رواية رحماء بينهم (كمثل الأترجة) الفصل الواحد والاربعون 41 بقلم علياء شعبان


رواية رحماء بينهم كمثل الأترجة الفصل الواحد والاربعون بقلم علياء شعبان 

انتشر الغمام في السماء فقتم لونها وصار مائلًا للسواد في يوم عاصفٍ بالريح العاتية وقُرب هطول الأمطار الغزيرة بصورة متوقعة، أفرع الأشجار تهيج بانتفاضٍ كلما تلاقت في صِدام مع الريح وكُل ما على الأرض لم يعُد ثابتًا عليها فتتقاذف الريح كل شيء وتلقي به في غير أماكنه حتى قلبها كان له نصيبًا داخل هذه الفوضى فكان لكبريائها انتكاسة جعلته ينغمس في طين الأرض ولم يشمخ أنفها عاليًا منذ ذلك اليوم الذي عصف بقلبها المنكسر فصدعه إلى أنصاف كثيرة لا تصلُح للترميم.

منذ ذلك الوقت لم يعُد قلبها قابلًا للاستخدام مرة أخرى ولم ينفع حتى في ترميمه كمجردٍ أنتيكة لا جدوى منها توضع فقط على رفٍ قديمٍ؛ صار فقط شظايا حادة تدمي أنامل من يجرؤ على الاقتراب منها.. هِرة شرسة تخدش ولا تُبالي نيتك بشأنها؛ أأنتَ رَّاعِي أم مُروَّع!!

وقفت أمام البوابة الحديدية الكبيرة بجسدٍ هزيلٍ رفيعٍ جدًا وقامة محنية فتبدو سيدةً عجوزًا كلما نظرت إليها للوهلة الأولى ترى فيها بقايا أُنثى صغيرة التهم شبابها الزمن والأيام، ارتدت عباءة سوداء باهت لونها وحجاب أسود كذلك وبدت في حالة مُزرية مروعة لمن يرها، جرت قدميها بجسدٍ عليلٍ تُجبره على المقاومة والصمود فانقضت على البوابة تطرقها بكُل ما بقي لها من قوة واهية وطفقت تصرخ بأنفاس مضطربة:

-يا عثمان بيه.. افتحي لي البوابة.. ابوس يدك.. إنتَ لازم تسمعني؟!.

كانت تصرخ منهارةً من قوة الكابوس الذي تعيشه كل يومٍ بفضل حقارته ودناءته، لم يكفه نزواته الليلية والرقم القياسي الذي حطمه منذ أن اشتد عوده وصار شابًا فوضع عينيه على خادمة القصر حتى نال منها وأشبع شهواته بُغتة منها.. كانت تصرخ فيه أن يرحمها ويتوقف عما يفعله من ذنب فادحٍ قد تطير فيه رقبتها إن سمع الناس وهي التي لا تملك في هذه الدنيا سوى سُمعتها التي تضاهي لون القطن زاهيةً عفيفة تصون زوجها الذي اضطر على السفر للبحث عن لُقمة عيشه في بلد آخر وخلفها ورائه مع أطفالها، فلزمت بيت أبيها الذي يعمل بستاني وبواب للقصر وقررت أن تبحث عن مصدر للرزق لتغطية احتياجات أطفالها التي لا تنضب فعملت طاهيةً للقصر الذي عاش فيه عثمان وحده بعد أن اختلف مع شقيقه الأكبر الذي تنازل له عن كُل شيء وقرر أن يقتصر الأمر ويقطن في مكانٍ بعيدٍ عنه عله يهدأ وتذوب جليد المشاعر السلبية التي تقبع في نفس "عثمان" ناحية شقيقه ولكن بُعد "سليمان" أطمع الأخير في السطو على كُل ما تملك العائلة والتعامل مع الأمر وكأنه الوريث الوحيد لهذه الكُنية.

لم تستسلم، اشتدت قبضتها المتكورة تضرب حديد البوابة بصراخ اشتد كلما طال الجواب:

-افتح البوابة يا عثمان بيه!!..بالله عليك افتح!

في هذه اللحظة وجدت البوابة تنفتح على مصراعيها فظهر أمام عينيها "علَّام" الذي يعمل مشرفًا على طاقم الخدم داخل القصر ويعتبره "عثمان" ذراعه الأيمن؛ فامتدت ببصرها تتجاوز الواقف أمامها لتجد "عثمان" يأتي من بعيدٍ صوبها، هرولت بخطوات متعثرة تشتبك مع طرف عباءتها فتهيم على وجهها بالأرض ولكنها بعزيمة وَهِنة تنهض من جديد وتهرول إليها إلى أن وصلت إلى قدميه فجثت على ركبتيها وسجدت أمامه تُقبل حذاءه وهي تقول بانكسارٍ مهينٍ:

-ابوس رجلك لتنقذني من المصيبة اللي وقعتني فيها.. قول الحقيقة.. قول إني مليش ذنب وإنتَ اللي اغتصبتني بالقوة؟!!

ركلها ركلة خفيفة بطرف حذاءه جعلها ترتد للخلف ثم تابع مُحقرًا منها مُستهزئًا بسذاجتها:

-إنتِ مجنونة؟! حتة خدامة زيك تأمرني أقول أيه وما أقولش إيه؟!

انتفض جسدها من شدة الإهانة التي سرت كالجمر في عروقها وكان مذاقها زقومًا ولكنها ابتلعتها مرغمةً وهي تصرخ بانهيارٍ:

-حرام عليك دمرت لي حياتي.. أبويا بيموت من الصدمة وجوزي رافض يصدقني وعايز يطلقني.. إنتَ دمرت لي حياتي.. منك لله يا أخي.. ربنا ينتقم منك.

ضغط أنيابه غيظًا ثم مال بجسده نحوها إلى أن قبض على حجابها بقوة جامحة وشرع يسحبها بغير رحمة عائدين إلى البوابة، هدر بانفعال هائجٍ:

-إنتِ بتدعي عليا يا زبالة.

نجلا ببكاء مريرٍ خرج معه صرخات متألمة من قبضته:

-أنا حامل حرام عليك.. الناس كلت لحمي بالظُلم.. حامل وجوزي مسافر من سنة!!

ظلت تلطم وجهها قهرًا تستجديه محاولةً نبش شيم الرجولة المدفونة فيه ولكنها لم تنجح، فصاحت مغلوبة على أمرها في انكسارٍ:

-طيب بلاش تقول للناس إني مظلومة.. على الأقل انقذ بيتي الي هيتخرب؟!.. قول الحقيقة لجوزي وأبويا وأنا عهد عليَّ هسامح في حقي ومش هخليك تشوف وشي تاني!!

