المفتاح ثم إلي الساعة لتجد إنه مازال مبكراً علي موعد عودته من العمل، و ها هي عزمت علي كشف ما يخفيه عنها كما أخبرها حدسها بأن داخل تلك الغرفة الإجابة عن جميع الأسئلة التي تفتك برأسها كل يوم.
ذهبت في خطي مسرعة، توقفت و ترددت قبل أن تدس المفتاح في فتحة القفل، أخذت شهيقاً و أطلقته زفيراً، دست المفتاح و قامت بفتح الباب، عندما وطأت قدمها داخل الغرفة شعرت بصقيع تحول إلي رجفة أصابت فؤادها و جميع خلايا جسدها، أغمضت عينيها و قامت بفتحها، بحثت عن زر الإضاءة و ضغطت عليه، أنكشفت لها جميع الأركان، غرفة مكتب تشبه التي توجد في الشركات، ذهبت و جلست علي الكرسي الجلدي، فتحت الدرج الكبير وجدت أوراق فقامت بغلقه، قامت بفتح الدرج الجانبي وجدته موصد بمفتاح، نظرت إلي المفتاح الأخر الصغير و أدركت إنه الخاص بهذا الدرج، بالفعل نجحت في فتح الدرج فوجدت صندوق خشبي مزخرف بالفضة، أخذته و وضعته أعلي المكتب، فتحته و قلبها يخفق بقوة، و ما أن وقع بصرها علي داخل الصندوق كانت الصاعقة!
صور تجمع زوجها بزوجته الأولي، لأول مرة تراها، شقراء جميلة ذات قوام ممشوق، صور كثيرة تخلد ذكري لهما فوق اليخت تارة و علي شاطئ البحر تارة أخري بثياب فاضحة، لم تتعجب كما تعلم هي أجنبية، لكن أكثر الصور التي اوجعت قلبها هي نظرات السعادة و الحب التي يحدق بها زوجته الأولي، صورة يقبلان بعضهما أسفل برج إيفل و صورة أخري يعانقها و ثالثة يحملها في وسط أعشاب خضراء و رابعة يرتديان ثياب ثقيلة و يحاوطهما الجليد، ذات الإبتسامة في كل صورة تثبت لها كم كان سعيداً مع سيلينا علي غرار ما هو معها منذ أن تزوجته، و إذا بها تحدق في الصور انتبهت إلي زجاجة عطر و أسفلها قطعة حرير مطوية بعناية، قلم حمرة ذات ماركة شهيرة.
تناولت الزجاجة بعينين جاحظتين، ذات الزجاجة التي يجلبها إليها دوماً و يطلب منها في كل لقاء بينهما أن تتعطر، تذكرت في ليلة الزفاف
«مشهد من الذاكرة»
"ممكن تحطي من البيرفيوم ده؟".
ابتسمت بخجل و أخبرته:
"ما أنا جبت كتير ليه أشتريتها؟".
نظر إليها برجاء و نظرة تقرب إلي التوسل قائلاً:
"أنا بحب أوي النوع ده أوي".
تناولت من يده الزجاجة:
"طالما بتحبه أوي كده، هغرق نفسي بيه ديماً".
نثرت الكثير منه عليها، و بمجرد أن أستنشقه بقوة و كأنه يتنفس الأكسچين قام بجذبها بين ذراعيه و أخذ يقبلها بنهم.
«عودة إلي الوقت الحالي»
أمسكت قلم الحمرة و قامت بفتحه، نفس اللون الأحمر القاتم الذي يحبه دائماً أيضاً أن تطلى به شفتيها، و أخيراً مدت يدها إلي قطعة الحرير و أخذتها من داخل الصندوق فأنسدلت لتكتشف إنها قميص نوم أرجواني!
༺༻
تجلس خلف المكتب شاردة في الفراغ، تتحدث إليها مساعدتها عن خطة يوم المعرض التي سوف تقدم فيه لوحاتها الفنية، كان عقلها في زاوية فكرية أخري، كثير من الأفكار تراوضها في آن واحد و مشاعر متناقضة تهيمن عليها، تشتاق إليه و عندما تتذكر أمر زواجه من أخري تشعر بالنقيض، تشعر بالحب و الكراهية، تريد القرب و البعد معاً، ودت أن لو يكون أمر قلبها بيدها لكانت تنعم بالراحة.
"مدام كارين؟، يا فنانة؟".
