رواية رحماء بينهم (كمثل الأترجة) الفصل الثاني والاربعون 42 بقلم علياء شعبان


رواية رحماء بينهم كمثل الأترجة الفصل الثاني والاربعون بقلم علياء شعبان 

“والذي نفسي بيده؛ لأكونن أول قاتلي آلامكِ؛ لأكونن حمامتكِ الزاجلة التي ترسلين معها آمالكِ فتطير بها إلى ربكِ؛ سأخبره بأن مولودتي التي خُلقت من ضلعي يجيش صدرها بأحلامٍ مؤجلة وأوجاعٍ مبعثرة؛ فويل لكلَّ من بيت النية لإيلامكِ كمن نبش فوهة بركاني الكامن ففاضت عليه حممي ونيراني". 
“الشيخ تليد السروجي". 
•~•~•~•~•~•~•~• 
كان صدامه بماضيه صدامًا عنيفًا مُدمرًا أسفر عن ضرب أقاصي عقله وتفجير بقايا ذكرياته التي توارت خلف أسوار الماضي البعيد، لم يظن يومًا أن ماضيه سيتجسد أمامه على هيئة امرأة ناقمة يجيش صدرها بمشاعرٍ مختزنة تلظت بلهيبٍ مُتفاقمٍ تنوي حرقه، لقد ازداد أعداؤه واحدًا بل هي أقواهم نفوذًا وأبغضهم له. 
ترجل من السيارة وصفق بابها بانفعال هائجٍ دون أن يحفل بغلقها وسار واسع الخطى نحو القصر، دخله بوجه يزداد لهيبًا حتى أنه لم يأبه بنداء زوجته التي تعجبت متوجسةً في ريبة من حاله، اندفع مُسرعًا يصعد الدرج حتى غرفته فدخلها وضرب بابها بطرف قدمه حتى أغلقه فنتج عن هذا اهتزاز أبواب القصر الأخرى، هلع قلبها وفكرت مليًا هل تذهب إليه أم تتنحى جانبًا حينما يأتي الطوفان!! 
وقف في منتصف الغرفة بمشاعرٍ مُهتاجة وأنفاس ضربها الاضطراب والتيه، بدأ يصول حول نفسه ذهابًا ورجوعًا فشعر بالاختناق يداهم عنقه ليبدأ في ارخاء ربطة عنقه بهياجٍ منفعلٍ وهو يصيح غير مصدقٍ رؤيته لها حتى الآن: 
-طب إزاي؟!.. قدرت توصل لي بالتخطيط دا إزاي؟ 
وقعت عيناه على طاولة صغيرة يفترش عليه أوراقه الخاصة بالعمل فاندفع يركبها بقدمه بقوة ضارية جعلتها تتزعزع قليلًا من مكانها وتطير الأوراق عن سطحها صارخًا بأنفاسٍ لاهثة: 
-هتخلص منها إزاي دي؟ آآآه يا بنت الحرام! 
رفع كفه إلى ربطة عنقه وانتزعها نهائيًا ثم رماها على الأرض، اضطربت أنفاسه أكثر فرمى جسده على السرير جالسًا عليه ثم شرع ينزع معطفه الأسود الذي يقيده برسمية لا تتناسب مع اهتياج حالته الحالية، بدأ يمسح ذقنه بكفه وأنامله في تحير ليأخذه عقله مُرغمًا إلى تلك اللحظات التي يعاني تبعاتها الآن. 
كانت تقف "نجلا" أمام حوض غسيل الأواني بالمطبخ في نهاية يومٍ مكتظٍ بالأعمال والأشغال خاصة أنه قام بضيافة مجموعة من زملائه للقصر ودعوتهم لقضاء الوقت معه وتناول الطعام، كان والدها مريضًا ذلك اليوم فلم يذهب إلى عمله، استغل "عثمان" انصراف أصدقائه والعُمال من القصر وسفر زوجته إلى والديها وذهب إليها بعقل مُغيبٍ نتيجة اسرافه في الشُرب، مشى نحوها بخطوات مترنحة فيما كانت تنشغل هي في إنهاء عملها وعقلها شاردًا في أولادها الماكثين في البيت دون طعامٍ أو شرابٍ ينتظرون عودتها ببقايا الطعام المتبقي من ضيافة اليوم. 
شعرت برياح خافتة تتحرك بجوارها فالتفتت ببصرها فوجدته يسير مقتربًا منها، تدبرت ابتسامة خافتة ثم تابعت على استحياءٍ وهي تجفف كفيها بمريول المطبخ: 
-أنا قربت أخلص أهو يا عثمان بيه، هتعوز مني حاجة تانية؟؟؟ 
أومأ سلبًا يرمقها بنظرات ثاقبة فتجنبت نظراته الجريئة فيها وتابعت بتلعثمٍ: 
-طيب أنا كدا المفروض هقبض النهاردة صح؟ 
افتر ثغره عن ابتسامة خبيثة ورد: 
-صح. 
ابتسم ابتسامة فاترة واستدارت للحوض تستكمل باقي عملها وطرف عينيها لا يزال يراقب حركته بعدما أحست بغرابته فأدركت أنه ربما أثقل في الشربٍ وشعرت بأنها لم تعد في مأمن وعليها أن تأخذ مرتبها منه ثم تغادر على الفور. 
لم تنته بعد من شرودها بأولادها حتى وجدت فجأة صدره يلتصق بها من الخلف وذراعيه تداهمان خصرها وتقبضان عليه بقوة، جحظت مصدومةً وانتفض جسدها بأكمله وهي تردد بصوت مرتاب يتسلل إليه الفزع محاولةً التملص منه وإبعاد ذراعيه عن جسدها: 
-إنتَ بتعمل أيه يا بيه، نزل إيدك يا عثمان بيه الله لا يسيئك!! 