كانت حُمرة الغضب تُلهب جميع قسمات وجهه ولكنه توقف فجأة ثم احتدت نظراته إليها وقال متهكمًا:

-إنتِ عبيطة؟ أو عندك سوء إدراك؟!! بقول لك أنا مش فاكرك أصلًا.. مش فاكر ليلتي معاكِ أو إني لمستك.. ولو شوفتك هنا تاني هسجنك إنتِ وأبوكِ وهقول إنكم بتدعوا بالزور عليا وعايزين تلبسوني طفل ابن حرام علشان طمعانين في سيدكم.

سكت هنيهة ثم أضاف بوعيدٍ:

-بس وقتها هوديكم ورى الشمس وكل محاولاتك علشان تستجديني مش هتنفع وقتها.. فمن غير شوشرة تمشي وتنسي أي حاجة حصلت لك؟؟؟

حدقت فيه بذهولٍ واستنكار ثم رددت بألم غلف كل ذرة بها واستقر بقلبها:

-انسى أيه يا بيه؟! انسى إنك استباحت عرضي بالقوة وأنا بتذل لك تعتقني لوجه الله؟ ولا انسى إني حامل من واحد غير جوزي؟! ولا انسى إني بسمع كلام الناس اللي بيدبحني؟! ولا انسى أنه بيتقال عليا رخيصة وأنا عايشة طول حياتي ما امتلكش فيها غير عِزة نفسي؟ ولا انسى إن انتهاك عرضي بالنسبة لك كان زي قرار تدخين سيجارة وقت ضيقتك؟؟؟ ولا انسى الناس وهم بيقولوا دي بتغريه؟

لاحت ابتسامة واهية على شفتيها وتابعت بانكسارٍ:

-بغريك بأيه يا بيه؟ جلبيتي السودا ولا طرحتي اللي طايلة رجلي؟! ولا يمكن عرجة رجلي من كُتر التعب والشقا؟؟؟

انكمشت صفحة وجهه وهدر محتدًا بالغضب الشديد:

-أنا اللي عندي قولته واوعي تكوني فاكرة إني ممكن أحن واعترف بطفلة جاية من بطن خدامة ولو على الناس فالسنين هتنسيهم.

ابتلعت غِصَّة مريرة في حلقها وصرخت فيه باختناقٍ شق حلقومها وأدماه:

-بس أنا مش هنسى، مش هنسى شرفي اللي طمعت فيه ولا هنسى ضعفي وأنا بحاول أستر جسمي من عينيك اللي كانت بتاكل فيا ولا شهوتك الحيوانية، لو الناس والدنيا كلها نسيت أنا مش هنسى.

عاد يقبض على ذراعها بشراسة ثم قادها بعُنف كالقمامة يود التخلص منها بأسرع ما يمكن، قاومت مستميتة على البقاء وترجيه عله يترفق بحياتها المعرضة للانهيار ولكنه لم يحفل بعجزها أو كسرتها وهي تستجدي مغتصبها وهو من يجب عليه أن يستجديها طالبًا غفرانها!

قوبلت دموعها الحارقة بلا مُبالاة منه وما أن وصل إلى البوابة قام بدفعها بالخارج ووقف ينظر إليها شامخًا محتميًا بنفوذه وسلطته التي لا تُقارن بنملة ضعيفة تخشى أن تدوسها قدماه وهو يمشي مختالًا في الأرض. 

انقضت الأيام ثِقال عليها وأعين الناس تفترسها بدمٍ باردٍ كلما مرَّ الوقت وانتفخ بطنها، حاولت جاهدةً التخلص من الجنين ولكن كان في ذلك خطورة على حياتها فقد نما الجنين وصار غير قابلٍ للإجهاض، اشتد المرض على والدها العجوز ولم تقم له قومة وبدا ينازع أيامه الأخيرة وكذلك وصلها مُخبر من المحكمة يُبلغها بالطلاق ومن وقتها لا تستطيع الوصول إليه تاركًا إياها تتحمل أعباء ومسؤولية أطفالها وحدها داخل هوة سحيقة من الفقر المدقع، لم تجد بُدًا من الذهاب إليه مرة أخرى وتقبيل قدميه مرة أخرى لتبرئتها في محاولة بائسة للعيش بين أهل بلدتها برأسٍ شامخٍ ولكن لم يجدي اللقاء الثاني نفعًا.

“-يا علَّام، ارمي الزبالة دي برا مش عايز أشوفها في القصر دا تاني وإلا العقاب هيطولك إنتَ.

هاج صارخًا في وجه الأخير الذي تسمر واقفًا ينظُر إلى تلك الفتاة الضعيفة الواقعة بالأرض تنتحب في ألمٍ ولا تملك مثقال ذرة من قوة أو إرادة، قطب "عثمان" حاجبيه حينما لم يجد ردًا من "علَّام" فهاج مُجددًا بأنفاس تغلي:

-سامع ولا لأ!

انتفض جسد "علَّام" وعلى الفور أومأ مُنصاعًا؛ فيما صرخت هي بكل ما تحمله من طاقة مُستهلكة:

-حرام عليك، يا أخي ربنا ينتقم منك ومن أمثالك، ليه عملت فيا كدا؟! سيرتي بقيت على كل لسان بسببك.

أسرعت تلتقف ساقه ثم تتشبث بها في نحيب بينما بدأ يركلها بغضب وطغيان قائلًا:

-هو أمثالكم هيفرق مع الناس أصلًا؟! يا بنتي محدش مركز معاكم لأننا كأسياد مش شايفينكم.

اجهشت باكيةً بحُرقة حينما ركل ركلته الأخيرة التي أصابت جنبها الأيسر فصرخت بانهيارٍ:

-أبويا بيموت بسببك، طب علشان خاطري يا بيه انقذني من عيون الناس وكلامهم اللي زيّ السم، علشان خاطري!!.. أبويا بيموت من الحُرقة والكسرة!

اِفتر ثغره عن ابتسامة ساخرة ظهرت بوضوح على جانب فمه وانحنى قليلًا ناظرًا داخل عينيها مُباشرة ومُضيفًا بسخرية:

-انقذك إزاي؟! يا بنت البواب!

هي بدموع مُنهمرة:

-قول لجوزي إني اتغصبت على اللي حصل لي لأنه مش مصدقني، أبوس إيدك، أنا بيتي بيتخرب!!!

ضحك ملء شدقيه ثم باغتها بقبضة قوية على فكها قائلًا بغيظٍ:

-ملعون جوزك على أبوكِ، إنتِ شكلك عبيطة وأنا مش فايق لك.

أسرعت بالقبض على ياقته ثم جاهدت أن تتكلم رغمًا عن قبضته الضاغطة على فكيها:

-أنا مش مجنونة، أنا اتهتك عرضي من واحد خنزير وألسنة الناس مش سايباني في حالي حتى جوزي مش عايز يصدق إني بريئة وطلقني وأبويا من القهرة بيموت ومفيش حد راضي يشغلني عنده.. حرام عليك عيالي هيموتوا من الجوع!!