انتبهت إلي نداء الأخري و أجابت بحدة:
"نعم؟".
ترددت في الإجابة:
"إيه رأي حضرتك في اللي قولته لك من شوية؟".
عقدت الأخري ما بين حاجبيها و قالت:
"روحي دلوقتي علي مكتبك و لما أروق شوية نبقي نتكلم، خلي الـ office boy يعملي فنجان قهوة سادة".
نهضت الفتاة و أومأت لها:
"أمرك يا فندم".
أطلقت زفرة و ترجع خصلاتها المحيطة لوجهها خلف أذنيها، نظرت نحو لوحة مغطاة بقطعة قماش، نهضت و سارت نحوها، جذبت القطعة و ألقتها، لوحة لم تكتمل بعد.
اللوحة عبارة عن إمرأة تجلس في زاوية و تضم ركبتيها إلي صدرها، تتساقط من عينيها دمعة تلمع كبريق نجمة في السماء.
أمسكت الفرشاة بيد مرتجفة لتكمل الرسم، سبقتها يد رجولية سحبت منها الفرشاة و يخبرها صاحبها بصوته الرخيم:
"اللوحة دي تتقطع و تترسم من أول و جديد بطريقة صح".
قام بدس الفرشاة في لون أسود و قام برسم علامة خطأ علي اللوحة بأكملها
استدارت الأخري إليه و حدقت نحوه بغضب:
"أنت مين؟، و مين سمح لك تدخل عليا المكتب من غير إستئذان؟".
ترك اللوحة و حدق إليها بعينيه الصغيرتين يعلوها حاجب كثيف، مد يده ذات العروق البارزة للمصافحة، يعرف عن نفسه لها:
"مهند عبدالرحمن، مهندس ديكور و مدير مكتب لوتس".
"أهلاً و سهلاً بحضرتك".
مدت أطراف أناملها، فوجدته قبض علي يدها بقوة، جذبت يدها و ابتعدت بتوتر، فسألته:
"يا تري إيه سبب الزيارة؟".
وضع يديه في جيوب بنطاله و أشار لها بعينيه نحو المكتب:
"هنتكلم علي الواقف كدة، و لا دي المعاملة الطبيعية للضيوف!".
أشارت إليه علي مضض و يبدو عليها التوتر:
"اتفضل".
جلست خلف مكتبها و تبعها بالجلوس علي الكرسي أمام المكتب، تنحنح و بدأ في الحديث:
"أنا كنت باعت إيميل علي البريد الخاص بالجاليري لطلبية لوحات مناظر طبيعية و سيرالي، ردت عليا الـ assistant و المفروض متفق معاها علي ميعاد الإستلام الأسبوع اللي فات، بعت لها تاني و مالقتش رد و حضرتك بالتأكيد عارفة إن مش كل العملاء بيتمتعوا بالصبر الكافي، ده غير الضرر اللي بتعرض له".
نظرت إليه بشبه ابتسامة و قالت:
"بعتذر جداً عن التأخير، كان عندي شوية ظروف خلتني معنديش مقدرة أتابع بنفسي الطلبيات اللي بتيجي سواء علي الميل أو غيره، لكن أوعدك في خلال يومين هاتكون كل حاجة جاهزة إن شاء الله، و هابعتها لك لحد عندك، أي أوامر تانية؟".
ظل ينظر إليها لثوان في صمت ثم أجاب:
"اه فيه".
أجفلها بإجابته و التي لا تخلو من نظراته التي تتفحص كل إنشاً بها، يبدو إنه أيضاً علم بما يدور داخل عقلها، أردف:
"ممكن تشرفيني في إفتتاح الجاليري بتاعي الأسبوع الجاي، هو خاص بالمنحوتات، و يبقي شرف ليا فنانة مبدعة زي حضرتك تيجي بنفسها تحضر الإفتتاح".
أخرج من جيب سترته الداخلي ظرفاً صغيراً و و وضعه أمامها:
"أتفضلي الـ invitation، هستناكِ".
أومأت إليه و اجابت بإقتضاب:
"إن شاء الله".
نهض قائلاً:
"ياريت ماكُنش سببت ليكِ أي إزعاج".
نهضت أيضاً:
"و لا يهمك".
"بالنسبة للوحة عايزة منك ترسميها بنظرة مصور عشان تقدري تظبطي الزاويا صح، و كمان جسم البنت محتاج منك تفاصيل عشان توضح أكتر، أهم حاجة في أي عمل فني سواء في الرسم أو الديكور، الإهتمام بالتفاصيل، لأنها بتفرق أوي في الشكل النهائي للعمل".
