رواية شظايا قلوب محترقة الفصل التاسع و الثلاثون 39 بقلم سيلا وليد

رواية شظايا قلوب محترقة الفصل التاسع و الثلاثون  بقلم سيلا وليد


توقَّفَ إسحاق أمام غرفةِ العنايةِ المركَّزة، بجسدٍ متيبِّس، روحًا مُعلَّقةً بين الرجاءِ والخوف، وعيناهُ شاخصتانِ نحو الجسدِ الممدَّد على السرير، بلا حراك..قلبهِ يضجُّ بصمتٍ قاتل، كأنَّ الزمنَ توقَّف على ذلك المشهد، ينظرُ على جسده المسجَّى تحت الأضواءِ الباردة، وتحيطُ به الأجهزة كأنَّها تصارعُ الموتَ بدلاً منه..
استندَ على الزجاجِ الشفَّاف، يودُّ لو يحطِّمَ ذلك الجدارِ الفاصلِ بينهما، ورغم أنَّه جدارًا واحدًا بل نافذةً زجاجية، إلَّا أنَّه رآهُ كقاعٍ المحيط، لن يستطيعَ الوصولَ إليه..مرَّر أناملهِ على الزجاج يتحرَّكُ بها على وجهه، يحدِّثُ نفسهِ هل هذا أرسلان، لا لا..
أين هو؟ أين روحه؟ أين ضحكته؟ أين ذلك الصوتُ الذي كان يضجُّ له القلب فرحًا و يملأ البيتَ حياةً؟

تنهَّد إسحاق بصعوبة، يشعر بأن أنفاسهِ تخرجُ مثقلةً بالألم، عيناهُ تتوسلانِ لوجهِ أرسلان  بأنَّه لم يتركه..لو يستطيع لاستبدلَ نبضاتُ قلبهِ بقلْبِ ابنه، لو يستطيع، لحمل عنه الألم، لكنَّه هنا، عاجز، ضعيف، وهو الذي لم يكن يعرف الضعفَ يومًا.

اقتربت دينا بخطواتٍ ثقيلة، كأنَّها تمشي فوق أرضٍ من زجاجٍ مكسورٍ تخشى أن تطأهُ بقوَّةٍ فتصاب، وقفت بجواره، نظرت إلى أرسلان، ثمَّ إلى إسحاق، هنا شعرت بالانكسارِ الذي يغلِّفه، وكأنَّه رجلٌ يسيرُ فوق حدِّ السيف..حمحمت حتى تجلي صوتها الذي لم تستطع إخراجهِ ثمَّ قالت بحنانٍ وخوف:
- "وبعدين يا إسحاق؟ هتفضل كده؟ متنساش إنَّك لسة خارج من تعب... صحِّتك مش مستحملة كلِّ ده."

توقف و لم يرد، وكأنَّه لم يسمعها، أو ربَّما سمع لكنَّه لم يعد يملكُ طاقةً للرد..كان غارقًا في عالمه، لا يريدُ أن يرى أو يسمعَ سوى أرسلان...ارتجفت شفتاهُ وتمتمَ بصوتٍ خافتٍ يشعر بأن الكلماتَ تخرج ممزَّقةً من داخله:

-"افتح عيونك، حبيبي...حتى لو لحظة... حتى لو ثانية واحدة، طمِّّن عمَّك عليك."

لكنَّه لم يتلقَّ سوى صمتٍ مميت ٍكحالِ جسده..

مرَّت دقيقة، أو ربَّما ساعة، لا فرق، الوقت هنا بلا معنى..ظلَّ كما هو صامدًا صامتًا، لم يشعر بتعبِ قدميه، ولم يشعر بانهيارِ جسدهِ المنهك المتألِّم..

استندت إلى كتفه، وأحاطت خصرهِ بذراعها، تحاولُ أن تحتويه، أن تخفَّفَ عنه ولو جزءًا من هذا الألم..  رفعت يدها تلمسُ وجنته، و مرَّرت أناملها على ذقنهِ التي طالت، ظلَّت تحدِّقُ به، تحدِّثُ نفسها هل هذا إسحاق الذي تعرفه؟..هل هذا الرجل الذي كان يقفُ شامخًا في وجه الدنيا، الآن أصبح  مجرَّد ظلٍّ باهتٍ لإنسانٍ كان يومًا قويًا...أدارت وجههِ تنظرُ لعينيه: 

"دقنك طولت أوي، ووشَّك بقى شاحب خالص...علشان خاطري، لازم ترتاح، لازم تاخد بالك من نفسك."

