رواية رحماء بينهم (كمثل الأترجة) الفصل الخمسون 50 بقلم علياء شعبان


رواية رحماء بينهم كمثل الأترجة الفصل الخمسون بقلم علياء شعبان 

"أضناني فُرقتنا وفراقنا؛ كلاهما المعنى ذاته ولكنني بهذا أؤكد لكِ على انهيار ما بقى لي من صلابةٍ حينما غابت عيناكِ اللاتي تُلهماني وتشدد عضدي وِصرتُ هشًا هزيلًا ما أن تطنب الريح تجدني أميلُ ميلًا عظيمًا".
•~•~•~•~•~•~•
مرَّ يومان اعتبرتهما "سكون" عِجاف أيامها، اعتكفت في غُرفتها خلالهما، ترفض الكلام والأكل وما بينهما تمتنع عن التفسير بصدد تغيرها كُليًا إلى فتاةٍ لم تكُن تحب أن تكون عليها يومًا حيث غاب شغفها المُستعر للحياة وفقدت رونق الروح الخفيفة وتبدلت إلى أُخرى تشعر بثقل في كُل شيءٍ حتى النفس الذي يخرج منها.
عاشت في عُزلةٍ قصيرةٍ، حاولت "نبيلة" مرارًا واصرارًا معرفة ما يجعلها تختار عزلتهم وهي التي لا تطيق الافتراق لثانيةٍ عنهم، بررت لها ذلك من خلال تأثر "سكون" بما صار مع والدها وشقيقها ومدى حُبها الشديد لهما وبالأخص شقيقها فلربما تعبت نفسيتها لدرجة أن اختصرت الجميع في محاولة لاستعادة طاقتها وتجديدها، شعرت "نبيلة" بالضيق من توقف الأخيرة عن تناول الطعام وكانت تلجأ إلى "عُمر" تسأله حول غرابة شقيقته هذه الأيام وإن كان هناك ما يستدعي القلق عليها ولكنها لا تجد إجابة لأسئلتها عنده، بدأ "عثمان" يشعر بالغضب نحوها لكونها تُعطي الأمور أكبر من حجمها؛ فما حدث كان بين أبٍ وابنه ولم يعُد هناك داعي لاستمرار الخِصام بينهما!!

كان "عُمر" يتردد على غرفتها خِلسة دون أن يراه أحد، يعي تمامًا ما تمُر به وما تنتظره هذه الأيام وخاصةً صبيحة هذا اليوم بالتحديد، فبعد معرفته بحقيقة "نجلا" وما أخبرت به شقيقته وهو يطلب منها التأني والتريث في الأمور حتى تأتي الحقيقة كاملة إلى حِجرها، انصاعت لنصيحته وطبقتها بشكلٍ كاملٍ إلى أن جاء موعد استلام الورقة التي ستعري كُل فردٍ في حياتها وإلى أيهم تنتمي هي؟؟ هل تنتمي لامرأةٍ تجرعت من القسوة والذُل كؤوسًا دِهاقًا ورغم ذلك استطاعت تذليل الصِعاب وإخضاعها لها؟؟ أم لامرأةٍ وُضعت كُل الأحلام أسفل قدميها ورغم ذلك لم تسعى يومًا لتقديس قيم العائلة أو نزع العدوانية من قلبٍ أبٍ نحو ابناءه؟؟

إلى أيهما تنتمي؟؟ ففي النهاية عليها أن تسلُك طريقها نحو إحداهما، حاولت تهيأت نفسها لأية نتيجة، ذهبت في غفلة من الجميع إلى المختبر لاستلام التحليل في ميعاده والتخلص من هذا التوتر القاتل والضغط النفسي القاسي الذي عانت منه خلال اليومين الماضيين.
وقفت في صالة الانتظار بوجهٍ شاحبٍ وأطراف تسري فيها رعشة خفيفة تمكنت من إبقائها دون الملاحظة ممن حولها، أسندت رأسها إلى الحائط وبدأت تفرك كفيها معًا حينما طلبت منها الطبيبة أن تنتظر فقط للحظات، أغلقت عينيها وأسرعت تسحب شهيقًا ممتدًا داخلها ثم تزفره ببطءٍ في محاولة يائسة لتحقيق ثباتها الانفعالي لمواجهةٍ الحقيقي القريبة جدًا منها، لا شك بأنها أرادت أن تكون "نجلا" مُخطئة ومُضللة حتى لو أُعجبت بشخصيتها وصلابتها وفكرت أيضًا في الجانب الآخر من الأمر، ماذا وإن كانت صادقة واكتشفت أنها والدتها؟؟ هذه الصلابة التي تجمع بينهما مُثيرةً للقلق والريبة؛ هاتان الشخصيتان تبدوان وجهين لعملة واحدة ومجرى دم واحد!!!
-اتفضلي.