ضغطت على ذراعيه في محاولة بائسة لإبعادهما إلا أنه علق بها بقوة ضارية فأدارها عُنوة حتى صار وجهها بوجهه ثم مال عليه بجسده الثقيل وبدأ يُقبل عنقها بينما تصرخ "نجلا" صرخات مروعة فزعةً وهي تدفعه بوهن امرأة تخوض صراعًا غير متكافئ مع وحش همجي بربري، كان يرغب فيها بشدة ولا يوجد ما يردعه عن نيل مبتغاه مهما فعلت من توسلات واستعطاف أو بكاء حتى ولكنها رفضت الاستسلام وبدأت تتلوى بقهرٍ بين ذراعيه حتى يفقد الأمل في الحصول عليه وينتهي جهده ويتخلى عما ينوي فعله بها، لم تتخيل أن يفقد عقله تمامًا وينهال ضربًا على وجهها ثم يدفعها بقوة ليطرحها أرضًا وقبل أن تستجمع طاقتها للنهوض ينقض على جسدها بجسده ويبدأ في تكبيل أطرافها بقبضته وبالأخرى شرع يمزق ملابسها كاشفًا عُريها وسط صراخها العاجز الذي ينقطع له نياط القلوب: 
-ابعد عني.. أبوس إيدك ابعد عني.. اتقي الله إنتَ عندك وِلية؟؟؟ 
لا تجدي توسلاتها نفعًا فكان كالأصم عن سماع صرخاتها فبدأت تتلوى قهرًا في محاولة لستر جسدها العاري من نظرات عينيه الشرهتين بتفاصيله، تسطح فوقها تمامًا فعزز من عجزها وأضعف مقاومتها فانهمرت دموعها تنجرف من عينيها وبكت بمرارة تنادي علَّ أحدهم يسمعها إلا أنه كمم فمها بيده وبدأ يستبيح جسدها بدم باردٍ. 
عاد من ذكريات تلك الليلة التي يتذكرها جيدًا رغم إثقاله في الشُربٍ فهو لم يكُن جديدًا على الأمر بل من مُتذوقي الخمر فاعتاد تأثيره وكان يتأقلم معه جيدًا فلم يكن وقتها مُغيبًا تمامًا ولكنه أوهمها بذلك وبرر لزوجته إغراءها له وعرض نفسها عليه! 
طرد همومًا سامةً بنفخة من صدره وقبضته تطرق على طرف الفراش من شدة الغيظ؛ فهي آخر من كان يظن الالتقاء به يومًا ما، في هذه اللحظة سمع طرقًا خفيفًا على الباب وصوت "نبيلة" ينادي بتروٍ: 
-عثمان، في مشكلة؟! 
أجاب مُقتضبًا وهو يضع رأسه بين قبضتيه: 
-لأ. 
تبادلت "نبيلة" النظرات مع ابنتها التي تقف بجوارها، أومأت "سكون" بهدوءٍ قبل أن تقول بنبرة خافتة: 
-طيب، ممكن أدخل!! 
نفخ "عثمان" بسخطٍ وتابع محتدًا بالغضب: 
-عايز أكون لوحدي شوية.. أظن كلامي مفهوم ومش عايز مجادلة نهائي معايا. 
رفعت "سكون" أحد حاجبيها ثم لوت شدقها وهي تقول بحزمٍ: 
-براحتك. 
همَّت أن تغادر إلا أنها استقبلت سؤالًا من والدتها تقول باستنكارٍ: 
-هو فين أخوكِ!!.. من الصُبح مش شايفاه!! 
لبست "سكون" وشاحَ الثبات فردت دون أن تُظهر توترها بسبب غياب شقيقها الذي تمرد على والديه مُقررًا بدء صفحة جديدة دونهما: 
-معرفش! 
استدارت تعطيها ظهرها فبادرت "نبيلة" بالتقدم والوقوف أمام طريقها وهي تقول بلهجة ساخطة على تصرفات ابنتها التي تتعمد فيها إثارة حنق والدها: 
-إنتِ عارفة إنك سبب أساسي في وصول بابي للمرحلة دي؟! أيه هدفك من التمسك بناس والدك مش بيحبهم ولا هم بيحبوه؟ 
اتسع حاجبيها وهي تقول بسخرية: 
-فعلًا أنا السبب؟! ولا أفعاله هي السبب.. وتصحيحًا لمعلوماتك هو بس اللي مش بيحبهم. 
تنهدت "نبيلة" تنهيدة طويلة قبل أن تقول بحدة وهي تسحبها من ذراعها ناحية غرفتها: 
-تعالي معايا علشان بابي ما يسمعش. 
سحبتها خلفها إلى أن دخلتا الغرفة وأغلقت "نبيلة" الباب خلفهما ثم التفتت نحو ابنتها وتابعت بسخطٍ: 
-إنتِ إزاي بقيتي جاحدة كدا؟! إنتِ وبابي كنتوا أكتر من أصدقاء، فهميني مين اللي لعب لك في دماغك وقال لك أيه عنه؟؟؟ 
اِفتر ثغرها عن ابتسامة هزلية قبل تتجهم معالم وجهها مرة أخرى وهي تقول بنقمٍ: 
-لأي مدى تعرفي شخصية جوزك يا نبيلة هانم؟ بيعمل أيه في يومه؟! بيخطط لأيه في دماغه؟؟ نزواته مثلًا!! 
جحظت "نبيلة" في شدوه جعلها تتسمر في مكانها وما أن تداركت أقاويل ابنتها حتى تساءلت باستنكار ولومٍ: 
-جوزك ونبيلة هانم.. وأيه نزواته دي كمان؟ إنتِ أكيد اتجننتِ!! 
سكون وهي تتابع في ابتأسٍ: 
-لأ فاضل لي شَعرة واتجنن يا ماما. 
ضربت "نبيلة" كفًا بالآخر ثم صاحت بانزعاجٍ: 
-اختلاطك مع تليد ومراته وقُربك منهم الفترة الأخيرة وترددك على بيت عمك خلاكِ واحدة تانية، خليكِ واضحة معايا، وَميض قالت لك أيه عن باباكِ خلاكِ مش طيقاه ولا طيقاني!! 
أردفت بضيقٍ وتبرم: 
-إنتِ ليه مُصممة تطلعي وَميض وحشة، مهما كان اختلافنا معاها دا ميمنعش أبدًا إني أديها حقها، وَميض مُندفعة ودبش بس مش خبيثة ولعلمك أنا وهي مجمعناش كلام أساسًا؛ فبلاش نعتبرها شماعة نعلق عليها سبب تغييري معاكم زيّ ما بتقولي! 
