رواية حان الوصال الفصل الخمسون 50 بقلم امل نصر


 رواية حان الوصال الفصل الخمسون بقلم امل نصر 

ترجَّلت خلفه من السيارة التي كانت تُقِلّهما، يسحبها بيديه لتدخل معه إلى داخل مبنى عملها القديم، حيث كانت عاملةً على إحدى آلات تفصيل الملابس. أما اليوم، فقد تغيَّرت صفتها إلى ما هو أعلى وأرقى؛ فهي اليوم زوجة صاحب المصنع.
وكأنه درب من الخيال قد تحقَّق على أرض الواقع؛ من عاملة بسيطة تجمع قوت يومها هي وإخوتها بصعوبة، إلى سيدة المكان.
كان في استقبالهما صباح، التي طغت على ملامحها الفرحة والاعتزاز ببهجة، وكأنها ابنتها التي أنجبتها، رغم حرصها على مراعاة المقام.
—”حمد الله على السلامة، نوَّرتوا الدنيا يا رياض باشا.”
—”ده نورك يا صباح. إنتي بقى عاملة إيه؟” كان هذا حديث رياض قبل أن تباغته زوجته وتخطف المرأة في عناق أدهشها، وهي تضمها باشتياق قائلة:
—”وحشتيني يا صبوحة، وحشتيني، وحشتيني!”
بادلتها الأخرى العناق على استحياء، حتى بحَّ صوتها من التأثر:
—”وأنا، وأنا والله… ربنا العالم يا بنتي… آه، قصدي يا ست هانم!”
—”مفيش هانم عليكي يا صبوحة! إيه الكلام اللي بتقوليه ده؟”
اضطربت صباح إثر قولها، لتتجه ببصرها نحو رياض بنظرة فهمها، فسارع بطمأنتها:
—”ده حقيقي، والعلاقة اللي بينكم أكيد لا يمكن تتأثر يا صباح، بس طبعًا قدام الناس هنراعي الحتة دي شوية، ولا إيه يا بهجة؟”
فهمت بهجة مقصده، فوافقت برضا تام، بعد أن جبر بخاطر المرأة ولم يُظهر امتعاضًا أو غضبًا حينما غلبتها مشاعرها تجاه مَن كانت لها سندًا طوال سنين عملها في المصنع. أما صباح، فقد تبسمت بفرحة غامرة، معبرةً عنها بقولها:
—”ربنا يبارك فيك يا رياض باشا، ويدوم عليك الهنا مع بهجة، بنتي اللي مخلفتهاش.”
❈-❈-❈
وفي داخل المكتب بعد قليل
كان اجتماع الاثنين مع كارم، الذي كان في انتظارهما على أحرّ من الجمر.
—”نوَّرتِ مكانكِ يا بهجة، أنا متشوق أوي أسمع أفكاركِ بعد اتصال رياض باشا بيا من شوية.”
ضحك الأخير، ثم التفت نحوها يُطالعها بتحفيز حتى تُخرج ما برأسها دون حرج. كانت إشارته كافيةً لها لتدهش الاثنين بحديثها:
—”في الحقيقة، هو عَرِف نبذة بسيطة، لكن عندي أفكار كتير أوي للتسويق وفتح خطوط إنتاج تُساهم في زيادة كفاءة المصنع وتصديره للخارج. ممكن أكون مش محترفة، بس أنا بتكلم من واقع خبرتي البسيطة في العمل هنا وعشقي للمهنة. ممكن أكون خيالية في أفكاري، بس نفسي أعرضها قدامكم، وانتو تقرروا إن كانت تناسب ولا لأ، أو تضيفوا عليها بخبرتكم.”
ختمت حديثها ناظرةً نحو زوجها العزيز، الذي كانت نظرة الفخر منه وحدها تكفي. أما كارم، فقد خَطَفَه أسلوبها، فأثارت بداخله الفضول لمعرفة المزيد، فحثَّها قائلًا:
—”كل حاجة جميلة اتعملت أصلها كان خيال، يا بهجة. يعني احتمال كبير الأفكار اللي إنتِ مستهونا بيها دي تكون خارج الصندوق وتقلب الدنيا بنجاحها. كمّلي يا بهجة، وإحنا معاكي.”
تشجعت أكثر، لتردف بلهفة:
—”تمام، هقولهم، بس عايزة الرد عليها بصراحة ومن غير مجاملة. وبرضو، في كل الحالات، أنا موافقة أساعد وأشتغل أي حاجة هنا، لأنه مكاني الأصلي، اللي حبّاه أكتر حتى من المجال اللي بدرسه.”
❈-❈-❈
تثاءب منتصبًا بجذعه عن الفراش، بعدما أيقظته حرارة الشمس التي زحفت من النافذة حتى موضع نومه داخل غرفة ابنه الكبير، بعدما سمحت له تلك المرأة المجنونة، زوجته، بالمبيت بها منذ خروجه من المشفى، ولكن بشروط فرضتها عليه، ومجبور على تنفيذها حتى لا تتخذ إجراءً برفع قضايا عليه أمام المحاكم، في تقليدٍ لفعل الملعونة الأخرى، زوجته الثانية، والتي لا تكف عن استنزافه برغم كل الأموال التي حصلت عليها منه. وعلى الرغم من رغبته في الخلاص منها، إلا أن هذا أيضًا له ثمن باهظ لا يقدر عليه الآن على الإطلاق.