لم تستطع كبح جماح جسدها الذي ارتجف في رَّوعٍ، ظلت مُغلقةً بعينيها وشعرت برغبة شديدة في الفرار الآن حينما سمعت صوت الطبيبة يحثها على التقاط الورقة؛ ربما هي مُجرد ورقة وبالنسبة لها حياة، فتحت عينيها ببُطء ومدَّت كفها المرتجف تتناول الورقة منها على مضضٍ فشعرت الأخيرة بتوترها؛ فتابعت تقول بحِرصٍ تهوينًا عليها:
-إنتِ عايزة النتيجة تكون أيه؟؟؟ 
ابتلعت "سكون" ريقها بصعوبة بالغة قبل أن تردد بنبرة مُتلعثمةٍ:
-إيجابية، أنا عارفة إنها أمي  وإنه تحليل مالوش لازمة من البداية بس كُنت مُجبرة عليه بسبب الظروف.
تنحنحت الطبيبة وهي تبتسم ابتسامة فاترة قبل أن تربت على ذراعها وتقول بهدوءٍ:
-أحيانًا يبان لنا شر بس هو قمة الخير.
رمت عبارتها التي كانت بمثابة فتيل مشتعل بالنسبة للأخيرة ثم انصرفت، زوت "سكون" ما بين عينيها وخفق قلبها بهياجٍ بين ضلعيها وهي تراقب ذهاب الأخيرة بملامحٍ شاحبةٍ وأنفاس تتصارع وتتردد داخل صدرها، تحولت بنظراتها إلى المجلد القابع بين كفها تحدق في غلافه بتوجسٍ ولأول مرة تشعر بعجزٍ يُغلف تصرفها العنيد ويقيد جناحي صلابتها، تنفست بقوةٍ وابتلعت ريقها على مهلٍ تستعد لمواجهة الحقيقة، حسمت أمرها في النهاية وهي تفتح المجلد بسرعة كبيرة رهيبة ثم تختصر الوقت وهي تنظر إلى نهاية السطور تطلع على النتيجة الفاصلة فيما يجري في حياتها هذه الأيام.

تجمدت حدقتيها وتحجرت عيناها فور رصدها النتيجة كمن قُتل بسيفٍ الثقة مغدورًا، تشنجت صفحة وجهها كُليًا وارتجفت شفتاها وفرَّت دموعها الغزيرة بلا هوادة، عاشت عُمرًا بأكمله تتحمل امرأة سلبية هباءً؟! لقد كانت سلبية النتيجة رغم قسوتها أسهل عليها سلبية أُم لم تزرع في طريق أولادها سوى بذور الخنوع والخضوع، رفعت عينيها عن الورقة تنظر حولها في تيهٍ واضطرابٍ، ارتفع صوتها رغمًا عنها باكيةً وهي تسير بخطوات مبعثرة ومتعثرة وكأن الطريق أمامها مليء بشوك الحقيقة وأشباح الضلال الذي عاشت فيه لسنينٍ.