كادت تجيب علي نقده و توجيهاته، توقفت عندما سمعت صوت مساعدتها و هي تتوسل إلي احدهم في الخارج
"لو سمحت يا أستاذ يونس، المدام قالت ممنوع المقابلة".
صاح الأخر بغضب:
"هو أيه اللي ممنوع، أنتِ أتجننتي!، أنا هقابلها يعني هقابلها، أوعي من طريقي أحسن لك".
لم تستطع الأخري أعتراضه، بينما كارين بالداخل ذهبت لفتح الباب
"إيه اللي بيحصل...
حدقت طليقها بحدة ثم نظرت إلي المساعدة و أشارت إليها نحوه:
"مش قولت ممنوع دخول البني آدم ده هنا!".
استشاط الأخر غيظاً من تلك الإهانة، جز علي أسنانه و تفوه من بينها:
"البني آدم ده ليه إسم بيتنادي بيه".
عقدت ساعديها أمام صدرها و رفعت حاجبها الأيسر لتخبره بنظرة ازدراء:
"و أنا مش طايقة حتي انطق اسمك و لا عايزة أشوف وشك، أتفضل يلا من هنا".
باغتها بالقبض علي عضدها بقوة جاذباً إياها إليه:
"مش هامشي و هاتسمعيني، بالذوق و العافية هاتسمعيني".
خرج مهند من الغرفة علي صياح يونس و رأي ما يحدث، لم يعط أي فرصة ليعرف من هذا الذي يتعدي علي كارين
"نزل إيدك عنها يا حيوان".
و صوب له لكمة قوية أصابت وجهه و جعلته يختل توازنه و وقع علي الأرض، صاحت كارين بخوف و اقتربت منه لتطمئن عليه، نهض و أبعدها جانباً و الغضب يعمي عينيه، رد له الضربة، تشابك الإثنان فصاحت كارين بأمر مساعدتها:
"اندهي علي الـ security بسرعة ".
جاء الحارسان، أبعد كل منهما كل واحد علي حده، فأردفت:
"معلش يا أستاذ مهند، حضرتك بالتأكيد فهمت غلط، بإذن الله الطلبية هاتكون عندك بعد بكرة، نورت الجاليري".
أخرج الأخر محرمة من جيب سترته ليجفف بها دماء جانب فمه، جذب ذراعه من قبضة الحارس و قال:
"أوكِ، ما تنسيش ميعاد الإفتتاح هستناكِ".
قالها و غادر تاركاً يونس يستمع إلي هذا الحوار و تندلع من عينيه نيراناً تحرقهم جميعاً أحياء
"مين ده يا كارين هانم و كان بيعمل جوه إيه؟ ".
تجاهلت سؤاله، رفعت سبابتها أمام وجهه لتحذره:
"خليك في حالك و ملكش دعوة بيا، ما تنساش إن أنا بقيت طليقتك مش مراتك عشان تسأل براحتك!".
جز علي أسنانه في محاولة كظم غضبه، نظر إلي الحارسين و الفتاة ثم إلي كارين و قال:
"عايزك في موضوع مهم و هامشي علي طول ده لو مش عايزة مشاكل".
اختارت الحل الأمثل لعلها تتخلص من إصراره و ربما شئ ما داخلها يخبرها بأن تستمع إليه و الحنين يجذبها نحوه و التأمل من ملامحه التي اشتاقت إليها و لم يتركها في أحلامها بتاً.
أشارت إليه للدخول إلي غرفة المكتب، ولج إلي الداخل و اتبعته، جلس علي الكرسي و قال:
"واقفة عندك ليه؟، تعالي أقعدي".
"أنا مرتاحة كدة".
قالتها و تستند بـ ظهرها علي الباب ، أطلق زفرة نابعة عن صبره الذي أوشك علي النفاذ ثم لوح لها بيده:
"تعالي يا كارين، أنا مش هاجي جمبك ما تخافيش".
ترددت في الأمر قليلاً، ثم ذهبت لتجلس خلف المكتب و في تأهب للنهوض إذا أقترب، رفع إحدى حاجبيه و قال بتهكم مبتسماً:
"فكرك يعني المكتب اللي بتتحامي وراه يقدر يمنعك عني!".