نهض بصعوبة، يضغط بكفيه على عظام ظهره المتأثرة حتى الآن بالضرب المبرح الذي تلقاه من فرقة صفاء وأولادها، ليزمجر بسبة كعادته مغمغمًا:
“آااه يا ضهري ياني! روحي يا صفاء، ربنا ياخدك إنتي وولادك، حرامية التلاجات! آآآآآه، هو أنا فيا حيل يا ربي؟”
واصل التأوه، يجر قدميه للخروج من الغرفة، وتجولت عيناه في أنحاء المنزل يمينًا ويسارًا بحذر كعادته، خشية الاصطدام بدوريته المفترسة، كما يراها دائمًا.
قابله ابنه الأصغر، خارجًا من المطبخ حاملًا عددًا من أطباق الطعام، قائلًا:
“صباح الخير يا حج، أنا كنت جايلك أصحيك عشان تيجي تفطر معايا،علي ما أخلص تحضير.”
ألقى خميس نظرة للخلف قبل أن يرد بصوت حذر:
“وأنت تحضر الفطار ليه؟ هي أمك مش موجودة؟”
تبسم سامر، متفهمًا خوفه، ليجيبه مطمئنًا:
“لا، مش موجودة، أصلها راحت شقة العرسان، تطمّن على بنتها.”
سمع خميس ذلك، فانتُصِبَ ظهره فجأة، وعلَا صوته مستنكرًا:
“ويعني بنتها كانت هتطير يعني؟ على أول الصبح رايحة تطبّ على العرسان! دا إيه قلة الذوق دي؟ وليه عديمة الشعور صحيح!”
ضحك سامر، واتخذ مقعده حول المائدة، منتظرًا حتى جلس والده مقابله، ثم شرعا في تناول طعامهما، ليعقب غير مبالٍ:
“براحتها بقى، إحنا المهم عندنا دلوقتي نفطر أنا وأنت بهدوء قبل ما نروح مصالحنا، البيت فضي علينا يا عم خميس.”
تبسم الأخير لقوله، قبل أن تتوسع عيناه مستدركًا لحقيقة كانت غائبة عنه:
“يا نهار إسود! دا صحيح، مفضلش غيرك، يعني بكرة تتجوز إنت كمان، ويفضى البيت عليّا وعليها! يا دي النيلة السودة!”
سمع منه سامر، لتصدح ضحكته غير قادر على التوقف، أمام حنق الآخر الذي عبست ملامحه، فردد له معتذرًا:
“معلش يا عم خميس، نصيبك كده بقى!”
❈-❈-❈
داخل شقة العروسين، وبعد أن انتهى من إجراء بعض المكالمات الهاتفية السريعة مع أصدقائه ووالديه، كي يُسلي نفسه هذه الدقائق التي ابتعد فيها عن الغرفة، اتخذ الشرفة ملجأً له حتى تغادر هذه المرأة التي أتت بحجة حمقاء مثلها، حاملةً الطعام وبعض الأشياء في تقليد شعبي من أجل صباحية العروسين.
زفر، مُلقيًا السيجارة التي كان ينفث فيها غضبه، ليدعس عليها بقدمه، ثم يلتف متجهًا نحو مكان جلوسهن.
وقد وصله الصوت من داخل الغرفة بعدما خرجتا منها، فاقترب بخطوات بطيئة، يحركه ظنٌّ غير مريح بداخله. امتدت رأسه قليلًا، ليجد تلك الحرباء مختليةً بابنتها في ركن المطبخ الجديد، تهمس في أذنها وتملي عليها:
“واخدة بالك يا بَتّ من الكلام اللي بقوله؟ ضربة البوز دي بلاش منها، واتلحلحي معاه عشان يبقى خاتم في صباعك! طلال من الأصل رايدك، إشحال بقى لما يدوق الدلع والنعيم على إيديكي! دا إنتي هتدوقي الهنا كله.”
“منوّرة يا حماتي!” هتف بها، يُباغتها بحضوره، فانتفضت على أثرها، والتفتت إليه بارتباك:
“دا نورك يا جوز بنتي يا غالي! تعالَ، تعالَ شوف الأكل اللي مجهزاه، أنا يدوب بس حضّرته في الأطباق، وهروح أحطه ع السفرة تفطر بيه انت وعروستك. معلش بقى لو اتأخرت عليك، حُكم دي بنتي ولازم أطمن عليها، وانت فاهم، هو أنا اللي هقولك برضو…”
وختمت بضحكة رقيعة لم يستسغها، لكنه اضطر لمجاراتها حتى انتهت، ثم وضعت مع ابنتها أطباق الطعام بما تحتويه من كل ما لذَّ وطاب. ظل يتأملهما، راسمًا تلك الابتسامة الصفراء، حتى ودّعت ابنتها، لتختلي الشقة به وبزوجته.
عادت إليه، متجهة نحو مائدة الطعام بشغف:
“أمي محمّرة الحمام في السمن البلدي، قُرّب يا طلال قبل ما يبرد وميبقاش له طعم…”
“استني عندك! إياكِ تقربي منه!” خرجت صرخته ليوقف يدها قبل أن تمتد إلى الطعام، فالتفتت إليه بدهشة:
“مقربش ليه؟”
اقترب، يجذبها من كفها، ينهِيها عن الجلوس، قائلًا:
“الأكل ده محدش هياكل منه! هيتلف كده بخيره، ونتصرف فيه في أي حتة.”
“ليه يا طلال؟ نعمة ربنا هنرميها من غير سبب؟ ولا تكون فاكر إن أمي حطّالك فيه سُم!”