“على الجانب الآخر".
وقف بجوار سيارته أمام المختبر، يتطلع إلى بوابته تارة وأخرى إلى ساعته يستبين الوقت منها وتحوم تساؤلات كثيرة داخل عقله حول سبب وجودها بهذا المكان ولكنه في النهاية استطاع تخمين ما تفكر به "سكون"، ربما جمعهما مشاعر صامتة ولكنها يقرأها عن ظهرٍ قلبٍ ويعي جيدًا عدم استسلامها ونبشها عن الحقيقة حتى الوصول إليها كاملة، بدأ يدك الأرض بباطن قدمه في توترٍ ينتظر خروجها الذي طال، ربما لا تريد رؤيته ولكن قلبها يرغب في قربه بشدة؛ فعليه أن يفرض وجوده عليها والإطاحة بيبس عنادها، لحظات ووجدها تخرج من الباب بملامح باكيةٍ منهارةٍ، اضطربت أنفاسه ودون تفكير قد يجعلها تغيب عن ناظريه قرر أن يهرول إليها فورًا، هبطت درجات السلم بهمة فاترة وخطوات مهزومة ليسرع "كاسب" بالوقوف أمامها مُباشرةً قبل أن يردد متوجسًا:
-سكون، بتعملي أيه هنا؟؟
لم تنتفض أو تغضب من رؤيته بل بقيت هكذا على حالها يكسوها الذبول والشحوب وتنهمر دموعها بلا توقف، رفعت بصرها تنظر إليه بانكسارٍ ثم نزلت بعينيها إلى المجلد ولم تنبس ببنت شفةٍ، أدرك حاجتها إلى الصراخ ومعاصرة لحظة انهيار تموج داخل صدرها، أسرع بالتقاط المجلد ثم فتحه يقرأ ما بداخله قبل أن يرفع بصره إليها ويقول بلهجة ثابتة:
-دا تحليل نبيلة السروجي مش كدا؟! كُنت مُتأكد إنك مش مُقتنعة بكُل حاجة اتقالت لك من نجلا وإنك علشان تصدقي لازم تتحري الأمر بنفسك.
أسرعت بوضع كفها على صدرها وبدأت تمسح عليه باختناقٍ وهي تقول بصوت مُتهدجٍ مُنهارٍ:
-حياتي كلها عبارة عن كذبة!!.. إنتَ فاهم أنا حاسة بأيه دلوقتي؟؟؟

كاسب وهو يقبض على كفها ويقول بصوت مخنوقٍ:
-أنا أكتر واحد عارف إنتِ حاسة بأيه دلوقتي؟
أسرعت بسحب كفها ثم صرخت في وجهه بغلٍ:
-ويا ترى عارف إنك سبب من الأسباب اللي وجعاني دلوقتي.. ليه؟؟ ليه من البداية كذبت عليا.. دي أكتر لحظة أنا محتاجة فيها الجأ لك وللأسف بهرب منك.
كاسب وهو يضغط بكفيه على ذراعيها يجبرها على الثبات أمامه وهو يقول بانفعالٍ ناقمٍ:
-مكنتش أعرف إني هحبك، كنت فاكر إني أكبر من إن ست تأثر فيا أو تاخد قلبي مني وأنا واقف أتفرج عليها.
امتقع وجهها وهي ترمقه بنظرات جامدة ثم ترد بحدةٍ:
-انا دلوقتي برجع لك قلبك تاني وبقول لك ميلزمنيش، ومن اللحظة دي أنا برا حياتكم كلكم، اللعبة اللي كنتوا بتستغلوها كلكم الروح ردت فيها  وقررت تمشي طريق يخلو من كل واحد فيكم.
رفعت كفها تقبض على كفه القابض على ذراعها ثم أكملت بصرامةٍ وهي تزيحه بقوةٍ:
-لو مرَّت السنين وتقابلنا صُدفة ولقيتني نسيتك اوعى تفكرني بيك.. نسياني ليك في مصلحتك يا كاسب.

اغرورقت عيناه بالدموع وقال بأنفاسٍ ملتهبة في ترجي:
-سكون، بلاش الكلام دا؟؟ اوعدك إني هقويكِ وهفضل جنبك لحد المِحنة دي ما تعدي ومش هيبقى في حزن ولا كذب بعدها، متخليش الضغط اللي إنتِ فيه والوجع يصور لك إن الفُراق هين علينا؟ مش هكون ببالغ لو قولت لك إني بتنفس قربك وطاقتي بقتبسها من طاقة عينيكِ.. متهِدِنِيش؟
سكون وهي ترجوه باكتئابٍ مكبوتٍ:
-وأنا طاقتي اللي بتقتبسها خِلصت.. سكون ماتت يا كاسب.. تقبل الحقيقة دي بسرعة وقبل ما تتفرض عليك.

اندفعت من أمامه تتجاوزه ولكنه أوقفها قابضًا على ذراعها ثم ردد بأنفاس مخنوقةٍ تضرب أقاصي قلبه:
-على الأقل وَدعيني أو عزيني على مشاعرنا اللي اندفنت من قبل ما تعيش أو حتى قدمي لي حاجة تصبر قلبي، إنتِ كُنتِ لعمى قلبي بصري وبصيرتي، قدمي لي خدمة وقولي لي إزاي أتجاوزك!! 
لم تجد ما يمنح قلبه السلوى سوى الاندفاع صوبه وضمه إليها، خار آخر حجر من قوته ذائبًا في حضنها فشدد بذراعيه على خاصرتها وأحاطت هي بذراعيها عنقه ثم رددت من بين بكائها المرير بصوت هامسٍ:
-بحبك.
بكى وكأنما اعتاد البكاء أمام نفسه؛ فهي نفسه التي يتجرد من كل شيءٍ أمامها، بدأ يقبل رأسها بلهفة ثم أردف يستجديها بهمسٍ باكٍ:
-بلاش فراق الله يخليكِ وسامحيني؟؟
سكون وهي تبتعد عنه ثم تقول وهي تسحب كفها من بين كفه:
-مش قادرة.