اهتاجت خلجات "نبيلة" وهي تصيح بحدة: 
-أمال في أيه فهميني؟!! 
خللت "سكون" أصابعها بين شعرها قبل أن تتحرك نحو النافذة ثم تنظر إليها وهي تتابع بحنقٍ: 
-تعرفي واحدة اسمها نجلا! 
زوت "نبيلة" ما بين عينيها في استهجانٍ وهي تعترض على سؤال ابنتها الغير واضح مغزاه: 
-مين نجلا! 
لم تستطع كتم الموقف الذي دار بينها وبين تلك المرأة سلفًا وكلماتها التي تدين والدها بصدد تعرضه لها والتعدي عليها وانتهاك عرضها، عضت شفتيها بامتعاضٍ قبل أن تستدير مرة أخرى وتنظر داخل عيني والدتها ثم تقول بملامحٍ مُتجهمة: 
-نجلا حمدي زهران، اللي بتضربنا في أكل عيشنا من وقت موت جوزها، مطلعتش بتنتقم لجوزها زيّ ما كُلنا عارفين، دي بتنتقم لنفسها! 
اكفهر وجه "نبيلة" تتساءل بإشارات متخبطة تتطاير من عينيها فاستكملت "سكون" بصوت مخنوقٍ: 
-نجلا بتتهم بابا إنه اغتصبها لمَّا كانت شغالة عنده، نجلا قالت لي إن أبويا مُغتصب ومُنتهك أعراض، عرفتي سبب تغييري معاكم!! 
قرَّت دمعة حارقة من عينها فصاحت "نبيلة" تستهجن ما سمعت برفضٍ واستنكارٍ: 
-دي واحدة كدابة!! 
سكون بقلبٍ يخفق في لوعٍ: 
-ياريت تكون كدابة.. بتمنى تكون كدابة فعلًا! 
زاغت نظرات "نبيلة" بعيدًا عن نظرات ابنتها وأول ذكرى من الماضي جاءت إلى عقلها هي ذكرى تلك الخادمة التي تدعى "نجلا" وكيف حاولت إغراء زوجها والايقاع به للزواج منها كما قال لها، ابتلعت ريقها على مضضٍ قبل أن تستدير وتندفع خارج الغرفة بخطوات مهتاجة غاضبة. 
•~•~•~•~•~•~•~•~• 
خرجت ضحكة طويلة ساخرة من فمها، كيف لها أن تتقبل هذه التُرهات؟! نتيجة إيجابية تمامًا ولا يشوبها شائبةً رغم تغيير العينة لأُخرى عشوائية، تعالت ضحكاتها تباعًا وهي تقف متصلبةً في مكانها وتتحسس بأناملها الحبر على الورقة ثم تنظر إلى "ماكسيم" وتقول باستنكارٍ تامٍ: 
-أيه المعمل المُغفل دا، للدرجة دي نتايجهم فشنك ومشاعر الناس لعبة في إيديهم!!.. تخيل نعمل تطابق لعينتي أنا وإنتَ نطلع إخوات!! 
رمقها "ماكسيم" بعينين متسعتين في ذهولٍ وهو يقرأ ما دُون في الورق ثم يتوجه بنظراته إلى "كاسب" الذي ينظر إليهما في تساؤل وحيرة، هبَّ من مكانه مقررًا ألا يبقى كالأبله دون فهم ما يجري في المكان، تحرك إليهما ثم التقط الورقة وبدأ يقرأ النتيجة ثم تساءل بفضولٍ: 
-مش المفروض إن دي عينة سكون زيّ ما بلغتوني؟! 
قطب حاجبيه ينتظر ردًا منهما؛ كانت لا تزال "نجلا" تضحك بشكلٍ هستيري فيما أجابه "ماكسيم" بملامحٍ مضطربة: 
-لأ.. غيروها لعينة شخص تاني. 
تساءل بريبة وتوجسٍ: 
-مين؟!! 
أجابته "نجلا" بضحكة أخذت في الخفوت والبهتان: 
-وَميض!!!! 
جحظ مصدومًا وهو يتنقل ببصره بين الاثنين ثم يعاود النظر مرة أخرى إلى الورقة وكُل ما جاء إلى عقله في هذه اللحظة الحديث الذي جمعهما تلك الليلة حينما عادت "سكون" سالمة إلى بيتها وسارت "وَميض" إلى غرفته في الخفاء وقتها تفاجأ بها ما أن فتح الباب فبدت متذمرة حانقة وهي تقول بصوت جافٍ: 
-إحنا لازم نتكلم! 
قطب حاجبيه ثم تطلع يمينًا ويسارًا في قلقٍ قبل أن يسألها باستغرابٍ: 
-أكيد، سامعك!! 
رفعت "وَميض" أحد حاجبيها قبل أن تعقد ذراعيها أمام صدرها وتقول بكلمات شديدة بلهجة حادة: 
-إنتَ عايز أيه من سكون؟! ومتحاولش تعمل نفسك مش فاهم سؤالي!! 
ضيق عينيه وقال بعدم إدراكٍ لما ترمي إليه نظراتها وكلماتها التي تتهمه عبرها: 
-أنا مش فاهم فعلًا!! ولا عارف حتي سبب لكلامك الغامض دا؟! 
أومأت وهي تحسم الأمر بالتوضيح أكثر فأسهبت حديثها تقول بحنقٍ: 
-سمعت الكلام اللي دار في المستشفى بينك وبين نجلا!!.. كدا وِضحت الصورة؟ 
ابتلع ريقه على مهلٍ قبل أن تتلخبط كلماته وهو يقول بلهجة متلعثمة: 
-أيًا كان اللي سمعتيه فمفيش أي خطر على سكون من ناحيتي أبدًا.. أنا بحبها ومستحيل أأذيها أو أسمح لحد يعمل دا! 