حدقته بوجه متجهم و بحدة قالت إليه بأمر:
"إنجز يا يونس قول اللي عندك، أنا وقتي أغلي أضيعه في حاجة تافهة".
تحولت ابتسامته إلي ضيق فقال:
"شكراً علي ذوقك".
شعرت بالحرج، تهربت من النظر إليه و أصرت علي أسلوبها الحاد معه:
"العفو".
"قبل أي كلمة هقولها عايزك تعرفي أقسم بالله ما حبيت و لا هاحب حد غيرك، و آسيل دي مجرد مساعدة إنسانية، هي كانت متجوزة من واحد عايشة معاه بره مصر و جوازه منها كان تحت التهديد و أول ما عرفت تطلق منه هربت علي مصر، ملهاش غير أخ واحد و مسافر برة، كسر مدة الإقامة و هربان من حكومة البلد اللي هو فيها و مش عارف يجي، آسيل جت لجأت ليا عشان مكنش معاها فلوس و لا ليها مكان تقعد فيه و خايفة طليقها يوصلها و يخطفها و يتجوزها غصب عنها".
ابتلع ريقه و التقط أنفاسه ليسطرد:
"عرضت عليا نتجوز جواز علي ورق، عشان تكون في عصمة راجل و بالتالي طليقها ما يقدرش يجي جمبها".
رفعت زاوية فمها جانباً بتهكم و قالت:
"قومت مطلع الشهم اللي جواك و قولت أنت أولي بيها من أن تجوزها لحد تاني، طبعاً ما هي كانت الإكس بتاعتك أيام الجامعة و بتغير عليها أو يمكن الميه رجعت لمجاريها من جديد، كمل باقي التمثيليه السخيفة اللي جاي تضحك بيها عليا".
"أنا لا بمثل و لا بضحك عليكِ، و كل اللي قولتيه ده مفيش حرف منه صح".
نهضت و بغضب ضربت بكفيها علي زجاج المكتب:
"ده بأمارة بقي لكم ست شهور متجوزين، لاء و كمان حامل منك!، روح أضحك علي حد تاني غيري".
نهض الأخر و صاح بدفاع و إنكار:
"و ربنا ما بضحك عليكِ، و هي مش حامل مني، و الله ما لمستها".
و بصراخ هيستيري:
"كداب، قوم غور من وشي، ده أنا لو رجع بيا الزمن تاني لما كنا عند المأذون هطلق منك تاني و تالت و رابع كمان".
رفع كلا يديه قائلاً:
"ممكن تهدي و تبطلي صريخ، إحنا بنتكلم بالعقل، بلاش اللي بتعمليه ده".
"هو أنت خليت فيا عقل!، ده أنا عملت المستحيل عشان أكون ليك، اتهنت و أتضربت بالقلم و استحملت عشانك، سيبت كل حاجة و كان ممكن أخسر أخويا و كل ده برضو عشانك، و أنت بكل سهولة ضربت كل ده في عرض الحيط و عمال تبرر عملتك السودة بحجج ما تدخلش دماغ حد من ولادك".
اقترب منها و بتوسل يخبرها:
"طب عشان خاطر ولادنا إديني فرصة أصلح كل اللي عملته، هي أول ما هتولد أخوها هايرجع هاطلقها و أسلمها له، يعني الموضوع كله تلات شهور مش أكتر".
"أنت يا مجنون يا إما بتستهبل، مين دي اللي هتوافق تطلقها طيب بالنسبة لأبنكم؟".
تفوهت بسخرية لاذعة، رد قائلاً:
"أقسم بالله ما ابني، ده ابن طليقها".
شهقت و حدقته بأعين كادت تخرج من محجريهما:
"أنت تقصد إنها كانت حامل منه و أنت أتجوزتها!، عارف ده يبقي حرام يا فنان".
"هي مكنتش تعرف إنها حامل غير بعد أسبوعين من جوازنا".
كان رده سريعاً مما سبر أغوارها، مدت ذراعها للأمام و بإصبعها تشير نحو الباب:
"أطلع برة".
"كارين إسمعيني".
صرخت بكل قوة و بجنون:
"قولت لك برة، أنا بكرهك يا يونس، بكرهك، بكرهـ...
داهمها ألم قلبها و لم تتحمل أكثر من ذلك ففقدت وعيها، ألتقطها سريعاً بين ذراعيه صارخاً برعب:
"كارين!"