تركته فورًا تغادر المكان بأكمله بعد أن أشارت لسيارة أجرة واستقرت داخلها فغادرت السيارة وبقى قلبه بداخلها، وقف مُتسمرًا في مكانه يتابع رحيلها بعجزٍ مهينٍ لم يذق طعمه إلا في هذه اللحظة، أسرع بمحو قطرات الدموع بمقاومة وإصرار، ظنت أنها هكذا تودعه ولا تدري أن اعترافها قد بنا داخله ألف عزيمة لامتلاكها.
•~•~•~•~•~•~•~•
تمطت في الفراش بكسلٍ وخمولٍ يحتلان مفاصلها ثم ركلت الغطاء بقدميها وبدأت تفتح عينيها بالكاد وهو تنظر بجوارها فلم تجده، أدركت توًا أنه قد ذهب إلى العمل بعد مكالمة أمس التي استغرقت منه الكثير من الوقت فتحولت صفحة وجهها إلى عبوس وضيقٍ وهي تعتدل في نومتها جالسةٍ وقد تذكرت العرضين اللذين قُدما إليه بالأمس وشعورها بالفرحة حيال أحدهما والانزعاج حيال الأخير، جاءه بالأمس رغبة إحدى القنوات في عمل لقاء صحفي معه عبر التلفاز والعرض الآخر كان من قِبل شركة كويتية تعرض عليه برنامجًا من تقديمه بعقد لمدة عامٍ على وَعد بأن يقبل تجديد العقد إن حقق البرنامج نجاحًا كبيرًا، كانت تشعر بالحُزن كلما تذكرت إجابته عن سؤالها حول اصطحابه لها في السفر ورفضه حتى تستقر أوضاعه هناك وفي النهاية أخبرها ألا تسبق الأحداث وأن تنتظر حتى يتخذ قرارًا، تنهدت تنهيدة ممدودة بعُمقٍ قبل أن تدمدم بضيقٍ:
-يارب أنا مش كارهه له النجاح بس عايزاه يمشي ويسيبني.
فركت عينيها في استسلام وقررت أن تترك الأمر حتى عودته، تدلت بقدميها عن الفراش ثم بدأت تجوب الغرفة بعينيها حتى استقرتا على الدولاب مرة أخرى، ظهرت ابتسامة هادئة على مُحياها قبل أن تنهض وتتمشى نحو الدولاب ثم تجر بابه بتردد إلى أن وقعت عيناها على المنامات مرة أخرى فأخذت تمعن النظر فيهم وأطراف أناملها تباعد بينهم كي تستطع رؤية معالم كل واحد منهم بوضوحٍ وبعد تفكير شديدٍ وعناءٍ في اتخاذ قرار كهذا، قامت بالتقاط منامة جريئة للغاية باللون الأسود وصارت تتأملها بملامحٍ خجلانةٍ مستحية من ارتدائه، يراودها كل ليلةٍ رغبة جامحة في قربه ومنحه حياة زوجية طبيعية فقد استحق ذلك وبشدة ونجح ببراعة في سرقة قلبها حتى وأن لم تُبدٍ ذلك بوضوحٍ، فبالرغم من خوفها الرهيب من لحظة خاصة تجمعهما ولكنها تُريد أن تستعد لها بكُل قبول وحُب وأن تترك الباقي لقلبها وله.

خفق قلبها بقوة كلما قررت أن تكون هذه الليلة هي ليلة اجتماعهما ولكنها أقسمت بينها وبين نفسها ألا يكون هناك رجوع عن هذا القرار، قامت بتعليق المنامة على المشجب قبل أن تتجه إلى الحمام استعدادًا ليوم طويلٍ ستبدأه بالذهاب إلى الخالة رابعة كي تساعدها في صُنع وجبته المُفضلة من أجل سهرة عشاء خاصة بينهما.
انتهت وخرجت بعد عدة دقائق وهي تلف المنشفة حول شعرها وتشرع في تجفيفه جيدًا وأثناء ذلك وقعت عيناها على ورقة يطل طرفها من أسفل الوسادة؛ فاندفعت تلتقطها ثم تفتحها وتقرأ ما بها في سرورٍ:
-صباح مُعطر بذكر الله.