امتقع وجهها ثم تجهم مرة أخرى وشرعت تقول بصوت حادٍ مُتحدٍ: 
-لا إنتَ ولا غيرك تقدروا تأذوها لأن لو شعرة من شعرها اتأذت إنتَ أول واحد هبلغ عنه وهوديك في ستين داهية؛ ابعد عنها إنتَ والتعبانة التانية، سكون ملهاش ذنب علشان تدفع تمن أفعال أبوها مهما كان عداوتكم له واللي مش عايزة أعرفها، بس سكون مش لُقمة سهلة تاخدوا بيها حقكم من عثمان السروجي. 
سكتت هنيهة ثم صوبت إصبع السبابة في وجهه وأكملت بوعيدٍ صريحٍ: 
-للمرة الأخيرة بفكرك.. جرب تأذيها وأنا أقسم بالله هخليك تعيش الباقي من عُمرك كله بين القضبان. 
قررت أن تنسحب من أمامه فسارت خطوتين ثم استدارت له مرة أخرى وهي تقول بحزمٍ: 
-بلغ رئيستك إن لعبتكم انكشفت!. 
عاد من شروده بهذه المواجهة على صوت ارتطام جسد "نجلا" بالأريكة وهي ترمي نفسها عليها، بلل شفته بطرف لسانها قبل أن يُصرح بوضوحٍ: 
-وَميض عرفت إني واحد من رجالتك وواجهتني.. عرفت دا لمَّا سمعت كلامنا في المستشفى!! 
التفتت تحدق فيه بعينين متسعتين يكسوهما الصدمة فارتخت أطرافها وطارت الورقة من بين أناملها وهي تقول بصوت خافتٍ يتخلله الضعف: 
-إنتَ فاهم يا كاسب الورقة دي بتقول أيه؟! فاهم مدى السخافة اللي أنا بتعرض لها! 
تدخل "ماكسيم" يقول بثباتٍ: 
-لو معتقدة إن المعمل على أده تبقى غلطانة، دا أكبر معمل تحاليل موجود ونتايجه كلها موثقة وموثوق فيها مية بالمية واختارته بالأخص لأنه مكان معروف. 
ابتلع ريقها ببطء وصاحت باستنكارٍ: 
-ودا معناه أيه؟؟؟ 
ماكسيم وهو يلوي شدقه باستسلام تامٍ لِمَ يقبع في حوزته: 
-مستحيل النتيجة تكون فشنك زيّ ما قولتي.. مش يمكن تكون "وَميض" بنتك فعلًا وهو أداها لعلَّام لأنه رافض يعترف بيها علشان كبريائه ومكانته ترفض اعترافه بطفلة أمها خدامة عنده!! 
شق كلامه قلبها إلى نصفين وجف حلقومها وهي تحاول ابتلاع هذه الحقيقة المرة، يتكلم "ماكسيم" بمنطقية تميل إلى الحقيقة، انفطر قلبها ما أن تخيلت كلماته وسالت دموعها تنجرف بحرارة عميقة، تهدج صوتها فجأة وتقطع في ارتعاشٍ وهي تقول بأنفاسٍ مضطربة: 
-وَميض!!!.. معقول وَميض تكون بنتي؟ 
تألمت وهي تتأمل عبارتها ثم أسرعت بوضع وجهها بين كفيها وشرعت تجهش باكيةً بمرارة غصَّت قلبها، تحرك "ماكسيم" نحوها ثم أطبق بكفيه على كفيها وجلس جاثيًا على ركبتيه أمامها وهو يقول بلهجة ثابتة: 
-نجلا، العياط مش هو الحل، إنتِ لازم تواجهي وتوصلي للحقيقة ولو عايزاني أعيد التحليل تاني في مكان تاني نعيده! 
نجلا ببكاء متهدجٍ: 
-قلبي موجوع يا ماكسيم.. فرقني عن بنتي عُمر كامل مش هعيش أده وأنا معاها ويا عالم هتتقبلني أصلًا ولا لأ!! 
كاسب يقول بأسفٍ شديدٍ: 
-أحب أبلغك إن وَميض مش هتتقبلك نهائيًا لأنها في الأصل مش بتحبك ودا بان لي في كلامها معايا وتهديداتها. 
أمعنت النظر إلى وجه "كاسب" ولكنها كانت تنظر إلى أبعد من ذلك فخُيل لها أنها ترى أكثر شخصًا يمكنه أن يُخبرها بالحقيقة كاملة، ذُرفت دموعها أنهارًا ولكن نظراتها توحشت وتعمقت بشرارة الانتقام ومعرفة الحقيقة التي تتعقد لحظة بعد أُخرى، عادت من شرودها اللحظي تتطلع إلى وجه "كاسب" وهي تقول بلهجة صارمة: 
-هنتقم من عثمان أشد انتقام لنفسي ولبنتي.. بعرفك تجهز نفسك للي اتفقنا عليه واستنى مني الإشارة! 
محت دموعها بظاهر كفها ثم استجمعت نفسها من جديد ونهضت بشموخٍ من مكانها ثم بدأت تتحرك بخطوات ثابتة صوب الباب وقبل أن تتجاوز الورقة المرمية على الأرض أسرعت بالميل إليها ثم التقطتها وتابعت سيرها نحو الدرج. 
•~•~•~•~•~•~•~• 
رحب بهما بحفاوة كبيرة جدًا؛ فمن يأتي إلى بيته هو "سُليمان السروجي" بعظم قدره؛ فمعروف عن هذه العائلة حُسن انتقاء النسب ورغم ملاحظته غياب "عثمان" وعدم حضوره مع ابنه إلا أنه لم يأبه بالأمر حتى أنه لم يسأل أو يُعلق بشأن هذا فما يهمه الآن أن ابنته استطاعت أن تأتي له بعريسٍ ملء ثيابه وذي حسب ونسب يتفاخر به وترتقي عيشته طبقات كثيرة بينما "رويدا" شعرت بالحُزن والأسف لغياب والديه وتأكدت من رفضهما القاطع لها إلا أنها لم تُرِد إحزانه وهو الذي وقف أمامهما بتحدٍ كي يحوز عليها، تختلف طباعها كثيرًا عن والدها فهي عزيزة النفس بينما هو يراها سلعة ذات جودة عالية انتظر طويلًا حتى يبيعها لمن يدفع أكثر. 