أسرع بالقبض على ذراعيها ثم أجبرها على ترك ياقته وهو يقول بلهجة شديدة يغمرها التهديد والوعيد:

-إنتِ تخرجي من هنا ومش عايز أشوف وشك تاني وإلا قسمًا بالله المرة الجاية هتكوني بين عداد الموتى، سامعة يا بت ولا لأ!.. افتكري إني حذرتك قبل كدا؟

أجهشت بحُرقة وهي تُخفي وجهها بكتفيها تتفادى اعتدائه عليها بالضرب حيث بدأ يلطم وِجنتيها بقسوة بينما تصرخ هي بقهرٍ:

-حسبي الله ونعم الوكيل فيك.. ربنا ينتقم منك يا ظالم.. ربنا يكسر فرحتك بكُل غالي عليك.. ربنا يكسر قلبك زيّ ما كسرت نفسي وكسرت كبرياء أبويا وسرقت شرفه وشرف جوزي بالقوة.

كانت تصرخ داعيةً عليه بكُل ما يأتي إلى رأسها بينما يزداد ضربه المُبرح لها حتى اقترب "علَّام" منه وراح يسحب ذراعه عنها قائلًا بنبرة مُتلعثمة يملأها الحُزن والضعف:

-كفاية يا بيه، سيبها لحال سبيلها.

وكأنه عُمي تمامًا عن رؤية شيء سوى تفريغ طاقته المشحونة فيها وما كان من علَّام إلا أنه أسرع بجذبها من بين ذراع الأخير ووقف حائلًا بينهما ليجد عثمان يهدر في وجهه بصوت أجشٍ:

-ارمي الكلبة دي برا.

أومأ "علَّام" حتى لا يثور الأخير مرة أخرى؛ فيما رمقتهُ "نجلا" بكُره وما أن نهضت عن الأرض حتى بصقت في وجهه مما أثار حنقه من جديد وهم أن يقبض على حجابها ليُسرع علام بدفعها بعيدًا عنه بينما قالت هي بحُرقة قبل أن تتحامل على نفسها مُغادرةً للقصر:

-افتكرني كويس يا بيه لأني راجعة لك تاني في يوم من الأيام علشان نصفي حسابنا!

حدجها بعدوانية ولكنها تحركت بخطوات متباطئة خارج بوابة القصر رغم شعورها بالعجز المهين حول استكمال سيرها إلى البيت وكذلك شعور الوضاعة التي تشعر به نتيجة نظرات الجميع لها؛ فلم تفعل شيئًا حتى يتم نبذها من الجميع حتى زوجها؟! لا يُصدق أن زوجته الضعيفة قد وقعت فريسة لسيد قوي البنيان لا يخشى أحدًا ولا يُمكن مقاومته من قِبل رجل عتي فكيف لها أن تفلت من تحت براثنه!!

سارت تجر ساقيها بعجزٍ حتى أنها تحايلت على نفسها ألا تخذلها وتنهار أمام مرأى الناس وأن تكون عونًا لها حتى تسترد حقها المنتهك، نهرت نفسها لكونها ضعيفة سلبية تنتمي لعائلة فقيرة لا تمتلك سوى الشرف وحتى هذا استكثروه عليها!!.. ترجت دموعها ألا تسقُط وأن تناصرها حتى تحقق النصر!.

-استني!!

ناداها بصوت مُتهدجٍ، توقفت في الحال دون أن تستدير نحوه ففعل هو حتى وقف أمامها مُباشرة وقال بضيقٍ:

-انسي اللي حصل، لأن اللي زينا لازم يتنازلوا علشان يعيشوا!!

رمقتهُ بنظرات صامتة بينما تابع بتنهيدة حارة:

-كان بودي أساعدك بس مش عارف إزاي!!!

أجابته بثبات وصوت مُتحشرج:

-اشهد معايا ضده يا علَّام، ساعدني أفضحه، أبوس إيدك!!!

أومأ سلبًا على الفور وقال:

-مش هقدر، سامحيني، دي لُقمة عيشي الوحيدة!

أومأت بدموع محبوسة وقالت:

-لُقمة عيش طعمها صبَّار، خلي بالك وإنتَ بتحافظ على لُقمة عيشك مع ظالم زيّ دا ييجي الدور عليك في يوم من الأيام وتكون مراتك مكاني؟!!

أنهت كلامها وتحركت من أمامه بينما نكس رأسه بقلة حيلة شاعرًا بالحُزن على حالها واليأس على حياة صعبة لا يمكنه فيها أن يقول كلمة حق لأن الحق لن يجني له رزق بل سيقطع عنه كُل سُبل الحياة".

مات والدها قهرًا ولم يحضر جنازته أحدٌ ولم يؤازرها من أهل البلدة سوى القليل منهم، نبذوها على جُرم لم ترتكبه وصدقوا فيها السوء ولم تقم بسوأة فاحشة، مات والدها وماتت معه بقايا شجاعتها وكبريائها وانهدم السور الذي لطالما كان يحميها وصارت هي وأطفالها مشردين جياع، ظلت تطرق الأبواب لكسب لقمة العيش من أجل إشباع بطون أطفالها وإنقاذهم من الفقر والجوع ولكن كُل الأبواب تُغلق في وجهها خشيةً أن توقع بأزواج الأخريات في شباكها كما شاع عنها بشأن عثمان السروجي.

حتى جاء اليوم الذي ستضع فيه المولود الجديد، كانت هزيلةً مستنفذة الطاقة والقوة صحبتها إحدى صديقاتها إلى المستشفى التي تعمل بها كممرضة وطلبت عملية مستعجلة لأنها صارت في المخاض وبعد عناء وعُسر جاءت الطفلة التي لم ترها بعينيها ولم تحملها، أخبرتها صديقتها إنها أنجبت فتاة ولكنها وُضعت داخل الحضانة لسوء حالتها الصحية ولكنها تفاجأت في اليوم التالي باختفاء الطفلة تمامًا وكأنما لم تلدها ولم تُعاني آلامًا مستعصيةً وحدها.. فلم يكُن لها أثرًا!


هكذا قَصت عليه عينيها مأساتها وذكرتها عيناه بالماضي، وقفا ينظران داخل أعين بعضهما ما بين نظرات نارية شرسة وأخرى مشدوهة مصدومةً، اعتلى ثغرها ابتسامة مُتشفيةً نتيجة عجزه عن تصديق رؤيته لها تقف أمامه وقد جاءت صورتها من الماضي السحيق تتشكل في صورة امرأة أخرى قوية تنظر إليه بوحشية غريبة، دعك عينيه أكثر من مرة قبل أن تقول بنبرة خافتة:

-أيوة أنا.