تبسَّم ساخرًا، ودنا نحو الطعام يلملم الأطباق فوق بعضها، مُعلقًا بسخرية:
“لا، ما هي مش هتسمّني وأنا جوز بنتها الغالية… هي هتعمل الأوحش…”
“هو إيه الأوحش؟” تمتمت بها، لتتجمد فجأة باستيعابٍ متأخر، ثم نهَرته:
“قصدك إن أمي تكون عملالك حاجة؟ معقول يا طلال؟! دا ظنك في أمي؟!”
كادت أن تخرج ضحكته على إثر كلماتها الأخيرة، وكأنها لا تعلم أفعال والدتها، لكنه رد عليها بحزم:
“بقولك إيه… كلمة وتحطيها حلقة في ودانك يا بنت الناس، الموضوع ده كبّري مخّك منه عشان منتهي عندي! أنا شيكاغو اللي متربي في المنطقة، يعني عارف أمك كويس أوي، ورِجليها اللي كانت رايحة جاية عند الشيخ إياه… فاكراه الشيخ إياه يا سامية؟”
ابتلعت ريقها باضطراب عصف بها إثر سؤاله، لتطرق ببصرها عنه بخزي، غير قادرة على مواجهته. فما أصعب أن يعرف الزوج بالنقطة السوداء في تاريخ زوجته، وهو عالم بكل شيء!
“ارفعي راسك يا سامية، متتكسفيش مني!” هتف بها عاليًا، حتى أجبرها على وضع عينيها في عينيه، ثم أردف ناهيًا الحديث في هذا الأمر:
“اسمعي يا بنت الناس، حوار أمك ده معايا أنا مش عايز أفتحه ولا أواجهها وأكسفها… عشان خاطرك، مش عشانها! يعني انتي تقدري من نفسك وتفهميها لوحدك. أنا يخصني إنتي، وعشان الورد ينسقي العليق! إنما إني آخد حاجة منها ولا أشرب بقّ مية حتى… انسِي!”
❈-❈-❈
أعدت الفطور في الصباح كعادتها، لتضع الأطباق على الطاولة، وفمها لا يتوقف عن النداء بأسماء أفراد عائلتها الصغيرة الجميلة.
“يا آمين، يا لينا، هتتأخروا على الشغل يا عيال، وانتي يا سي حسن، اخلص بقى وهات شهد في إيدك، أنا دماغي لفت منكم!”
خرج على النداء أمين بكامل هيئته مستعدًا للذهاب إلى العمل، يلوح لها بكفه، فقد كان منشغلًا في الحديث عبر الهاتف مع أحد ما، بضحكات لا تتوقف:
“يعني لِساها برضو لازقة وما مشيتش… يا عيني عليك يا بني، انت دايمًا كده متعوس… يا حبيبي، أعمل طيب؟ ما أنت وضعك يضحك… خلاص يا سيدي متزعلش، بس برضو موَعدكش إني أبطل ضحك…”
وأكمل ضاحكًا حتى جلس على أحد المقاعد حول المائدة. جلست والدته أمامه سائلة بعلامة استفهام، لكنه أشار بيده كي تنتظر، فأذعنت لمطلبه تتابع المكالمة.
“يا حبيبي، من غير دُعا، أنا طفشان منها حتى لو قعدت بالسنة مش هيهمني غير العيل… من ورا قلبي! وكمان بحبها! طب اقفل يا عصام عشان مقفلش أنا في وشك، قال من ورا قلبي قال!”
أنهى المكالمة ليهمّ بتناول طعامه، فبادرته بسؤالها بعدما عرفت بصاحب المكالمة:
“ماله يا واد عصام؟ عمال تتريق وتضحك عليه؟”
أجابها بابتسامة واضحة، وفمه يلوك لقمة الجبن التي غمسها بالخبز:
“موكوس يا أمي، وحظه مِنيِّل بستين نيلة، حماته كابسة على نفسه من ساعة ولادة بنتها، ومش راضية تحل عنهم، بحجة خدمتها والخوف عليها، وهو…”
توقف بضحكة مكتومة جعلت والدته تفطن إلى ما يرمي إليه، لتعقب بضجر بعد سماعها:
“وهي لِساها قاعدة هناك بجد؟ دي أمنية هتجيب الشهر من ساعة ما عرفنا بولادتها وروحنا باركنا لها، هي نرجس دي ما عندهاش إحساس؟”
صدحت ضحكته مرة أخرى ليضيف عليها:
“شكلها ولا بتفهم كمان، دا كذا مرة يلمّح قدامها، وهي مفيش فايدة، وهو حطّ صوابعه العشرة في الشق منها!”
عبست ملامحها، توبخه باستحياء:
“وده شيء برضو يخليك تضحك؟ المسكين، الله يكون في عونه! وهي تنحّة وأنا عارفاها، الإنسان مننا لازم يكون حسيس من نفسه، ده راجل، ولازم ياخد راحته في بيته، وهي أكيد عاملة نفسها مش فاهمة ولا بتستعبط. والله أنا بستعجب من أمرها! بس هو حقه يضايق، صراحة.”
“يضايق بس؟ ده هيطق من جنابه منها، ومن بنتها كمان!”
“وبنتها إيه ذنبها؟ هي أكيد مستحيلة الموضوع عشان بتخدمها ! الموضوع عايز واحدة تكلمها مباشر في وشها، عشان ما تلاوعش ولا تعمل نفسها مش فاهمة. سيب الموضوع ده عليا.”
“انتي بتتكلمي بجد يا ماما؟ هتدخلي بنفسك في الموضوع مع الست دي؟”
تنهدت بسأم، مؤكدة له:
“أعمل إيه يعني؟ ألحق أتصرف معاها بلطافة قبل ما صاحبك يطردها لما يفيض بيه! حكم الست دي أستاذة في الاستفزاز بدور البلاهة اللي عايشاه ده!”