-نورتونا الحقيقة يا شيخ سليمان وإنتَ يا عُمر يا بني! 
أومأ "عُمر" صامتًا فرد الشيخ بصوت ودودٍ: 
-البيت مُنير بأهله.. أنا عارفة إنك بتسأل في عقلك ليه والد ووالدة عُمر مش معانا!! 
تنحنح "منصور" قليلًا ثم أومأ رغم سهولة تخمينه للسبب والذي تجاهله تمامًا ولكن يخشى أن يقوله الشيخ فيبدو "منصور" دون مبادئ يرغب في تزويج ابنته من عائلة ترفضها إلا أنه أردف بهدوءٍ: 
-أعتقد ظروف! 
قالها معتقدًا ومتأكدًا أن الشيخ سيؤكد على كلامه ولكن "سليمان" أومأ سلبًا وتابع بصدقٍ حقيقي: 
-لأ.. عثمان رفض ييجي معانا.. مش عيب في بنتنا لا سمح الله.. ولكن في مشاكل بينه وبين عُمر وبإذن الله تتحل على وقت حفل الخطبة. 
ابتسم "منصور" مُجاملةً ثم ردد بلهجة ثابتة يواري خلفها عدم اهتمامه بهذه المشاكل لطالما ابنته سوف تنضم في النهاية لهذه العائلة الثرية: 
-أتمنى يا شيخ.. لأنك أكيد عارف إن أي أب في الدنيا يهمه راحة بنته وأنا مش هقبل جوازها عند ناس مش متقبلينها بينهم! 
عُمر وهو يرد بلهفة: 
-صدقني هأمن لرويدا حياة مُستقرة بإذن الله وهحافظ عليها. 
كانت تقف بعيدةً تحديدًا خلف الستار الذي يفصل باب الغرفة عن الصالة تتابع الحديث الجاري بينهما في سعادة غامرة فبالرغم من ضيقها من تصرف والديه إلا أن كلماته أدخلت الدفء إلى قلبها وطمأنته، شعرت بضربة رقيقة على كتفها من الخلف وصوت والدتها يقول بخفوتٍ: 
-واقفة كدا ليه زيّ الحرامية يا بنت إنتِ!! 
ابتسمت بخجلٍ وهي تتحدث بهمسٍ إلى والدتها: 
-عاجبك كدا واقفة ورا الستارة وخايفة يشوفوني، مش كُنتوا عملتوا لي حيطة استخبى وراها زيّ ما بشوف في الأفلام! 
والدتها بابتسامة مرحة تردد: 
-ليس كُل ما يتمناه المرء يُدركه يا قلب أمك. 
قطع دردشتهما صوت الشيخ وهو يتساءل بهدوءٍ: 
-فين العروس علشان نقدم لها هديتنا!! 
هرولت من خلف الستار تستتر قبل أن يفتحه والدها ثم يرونها تقف وتستغرق السمع إلى حديثهم، جاء إليها والدها وطلب منها أن تأتي معه لرؤية خطيبها وعمه فانصاعت تخطو بجواره على استحياءٍ إلى أن دخلت الغرفة، علقت نظراته المتيمة بها فكانت نظرات من نوعٍ آخر يشوبها حلاوة النور دون التخفي.. يخالطها دفء المشاعر الصادقة بين الخاطب وخطيبته.. ابتسم ابتسامة دافئة فبادلته بأخرى ناعمة وهي تُلقي السلام مُرحبةً بالشيخ ثم تجلس إلى جوار أبيها، ابتسم الشيخ مُرحبًا بها في ودٍ قبل أن يخرج من جيب عباءته عُلبة من القطيفة ثم يمد يده بها إلى "منصور" ويقول بابتسامة صادقة: 
-دي هدية بسيطة من العريس للعروس. 
تناول "منصور" العلبة منه ثم فتحها بلهفة متوارية لتجحظ عيناه في ذهولٍ من قيمة الهدية الكبيرة فكانت خاتمًا رقيقًا من الألماس الحُر، اندهشت "رويدا" كذلك وجاء إلى ذاكرتها ذلك اليوم الذي كان يحادثها فيه عبر الهاتف وسألها بفضولٍ إن كانت تحب الدهب أم لا وكان ردها بأنها سوف تستبدل الذهب بخاتمٍ من الألماس لأنها تحلم بارتدائه، اِغرورقت عيناها بدموعٍ الفرح لأنه لا ينسى أمانيها أو ما تتفوه به في لحظات الصفاء بينهما. 
ولكنها التفتت إلى "عُمر" وقالت بنبرة لومٍ: 
-بس دا كتير أوي يا عُمر؟! مكنش فيه داعي منه! 
وجه إليها نظرة حانية قبل أن يقول بلهجة لينة: 
-مفيش حاجة كتيرة على وجودك جنبي ولو كُنت أقدر على أكتر من دا مكنتش هتردد. 
ابتسم "سليمان" برقة ثم تابع وهو يلتفت إلى والدها: 
-اتفضل لبسها الخاتم يا أستاذ منصور! 
تابع "عُمر" بسرعة مُتمردًا على الوضع وهو يقول بضحكة مازحة: 
-أيه دا هو مش أنا اللي هلبسها الخاتم، أنا بعترض على القرار دا يا عمي! 
سليمان بمزاح هادئ: 
-الخطبة لا تبيح لك لمسها يا ولد. 
أومأ "منصور" وهو يلتقط الخاتم فتمد "رويدا" كفها له ويضع الخاتم حول إصبعها في سعادة من جميع الأطراف وما أن انتهى حتى تابع "سليمان" بسعادة مثيلة: 
-نقرأ الفاتحة لمُباركة الخطبة ومباركة كل ما هو قادم على خير. 