قطب حاجبيه حينما انتشلته من صدمته تؤكد ما تراه عينيه وأنه لا يعاصر حلمًا من يقظته مثلًا، بدأت تحرك أناملها بتمهل على صدره إلى أن وصلت إلى عنقه ثم غرست أظافرها في لحمه بشراسة ضارية وبنبرة تعبق بحرارة عميقة همست دون أن تلفت الأنظار إليها:

-فين بنتي يا عثمان؟! فين بنتي اللي خرجت من بطن الخدامة؟؟؟؟؟

الدهشة تعتصر لسانه فأصابه الخرس تمامًا ولكنه جاهد في النهاية. وهو يُدقق النظر في ملامحها ويقول بخفوتٍ مرتبكٍ:

-إزاي؟! إنتِ إزاي؟! 

اتسعت شفتيه بضحكة مُتشفية وأردفت تحاصر نظراته:

-أيه مالك بس؟! مستغرب إن نجلا بنت البواب تكون هي نفسها نجلا مرات حمدي زهران؟!

لم تشعر بأصابعها التي تنغرس في لحم عنقه إلا حينما لمحت كدمات حمراء وخيوط رفيعة من الدم تظهر رويدًا أما هو فالدهشة كانت المسيطر الأوحد على مشاعره ولم يشعر البتة بإصابة عنقه الجريح مِن شراستها الكامنة أمام الناس، ضجرت بقاءه هكذا مشدوهًا فأطبقت فكيها بقوة وهمست من جديدٍ:

-فين بنتي اللي خطفتها يوم الولادة يا عثمان وملحقتش ألمح ضفرها حتى؟!.. دا سؤالي الأخير ليك يا ابن السروجي!!!

بدأ يستفيق مؤخرًا فمسح على عينيه ثم وجهه وجبهته قبل أن يقبض على ذراعها يحثها بإشارة من عينيه أن تسير بمحاذاته في هدوءٍ فتبعته بخطوات مدروسة بعناية وما أن وصل إلى الحديقة حتى شدَّ من ضغطته على لحم ذراعها وهمَّ أن يظفر بها ناسيًا إنها ليست تلك الضعيفة التي عاصرها في ماضيه وأن ما تقف أمامه هي بقايا شرسة من امرأة قُهرت وذاقت من الذُل أهوال، نظرت إلى قبضته شزرًا قبل أن تبتسم ابتسامة مستفزة لكيانه وأناملها تتحسس طريقها إلى كفه وهي تقول بصوت ثابت:

-اللي بتعمله دا كان زمان.. دلوقتي العين بالعين والسن بالسن والبادي أظلم وإنتَ كُنت البادي.

غرست أظافرها داخل جلد كفه على حين غرة منه وطفقت تخدشه خدوشًا عميقةً يشملها الغل والشراهة في الانتقام فأسرع بتحرير ذراعها وسحب قبضته حينما تسلل الألم إليه فأردف بانفعالٍ:

-إنتِ إزاي دخلتي وسطنا؟ وإزاي وقعتي حمدي وخليتيه يتجوزك؟!

حدقت فيه بعينين ناريتين وصاحت بسخطٍ ووعيدٍ:

-أنا مرات حمدي على سُنة الله ورسوله واللي بيني وبين المرحوم ملكش دخل بيه، إنتَ مطلوب منك تجاوب على سؤالي فقط وإلا هتشوف مني اللي عمرك ما كنت تتخيله.

اكفهر وجهه ورمقها بعداوة طاغية في عينيه قبل أن يرد بحنقٍ:

-بنت أيه دي اللي بتتكلمي عنها؟! أنا مش فاهم إنتِ بتتكلمي عن أيه أصلًا؟ زائد إني قولت لك قبل كدا مستحيل أعترف بعيلة جت من بطن خدامة.

دارت حول نفسها متعمدة إطلاق ضحكة متهكمة وهي تصفق بحرارة تؤازر تدفق النيران المنبعثة من عروقها المتأججة من شدة الغيظ والغضب ثم استقرت أمامه مرة أخرى قبل أن تتحول ملامحها إلى أخرى سوداوية وهي تردف بصوت حادٍ:

-بس في ناس شهدوا إنهم شافوك وإنتَ بتاخد البنت؟!!.. عثمان حسابك معايا تِقل بخطفك لبنتي ولا تكونش ناسي إن في بينا حساب تاني؟!!!!

سكتت هنيهة ثم أضافت وهي تقترب أكثر منه وتداعب ذقنه الأملس في برودٍ:

-إنتَ يمكن تكون نسيت فعلًا علشان قولت لي إن السنين والأيام بتنسي بس أنا وقتها قولت لك إني مش هنسى.. ها بقى تحب نبدأ منين؟ اقتص لحقي الأول ولا حق بنتي؟.

بقى صامتًا يطالعها بعينين حادتين فقط فزمت شفتيها بامتعاضٍ ورددت:

-قولي يا عيوني متتكسفش.. اختار اللي يعجبك.. في الحالتين النهاية واحدة.. سودا على دماغك.

دفع ذراعها عنه ثم أردف بصوت أجشٍ غليظٍ:

-كُل دا من وحي خيالك.. إنتِ شبعتي من بعد جوع يا نجلا وعلشان كدا خيالك صور لك إنك تقدري تنتصري عليا!!

افتر ثغرها عن ابتسامة هزلية قبل أن تُجاريه في حديثه وتتابع:

-طيب بلاش خطف بنتي.. حقي أنا؟! دا بردو من وحي خيالي!

حدجها بنظرة نارية قبل أن يهتف بحزمٍ وصلابة:

-أعلى ما في خيلك، اركبيه.

أعطاها ظهره وهمَّ بالسير مبتعدًا عنها ولكن كلماتها المُعقبة على جملته الأخيرة جعلته يتسمر في مكانه مُحدقًا في الفراغ أمامه وصوتها الناري يصل إلى أذنيه قائلةً بتهديدٍ صريحٍ ومُباشرٍ:

-شرفي قصاده شرفك ومفيش خيار تالت يا عثمان وإنتَ ما شاء الله عندك بدل البنت اتنين دا غير بُلبُلة؟!!!

أدار وجهه المشتعل نحوها وقال بلهجة سامة:

-فكري علشان أحرقك.

نجلا بنبرة هادئة للغاية ترد:

-ساعتها هتكون النار قضت على معالمك نهائيًا، الضربة بعشر أمثالها يا عيوني.

قرر الانسحاب من أمامها فورًا فما تزال الصدمة تسيطر على كل ذرة به حتى ردة فعله تضطرب فيسرع في ضبطها قبل أن يصلها شعور الانهزام بين ثنايا وجهه.

عقدت ذراعيها بتحدٍ أمام صدرها وقد زمت بأنفها ورأسها تكبُرًا وداخلها يقسم على الانتقام غير المشروط ودون تقنين لألوان العذاب الذي سيذيقها يومًا بعد يومٍ لعل انتقامها يشفي غليلها الذي يملأ صدرها.