“أيوه بقى، يا أبلة مجيدة! ده الواد عصام هيدعيلك والله، حكم ده غلبان أوي أوي!”
هتف بها أمين بمرح، قابلته هي بنظرة ممتعضة لفهمها تلميحه الوقح، فزفرت تصبّ غيظها في النداء مرة أخرى على ذلك المسكين داخل غرفته:
“ماشي يا حسن، خلي حضن مراتك ينفعك لما اليوم يضيع منك وما تلاقيش حد يشتغل في الموقع!”
انتفض المذكور على إثر صيحتها الأخيرة، ليخرج على الفور من غرفته، يرتدي معطفه مرددًا بهلع:
“يا نهار اسود! ما توصلي زعيقك للشارع بالمرة! إيه ده اللي بتقوليه يا ماما؟ همّا بس عشر دقايق اللي اتأخرناهم عنك، لازم تفضحينا يعني يا مجيدة؟!”
جلجلت ضحكة شقيقه بصخب يزيد عليه:
“صوتها العالي وصل لباقي العمارة أصلًا، يعني بالتبعية هيوصل لباقي الشارع، أمك بتشرّدك يا حسن!”
وتابع ضحكاته أمام سخط الآخر ونظرات التحدي من مجيدة، حتى خرجت لهما شهد حاملة طفلها، تبرر تأخرها باعتذار:
“صباح الخير! معلش يا جماعة، كنت بغير للواد. هو أنتم فطرتوا؟”
صاح وكأنه عثر على صك براءته:
“أهي قالت أهي! كانت بتغير للواد، وأنا كنت بتكلم مع مسؤول العمال في الموقع! يعني ما كناش فاضيين يا مجيدة!”
“فاضين لإيه مش فاهمة؟” تساءلت بها شهد باندهاش لانفعال زوجها، عكس شقيقه الذي تلونت بشرته باللون الأحمر القاني بسبب ضحكه المكتوم. فجاء الرد من مجيدة بعدم اكتراث، وقد أشرقت ملامحها برؤية الصغيرة:
“يعني هي قضية عشان تفهميها يا شهد؟! هاتي يا بت حبيب ستو لستو، وسيبك من جوز الانطاع دول! تعالي يا روحي، تعالي!”
ورفعت كفها تتلقف الصغير، فعلق حسن بمظلومية وهو يتجه نحو المائدة ليتناول إفطاره:
“يعني كمان بتزوّدي بالشتيمة! كم أنتي عظيمة يا أمي!”
والتف يردف نحو شقيقه بغيظ:
“وانت، لمّ نفسك يا أمين… ولا على إيه؟! أنا أتعب نفسي ليه؟ ما أنا أجيب لك مراتك أحسن تلهيك عننا! يا لينا…!”
❈-❈-❈
أقنعت الاثنين برؤيتها، وحصلت منهما على الموافقة والتشجيع بقوة، لتنال منصبًا هامًا تحت رئاسة زوجها من أجل تنفيذ الأفكار التي طرحتها عليهما،
ثم تركتهما يكملان جلسة العمل المتأخرة بينهما، ونزلت هي إلى مقرها الأول في تلك البناية، كعاملة بسيطة وسط المجموعة الهائلة التي تراها الآن.
“الله، دي بهجة يا بنات، بهجة يا بهجة!” صاحت بها إحدى الفتيات فور أن وقعت عيناها عليها، بجهلٍ لمنصبها وصفَتها الجديدة، حتى لفتت انتباه البقية لترتفع الرؤوس نحوها، وتصدر الصيحة القوية فجأة من صباح لتوقف الهمهمات التي صارت تعلو بوتيرة تثير الانزعاج:
“باااااس! اسمها بهجة هانم، انتي وهي! هو انتوا لسه نايمين على نفسكم ولا إيه؟”
فابتسمت لها بهجة بمودة، ثم مارست عملها بعد ذلك بعملية كمسؤولة، رغم ودها ورفقها معهم.
غافلةً عن فردٍ منهم لم يحتمل الأمر، ليس لسوء شخصه، ولكن لأن هذا الشيء فوق إرادته، فترك ما بيده فجأة، وقرر الانسحاب من بينهم متخذًا طريقه نحو الخروج أمام عينيها دون استئذان، مما أجبرها الفضول على اتباعه، فأوقفته بندائها:
“تميم، لو سمحت.”
وصلها صوته ليجبر قدميه على التوقف، ثم الالتفاف إليها، منتظرًا محله حتى اقتربت منه بخطوات متمهلة بعض الشيء، وتوجهت إليه قائلة:
“ممكن أعرف السبب اللي يخليك تنسحب فجأة من عملك أثناء وجودي وبدون استئذان حتى؟”
طالعها بنظرة تحمل مزيجًا من الحزن واللوم، لكن سرعان ما أزاح بصره عنها، زافرًا بقنوط وهو يجيبها:
“أنا آسف لو كان تصرفي أزعجك، أنا طبعًا مش قاصد أقلل من مقامك، بس الحقيقة خلاص قررت إني أسيب الشغل وأشوف حالي بعيد عن هنا.”