•~•~•~•~•~•~•~•~• 
وضعت كفها على عنقها في اختناقٍ ضاق به صدرها وشعرت الهواء من حولها ثقيلًا جدًا والغرفة تضيق عليها كذلك، كانت تتمدد على فراشها بعد أن قررت أن تخمد عقلها الذي كاد أن ينفجر من شدة التفكير هربًا بالنوم إلا أنها لم تستطع وقد جافى النُعاس جفتيها وأبى أن يغلفهما حتى ينقطع حبل أفكارها الذي أوشك على خنقها، لم تجد بُدًا من النهوض فنزلت مُسرعةً من الفراش ثم فتحت دولابها والتقطت منه وشاحًا صوفيًّ بعد أن استمتعت مؤخرًا لصوت رذاذ المطر يرتطم بأغصان الأشجار وزجاج النوافذ، وضعت وشاحها ثم اندفعت تخرج من الغرفة ثم التهمت الدرج التهامًا إلى الطابق الأول ومنه إلى الخارج حيث الحديقة وما أن خرجت من البوابة حتى نظرت للأجواء بتأمُلٍ وبدأت تسحب هواءً مختلطة برائحة المطر إلى صدرها وتزفر بهمومها بعيدًا فكانت تستقبل نسمات ناعمة وترمي بأخرى مشحونة، بدأت تسير بخطوات وئيدة داخل الحديقة ونظراتها مُعلقة بالبوابة تنتظر وصول شقيقها الحبيب ولا يغيب عن بالها سعادته البالغة حينما أعطته خاتمها كي يهديه لحبيبته التي تمنت واحدًا مثله؛ فلا يوجد أغلى من شقيقها كي تمنحه أحب أشيائها. 
لا يعلم "عُمر" أنه أكبر مصادر قوتها وإلهامها فلولاه ما لمست داخلها اللين والحب بل لانغمست في طغيان والدها وأصبحت وجهه الآخر، ينجح ببراءة في استحضار مشاعرها الناعمة وحنانها المختزن داخلها ولا يظهر إلا عندما ترى شقيقها فتتدفق المشاعر الصادقة والدافئة إليه وكذلك شقيقتها الكُبرى التي بمثابة ضميرها الحي الذي يرشدها إلى استفتاء قلبها قبل أي شيءٍ وتصرفٍ. 

تنهدت تنهيدة ممدودة بعُمقٍ قبل أن تشعر بشخص يقف بجوارها فالتفتت بسرعة تنظر إلى الواقف بجوارها لتتحول ملامحها العابسة إلى أخرى منشرحة، التفتت تنظر أمامها مرة أخرى ثم تقول بصوت خافتٍ: 
-شُكرًا على كل حاجة.. شُكرًا إنك موجود في حياتي.. مش كُل الصُدف عابرة.. في صُدف جابرة. 
ابتسم ابتسامة فاترة يحاول فيها أن يُعبر عن أسفه مما أُمر به للنيل منها بينما هو لا يجرؤ على الاقتراب إلا لحمايتها وليس أذيتها: 
-أنا اللي اتجبر خاطري والتأم كسري من يوم ما وعيت على عينيكِ. 
جاش صدرها بمشاعرٍ تكتظ بالألم وتجمعت الدموع في عينيها وهي تسأله بوجعٍ وكأنما تشعر بأسفه بل وتستجديه ألا يفعل: 
-تفتكر ربنا في يوم هيخلص ذنوب أبويا فيا أنا وأخواتي؟؟؟ بس ربنا رحيم ورحمته واسعة، أنا مؤمنة بدا! 
ابتلع "كاسب" غِصَّة مريرة في حلقه قبل أن يتابع بلهجة خافتة مرتبكة: 
-ربنا عادل أوي ما بيظلمش نفس ولا بيحملها إثم ذنب لم ترتكبه، "ولا تزر وازرة وِزر أُخرى"، كل واحدٍ فينا مسؤول ومُحاسب عن فعله ومستحيل سبحانه وتعالي ياخدك بذنب حد، هوني على نفسك يا سكون. 
فرَّت دموعها على وِجنتيها تختلط بالمطر لتقول بصوت مُتهدج متقطع من كثرة البكاء والشعور بالذنب: 
-يا ترى نجلا كانت صادقة ولا كذابة يا كاسب؟؟ يا ترى ضحية ولا أبويا برئ من اتهاماتها؟!. 
كاسب بلهجة حادة وقد غاب عنه التحكم في أعصابه كلما جاء إلى عقله سيرة ذلك الرجل الطاغي: 
-أبوكِ هو اللي مُغتصب. 
التفتت ترمقهُ بنظرات مشدوهة رغم ما يغلفها من سكون فتنحنح ما أن تدارك خطئه وبدأ يصحح كلماته بهدوءٍ: 
-آسف بس إحساسي بيقول كدا! 
أومأت تتفهمه بل  ولا تلومه على ظنه بوالدها الذي دومًا ما كان سببًا في كراهية الجميع له، شعر بشرودها وصمتها الطويلين ومحاولة احتواءها لجسدها بكلا ذراعيها؛ فتابع بلهجة لينة: 
-بردتي؟؟ 
ردت بصوت مبحوحٍ: 
-شوية! 
نزع المعطف عنه وأسرع بوضعه على كتفيها حريصًا على تدفئتها كيلا يصل البرد القارس إلى أطرافها فتمرض، كانت تتأمل الفراغ أمامها بينما يتأملها هو بعين عاشق يتخبط بين فكرة انتقامه وعشقه المتأجج لها، فلا يطاوعه قلبه على كسرها حتى الهواء البارد الذي يتسلل إلى قلبها فيبرده يود لو يدفعه بقوة عنها.. يحارب البرد إن طالها فكيف تسول له نفسه أن تكون ضحيته وصورته كبطلٍ مغوارٍ يستطيع أن يراها عبر مرآتي عينيها، شعر بالاختناق يداهم صدره فبدأ يمرر أصابعه بين خصلات شعره في حيرة واستنكارٍ يتحاربان في صراعٍ قد لا ينتهي أبدًا!. 