•~•~•~•~•~•~•

تحركت بخفة ورشاقة بين الأطفال الذين يملؤون حديقة بيتها التي تحتوي على ألعاب كثيرة وأرجوحة لتسلية الصِغار، رأت في هذا المشروع الصغير راحتها الكبيرة؛ فقضاء الوقتِ بصُحبة الأطفال يُغنيها عن كُل شيء ويغمرها بسعادة تنسى بعدها كيف يكون طعم الألم والحرمان في نيل مطلب وحلم الأمومة، يرحب "عِمران" بكُل ما يسعد زوجته ويجعلها في ارتياح نفسي كبيرٍ فيأتي الأطفال إليها يوميًا للمرح برفقتها حتى عودة والديهم من العمل حتى أنها بدأت تبحث فعليًا عن معلمين مجتهدين لتعليم الأطفال القراءة والكتابة والحساب.

كانت تجلس على كرسيها تضع كفها أسفل وِجنتها وقد شردت تمامًا متغافلة عن الصِغار ولكنها مطمئنة لوجود المعلمات برقتهم، وجدت كفًا صغيرًا يهز ذراعها ويسحبها من شرودها كُليًا، التفتت بنظراتها إلى الصغير الذي يقف بجوارها ويقول متذمرًا:

-تيَّا قطعت شعر العروسة كله وشكلها بقى يخوف!

زوت "شروق" ما بين عينيها في استغرابٍ ثم نهضت فورًا وهي تلتقط كفه الصغير وتسير بجواره قائلةً:

-لا متخافش خالص.. تعالي لما نشوف فين تيَّا!

لم تفتأ تنهي عبارتها حتى وجدت الصغيرة تحتضن كفها الآخر وتقول بمرحٍ:

-إنتوا رايحين فين؟! أنا هاجي معاكم.

دنت "شروق" بقامتها من الصغيرة وشرعت تفحص الدمية القابعة بين ذراعها ثم تابعت بصوت ناعمٍ حنونٍ:

-فين شعر العروسة؟! سفيان بيقول إنك قطعتيه كله؟!

دبت الصغيرة كفها داخل جيبها ثم أخرجت الشعر وأسرعت تقول بتلقائية بريئة:

-كنت بسرح لها ووقع مش قصدي.

أومأت "شروق" بهدوءٍ والتقطت الشعر منها ثم تابعت بابتسامة هادئة:

-ولا يهمك يا روحي.. يلا كملي لعب على المُرجيحة وإنتَ كمان يا سُفيان.. العب مع أصحابك.

انصاع الطفلين مهرولين إلى تسليتهم بينما عادت "شروق" إلى كرسيه مرة أخرى ومدت يدها تلتقط حقيبتها الموجودة على الطاولة ثم رمت بداخلها الشعر دون اهتمام وقد عاد عقلها ينخرط في شروده من جديد بصدد قرار شقيقها بطلب يد حبيبته الليلة دون علم والده وماذا سيفعل والدهم عندما تصله هذه الأخبار؟!

لك تلحق الانغماس في أفكارها المتحيرة حينما جاءها اتصال من زوجها يطلب منها الاستعداد من أجل الذهاب إلى البلدة بينما طلبت منه أن ينتظر لحين عودة أخيها بعد لقاء والد رويدا والاطمئنان عليه وسماع الأخبار السارة.

•~•~•~•~•~•~•

-كدا بقيت عريس رسمي نظمي لا والبدلة فُرتيكة عليك.

أردف "كاسب" بتلك الكلمات المُحفزة وهو يطالع الأخير بنظرات معجبة فيما تهللت أسارير وجه "عُمر" الذي استبد به التوتر والحماس في آن واحد وظل يتطلع إلى هيئته عبر المرآة ويرتب رابطة عنقه باهتمام شديدٍ رغبة في الظهور بكامل أناقته واقتناص كل اللحظات اللطيفة التي تبعث الدفء على قلبه هذا اليوم دون التفكير فيما يعكر صفو مزاجه، التفت "عُمر" بعينيه إلى الأخير ثم قال بابتسامة ودودة:

-أنا النهاردة أقدر أقول إني كسبت أخ وصديق بدرجة إنسان.

أسرع "كاسب" بالاقتراب منه ثم ضم رأسه إليه في ودٍ كبيرٍ ليطقطق كلاهما على ظهر الأخير في دعمٍ وترابط، تذكر "عُمر" أن عمه ينتظره في السيارة خارج القصر فتابع بهمَّة وحسمٍ:

-لازم اتحرك مش عايز أتأخر على عمي أكتر من كدا!

أومأ "كاسب" موافقًا إياه الرأي، أدار الكرسي بإحكام ثم قاده أمامه بسرعة إلى أن عاونه على دخول السيارة ثم التقط المقعد وقام بجمعه ثم وضعه بحقيبة السيارة الخلفية، لوَّح "كاسب" بكفه مودعًا إياه ثم غادرت السيارة على الفور، في هذه اللحظة تنهد تنهيدة ممدودة بعُمقٍ بعد أن تذكر اتصالها به ورغبتها في الالتقاء به بشكل عاجلٍ، أدار رأسه يمينًا ويسارًا قبل أن يحسم أمره للذهاب إليها وقبل أن يتحرك ارتفع بصره نحو نافذتها فتفاجأ بظهورها أمام النافذة، تنحنح بهدوءٍ قبل أن يبتسم لها ابتسامة بسيطة فلوَّحت له بكفها في امتنانٍ على اعتنائه بشقيقها، غادر بسرعة من أمام ناظريها فزوت ما بين عينيها في فضولٍ حول وجهته الذاهب إليها.

•~•~•~•~•~•~•

انتفخ شدقها بمللٍ وهي تسير داخل الغرفة ذهابًا وإيابًا تطالعه بعينين حانقتين فمنذ أن عاد من عمله وتناول الغداء وهو يغط في سُبات عميقٍ على الأريكة غير مُبالٍ بضجرها الشديد من سكون الأجواء خاصة بعد ذهاب الشيخ "سليمان" برفقة "عمُر" لطلب يدٍ الفتاة التي يحبها وذهاب "مُهرة" ووالدتها إلى بيتهما لأخذ قسطًا من الراحة بعد يومٍ عملٍ شاقٍ.

تحركت بخفة نحو النافذة فنظرت من خلالها ولم ترى سوى السكون والخواء يختلط بصوت نبيب الماعز ونقنقة الدجاج.. كانت المزرعة خاليةً تمامًا حتى البواب يغط في سُبات عميقٍ على كرسيه بجوار الباب أثناء جلوسه، تنهدت تنهيدة ممدودة بعُمقٍ قبل أن تتوجه إليه بنظراتها من جديد وهي تستبين الوقت من خلال ساعة يدها فكان باكرًا جدًا على هذا الخواء!

سارت إليه حاسمة تخطو خطوات وئيدة متريثة إلى أن جلست على ركبتيها أمام الأريكة التي ينام عليها مقررةً أن توقظه كي يؤنسها في وحشة هذا الليل المريب الساكن.