رددت خلفه بعدم استيعاب:
“تشوف حالك بعيد عن هنا! ليه يا تميم؟ دا مكانك ودي مهنتك اللي انت أستاذ فيها، ولا انت…”
توقفت الكلمات في حلقها حتى لا تضيف المزيد، بعدما أدركت الآن السبب الرئيسي لتركه عمله، فواجهته دون مواربة:
“أفهم من كلامك ده إني السبب؟”
رمقها بنظرة أكدت ظنها، قبل أن ينكر بقوله:
“لا طبعًا يا هانم، أنا أصلاً من زمان في نيتي أفتح مشغل خاص، بس كنت مأجل، جه الوقت بقى دلوقتي أفتحه وأكبره بإذن الله، ويا عالم يمكن يبقى زي المصنع اللي واقفين فيه أو أكبر… عن إذنك بقى.”
واستدار مغادرًا من أمامها، فتمتمت في أثره:
“ربنا يوفقك يا تميم.”
أخرجت من صدرها تنهيدة مشبعة بالأسى من خلفه، فقد آلمها ما يحزنه، رغم عتبها عليه بسبب تلك النبرة الحادة التي تحدث بها، وكأنها قللت منه أو أخلفت بوعدها معه. لكنها تعطيه العذر، ربما حينما يهدأ يرى الصورة جيدًا.
نفضت رأسها كي تستعيد تركيزها من أجل العودة إلى صباح والعمال، لكنها ما إن همّت بالالتفاف، حتى انتبهت لذلك المراقب من خلف سياج الدرج في الأعلى، بملامح عابسة وكأنه حضر اللقاء من أوله.
❈-❈-❈
أنهت جلستها مع العمال، وألقت على صباح بعض التعليمات الجديدة في العمل، حتى إذا انتهت أخيرًا، صعدت إليه داخل غرفة مكتبه التي طرقت بابها في البداية قبل أن تدفعه وتدلف إليه حاملة بعض الملفات التي أعطتها لها صباح لإبداء الرأي فيها.
وجدته منكفئًا على بعض الأوراق يراجعها بتركيز، قطعه لحظة دخولها، لكنه سرعان ما عاد إليها بملامح متجهمة هذه المرة، غفلت عنها في البداية أثناء حديثها إليه:
“أنا فهمت صباح على خطة العمل الجديدة، وهي ما شاء الله، زي ما أنت عارف، استوعبت بسهولة وتحمست كمان لشغلها معانا، حتى أدتني المستندات دي بخصوص التوريدات الجديدة، والناقص منها، والمطلوب فوري، أهو، شوفهم كده.”
وضعتهم على سطح المكتب أمامه، فرفع أبصاره إليها بنظرة غاضبة، فهمت عليها أخيرًا:
“إيه مالك؟ بتبصلي كده ليه؟ أنت زعلان مني في حاجة يا رياض… رياض، أنت ساكت ليه؟”
طرق بقلمه لمدة من الوقت يزيد من توترها، ثم سحب الأوراق فجأة إليه متمتمًا، متجاهلًا الإجابة عن أسئلتها:
“برافو عليها صباح، أنا عارف إنها شاطرة وممتازة، هتساعدك كتير في المرحلة الجاية.”
إلى هنا، وقد فاض بها، فلطمت بكف يدها على سطح المكتب، ثائرة به:
“كفاية بقى يا رياض، الأسلوب ده أنا مبحبهوش! عندك حاجةقولها، لكن تقعد سايبني كده ألف حوالين نفسي، دي حاجة بقى ما طقهاش!”
استطاعت بثورتها أن تخرجه عن طور البرود الذي يتخذه وقت الحاجة، فخرج قوله بانفعال هو الآخر:
“أنا حر يا بهجة، وهو ده أسلوبي! انتي بقى اللي مش حرة تيجي تحاسبيني على حاجة انتي السبب فيها!”
“أنا السبب فيها؟!”
“أيوة، أنت السبب فيها! لما تنزلي من مقامك وأنتِ مرات صاحب المصنع، والمسؤولة معاه حاليًا في إدارته، عشان تجري ورا واحد من العمال تراضيه وتتكلمي معاه، ده تسميه إيه؟ لا قدرتي منصبك الجديد، ولا قدرتي صفتك عندي!”
ابتلعت بصدمة نقده، على قدر تحامله وغضبه المبالغ فيه، لكنها لا تنكر صدق قوله. لقد تصرفت بعفويتها اليوم ونسيت بالفعل منصبها، وكان يجدر بها أن تعي وضعها الجديد.
“أنا آسفة.”
صدرت منها فجأة كماء الثلج حينما يطفئ النيران المشتعلة، فهدأت نفسه بعد غليل كان يجاهد منذ ساعات في السيطرة عليه، فجاءت هي بجملة صغيرة أوقفته، ثم واصلت تضاعف من تأكيدها:
“بقولها فعلًا، والله من قلبي، يمكن وقتها اتصرفت بعفويتي، لكن ده ميمنعش من إنها هفوة.”
تحمحم يجلي حلقه، ثم عقب بجدية، رافضًا التساهل لمجرد الاعتذار:
“ياريت ما تتكررش تاني يا بهجة، لا مع البني آدم ده، ولا مع أي إنسان تاني.”
“ما خلاص بقى، المسكين هيسيب الشغل من هنا نهائي.”
سمع منها، فردد بغيظ:
“مسكين! بلاش تعصبيني يا بهجة، هو كده عمل الصح، أنا لا يمكن كنت هأذيه في لقمة عيشه، بس هو طلع شاطر وجابها من نفسه، ربنا يسهّله بقى، أنا وصيت إنه ياخد كل حقوقه وعليها مكافأة كمان.”