رفع عينيهِ إليها، وطالعها بنظرةٍ، كانت كفيلةً بجعلها ترتجف.

كانت نظراتهِ لم تكن نظراتُ رجلٍ يحيا بل رجلًا في عينيهِ وجعُ العالمِ أجمع..
همسَ بصوتٍ منكسر:

-"روحي يا دينا."

- "بس..."

رفعَ إصبعهِ محذِّرًا، وأردفَ بصوتٍ هادئٍ ورغم هدوئهِ إلَّا أنَّهُ نطقها بحزمٍ قاطع:

- "ولا كلمة، روحي لابنك..أنا مش هتحرَّك من هنا غير لمَّا أسمع صوته."

قالها ثمَّ عاد ببصرهِ إلى أرسلان، بعينينِ تمتلئانِ بالدموعِ المحبوسة تأبى الانهيار..وتمتمَ بصوتٍ بالكاد يُسمع، لكنَّه كان كفيلاً بتمزيقِ أيِّ قلبٍ يسمعه:

"هنا ابني البكري..وهناك ابني الصغير... وأنا بينهم..."

قالها وهو يشعرُ وكأنَّ الحياةَ لم تعد تتَّسع له، أحس بأنه محاصرٌ بين فقدين، بين وجعين، بين قلبينِ يموتُ أحدهما أمامه، والآخرُ بعيدًا عنه لا يستطيع احتضانه.

ورغم ذلك، وقفَ يراقب، ينتظر...يشعر بأنَّ روحهِ بأكملها أصبحت معلَّقةً عند ارسلان، الابن الذي لم يربطه دمًا، بل يربطه حياة بحياته، ولكن اين هو، هو آلان يرقدُ قلبه النابض، بين الحياةِ والموت.

وصلَ إليه مصطفى وتوقَّف ينظرُ إلى جسدِ أرسلان، ثمَّ توجَّه إليه: 
-مفيش جديد؟..هزَّ إسحاق رأسهِ بالنفي يتمتمُ بنبرةِ كالخطِّ المنكسر: 
-لسة مفيش، إلياس عامل إيه؟..
تنهَّد بحزنٍ قائلًا: 
:زي ماهوَّ، بس الحمدُلله الكلية بتسجيب، الدكتور قال يفوق من الغيبوبة وكل حاجة هتكون تمام
-الحمدُلله..همسَ بها بخفوت، ربتَ مصطفى على كتفهِ وتحدَّث بنبرةٍ يستعطفهُ بها:
-إسحاق لازم ترتاح، إنتَ خارج من غيبوبة، ارتاح وأنا هنا.
-منين الراحة وابني بيودَّع الحياة ياسيادةِ اللوا..
-أرسلان هيفوق، أنا عندي يقين بربِّنا، المهمِّ لازم ترتاح ولَّا عايزه يفوق ويلاقيك تعبان، معندكشِ يقين بقدرِ ربِّنا؟!
تطلَّع إليه بنظرةِ أملٍ ممزوجةٍ بالرَّجاءِ وكأنَّ حديثهِ جعله يستعيدُ إيمانهِ بربِّه، فهزَّ رأسهِ قائلًا:
- ونعمَ بالله العليِّ العظيم..سحبهُ بهدوءٍ وتحرَّك به إلى غرفتهِ بوقوفِ دينا تراقبُ بصمت، إلى أن دلفَ الغرفةَ التي تبتعدُ بعض الأمتارِ عن غرفةِ أرسلان..