سرحت أناملها بتريث على ذراعه وكتفه وهي تهمس بصوت خافتٍ بالقرب من أذنه:

-تليد!

تطلعت إلى ملامحه الساكنة لأول مرة بفضولٍ غريبٍ ودقيقٍ؛ فأمعنت النظر في كل تفصيلة به وكأنها تتعرف على ملامحه للمرة الأولى حتى بدا الإعجاب جليًا في ملامحها وهي ترى ملامح رجولية شرقية يطغى عليها الحدة مع القليل من اللين، ملامحه صغيرة ودقيقة جدًا، الخشونة والصرامة تنبعثان بقوة من لِحيته الثقيلة المشذبة كالحة السواد وحاجبيه الحادين وصلات شعره الناعمة العائدة للخلف والتي لا تقل ظُلمة عن لِحيته

لا يمكنها إنكار شدة إعجابها بوسامته التي تطغى عليه حتى في خصامهما ولكنها المرة الأولى التي تدقق هكذا عن قُرب دون مسافات، وما نتج عن هذه الدقة لا يُحمد عقباه، تُسحر وتهيم في هذه اللحظة مما جعلها تنتشل وعيها قبل أن يتمكن منها سحره، لم تكُن تجد طريق الخروج لهذه النظرات الهائمة به فبدأت تمرر أصابعها على قسمات وجهه بهدوءٍ وحِرصٍ، تستشعر ملمس بشرته وكذلك أنفه المزموم بشموخه المعتاد حتى في نومه، لم تشعر بنفسها إلا وهي تبتسم بعينين شاردتين في تفاصيله ولكنها سرعان ما أبعدت أناملها وأدركت أنها توشك أن تغرق في محيطه ومَنْ يُنقذها وقتها؟ فالمُنقذ هو نفسه البحر.

ابتلعت ريقها على مضضٍ ثم همست مرة ثانية متبرمةً:

-تليد.. اصحى أنا زهقانة؟!

أهدابه الطويلة الناعمة لا تتحرك البتة وعيناه ساكنتان تمامًا، قررت أن ترفع نبرتها قليلًا وبدأت تهز كتفه وهي تقول بصوت مخنوقٍ:

-تليييييييد!

لا إجابة أيضًا، زوت ما بين عينيها في حيرة وشعرت بأنه ربما يتجاهل ندائها وإن كان لا فهذا يعني أن نومه ثقيلًا جدًا، لمعت عيناها ببريق مشاكس وهي تُقرب سبابتها صوب أذنه ثم تغرسه داخل فتحة الأذن بقوة لإثارة حنقه وايقاظه بهذه الحركة المُزعجة ولكنه لم يحرك ساكنًا فارتابت على إثر ذلك وبدأت أنفاسها تعلو وتهبط في فزعٍ وهي تنبج قليلًا بصوتها وكفيها تلقائيًا يهزان جسده:

-تليد.. إنتَ ما بتردش ليه؟!

شعر بها منذ نداءها الأول ولكنه رغب في استفزازها والعبث معها ولكنه شعر بأنه أثقل في مزاحه حينما وصله ذعرها فبدأ يفتح أهدابه ببطء وهو يقول بصوتٍ خشنٍ ناعسٍ:

-وَميض؟ في حاجة ولا أيه؟؟

تنفست الصعداء ما أن فتح عينيه فالتوى شدقها أيضًا وهي تردد بتبرمٍ:

-كل دا مش سامعني؟ أنا افتكرتك مُت!

تليد وما زال متسطحًا على جنبه الأيمن مدثرًا أسفل البطانية ينظر إليها بهدوء ويقول:

-طيب واتفزعتي ليه؟! دي حاجة هتفرحك طبعًا وأهو تخلصي مني.

التوى شدقها حنقًا وأردفت:

-ليه هو إنتَ عدوي؟! وبعدين نومك تقيل أوي، أنا بقالي ساعة هنا بقول يا تليد!!

افتر ثغره عن ابتسامة عبثية وأجابها مُتلذذًا بتوترها حالما تسمع إجابته:

-أنا صاحي من أول "تليد" اتقالت.

حدقت فيه بعينين متسعتين يكسوهما الصدمة وبنبرة متلعثمة سألت بتوجسٍ:

-أول واحدة أول واحدة؟؟؟ أول تليد اتقالت؟

أومأ بمكرٍ فتخضبت وِجنتاها خجلًا وأسرعت بإشاحة وجهها عنه لتفادي نظراته المترصدة بها في استمتاعٍ لتسأل من جديد متوجسةً خيفة أن يكون قد شعر بالترهات التي فعلتها أثناء تأملها له:

-يعني إنتَ كُنت حاسس بكُل حاجة من البداية خالص وعامل نفسك نايم؟! 

تليد بضحكة ماكرة:

-من أول ما بدأتي تحطي صوباعك في ودني.


نكست وجهها بالأرض خجلًا وكتمت ضحكة كادت أن تنفجر من بين شفتيها بينما تابع هو متعمدًا إثارة استحياءها ورؤية حُسن وِجنتيها الحمراوين اليافعين وعينيها اللاتي تزيغان هربًا منه:

-بس إنتِ كُنتِ بتعملي أيه في مناخيري صحيح؟! لو عجبتك والله ما تغلى عليكِ!!

حدقت بالأرض مصدومةً، حتى هذه كان واعيًا بها فأسرعت بالاستدارة فورًا وإعطاء ظهرها له قبل أن تتأهب للوقوف هربًا من الغرفة بأكملها وقبل أن تنفذ خطتها وجدت قبضته تلتقف ذراعها قائلًا بابتسامة عريضة:

-خلاص تعالي متتكسفيش، أنا زيّ جوزك.

حاولت التملص من قبضته دون النظر للوراء ولكنها فجأة وجدت نفسها تُسحب عنوة للخلف باستخدام قبضتيه القابضتين على كلا ذراعيها لتجد ظهرها ملتصقًا في النهاية بصدره حينما أبعد الغطاء عن جذعه العلوي ومال يجرها إليه، اقشعر جسدها وسرت به رجفة خفيفة وهي تجد سخونة أنفاسه تتصاعد على عنقها من الخلف فتسمرت كالجماد في مكانها وبدت كنعامة مرتابة حيث رفعت كتفيها قليلًا ودفنت عنقها بهما من شدة الخجل وبنبرة متلعثمة تكلمت:

-أنا مش مكسوفة.. أنا رايحة أنام!


-في حبة برتقانة حلوة كدا ومؤدبة تنام بعيد عن حُضن جوزها؟!