اومأت صامتة بتفهم، حتى لا تثير غضبه مرة أخرى، وأبصاره منصبة عليها بقوة تجعلها غير قادرة على مواجهته حتى رق قلبه لهيئتها، فكاد أن يشاكسها، ولكنه منعه صوت الهرج الذي صدح قريبًا منهم، تزامنًا مع طرق باب الغرفة، ليأمر الطارق بالدخول على توجس، فكانت المفاجأة، دلوف والدته بصحبة الصغيرين اللذين هتفا فور دخولهما:
إحنا جيناااا
هللت بهجة فرحًا تستقبلهما فاتحة ذراعيها:
إيه المفاجأة الحلوة دي.
صدرت من رياض الذي تقدم يستقبل والدته ويقبلها على وجنتيها، بعد الترحيب بالصغيرين، فجاء رد نجوان:
على الله بس تكون حلوة
طبعًا حلوة، وحلوة أوي كمان
قالتها بهجة تضم الصغيرين آدم شقيق زوجها، وعائشة شقيقتها هي، لتغمرهما بابتهاج أصابها لرؤيتهما هنا في مقر عملها.
اتخذ الجميع جلستهم بعد ذلك في الركن الجانبي للغرفة، وساد الحديث والتساؤلات:
لا بجد يا ماما، إنتي بقالك سنين مجتيش هنا، مين اللي أقنعك من جوز المصايب دول؟
قالها بإشارة نحو الصغيرين اللذين ضحكا على قوله قبل أن تدافع عائشة:
محدش فينا قالها، دا هي اللي وقفتنا عن اللعب في جنينة القصر والجمعية، وقالتنا تعالوا يلا نتفسح.
في مصنع! في حد يتفسح في مصنع!
قالتها بهجة لتدوي ضحكات الاثنان مع البقية، فجاء الرد من نجوان:
بصراحة هي طقت في دماغي، لما لقيتك أنتي اتأخرتِ يا أستاذة على الجمعية، وآدم من قبلها عشان يعرف مصنع باباه الله يرحمه.
نقلت بنظرها نحو الأخير، بدا جيدًا تجاوبه معها، لتردف برضا تخلل نبرتها:
حبيت أجيبه يتعرف على ملك باباه عشان بكرة لما يكبر، يحط إيده في إيد أخوه حبيبه، ويكبروه.
فعلاً أنا حبيته أوي
قالها آدم لينال قبلة فوق رأسه من شقيقه الذي أسعده الأمر، ليتجاوز بعدها بصعوبة حتى يستعيد توازنه، فيقول:
دا كده يبقى حلو، بهجة كمان من النهاردة استلمت شغلها معايا عشان تساعدني في الإدارة، دي كمان طلعت شطورة أوي يا ست الكل.
أشرق وجه نجوان لسعادة ابنها الذي وجد الأنس أخيرًا ودفء العائلة التي طالما تمناها دون أن يفصح بها أمامها، لتعقب بحب له:
كده يبقى ضمنت تكتسح السوق من دلوقتي، بهجة ذكية وبتندمج بسرعة، أنا واثقة إنها هتعرف توفق ما بين شغلها معاك ودراستها وأسرتها كمان، برافو.
❈-❈-❈
في منزل أمنية.
وقد كانت في غرفتها حينما دَفَعَتْ عليها الباب هاتفه بهلع:
الحقيني يا أمنية، اختك عملت حادثة ورجلها اتكسرت.
سمعت منها لتتسأل بفزع، فترد عليها:
يا نهار أسود، مين قال الكلام دا يا ماما؟ عرفتي منين؟
ذهبت نرجس نحو خزانة الملابس وبصوت مهزوز صارت تجيبها:
واحدة من أصحابها هي اللي اتصلت وبلغتني، أنا هلبس واروحلها بسرعة، قلبي واكلني على بنتي.
رفعت أمنية طفلها على كتفها، تحاول منعها:
طب استني، اتصلي بعصام ولا اروح أنا معاكي؟
صاحت نرجس بها، تنهرها، وقد ارتدت العباءة، وتبقى فقط الحذاء:
لاااا، مينفعش طبعًا، لا انتي ولا العيل ليكم الخروج، أنا هروح أشوفها وأبقى أرجعلك تاني، انتي حرصي على نفسك وعلى الواد.
صارت تردد تعليماتها حتى غادرت، تتبعها أمنية بعينيها، تهدهد طفلها بحنو وفمها لا يتوقف عن الدعاء، وما كادت تهم بالعودة للغرفة، حتى تفاجأت بدفع الباب الخارجي، وزوجها يدلف منه، ثم يغلفه سريعًا، ناظرًا إليها بشغف لم تنتبه له في غمرة قلقها على شقيقتها:
كويس إنك جيت يا عصام، أمي حالًا خارجة، اختي رؤى عملت حادثة.
تبسم معقبا على كلماتها، وأصابع يده تحل أزرار ملابسه في الأعلى:
آه، ما أنا عارف.
عارف إيه؟ ومالك بتتكلم كده وانت مبسوط ليه؟
صدحت ضحكته فجأة ليقترب منها، يخطف قبلة من وجنتها قبل أن يتناول الصغير متمتمًا:
وأخيرًا فضي البيت علينا يا أم يونس إنتي ويونس، دا أنتوا واحشني أوي.
توقف عن الحديث ليباشر مداعبة صغيره وتقبيله، حتى استوعبت هي لتعبر عما فطن به ذهنها:
معقول يا عصام، تكون أنت عامل الملعوب دا في ماما؟ معقول؟
بس أنا معملتش.
أمال مين اللي عمل؟
صدحت ضحكته مرة أخرى، ليسحبها من يدها فجأة ويضمها بشوق شديد قائلاً:
مش مهم مين اللي عمل، المهم إن رؤى كويسة، وأنا وإنتِ بقينا لوحدنا، دا إنتي وحشاني بشكل.