بفيلَّا الجارحي: 
جلست على سجَّادةِ صلاتها بعد قضاءِ فرضها؛ وظلَّت تدعو لابنها بدموعٍ تنسابُ فوق وجنتيها بصمت، ولجت إليها ملك ثمَّ جلست بجوارها، ووضعت رأسها فوق أكتافها تتحدَّثُ بصوتٍ خافت:
-ماما أنا حلمت باأبيه أرسلان، توقَّفت عن قراءةِ القرآن تطبقُ على جفنيها بقوة..إلى أن احتضنت ملك كفَّيها:
-أبيه أرسلان بيمسح دموعي ياماما، بيقولِّي متعيطيش ياملوكة أنا جاي لك في الطريق.. 
شهقةٌ خرجت من جوفِ آلامها تبكي بشهقاتٍ مرتفعة، ممَّا جعلها تضعُ كفَّيها على فمها..بكت ملك على بكائها تهزُّ رأسها رافضةً أيَّ شعورٍ آخر، وصاحت بنبرةٍ باكيةٍ متقطِّعة:
-أنا أخويا هيرجع لي ياماما، والدليل على كلامي عمُّو إسحاق..الدكاترة قالوا هيموت ورجع، أبيه أرسلان هيرجع وبس.. 
جذبتها إلى أحضانها تبكي بدون انقطاع، إلى أن خرجت ملك من أحضانها تزيلُ دموعها..ثمَّ رفعت كفَّها تقبِّله:
-ماما صفية ابنك هيرجع، وبيتنا هيرجع يضحك زي زمان، أومأت رأسها بعيونٍ لامعةٍ تشيرُ إلى الخارج:
-بكرة غرام تولد وتجبلنا بيبي يعوَّضنا عن الحزنِ دا كلُّه..
احتوت صفيه وجهها بين راحتيها وقبَّلت جبينها قائلة:
-كبرتي ياملك، كبرتي أوي يابنتي، إن شاءالله حبيبتي.. 
كان يقفُ على بُعد خطواتٍ يبكي مأساته، ومن يخبرنا بأنَّ أعظمَ الآلامِ هي آلامُ فقدِ الحبيب، فلقد عانى فاروق هذة الفترة مايفوقُ حِملَ الجبال، حينما أُصيبُ إسحاق إصابتهِ الأخيرة، والآن ابنهِ الذي فقدَ الأطباءُ الأملَ بعودتهِ إلى الحياة، تراجعَ بخطواتٍ ثقيلةٍ متَّجهًا إلى غرفةِ مكتبه، ثمَّ جلسَ لبعضِ الوقت..فتذكَّرَ فريدة وحالتها ليرفعَ هاتفهِ ويقومَ بمهاتفةِ مصطفى… 

عند مصطفى.. 
كان يجلسُ بجوارِ فراشها يحملُ كتابَ اللهِ يقرأُ بعضَ آياتِ الذكرِ الحكيم، قاطعهُ رنينُ هاتفه، رفعهُ مجيبًا بعدما علمَ بهويَّةِ المتَّصل:
-أيوة يافاروق خير فيه حاجة؟.. 
أجابهُ فاروق سريعًا بعدما شعرَ بلهفته:
-مفيش حاجة، أنا كنت بطَّمن بس على مدام فريدة.. 
ذهبَ ببصرهِ على جسدِ فريدة الذي لا حولَ له ولا قوَّة وأجابه:
-الحمدُلله كويسة، فيه أخبار جديدة على أرسلان انا كنت مع إسحاق من شوية ؟..
-لسة مفيش جديد..تعلقت عيناه بجسد فريدة وتمتم :
-إن شاءالله نطَّمن عليهم قريب، النهاردة الدكتور قال كلية إلياس اشتغلت، بس لسَّة في الغيبوبة، بس فيه أمل بدل الكلية استجابت.. 
-الحمدُلله، إسحاق قالِّي، ربِّنا يقوِّمه بالسلامة.. 
اللهمَّ آمين..قالها مصطفى ليتوقَّفَ عن الحديثِ عندما استمعَ إلى همهماتِ فريدة باسمِ إلياس..توقَّفَ متَّجهًا إليها بعد إغلاقِ فاروق: 
-فريدة!!..سمعاني؟..أنا هنا حبيبتي افتحي عيونك وفوقي يافريدة، إلياس كويس..رفرفت بأهدابها وانحدرت دمعةٌ على جانبِ عينيها:
-إلياس...ردَّدتها بدموعٍ وهي تنظرُ إلى مصطفى الذي انحنى يحتوي كفَّها الحرِّ من الإبر، ثمَّ ربتَ عليهِ ورسمَ ابتسامة:
-إلياس كويس، والكلية اشتغلت الحمدُلله..
-بجد يا مصطفى ولَّا بتضحك عليَّا، رفعَ كفَّها وقبَّلهُ وأردفَ بابتسامةٍ جعلها متوازنة:
-وحياة فريدة عندي، إلياس كويس، والدكتور طمَّنا، قال المهمِّ الكلية استجابت، إنتي اللي مصبرتيش وأُغمى عليكي من قبلِ كلام الدكتور.. 
-أرسلان؟..
أرسلان كمان كويس..قطعَ حديثهم دلوفِ إسلام بابتسامة:
-أرسلان فاق ياماما..قالها بابتسامةٍ واسعة، جعلَ فريدة تنهضُ سريعًا تنزعُ الأبرَ رغم محاولةِ مصطفى منعها؛ ولكن كيف يستطيعُ إيقافها وهي الأمُّ التي فقدت النبضَ والروح..
-ابني، ابني يامصطفى، عايزة أشوفه.. 
-فريدة اهدي لو سمحتي..
نزلت بساقيها المرتعشةِ كحالِ جسدها، تشيرُ إلى إسلام أن يساعدها بالخروجِ إلى فلذةِ كبدها..خطت بجوارهِ بخطواتٍ ثقيلةٍ تجرُّ قدميها بصعوبةٍ تدعو اللهَ بسريرتها أن يحفظَ أبناءها..ما إن فُتحَ باب غرفتها حتى وجدت غادة تجلسُ بجوارِ إيمان تحملُ يوسف..انسابت دموعها..بعدما وجدت لهفةَ الطفلِ عليها وهو يرفعُ ذراعيهِ ليرتمي عليها، تلقَّفتهُ بحنانٍ تضمُّه إلى صدرها ومصطفى يحاوطها بتملك حتى لا تهوى، همسُت بخفوت:
-حبيب نانا، حبيبي ياابني، ربِّنا يرجع لك بابا بالسلامة..اقتربت غادة تأخذهُ بعدما لاحظت ترنَّحَ جسدها وارتعاشه:
-ماما هاتيه عنِّك.. 
-مرات أخوكي عاملة إيه ياغادة؟..ميرال عاملة إيه؟!..
-كويسة، كنت عندها جوَّا..بس الدكتور خرَّجنا، قال لازم المريضة ترتاح.. 
قبَّلت فريدة يوسف ثمَّ أردفت:
-هشوف أرسلان وأعدِّي عليها أشوفها. 
نظر مصطفى إلى غادة نظرة ادركتها لتهز رأسها دون التفاصيل في حالة ميرال 