•~•~•~•~•~•~•~• 
تناثرت الأوراق من حولها بفوضوية وكذلك أعقب السجائر التي انتشرت تمامًا في كل بقعة بالغرفة حينما أطاحت بالمنفضة في انفعالٍ ضارٍ تحاول من خلاله إرضاء مشاعر الانتقام لديها، كانت الغرفة مُبعثرة وكُل شيءٍ مُلقى بالأرض، تحركت تدوس قدماها الأوراق المنثورة في ترنحٍ فليست معتادة على الشُربٍ ولا تهوى مذاقه ولكن عقلها كاد أن يطير من معقله وقلبها بدأ يتمزق إربًا إربًا بشعورٍ مُميتٍ؛ هربت من الواقع بعقل مُذهب علها تنسى ولو قليلًا ما تمر به أو تتخدر مشاعرها المتألمة والمكلومة ولكنها كانت على وعي كافٍ حتى تترنح بخطواتها إلى أن وصلت إلى دولابها ففتحته وطفقت تنبش الملابس بأناملٍ مُرتجفة وترميها بالأرض إلى أن ظهرت خزنة النقود التي تخبئها في زاوية نائية داخل الدولاب، أسرعت تكتب كلمة المرور فانفتحت الخزنة فورًا لتلتقط منه صندوقًا خشبيًا صغيرًا ثم تعود إلى مكانها مرة أخرى لتجلس بين الأوراق المبعثرة من جديدٍ، جلست بالأرض ثم مددت ساقيها أمامها ووضعت الصندوق على فخذيها، التفتت على جنبها تتناول قارورة الخمر ثم تسكب الكثير منه داخل الكأس وتبدأ في رفعه إلى فمها وتجرع ما بداخله على مرة واحدة ثم ألقت الكأس بقوة وإهمالٍ وبدأت تفتح الصندوق بأطراف مرتجفة لتلتقي عيناها مع ماضٍ يحرقها ويلتهم صبرها بوحشيةٍ تُعذبها، يقبع داخل الصندوق مجموعة من الصور لأطفالها فنبشت بأناملها حتى التقطت صورة بعينها، رفعتها بحُزنٍ دفينٍ بين ضلوعها حتى صارت أمام مرأى عينيها وبدأت تتطلع إليها بإمعانٍ كبيرٍ ثم أسرعت بالتقاط هاتفها بارتجاف يسري داخلها كدمائها ولا تستطيع مقاومته، نظرت إلى شاشة الهاتف التي يظهر فيها صورة لفتاة شابة فبدأت تتحرك بين الصورتين بعينين ذابلتين وأنفاسٍ متخبطة، تعود الصورة إلى "وَميض" بعد أن كثفت البحث عن حسابها الشخصي عبر فيسبوك ثم تصفحته لساعات وهي تدقق النظر في تفاصيلها إلى أن صُدمت بتاريخ ميلادها فأجهشت باكيةً في انهيارٍ وهي تضرب صدرها بقبضتها: 
-آآآه، أنا آسفة يا قلبي، ورحمة أبويا لأجيب لك حقك وحق سنين عُمرك اللي ضاعت بعيد عن خُضني وكل دقيقة كنت نفسي فيها أشم ريحتك وأحضنك. 
رفعت الهاتف إلى وجهها ثم قبلت الصورة الظاهرة على شاشته وأسرعت بتقريبه إلى قلبها وهي تقول بلهجة سامة: 
-هدفعك تمن كدبك وفُجرك تمن غالي أوي يا عثمان، تمن مكنتش أبدًا تتوقعه من بنت البواب مكسورة الجناح. 
ركنت الصندوق جانبًا ثم حسمت أمرها بالنهوض ورغم ترنحها إلا أنها لن تهدأ قبل أن تلتقي بشخصٍ ما!.. تعرقلت أثناء وقوفها ولكنها تحاملت على نفسها بإصرارٍ يجعلها تفعل ما لا يتخيله أحدٌ. 
•~•~•~•~•~•~•~•~•~•~• 
كانت مشاعرها تقفز فرحًا داخل صدرها فرذاذ المطر كفيل أن يسحبها من عُمق همومها ثم يغسلها منها، هرولت صوب الباب بتلقائية طفلة لا تحسب مُطلقًا لخطواتها لتضع يدها على المقبض وقبل أن تخرج وجدتهُ يتساءل في تعجبٍ: 
-إنتِ رايحة فين في الجو دا؟؟؟ 
التفتت إليه ثم رددت بنبرة سارة لا يستطيع أحد أن يعكر صفوها: 
-المطر بيرُخ، تيجي معايا!! 
هبَّ واقفًا من مكانه ثم اندفع نحوها وهو يقول بدهشة يخالطها الحدة: 
-نعم؟؟ أجي معاكِ فين؟؟؟ 
وَميض وهي تبتسم ببلاهة وترد: 
-ندعي. 
رفع "تليد" أحد حاجبيه ثم أردف ساخرًا وهو يقبض على رسغها: 
-وهي الدعوة تحت المطر هتُستجاب وفي الشقة لأ!!! 
التوى شدقها وهي ترد مُتبرمة من ضغطة قبضته: 
-أنا بحب أدعي تحت المطر وبحس إن الدعوة أعمق ومسموعة أكتر. 
كز على أسنانه وهو يقول بلهجة حانقة: 
-ربنا بيسمع دعوتك لو كُنتِ تحت سابع أرض مش بس تحت المطر.. يلا ادخلي وبلاش دلع!. 
تنحنحت "وَميض" في هدوءٍ ثم أردفت بنبرة تجتذب من خلالها رضاه وموافقته: 
-لو سيبتني أنزل أدعي تحت المطر.. هديك قطرة! 
رمتهُ بغمزة من عينيها فابتسم ابتسامة عريضة وقال ببعض اللين: 
-إنتِ يعني تساوميني؟؟؟ 
وَميض وهي تمط شفتيها بحزمٍ: 
-چاست ديل (مجرد اتفاق). 
أومأ موافقًا على مضضٍ وهو يقول بلهجة آمرة: 
-موافق بس ادخلي البسي الجاكيت الأول. 
تهللت أسارير وجهها وقفزت في سعادة ثم هرولت تتناول معطفها وعادت مسرعةً إليه وهي تجتذبه من كفه ثم تسير به هابطين الدرج إلى المزرعة، كان يعتقد "تليد" أن زوجته هي المجنونة الوحيدة التي تعتقد أن الدعاء أسفل رذاذ المطر له مفعول سحري وفوري ولكنه تفاجأ حينما رأى "مُهرة" تجلس على صخرة أسفل المطر وتنظر إلى السماء وهي تُداعب صوف معزتها المُفضلة وما أن رأتها "وَميض" حتى لوحت لها وهي تتحرك بين الخُضرة في سعادة لم يعهدها منها من قبل!! 