༺༻
"ألو يا تيتا الأولاد كويسين؟"
تتحدث في هاتفها من داخل سيارة الأجرة التي أنطلقت من أمام إحدى مراكز التجميل الشهيرة
اجابت الجدة:
"ايوه يا حبيبتي، يزيد و سيف لسه نايمين و قصي قاعد بيكتب الواجب بتاعه".
"ما تخلهوش يسهر كتير، و يدخل الحمام قبل ما ينام".
"حاضر يا حبيبتي، ألا قولي لي ماله صوتك، أنا كنت عايزة أشوفك و أقعد معاكِ شوية بس لاقيتك مستعجلة و أنتِ بتديني الولاد و نزلتي جري، فيه حاجة أنتِ كويسة؟".
"مفيش يا تيتا، انا بس في العربية مش عارفة أتكلم".
"ما تكذبيش عليا يا دنيا، طالما قولتي مفيش يا تيتا يبقي مخبية حاجة و حاجة كبيرة أوي كمان".
انسدلت دمعة هبطت علي خدها، سرعان تلقتها بطرف أناملها و أزالتها:
"معلش مضطرة هاقفل معاكِ دلوقتي، أنا تقريباً وصلت هابقي أكلمك بعدين مع السلامة".
أنهت المكالمة و قالت للسائق:
"أيوه البيت هنا".
قامت بدفع الأجرة و ترجلت من السيارة، و في دقائق كانت داخل منزلها، ظلت تنظر إلي كل ركن تستعيد الذكريات، القليل منها يتسم بالسعادة و الأغلب كان الألم عنوانها، ألم الوحدة و البعد في ظل قربه، تعيش معه و ليست معه في آن واحد، كان معها بالجسد و غائب بالروح، و كأنه عالق في ملكوت آخر قد أنكشف لها في هذا اليوم.
مرت أكثر من ثلاث ساعات، عاد من الخارج كالعادة يفتح باب المنزل بالمفتاح خاصته، تفاجئ بالظلام يعم في أرجاء المنزل و هدوء مريب، لكن هناك ضوء خافت ينبعث من غرفة مكتبه، تذكر إنه أوصدها بالمفتاح الخاص بها في أخر مرة دلف داخلها، خفق قلبه علي الفور و ذهب ليري من بالداخل، و في طريقه ينادي علي زوجته:
"دنيا؟، دنيا؟".
لم يجد إجابة، و عندما وصل إلي الغرفة ضرب أنفه رائحة عطرها القوية، وقعت عينيه و قلبه كاد يتوقف عندما رآها، أغمض عينيه ربما يتوهم، كيف هي و متي جاءت و أين زوجته الآن؟
فتح عينيه مرة أخري ليصتدم بصره برؤيتها، تجلس علي المكتب، تضع ساق فوق الأخري، خصلات شعرها الشقراء تخبئ جانب وجهها و بشرتها البيضاء أكثر ما يميزها، ترتدي قميص النوم الأرجواني، لما تجلس هكذا و كأنها أحدى التماثيل الأغريقية المنحوتة.
حاول جمع شتاته، و مازال قلبه يخفق بقوة و كاد يتوقف، ابتلع لعابه ليستطيع النداء عليها بصوت قد فاض به الشوق و العشق:
"سيلينا؟".
استدارت ببطئ و تنظر إليه لتهبط فوق رأسه بصاعقة جعلت خلايا جسده تنتفض حينما أخبرته بالحقيقة المريرة:
"لاء، دنيا مراتك".
نزلت من فوق المكتب و وقفت أمامه تسطرد:
"مراتك اللي ما عرفتش الحب غير لما دخلت حياتها، مراتك اللي بتصونك في غيابك قبل وجودك، مراتك اللي كل ما تكون بين إيديك تحس إنها زي الهم التقيل علي قلبك، اللي من كتر حبها فيك بقت زي الكفيفة، ما شافتش حقيقتك أو يمكن مكنتش عايزة تشوفها عشان كانت عايشة في وهم الحب".
اقترب منها قائلاً و صدرها يعلو و يهبط:
"دنيا أنتِ فاهمة غلط خالص".
مدت كفها في مواجهته ليتوقف في مكانه:
"خليك مكانك، و بلاش تلف و تدور في الكلام، مش ده قميص النوم اللي محتفظ بيه من ريحتها!".