هي الأخرى لم تكن جمادًا حتى لا تتأثر، بعد أن هدأت أعصابها بالاطمئنان على شقيقتها، لتنزع نفسها عنه مجادلة:
أيوة بس أنا عايزة أعرف إيه اللي حصل.
عايزة تعرفي اللي حصل؟
ردد بها من خلفها قبل أن يردف حازمًا ويده الحرة أطبقت على ذراعها تسحبها:
كده يبقى تدخلي معايا وأنا هشرحلك باستفاضة.
وليه الشرح يبقى في الأوضة؟ ما تتكلم هنا في الصالة عادي.
قالتها بنوع من الغباء أثار تسليته ليدفعها داخل الغرفة، ليدلف خلفها مرددًا:
وهو الشرح بينفع في الصالة برضو؟ شكل نرجس أثرت عليكي يا أمنية، دا أنا كده هحتاج وقت طويل أوي معاكي بقى.
❈-❈-❈
وصلت نرجس إلى بناية منزلها، تقطع الدرجات مهرولة حتى شقتها، وقد أخبرتها الفتاة صديقة ابنتها عن وجودها هنا في الداخل، لتدفع باب الشقة بعدم انتظار فتحه من الداخل، فتركض بلهفة تنادي على ابنتها:
رؤى، رؤى إنتِ فين يا حبيبتي؟
أنا هنا يا ماما. ذهبت نحو مصدر الصوت في غرفة المذكورة، فتجدها على السرير مسطحة قدمها الملفوفة بالرباط الأبيض وبجواره على الفراش السيدة مجيدة! والتي بادرتها الحديث:
ما تدخلي يا نرجس، هو إنتِ هتتعزمي في بيتك؟ ابتعلت المذكورة ريقها وتقدمت نحوهما:
معلش، أصلي استغربت، إيه اللي جرالك يا رؤي؟ وعاملة إيه رجلك؟ همت أن تضع يدها على القدم المصابة ولكن الأخرى سبقتها بتألم تنهاها:
لا يا ماما، أوعي تحطي إيدك، أنا مصدقت الدكتور ربطها.
هي اتكسرت يعني ولا إيه؟ فين صاحبتك خليها تفهمني. تكفلت مجيدة بالرد عليها:
صاحبتها مشيت وأنا اللي فضلت معاها لغاية ما ترجعي، البنت عايزة رعاية ومينفعش تتساب دقيقة لوحدها.
طالعتها بحيرة متسائلة:
يعني حصل لها إيه بالظبط؟ وإنتِ يا ست مجيدة جيتي إمتى؟ ومين اللي قالك؟
بملامح جامدة، ألقت مجيدة بكلماتها المقصودة:
رؤى هي اللي اتصلت بيا، كانت عايزة شهد، بس اختها عندها شغل في حتة بعيدة مع جوزها، طلبتني وهي بتعيط عشان حد يستلمها من المستشفى، ولما سألتها عنك قالتلي إنك عند أمنية ومش فاضية، بصراحة أنا استغربت ومكنتش مصدقة أصل أمنية هتكمل الشهر، والعيلة دي أولى بالرعاية، ولا إيه يا ست نرجس؟
❈-❈-❈
داخل مكتب المحاماة الخاص بها، وقد انتهت من جلستها مع أحد الموكلين، لينصرف الرجل، حتى يأتي غيره، فكان الدور على تلك المرأة التي دخلت إليها بطلتها المعتادة:
أستاذتنا وأستاذة الكل
على الفور ارتفعت رأسها إليها بفزع مرددة:
أم ريري، إيه اللي جايبك تاني يا ست إنتي؟ هي بنتك عملتها تاني؟
ضحكت المرأة تدلف إليها بجلبابها الشعبي، قائلة ببساطة:
هنعمل إيه بقى يا أستاذة؟ نصيبي كده، كل ما أقول توبة، والبت عقلت معدتش تضرب حد، تخمني الموكوسة وتعملها، خلاص حطيت صوابعي العشرة منها في الشق.
إنتي برضو يا أم ريري، ده أنا اللي فاض بيا منكم إنتو الاتنين، ما تجوزيها يا ستي، اهي تتشعلق في قفا راجل يريحنا إحنا الاتنين.
انفعلت بها صفية نحو المرأة التي لم تتخلى عن ابتسامتها في الرد عليها:
ما هو ده اللي كان هيحصل والنعمة يا أستاذة، عملنا قاعدة مع العريس اللي جه عن طريق واحدة قريبتنا، شافته وشافها وعجبته بس هي غلطة بسيطة طلعت منه، لما اتكلم عن التخن وإنها لو خست هتبقى حلوة…..
ننننعم
قاطعتها بها صفية لتردف باعتراض:
هو مين ده كمان عشان يتكلم عن تخنها ولا رفعها، ده يستاهل الدق على دماغه.
ما هو ده اللي حصل يا أستاذة.
دقت على دماغه.
لا فتحت قرنه.
فتحت قرنه.
رددت بها صفية بانتشاء، لتميل بظهرها للخلف متابعة بإعجاب:
لأول مرة بنتك يعجبني فعلها، وعشان شطارتها دي هترافع عنها مخصوص، ولو حكمت البسه هو قضية هعملها هذا الكائن الذكوري المتعفن.
لاح الرضا على ملامح أم ريري بعد سماعها للتصريح المطمئن بالدفاع عن ابنتها من قبل الأستاذة التي أخرجتها من عدة قضايا سابقة، لتهتف بامتنانها:
شالله يرضى عنك يا أستاذة الهي يارب يسعدك ويرزقك بابن حلال……
ما قولنا خلاص انخطبنا.