لا تجرؤ على الاستدارة والنظر داخل عينيه ففعل هو حينما نزل بقبضتيه قابضًا بإحكام على خصرها بينما سعت في محاولات بائسة على الفرار منه ولم تكُن تتوقع أن يرفعها بسهولة هكذا وهو محاصرًا لوسطها كهرة وديعة حتى وضعها على صدره المسطح على الأريكة لتتلاقي عيناها بخاصته مُرغمةً فتقرأ في حدقتيه التسلية والاستمتاع ثم لم يلبث أن استدار بها حتى الصقها متسطحة بظهر الأريكة بينما بقى هو على طرفها، كان عرض الأريكة صغير جدًا بالكاد يستوعب عضلاته المفتولة ولكنه احتجزها بين الأريكة وصدره قسرًا ولم يكُن هناك مساحة تحميها من قربه، فلمست جبهته جبهتها والتهم نظراتها بنظراته التي فيها من الجرأة ما لا يليق بشيخ مثله متناسيةً أنها زوجته ولا بد أن يتحكم في كُل تصرف وخطوة تصدر منه باستثناء تصرفه بالقرب منها فليس مُجبرًا على التحكم في أي شيء بل عليه أن يترك لجام الأخلاق جنبًا ويمرح معها.


شعرت بحرارة تتوهج من جسدها بأكمله من شدة الخجل خاصة أن أنفه بات ملتصقًا بأنفها ونظراته لا تبرح عينيها فأغلقتها على الفور بقلبٍ يخفق بهياجٍ وخافت أن تصله خفقاتها فيُكشف أمرها، ارتسمت على محياه ابتسامة عريضة حينما أردفت بتلعثم وصوت متعثر لا يجد طريق خروجه:

-إنتَ حابسني كدا ليه؟ عيب كدا على فكرة!

انبعج فمه لوهلة وأقسم أنها تمتلك حصة من البراءة ومثيلاتها من البلاهة أيضًا، ما العيبُ في مُداعبة الزوج لزوجه والتودد إليها ولكنه لم يلقَ بالًا لكلماتها وشرع يمرر قبضته على كتفها ثم ذراعها بلمسات راغبة فيها فارتجفت على إثر ذلك وهي تهمس بخفوتٍ خَجِل:

-تليد، قولت لك قبل كدا إني مش جاهزة!


رفع كفه يلامس وِجنتها بينما إبهامه يداعب شفتيها المكتنزتين بحميمية وما أن وصله إحساسهما حتى زُلزل ملمسهما داخله لتضطرب وتيرة أنفاسه ويعلو صدره ويهبط بهياجٍ وهو يقول مُحطمًا من قُربها المُمتع:

-بحبــــــك!

التقف كفها ووضعه على صدره كي يُشعرها بالفوضى التي أحدثتها مجرد لمسة من شفتيها وهو يتابع باشتياقٍ جارفٍ:

-افيضِ عليَّ بقطرة واحدة.. صبرت على الأيام العِجاف ببُعدك وجه وقت ارتوائي.. آسف.


لم يُمهلها فرصة الرد فقد خارت قواه الذي عاش عمره كله يبنيها وانفرطت غريزته التي عقدها كمسبحة في يده انفراطًا ولم تعُد كلمات الصبر جميعها تُعزيه أو تمنحه السلوى ولا يُرضيه في هذه اللحظة إلا أن يرتشف من عِشقها بنهمٍ يعيد إليه اتزانه.

التقط شفتيها بخاصته على حين غُرة منها فيبست أطرافها واتسعت عيناها وهي تتعرف على شعور لم تكُن تعلم بوجوده على هذه الدنيا في الأساس، لم تردعه رجفة جسدها أو صدمتها من إخماد شوقه منها فكان يغرق في مذاق شفتيها غرقًا بينما تحاول هي ردعه فوضعت كفيها على صدره وبدأت تدفعه بعيدًا عنها بقوة واهية لم تستمر طويلًا أمام قوته حتى أنها محاصرة وفكرة الفرار شبه مُستحيلة، كانت قبضته تضغط على عنقها من الخلف للتمكن منها فلم تجد بُدًا من ضرب صدره بقبضتها المتكورة حينما شعرت أنها تجد صعوبة في التنفس بفعل شراسته المنسكبة على شفتيها، بالكاد استفاق من سُكره وأدرك أنه كاد يخنقها فأسرع بإبعاد شفتيه على الفور وأخذ صوت أنفاسه يعلو باضطراب وهي كذلك بدأ النفس يخرج ويدخل إلى صدرها مُضطربًا حتى استطاعت بعد لحظات أن تعتصر تنفسها الطبيعي المنتظم وتيرته.


زوت ما بين عينيها وعادت من جديد تضرب صدره بقبضتها وهي تقول بصوت متلعثم خافت بعد أن اشتد الألم بشفتيها:

-مفترس متوحش كُنت هموت منك!

رفع أحد حاجبيه وهو يلتقف كفها بين قبضته ثم يميل على أذنها هامسًا بحُب عَبِقت به أنفاسه:

-قطرة تانية معلش؟ 

اتسعت عيناها اتساعًا فأسرعت تدفن وجهها على صدره ثم صاحت تقول بغيظٍ:

-لااااااااااااا.. ومش مسامحاك على فكرة علشان أخدت مني حاجة أنا مش عايزة اديها لك.

انفرجت شفتيه بابتسامة عريضة ثم قال بأريحية كبيرة:

-ياااااه الواحد أخد باور (طاقة) فظيع بعد القطرة دي والله.. نسأل الله التساهيل والمطر ينزل.

صرخت وما زالت تختبيء في صدره:

-متحلمش بالمطر علشان هنا صحراء.

انطلقت ضحكة عالية من بين شفتيه من دلالها؛ لا يُزعجه طفولتها أو دلالها وسوف ينتظرها مهما كلفه الأمر من استنزاف لخِصلة الصبر عنده؛ سيكتفي بالقطرات حتى تأذن له هي بخوض مشاعر جديدة بينهما، مال قليلًا بوجهه حتى قبل شعرها بسعادة غامرة.

•~•~•~•~•~•~•~•

جلس على الأريكة واضعًا قدمًا فوق الأخرى ينتظر نزولها ومعرفة السبب الذي جعلها تلح عليه في الحضور رغم حرصها الدائم ألا تلتقي به حتى لا تكثر الشكوك حولهما أو تنكشف حقيقة "كاسب" الذي يعمل لصالح "نجلا زهران"، تنهد تنهيدة طويلة وما هي إلا ثوانٍ حتى وجدت الخادمة تأتي إليه بفنجان القهوة الذي طلبه قبل قليلٍ.. لحظات أخرى وسمع "كاسب" صوت طقطقة حذاءها بالأرض وسيرها بتريث وشموخ أثناء هبوطها للدرج حيث البهو الذي يجلس به الأخير.

-أخدت بالك وإنتَ جاي؟!

أردفت بهدوءٍ وهي تتجه صوبه، فأومأ وهو يتناول الفنجان ثم يرتشف القليل منه ويقول بتوجسٍ:

-متقلقيش.