تحرك مُسرعًا خلفها، وقفت في منتصف الخُضرة ثم رفعت أكفها عاليًا وبدأت تتحدث بخفوتٍ وتضرُع في كلمات خفية لا يعلم عنها شيئًا، ابتسم ابتسامة بسيطة مُستسلمًا لصرفها الغريب حتى قرر أن يُجرب شعورَ الدعاء أسفل رذاذ المطر وتذوق مُتعته التي تحكي عنها زوجته، بدأ يفعل كما تفعل هي فأغمض عينيه ورفع كفوفه وطفق يدعو بقلبٍ خاشعٍ مُتمني وهو يقول بمشاعرٍ تزدهر بفضلها: 
-"اللهم لا تذيقني ألمَ غيابها عني مرة أخرى، ألهمها قوة تواجه بها ما لا تستطيع مجابهته، فلا تكسر لأُترُّچتي ضلعًا ولا تقص جناحي حريتها ولا ينحني لها قامة؛ بل قوها بكَ واجعلني سببًا في بث قوة خرافية بين ثنايا قلبها الناعم الوَهِن". 
فتح عينيه رويدًا رويدًا ليجدها تنظر إليه بعينين مستمتعتين لتجربته طقوسها في استقبال المطرٍ، تحركت نحو ثم تابعت بابتسامة هادئة: 
-تعرف بقى إن في حاجة تانية حلوة زيّ الدعاء بالظبط!!! 
أومأ يسأل بإشارات من عينيه فاستكملت هي بضحكة متوارية وهي تصرح بأسرارها المجنونة له: 
-إنك تقف تحت المطر وترفع راسك وتفتح بؤك وتشرب من الماية اللي نازلة من السما، حاجة كدا عظمة وبتغسلني من جوا. 
انفتح فمه وهو يحرك رأسه ببلاهة وما لبث أن انطلقت ضحكة عالية من بين شفتيه وهو يضرب كفًا بالآخر قائلًا بفرط من الضحكٍ: 
-دماغ متكلفة مش طبيعية أبدًا، طب ما أشرب من الحنفية أسهل؟؟؟ 
زوت ما بين عينيها ثم التوى شدقها وهي تقول بحنقٍ: 
-إنتَ بتتريق على طقوسي وقت المطر؟؟ 
مد ذراعه إليها ثم جذبها بقوة نحوه ثم رماها بغمزة ذات مغزى من عينيه وهو يقول بمكرٍ: 
-تعالي هنا.. فين القطرة اللي وعدتيني بيها؟؟؟ 
تنحنحت في خجلٍ وهي تشيح بوجهها عن ناظريه ثم أردفت بنبرة خافتة مرتبكة: 
-أيوة صح أنا وعدتك.. طب بص.. غمض عينيك! 
شعر ببوادر غدر ولكنه جاراها في مطلبها حتى النهاية، أغمض عينيه منتظرًا مفاجأتها له بينما هرولت هي نحو الزير ثم التقطت الكوب البلاستيكي القابع عليه وهرولت مرة أخرى نحوه ثم مدت ذراعيها للأمام والكوب لا يزال بين كفيها وبدأت تتابع هطول قطرات المطر داخله لعدة ثواني امتدت إلى دقيقة تقريبًا حتى جعلته يمل الانتظار ويقول متذمرًا: 
-هستنى كتير ولا أيه؟؟؟ 
تابعت بمكرٍ وضحكة مراوغة: 
-تؤ تؤ، خلاص قربت. 
ارخت ذراعيها وهي تنظر إلى الماء الذي قبع داخل الكوب باقتناعٍ وتقبُل ثم اقتربت منه أكثر وهي تضع الكوب أمام عينيه وتقول بمرحٍ ومراوغة: 
-فتح!! 
قطب حاجبيه وهو يُبصر كوب الماء القابع أمام ناظريه باستغرابٍ فتجاوزه ناظرًا إلى عينيها يتساءل بعلامات تعجب كبيرة، ابتسمت ابتسامة عريضة وردت على إشارات عينيه المستفهمة تقول بثقة: 
-القطرات اللي وعدتك بيها.. اشرب يلا!! 
أطبق أسنانه ببعض في غيظٍ وقال: 
-هتجلط منك قولًا ومضمونًا. 
صاحت تقول بضحكة متوارية ومعالم وديعة: 
-بعيد الشر عنك يا تيتو، الماية دي هتقاوم أي جلطات.. يُنصح بها الأطباء وأنا.. اشرب.. بسم الله الشافي. 
خطف الكوب منها بغيظٍ مكظومٍ جعلها تنتفض وقبل أن تلوذ بالفرار من أمامه تمكن من إحكام قبضته على ذراعها بينما توترت وتخبطت مشاعرها وهي تجده يصدمها بصدره ثم يهمس بنبرة تعبق بحرارة عميقة ومتوعدة: 
- أنا عايز قطرة من إياها زيّ ما وعدتيني! 
تخضبت وِجنتاها وهي تطرق برأسها للأسفل لمقاومة نظراته التي تخترقها وسخونة جسده الذي يرغب فيها وقبل أن يتابع كلماته التي تُخجلها جاءه اتصالًا أنقذها من براثنه فغرس كفه داخل جيبه ثم أخرج الهاتف مبصرًا اسم المتصل على شاشته، تنحنح بهدوءٍ وهو يُفلتها ثم يبتعد قائلًا بابتسامة هادئة: 
-لحظة وراجع. 
أجاب بعد أن أبتعد مسافة لا تجعلها تستمع إلى كلامه عبر الهاتف: 
-خير يا مدام نجلا!! 
جاءه صوتها المبحوح تقول في حسمٍ: 
-لازم نتكلم ضروري.. أنا واقفة قدام بوابة المزرعة!!!! 

تعليقات



×