قرأتها بخفوت ثم قرأت الذِكر المُلحق بالورقة بعد ذلك وكانت عيناها تُضيء ببريقٍ مُتأثرٍ وقلبها يفتقد رؤيته بشدة؛ لم تكُن تدري أنه صباحًا ملولًا خلا من شمس عينيه اللامعتين.
اسرعت بارتداء ملابسها ثم توجهت خارج الشقة وهبطت الدرج فأصبحت في قلب المزرعة، لم تميل إلى شقة الشيخ "سليمان" لأنها تعلم مكان تواجده في هذه الساعة، قررت أن تذهب إلى مجلسه أولًا كي يكون أول من ترى عينيها ويمكنها وقتها أن ترى زوجها الذي يشبه والده بصورة لا يمكنك ملاحظتها، اندفعت في طريقها إلى هناك وقبل أن تدخل المجلس وجدت "كاسب" يدخل من بوابة المزرعة ويتحرك باتجاه المجلس فحدقت فيه بدهشةٍ ثم تخصرت في ثباتٍ تنتظر اقترابه وما أن أصبح أمامها مُباشرةٍ حتى تساءلت في حدةٍ:
-إنتَ أيه اللي جايبك هنا؟؟
كاسب وهو ينفج متجاوزًا لها:
-وَميض، حقيقي معنديش طاقة للكلام والجدال وبمناسبة سؤالك، أنا واخد أذن من الشيخ سليمان لأني هستشيره في حاجة مهمة.
خبط على باب المجلس فأتاه صوت الشيخ يأذن له بالدخول، رفعت "وَميض" أحد حاجبيها قبل أن تمط شفتيها باستسلام بعدما رأت الغضب القائم في ملامحه، حسمت أمرها بالذهاب إلى رابعة حيث بيتها للتعاون معها في إنهاء وجبة العشاء قبل مجيء "تليد"، خبطت على الباب ففتحت لها "مُهرة" بملامحٍ مُبتهجةٍ بينما تابعت "وَميض" بابتسامة ودودة:
-مساء الخير يا عروستنا، ربنا يديم عليكِ البهجة اللي أنا شيفاها دلوقتي.
مُهرة وهي تتنحى جانبًا وتحثها على الدخول:
-آمين يا قلبي.. ادخلي.. ماما جهزت كُل حاجة.
اندفعت "وَميض" للداخل وهي تقول باعتذار واضحٍ:
-آسفة والله، معرفش نمت إزاي لحد دلوقتي!!!
مُهرة وهي تصحبها حيث المطبخ ثم تقول برقةٍ:
-ولا يهمك يا بنتي.. ماما بتصحى بدري وبتحب تتسلى كدا مع نفسها.
-صباح الخير يا خالتي، بعتذر علشان بتقل عليكِ!!
رابعة وهي تردد بعتاب حانٍ:
-إنتِ زيّ مُهرة والله عندي، وقت ما تعوزي أي حاجة في الدنيا.. اوعي تترددي تيجي لي وتقولي لي عليها.
أسرعت "وَميض" إليها تُقبل وِجنتها قبل أن تبتعد وتفرك كفيها بحماسٍ ثم تسأل:
-المفروض نبدأ منين؟؟
رابعة وهي تتجه بعينيها إلى القدر ثم تقول بهمةٍ ونشاطٍ:
-أنا سيبت لك الخلطة إنتِ اللي تعمليها بنفسك علشان قولتي لي إنك عايزة تعملي المحشي بنفسك أما الباقي جاهز والحمام باقي له يتحمر بالزبدة البلدي.