أشارت إلي ما ترتديه، أمسكت بزجاجة العطر من فوق المكتب و أردفت:
"مش ده البرفان اللي كل ما يخلص تشتري لي منه أون لاين مخصوص، و تطلب مني أرش منه وقت ما بنكون مع بعض!، مش ده قلم الروچ اللي بتخليني برضو أحط منه عشان بيفكرك بشفايف الهانم اللي محتفظ لحد دلوقت بصورك معاها!".
رفعت كل ما ذكرته و قامت بألقائه علي الأرض أمامه:
"أنا كنت مجرد سد خانة أو لعبة تلهيك عن شوقك ليها، طيب ليه أتجوزتني و أنت بتحبها؟، ليه طلقتها مادام مش قادر تنساها؟".
ابتلع غصة عالقة بحلقه و عبرات عيناه متجمدة مثل قلبه البارد، ألقي عليها صدمة أشد لعنة من الصدمات الأخري:
"أنا ما طلقتهاش".
غرت فاها، أجهشت بالبكاء في صمت، سألته بقلبٍ قد تمزق إلي أشلاء:
"كمان؟".
نظر إلي أسفل، لم يملك الشجاعة للنظر إليها و هو يخبرها بهذا:
"يوم ما قابلتك بالصدفة، كانت هي هربت، كنت بدور عليها في الشوارع لحد أنتِ ما ظهرتي في طريقي، محاولتش من بعدها أدور عليها تاني لأن كنت خايف لو لاقيتها وقتها كان ممكن قتلتها و أنتحرت".
"ياريتني ما شوفتك و لا قابلتك يومها، أنا كل ما أعيد شريط حياتي معاك أتجنن، إزاي أستحملت كل ده معاك، إيه اللي خلاني أتحمل جفاك و برود مشاعرك".
شهقت ببكاء و جالت بعينيها نحو زجاجة العطر و قلم الحمرة فسألته مرة أخري:
"و أنا من عبطي و سذاجتي كنت بفرح أوي و بعملك اللي بتحبه، أغرق نفسي بالبرفان عشان بتحب تشمه عليا، أتاريك بتتخيلها هي، تصدق بالله أنت أحقر بني آدم شوفته في حياتي".
اقترب منها و كاد يعانقها:
" دنيا...
"أبعد عني إياك تلمسني".
صرخت بها بعد أن هبطت علي وجهه بلطمة دوي صداها بين جدران الغرفة، وضعت يديها علي فمها غير مصدقة ما أقترفته للتو، رمقها بغضب و أطبق شفتيه، وصل إلي أذنيها صوت اصطكاك أسنانه
ابعدت كفيها و حدقت إليه بازدراء:
"لو تعرف أنا شايفاك في نظري إيه دلوقت كان زمانك فعلاً أنتحرت، و لا أقولك أستني لما تلاقي المدام اللي هربت منك".
يستمع إلي إهانتها إليه، يكور كلا قبضتيه حتي ابيضت مفاصل أنامله، يأمر من بين أسنانه:
"اسكتِ يا دنيا".
صرخت بسخط قائلة:
"مش هاسكت، بقي لي سنين ساكتة و كاتمة في قلبي، و دي اللحظة اللي هقول فيها كل حاجة قبل ما أمشي و أسيبك".
وضع يديه خلف ظهره و سألها بجمود و كأن لم يحدث شئ:
"و مين هيسمح لك تمشي من هنا؟".
ابتعدت إلي الوراء:
"أنا، هاسيب لك شقتك و هاطلقني، و هاخد ولادي و هاربيهم".
حدق إليها بتحدي و حسم:
"مش هاتخرجي من باب الشقة و مفيش طلاق، و وريني هاتعملي إيه".
"بلاش تتحداني يا كنان و تخليني أكرهك أكتر ما كرهتك، أوعي تفتكرني هخاف منك، أنا خلاص مش هيعيش معاك دقيقة واحدة كمان".
في لحظة جذبها من يدها و يده الأخري جذبها من خصلاتها، تأوهت من الألم، فقال لها بتهديد جلي:
"ده أنتِ اللي بلاش تقفي قدامي أحسن لك".
"هاتموتني عشان ما أهربش زيها، طيب علي الأقل هي بتحبها، لكن أنا ما أفرقش بالنسبة لك، طلقني بالمعروف بدل ما هلجئ لأسلوب مش هيعجبك".