بغرفة أرسلان:

حاولَ فتح عينيهِ ولكن لم يقوَ من شدَّةِ الإضاءة، شعرَ إسحاق بحركةِ أنامله، هنا شعرَ وكأنَّ الزمنَ توقَّف في لحظةٍ ما بين الموتِ والحياة..كلَّ شيءٍ كان ثقيلاً، نظراتهِ اليه، أنفاسه، وحتى نبضاتُ قلبهِ التي خمدت في صدرهِ ظنًّا أنَّه يتخيَّل.. حاولَ أن يتحرَّك، ليصلَ إليه، أو ربما يتأكَّد أنَّه سراب..
تمتمَ بشفاهٍ ولسانٍ ثقيل: 
-أرسلان ...!!
حاولَ فتح عينيهِ مرَّةً أخرى ولكن 
اخترقت الإضاءةُ عينيهِ بقسوة، كمن انتُزعَ من قبره ليواجهَ شمساً لا ترحم..

أطبقَ جفنيهِ سريعًا، متأوِّهًا بصوتٍ خافت، ارتسمت أعينَ إسحاق بابتسامةٍ ليكرِّر ندائهِ مرَّةً اخرى:

-أرسلان..قالها بصوتٍ مرتجف، ليخترقَ أذنهِ ويقومَ بفتحِ عينيهِ بعد علمهِ لصاحبِ الصوتِ الذي يعرفهُ جيدًا..

ظلَّ إسحاق للحظات، قريبًا، مترقِّبًا، يكادُ يلهثُ تحت وطأةِ الانتظار؛ ليتأكَّدَ أنَّه ليس سرابًا، إلى أن همسَ بصوتٍ بالكادِ خرجَ من بين شفتيهِ المتشقِّقتين:
إلياس...؟

هنا فقدَ إسحاق السيطرةَ ليسقطَ على ركبتيهِ بجوارِ السرير؛ حينما لم يستطع مقاومةَ الطوفانِ الجارفِ الذي اجتاحه، فانحنى يسجدُ على الأرض، والدموعُ تسقطُ بصمتٍ مع شهقاتٍ متقطِّعة، خافتة، لاعترافهِ بالحمد، بالرهبة، بالخوف، وبالنجاةِ التي جاءت بعد ظلامٍ طويل...حينما فقدَ الأمل، نهضَ مرَّةً أخرى على صوتِ أرسلان المشبعِ بالألم :
إلياس..فين؟!
نهضَ إسحاق مسرعًا، مسحَ دموعهِ بظهرِ كفِّه، قبل أن يميلَ نحوه، ويطبعُ قبلةً طويلةً على جبينه، يحاولُ أن يطبعَ الطمأنينةَ في قلبهِ المضطرب..
حبيبي، حاسس بإيه؟

حاولَ أرسلان بلعَ ريقه، لكنَّهُ كان كمن يحاولُ ابتلاعَ صخرة، عيناهُ تائهتانِ بين الوعي والذاكرة، بين الحاضرِ والماضي الذي لا يزالُ يصرخُ داخله..