استقرت على الكرسي المجاور له تضع ساقًا فوق الأخرى بعد أن التقطت سيجارة ووضعتها بين شفتيها، مالت بجسدها ناحيته قليلًا فالتقط القداحة الموجودة على الطاولة وأشعل السيجارة لها فسحبت نفسًا عميقًا داخلها ثم طردته على هيئة دخان متناثر من حولها بينما ألقى "كاسب" القداحة ثم تابع بحنقٍ:

-للمرة اللي مش عارف عددها بقول لك إن السجاير هتدمرك.

نجلا بضحكة ساخرة:

-لو لقيت فيا حاجة تدمرها من الأصل.

رفع أحد حاجبيه ثم سأل مستفسرًا في فضولٍ:

-أيه بقى الجديد اللي جبتيني لحد هنا علشانه؟؟؟

طالعته بنظرات ثاقبة من طرف عينيها ثم تابعت بلهجة ثابتة:

-سكون.

قطب حاجبيه وردد باستغراب:

-مالها؟!

بهدوء شديد دعست السيجارة داخل المنفضة ثم توجهت بجسدها كله ناحيته وشبكت كفيها معًا وهي تقول بحزمٍ:

-عايزة حقي من عثمان فيها!!

اهتاجت ملامحه بامتعاضٍ كبيرٍ وقد استبد به الشك وهو يصيح مُنفعلًا:

-سكون مين اللي عايزة تاخدي حقك منها، إنتِ اتجننتي رسمي تقريبًا!

رفعت أحد حاجبيها ثم تابعت بلهجة حادة:

-اللي هقوله دا هيكون في مصلحتك قبل مصلحتي، اوعى تكون فاكر إن عثمان السروجي بجلالة قدره لمَّا يعرف إنك بتحب بنته هيقدر دا وهيقول لكم بالرفاء والبنين!!!.. دا وقتها مش بعيد يقتلك وهيستخسر فيك الدفن كمان.. إنتَ لو فعلًا بتحب سكون يبقى لازم تسمع خطتي.

همَّ أن يصرخ بملامح كشرة مكفهرة إلا أنها أسكتته وهي تقول بثبات:

-محدش هيقرب لها غيرك.. إنتَ بس اللي هتنفذ.

انتفض قلبه ذُعرًا بعد أن وصله بوضوحٍ فحوى حديثها المنمق بكلمات متوارية، حدق فيها متسمرًا وهو يقول باستحقار:

-إنتِ عايزاني ....

قطعت حديثه وهي تقول بجبروت يتلهف للانتقام:

-تغتصبها.

سكتت لوهلة ثم تابعت بقوة وصلابة:

-ولو مش عايز تنفذ دا.. إنتَ حُر.. ينفذه حد تاني غيرك!!

انتفض كالثور الهائج من مكانه لينقض بكفه ضاغطًا على عنقه ونظرات نارية من عينيه تخترق حدقتيها وبصوت أجشٍ يهدد:

-لو فكرتي تقربي منها هنسى العِشرة اللي ما بينا ومش هبقى عليكِ يا نجلا.. سكون لأ.. محدش هيكسرها طول ما أنا على وش الدنيا.

نجلا وهي تسترخي تمامًا على مقعدها دون أن تأبه بقبضته الملفوفة على عنقها فتقول ببرودٍ:

-أنا عايزة أكسره هو وأذله.. وبأكد لك إن محدش هيلمسها غيرك!!

دفعت كتفه برفق فحرر عنقها وعاد جالسًا في مكانه لتتابع هي بحزمٍ:

-لو عملت دا هتبقى جبت لي حقي وسهلت طريق جوازك منها لأنك لو عيشت عمرك كله مش هتطول سكون ولا حتى في حلمك.. دي فرصتك الوحيدة.. يا تنتهزها يا تفوتها!!!

نبش مقدمة رأسه بأنامله في تيه ومشاعر ترفض الانسياق وراء ما تقوله، كيف يفعل ذلك بمن أحبها وأحبته؟! وهل بعد أن يستبيح جسدها لنفسه ستقبل بالزواج منه؟!.. نظر إلى "نجلا" التي تتابعه بعينين ثاقبتين ثم هدر باختناقٍ:

-وإنتِ فاكرة لمَّا أعمل كدا هي هتفضل بتحبني وهتوافق تتجوزني؟!.. وقتها لو عثمان وافق مجبور أنا هكون خسرت سكون.

نجلا وهي تنفخ بحنقٍ ثم تقول:

-هتوافق لو الموضوع اتخطط له على اعتبار إنه لحظة عبثية بين حبيبين شربوا كتير ومكانوش في وعيهم!!

كاسب وتو يهدر فيها باستنكارٍ:

-سكون ما بتشربش.. وبعدين شوفي حل غير دا.. نجلا إنتِ بدأتي تبقي مخيفة؟! الانتقام عاميكِ عن الصح والغلط!!

هبت واقفةً في مكانها بملامح واجمة ثم أردفت بلهجة حادة:

-هتقوم بالمهمة ولا أكلف بيها غيرك!

رفع بصره يطالعها بعينين ناريتين غلبهما الحيرة، أطبق أسنانه بقوة ولم يمنحها ردًا واضحًا لا بالقبول أو الرفض خاصةً حينما دخل "ماكسيم" الغرفة يحمل بين يديه مظروفًا كبيرًا وبنبرة ثابتة تابع:

-نتيجة التحاليل.

نظرت "نجلا" للمظروف بلا مُبالاة ثم أشارت بإصبعها نحو سلة المهملات وأردفت بحنقٍ:

-ارميه في الزبالة.. مالوش لازمة.

رفع "ماكسيم" أحد حاجبيه ثم تساءل بدهشة:

-مش هتفتحيه!!!

تنهدت تنهيدة ممدودة بعُمقٍ وهي تتحرك صوبه ثم تلتقط المظروف منه وهي تقول بغيظٍ مكظومٍ:

-ما أنا عرفت النتيجة يا ماكسيم.. بنت ال*** جابت لنا عينة غير اللي طلبناها.

كانت تتحدث إليه وتشرع في فتح المظروف من باب إثبات كلامها له فقط، ألقت بالمظروف أرضًا ثم فتحت الورقة التي تفي بالنتيجة التي تخص عينتا الحمض النووي وإلى أي مدى تطابقان، أجرت قراءة سريعة وعابرة بعينيها حتى تابعت وهي تضع يدها على سطور النتيجة وقالت بتهكمٍ:

-هقرأ لك النتيجة بنفسي طالما مُصر يا سيـ.....

تعرضت بُغتة لصدمة كهربائية أفقدتها أعصابها تمامًا ولجمت لسانها عن الكلام وبقيت كالصنم تقرأ بعينيها السطور التي تفي بتطابق العينتين بنسبة كبيرة جدًا تصل إلى تسع وتسعين بالمائة!!!!!!!

الفصل الثاني والاربعون من هنا

تعليقات



×