نظرات التحدي و التغير الطارئ الذي قامت به ذكره بالأخري عندما كانت تفعل المثل، غلت الدماء في عروقه و عقد العزم أن لا ينهزم في تلك المرة، جذبها بيد و الأخري يقترب من الباب و المفتاح معلق داخل القفل
"الأولاد فين؟".
تحاول التملص منه، فزاد من قبضته، تأوهت مرة أخري:
"عند تيتا".
"حلو أوي، ما تزعليش أنتِ بقي من اللي هاعمله"
أدركت ما يقصد و هو وصد الباب عليها و جعلها حبيسة داخل تلك الغرفة، قامت بكل قوة دفعه و جذب ذراعها ثم دفعته في صدره بكل قوتها، ركضت إلي الخارج، نهض ليلحق بها، و حين خرج من الغرفة وجدها تصفق باب غرفة النوم في وجهه و قامت بوصده من الداخل، ذهب اتجاه الباب و أخذ يطرق بكل قوته، فهو الآن في ذروة غضبه:
"افتحي يا دنيا، افتحي بدل ما أكسر الباب".
كانت تبحث عن ضالتها و هي تفكر في أمر واحد، شخص لم تلجأ إليه من قبل و حان الوقت بأن ينقذها من هذا المجنون بالخارج، وجدت هاتفها علي طاولة الزينة، ركضت نحوه ثم ألتقطته، قامت بالإتصال عليه في الحال، انتظرت ريثما يجيب و عينيها صوب الباب الذي يهتز من دفع كنان له بجسده.
أجاب أخيراً:
"ألو؟".
ردت بتوسل و خوف:
"ألحقني يا قصي بيه".
༺༻
"أريد أن أعلم لما أنا أسيرة هنا؟، أخرجني أيها الوقح".
تصرخ بها من خلف قضبان حديدية، و التي ألقي بها داخل تلك الزنزانة المظلمة، منذ أن قام بأمر رجاله بأسرها
تقدم منها الحارس ذو الجسد الضخم، يأمرها بتعنت:
"أخفضِ صوتك اللعين يا عاهرة".
و ما أن نطق بتلك الجملة باغتته رصاصة في منتصف رأسه جعلتها شهقت بخوف و تراجعت و هي تري من قام بذلك.
يقترب من الزنزانة بخطوات تدب الرعب في قلبها، فهي تعلم عنه الكثير و خاصة الجانب المظلم لديه، وضع سلاحه في جيب معطفه الداخلي، أشار إلي الحارس الأخر نحو القفل، علي الفور قام الحارس بفتح القفل، ولج إلي الداخل بينما هي تلتصق بالجدار، تحدق إليه برعب و تسأله بتوجس:
"هل أتيت لتقتلني؟".
وقف أمامها و أستند بكفه ذو القفاز الأسود علي الجدار الصخري:
"لو كنتُ أريد قتلك، ما كنتِ تقفين أمامي الآن ".
سألته بنظرة ينبع منها فن الإغواء:
"و لما أنا هنا؟".
أستند بكفه الأخر و اقترب بشفتيه جوار أذنها:
"لقد أقتحمتِ قلعة الزعيم بل و قمتِ بتصويب سلاحك نحوه، فلابد من عقاب أمام الجميع حتي لا يتجرأ أحدهم علي التفكير حتي مثل فعلتك".
رفعت كفيها و وضعتهما علي الفراء الأسود المحاط بتلابيب معطفه:
"لم تتغير فلاد، ما زالت تتمتع بقوة و ذكاء خارق".
أمسك كلا رسغيه بقبضتيه القويتين، يحدق إليها بتحذير آمراً إياها:
"كُفِ عن ما تحاولين الوصول إليه، أنا ليس كلاوس الذي خر صريعاً بسبب حبك الخادع إليه، أتحسبين أن لا أعلم شئ مما حدث!".
في لحظات تحولت نظرة الإغواء إلي الحزن و دموع سرعان تجمعت و بدأت تهبط علي خدها:
"شقيقك لم يحبني يوماً، كنت بالنسبة إليه مجرد شئ من ممتلكاته، لا تعلم ماذا فعل بي قبل أن أهرب منه و أفر إلي مصر".
ابتعد و عقد ما بين حاجبيه، يسألها بإهتمام:
"ماذا فعل؟".
جلست علي المقعد الصخري و ضوء الشعلة الخارجي يصل إلي منتصف وجهها، دموع عينيها تومض كالبريق في السماء و هي تتذكر ما حدث...