أومأت "وَميض" في سعادة وبدأت تستمع بإنصات إلى تعليمات "رابعة" وتفعل ما تُمليه عليها بحُب كبيرٍ حتى نجحت في النهاية من تجهيز الخلطة ثم ساعدتها كُلًا من "رابعة" و "مُهرة" في حشو الخضار وما أن انتهين حتى أسرعت "رابعة" في وضع القدر على النار كي ينضج فورًا، مسحت "وَميض" العرق الساقط على جبينها وهي تقول بصوت مرتاحٍ:
-أخيرًا خلصنا، أنا بقى هرن عليه أشوفه قرب ولا لأ علشان ننظم وقتنا والأكل يلحق يستوي.
شجعتها "رابعة" على ذلك، ذهبت إلى الصالة ثم أجرت اتصالًا عاجلًا به وما أن وصلها صوته حتى خفق قلبها وعزفت بخجلٍ عن الكلام؛ فتكلم هو بصوت هادئ منشرح وصلها سعادته باتصالها من خلال نبرته:
-طب كملي جميلك للآخر وسمعيني صوت القمر!
خرجت ابتسامة ناعمة من بين شفتيها وهي تقول بتوترٍ:
-هتيجي إمتى؟؟
رفع "تليد" أحد حاجبيه قبل أن يتساءل بمراوغةٍ:
-أيه؟؟ وحشتك؟؟
بللت شفتيها بطرف لسانها وهي تقول بنبرة مُتلعثمة متجاوزةً سؤاله الماكر:
-عاملة لك مُفاجأة.. من فضلك بلغني جاي امتى؟؟
اندهش وهو يقول في حماسٍ:
-مفاجأة ليا أنا؟؟ بمناسبة؟؟
وَميض وهي تلزم شفتيها بامتعاضٍ من مراوغته في الإجابة عليها:
-بدون مُناسبة، تليد؟؟ 
أجابها فورًا ما أن شعر بالضيق المنبعث من صوتها:
-لسه راكب عربيتي حالًا، قدامي ساعة بالظبط.
شهقت بخفةٍ قبل أن تقول بأنفاسٍ مُتسارعةٍ:
-طيب تمام.. تمام.. سلام دلوقتي.
أغلقت فورًا دون أن تنتظر رده ثم هرولت تسأل "رابعة" حول الوقت الذي يستغرقه نضوج الطعام فوجدته مُناسبًا وسوف تلحق تجهيز المتبقي من المفاجأة، استأذنت بالذهاب إلى شقتها وأخبرتها "مُهرة" بأنها ستُرسل إليها الطعام ما أن ينضج، شكرتها "وَميض" بامتنانٍ وغادرت مُسرعةً.
•~•~•~•~•~•~•~•
-قولي يا شيخ سليمان، أعمل أيه معاها؟؟
أردف "كاسب" بصوتٍ مخنوقٍ بعدما قرر أن يعترف بكُل شيءٍ أمام الشيخ خاصةً لعلمه مدى حُبها الشديد له واعتباره أكبر نقاط قوتها ودعمها، أراد أن يُخبره بأن قلبه يحترق حُزنًا على ما وصلت إليه الأمور بينهما؛ فهي منذ رؤيته لها ويعلم بأنها لن تكون امرأة عابرة وسيكون خروجها سهلًا لا وقع له على القلب؛ بل يعلم أنه سيُصيح مجنونًا بها وستكون ذات قوة سحرية تخطف قلبه بلمح البصر وقلبه مُطمئنًا لذلك، ترددت أنفاسه المختنقة في صدره وهو يُخبر الشيخ بأكثر مما تعرفه هي حتى رأى حُزنًا دفينًا يلتبس روح الشيخ الذي كان يبتهج قبل قليلٍ، ابتلع "كاسب" ريقه بصعوبةٍ حينما لم يجد ردًا من الشيخ ثم قال بلهجة مضطربة:
-عارف إن اللي سمعته دا صادم لأي حد يا شيخ سليمان، بس ليه سكون تعتبرني مُذنب بدرجة أبوها؟؟ ليه عقابي يكون نفس عقابه مع إني مش مجرم زيه؟؟