تمتمت بها صفية بسأم نحو المرأة مردفة:
مش إنتي جيتي المرة اللي فاتت وسلمتي عليه بنفسك ولا نسيتي؟
تذكرت المرأة لتجيبها بمرح؛
آه صحيح افتكرت الجدع الحليوة اللي كان معاكي في المكتب، هو إنتوا لسه مدخلتوش؟
زفرت صفية أثناء فتحها الملف الجديد للقضية التي بدأت في إعدادها، لترد بعدم تركيز:
– لا يا ستي لسه مدخلناش، الشقة وتشطيبها، إنتي عارفة ده كله بياخد وقت وشهور، ندخل بقى في تفاصيل القضية.
تجاهلت أم ريري الأخيرة لتتمتم بإشفاق:
آه يا عيني صحيح، حكم إنتوا شققكم يا متعلمين بتاخد شغل كتير وحاجات ياما،…
وتوقفت تعود لتلك العادة في الدعاء لها:
روحي يا ست الأستاذة، ربنا ييسرها معاكي إنتي وخطيبك، ويعجل بلم شملكم في أقرب وقت.
وما كادت المرأة أن تنهيها، حتى فوجئت صفية باندفاع باب الغرفة الى الدخل، يطل عليها بكامل هيئته، هاتفا بلهفة:
شوفتي الخبر الجديد يا صفية، انحلت من عند ربنا. تساءلت بعدم فهم:
خبر إيه الجديد، ثم إنت ازاي تدخل من غير استئذان؟ الست الموكلة تقول عليك إيه يا هشام؟
استدرك بالفعل لخطأه، ليتمتم بحرج وأسف لم يمنع عنه فرحته:
ست آه صحيح، أنا آسف والله يا مدام، بس بصراحة الفرحة طيرت عقلي وخلتني مخدتش بالي.
لا يا خويا ولا يهمك، ربنا يفرحك كمان وكمان.
قالتها أم ريري تضع في قلبه الاطمئنان ليهتف بالبشرى التي أتى من أجلها:
خالي سُمعة اللي قاعد في الإمارات يا صفية، بقى ناوي يستقر هناك مع مراته الجديدة بعد ما حصل على الإقامة، يعني مجيته هنا هتبقى زيارات وبس.
فتحت كفيها متسائلة بمزيد من الحيرة:
طب وإيه البشرى في دي؟.
أجابها بفرحة غامرة:
البشرى هنا في شقته يا صفية، دي متشطبة سوبر لوكس، وهو مش ناوي يجي غير بعد سنة، كلمني في التليفون من شوية وعرض عليا أتجوز فيها علي ما تخلص شقتنا، يعني كده مفيش حجة للتأخير، هي بس إجراءات الفرح واستعداداتك إنتي يا عروسة، من فستان والذي منه، يعني الموضوع كله مش هياخد مننا أكتر من أسابيع، ونعمل فرحنا يا صفصف.
سمعت أم ريري لتطلق زغرودة من فمها مبينة فرحتها، أمام ازبهلال الأخرى، وقد تجمدت لمدة من الوقت حتى استوعبت لتتجه نحو أم ريري قائلة بغيظ:
بركاتك يا أم ريري.
❈-❈-❈
مرَّ اليوم الأول بعملها في المنصب الجديد على خير، توفقت إلى حدٍّ ما في إثبات جدارتها أمامه، لكنها ما زالت محرجة وتخشى ردَّ فعله، تخشى مزيدًا من الصدام، وقد تمَّ الوصال بعد عذاب.
خطت داخل غرفته تنفيذًا لتعليماته، كي تغادر معه كما أتت معه.
رياض، أنا خلَّصت كل حاجة، هتيجي تروح معايا ولا أخلي عم علي يوصَّلني؟
زفر مغلقًا آخر ملف بيده، وعلَّق رافضًا:
مفيش الكلام ده، قلتلك إنِّي هروح معاكي يبقى خلاص، يا بهجة.
صمتت تمنع نفسها عن الجدال، تنتظره في محلِّها حتى انتهى من لملمة متعلقاته داخل الحقيبة التي رفعها بعد ذلك، مُتقَدِمًا نحوها بغرض أن يسبقها، كما كانت تتصور، قبل أن يُباغتها حينما حطَّ يده على خصرها فجأة، دافعًا إيَّاها بقوة على صدره، حتى شهقت بإجفال، عبَّرت عنه:
إيه؟ في إيه؟
وده برضو سؤال؟
صدر استفهامه كرسالة فهمت مغزاها، فاسترخت قليلًا، قائلة:
بس افتكرتك لسه زعلان مني.
قرَّبها منه، يشتم عبيرها في تجويف رقبتها، ليردف بهيام:
يمكن كان الأول، لكن دلوقتي وبعد ما تم الوصال، مش مسموحلك بأي فرصة تبعدك عني.
طب وانت؟
قالتها متسائلة، ثم أضافت:
مش يمكن انت اللي تزهق وتسيب؟
ضحك بملء فمه، يخبرها بما يثلج صدرها:
أنا لازقة بغرا، أنا أسيب روحي ولا أسيبك، يا بهجة القلب.
وختم يُثبت لها بصورة عمليَّة، خاطفًا ثغرها بقبلة عاصفة، يبثُّها أشواقه التي لا تتوقف أبدًا، وقد اشتاقها في تلك الساعات، وكأنها لم تكن أمام عينيه منذ الصباح، وهي أيضًا لا تقل عنه.

تعليقات



×