أطرق "سليمان" في حُزنٍ قبل أن يقول بصوت رخيمٍ غلبه الحُزن:
-لأ حول ولا قوة إلا بالله.. لله الأمر من قبل ومن بعد.
بقى هكذا لثوانٍ قبل أن يرفع بصره صوب الأخير ويستكمل:
-اوعى تلومها يا بني، لو الكلام اللي قولته دا صادم بالنسبة لنا بدرجة فهو صادم ليها الضِعف!!.

سقطت عبرات "كاسب" وهو يقول بوجعٍ مُقهرٍ:
-بس أنا مأخدتهاش بذنب أبوها يا شيخ سليمان، رغم رغبتي في الانتقام منه.. حبيتها.. كُنت قادر أقول إنها بنته وأحلل لنفسي بحيوانية اللي حلله هو بس أنا لحد اللحظة دي قاومت كتير علشان أحافظ عليها وأفضل في نظرها نفس الشخص الثقة اللي حابه تشوفني عليه.
سليمان وهو يربت على كتفه ويقول بامتنانٍ:
-احمد ربنا كل لحظةٍ إنك قاومت ورفضت تغضبه، لو فعلًا عايز تكسب "سكون" مرة تانية وتكون نصيبك.. دا هيحصل بتدابير ربنا ورحمته بقلبك.
كاسب وهو يبتلع غِصَّة مريرة في حلقه ويردد:
-كلمها عني.. حنن قلبها عليا.. قول لها إني بحبها ونفسي تكون معايا للأبد.. خليها تسامحني ونتجوز ونبعد عن أي حاجة بتوجعها!!!
نظر إليه "سُليمان" بتعاطفٍ قبل أن يمسح على كتفه ويقول بتفهم:
-اترك أمرك في معية الله، قادر يحققه.
•~•~•~•~•~•~•
نزلت من السيارة مُندفعةً داخل القصر كالسيلٍ المُدمرٍ، تلتهم خطواتها التهامًا حتى الباب الداخلي وما أن وصلت إليه حتى دفعته بقوةٍ فتاكةٍ ثم تحركت حتى وقفت في منتصف البهو وطفقت تصيح بلهجة حادة عالية:
-يا عثمان بيـــــه؟؟؟ يا نبيلة هانـــــم؟؟
كانت تتحرك في البهو بخطوات ثائرة تنتظر ظهورهما أمامها ثم صاحت مرة أخرى بأنفاسٍ حارقةٍ:
-ممكن أخد من وقتكم شوية؟؟؟ عثمان بيـــه؟؟ نبيلة هانـــم؟؟
هرول الجميع صوبها من عاملين وغيرهم؛ جاءت "نبيلة" مُسرعةً في رَّوعٍ وفتح "عثمان" باب مكتبه وطل من الطابق العلوي وكذلك خرجت "شروق" التي أتت لزيارتهم برفقة زوجها، كما هرول "عُمر" بكرسيه خارج غرفته وقابل وجهها الذي يشع شرًا ففهم على الفورٍ ما الذي حولها بهذه الطريقة.
ظلت ترمق والدها بنظرات ثاقبة حتى أسرع بهبوط الدرج وأصبح جميعهم يقفون أمامها في تساؤلٍ واندهاشٍ، شعر "عِمران" بضرورة صرف العمال إلى أعمالهم ففعل، وقف "عثمان" قبالتها بوجهٍ عابسٍ في حين رددت "شروق" بقلقٍ على شقيقتها وهي تقترب منها:
-سكون، إنتِ كويسة؟؟
سكون وهي تصرخ باختناقٍ:
-لأ... مش كويسة أبدًا.. مش كويسة بسبب الظالم دا.
أشارت باتجاه والدها الذي حدق فيها بنظرات نارية تشع غضبًا بينما تابعت "نبيلة" بصوت متوترٍ:
-سكون، أيه اللي إنتِ بتقوليه دا؟؟ اوعي تنسي إنك واقفة قدام باباكِ!!
التفتت "سكون" إليها قبل أن ترميها بنظرات ساخطة وتصرخ:
-استني إنتِ عليا، دورك جاي.
انفتح فم "نبيلة" على وسعه مصدومًا بينما تلعثم "عُمر" وهو يقترب من شقيقته ثم يهدئ من روعها قائلًا بلهجة لينة:
-سكون، علشان خاطري اهدي؟؟؟
صاحت وهي تقترب أكثر من "عثمان" ثم تنظر داخل عينيه بجفاءٍ وتقول بلهجة صارمة:
-مش ههدى يا عُمر قبل ما يعرفوا إني عرفت وساختهم.
كان يقف أمامها صامتًا وما أن تشدقت بكلمات مُتمادية حتى صفعها صفعة قوية أدمت وِجنتها ولكنها بقيت راسخةً لم تعبر عن وجعها ولم تئن حتى وهي تضحك ملء شدقيها وتقول باختناقٍ مكتومٍ:
-اضرب واغتصب واقهر قلوب الناس واحرق كمان لو عايز.. ما إنتَ عثمان السروجي.. يعني تعمل اللي إنتَ عايزه!!
شهقت "شروق" مصدومةً مما تقوله شقيقتها وعلامات الاستفهام تحوم حول رأسها، بينما صاحت "نبيلة" فيها بصوت جادٍ:
-كفاية جنان يا سكون، فهمينا في أيه؟؟؟
التفتت "سكون" بكل طاقتها المشحونة نحوها ثم أومأت وهي تقترب منها وتقول متجرعةً غيظها داخلها:
-عايزة تعرفي في أيه؟؟ اتفضلي اعرفي.
ألقت الورقة في وجهها بلهجة شديدة، فأسرعت "نبيلة" بالتقاطها من بين ذهولها ثم شرعت تنظر إليها بتوجسٍ؛ تحجرت حدقتاها فورًا وداخلها ريبة قوية ولكنها تمالكت نفسها وهي تسأل بتلعثمٍ:
-أأأيه دا؟؟
سكون وهي تردف بنبرة مُشتعلة:
-تحليل دي إن أيه ليا أنا وإنتِ يا ماما.
سكتت هنيهة ثم أضافت بتهكمٍ:
-ماما أيه بقى، ما طلع سلبي؟؟ 
التفتت "نبيلة" مُسرعةً بنظراتها صوب زوجها؛ فرأتهما وهما يتخالسان النظر إلى بعضهما البعض لتتابع "سكون" مرة أخرى بابتسامةٍ متهكمةٍ:
-تحليلي أنا وإنتِ سلبي؟؟ مش عايزة تقولي لي حاجة؟؟
أوجدت "نبيلة" صعوبة في ابتلاع ريقها فأسرعت "سكون" تنظر ناحية والدها الذي بقى صامتًا دون حراكٍ حتى قال في النهاية بملامحٍ باردةٍ:
-أنا عارف كويس أوي مين اللي لعب في دماغك، وأحب أقول لك إنها كذابة.. ضحكت عليكِ بالورقة دي علشان تضللك!!!
كانت "شروق" تستمع إليهم في ذهول وتشتُتٍ، فشعرت بأنها كانت أبعد ما يكون عن شقيقتها الفترة السابقة، ضغطت "سكون" على فكيها قبل أن تصيح بحنقٍ:
-إنتَ اللي كذاب ومُضلل ونجلا صادقة، عارف ليه؟؟ لأنها لما وريتني تحليلي أنا وهي وكان إيجابي مصدقتهاش.. الورقة دي نجلا متعرفش عنها حاجة.. لأن أنا اللي أخدت العينة بنفسي وعملتها.
صمتت لثوانٍ قبل أن تردد بنبرة ناقمةٍ:
-ارحم نفسك بقى وكفاية ظُلم وأذى، لسه بتدبح فيها وتسوء في سمعتها حتى بعد ما حقيقتك ظهرت، مكتفتش تذلها وتحرق روحها وتكون سبب في دخولها مستشفى المجانين؟؟؟
لم تتحمل "شروق" أكثر من ذلك فصرخت باكيةً منهارةً:
-إنتِ بتقولي أيه يا سكون؟؟؟ أنا مش فاهمة حاجة؟
التفتت "سكون" إليها ثم رددت بابتسامة فاترة:
-أنا هقول لك.
همَّت أن تتابع حديثها ولكنها وجدته يصرخ بصوت جهوري غاضب:
-سكــــون!!!
التفتت إليه ثم رددت بصلابةٍ:
-خلاص قول لها إنتَ.. قول لها إني بنت حرام.. قولها إني جيت نتيجة اغتصابك لخدامة بتخدم في قصرك ودمرت لها حياتها وحياة ولادها وكنت سبب في موت أبوها.. قولها يا بابا إني بنت الخدامة اللي ترجتك تعترف بيا وإنتَ رفضتني.. قولها يا بابا إني بنت حرام!!!
انفجرت باكيةً تتعالى شهقاتها بلا هوادة فأسرع "عُمر" بقلبٍ مفطورٍ إليها ثم ضم خصرها بقوةٍ بينما صرخت هي بقلبٍ مكلومٍ:
-قولي الحقيقة ولو مرة وحيدة في حياتك.. أكد لي إن نجلا تبقى أمي!!!
اجهشت ببكاء مريرٍ بينما بقى هو صامتًا فاستفزها تمامًا فصرخت من جديد:
-نجلا هي أمي!!
-والله العظيم أنا أمك وإنتِ مش بنت حرام.. إنتِ ضحية زيّ بالظبط.
استوقفها صوت يأتي من بعيدٍ؛ تشخصت أبصارهم جميعًا إلى تلك الواقفة أمام الباب ودموعها تُغرق خديها، اندفعت بقوة غاشمةٍ نحو ابنتها ثم وقفت قبالة "عثمان" ونظرت داخل عينيه بتحدٍ وقالت بلهجة شديدة:
-سألتك.. أنا أمها؟؟؟ جاوب!!!

تعليقات



×