ثمَّ، بصوتٍ بالكادِ خرجَ من بين شفتينِ مرتجفتين، همس:

- عمُّو...إلياس..؟

تجمَّدَ إسحاق للحظةٍ وشعرَ بجسدهِ يبرد، كأنَّ أنفاسهِ احتُجزت قسرًا في صدره..كيف يخبره؟ كيف يواجهُ تلك العيونِ القلقةِ بالحقيقةِ التي قد تقتلهُ قبل أن يتقبَّلها؟..

رسمَ ابتسامةً مع لمسِ خصلاتهِ المبعثرة بحنان، ثمَّ أردفَ بنبرةٍ جعلها متزنة:

- إلياس كويس، حبيبي...

رفعَ أرسلان عينيهِ لتقابلَ عينا عمِّهِ التي تحملُ الوجعَ الذي تسلَّلَ بين حروفهِ رغم ابتسامته، بدأ قلبهِ يخفقُ بجنون..ارتجفَ جسده، وتثاقلت أنفاسه، وخرجَ صوتهُ متحشرجًا، ممزَّقًا بين الرجاءِ والرعب على اخيه:

إلياس فين يا عمُّو؟! أوعى يكون... قتلوه..؟!

رعشةٌ عنيفةٌ ضربت إسحاق، فأسرعَ يمسكُ بيديهِ المرتجفتين، يهزُّ رأسهِ بقوَّة:
- لا يا حبيبي، لا..إلياس عايش، الحمدُلله، هوَّ في الأوضة اللي جنبك، بخير..

- إيه...؟!

وفي تلك اللحظة، ضربته الذكرى كأنَّها صفعةُ قاتلة..

هنا تذكر كل شئ، صوتُ السلاحِ وهو يخترق جسده، الألمُ الذي انتشرَ كالنار، المياهِ الباردةِ التي غمرتهُ ككفن، وصرخةُ إلياس الأخيرةِ باسمهِ وهو يتلقَّى الطعنة عنه،  كلَّ ذلك يتردَّد داخله..

اشتعلُ صدره بنيرانٍ تريد أن  تحرقَ كلَّ شيءٍ في طريقها..

لم يشعر إلَّا ويداهُ تنزعانِ الأجهزةِ الموصولةِ به، بلا وعي، بلا تفكير.

- لا..لازم أشوفه، دلوقتي!!

تحرَّك ليتأكَّدَ أنَّ أخاهُ مازال على قيدِ الحياة، بسطَ أناملهِ يضربُ بأنابيبِ المحاليل، يخلعُ اللاصقات، وصوتُ الأجهزةِ ينطلقُ بجنون

- أرسلان، استنى! جسمك مش مستحمل!!

لكن لم يعد هناك مجالًا للكلمات..

سيبني!! عايز أشوفه، لو حصلُّه حاجة، أنا هموت، فاهم؟!!

ترنح جسده وشعر بأنه سيفقدَ وعيه، لم يكن يرى سوى بابِ الغرفة الذي رآه كسراب، كأنَّه الحدُّ الفاصلِ بينه وبين أخيه، لكن فجأة انفتح الباب و دخلت فريدة، ليسودَ صمتٌ ثقيل..

توقَّفت متجمِّدة، عيناها متسعتان، متجمدتانِ في صدمةٍ لم تستطع إخفاءها، وجهها شاحب، وكأنَّها رأت شبحًا خرجَ لتوِّهِ من الموت، تهمسُ اسمهِ بخفوتٍ لتنسابَ عبراتها على وجنتيها، تريدُ أن تصلَ إليه بخطوةٍ واحدة، تجذبهُ بقوَّةٍ ليسكنَ داخل أحضانها، كما تسكنُ العضلات داخل الصدر، تريدُ أن تستنشقَ رائحتهِ التي تجعلها تتشبَّثُ بالحياةِ كالطفلةِ التي تتشبَّثُ بكفِّ والدها، تريدُ وتريدُ إلى أن فاقت من أحلامِ ماتبنيهِ على صوته: 
-ماما...

قالها وتوقَّفَ يطالعها بعينِ الابنِ الذي فقدَ كلَّ شيءٍ داخله، لم يبقَ سوى صوته، يخرجُ كصرخةٍ أخيرة، كرجاء، كخوفٍ قاتل:
إلياس عايش ياماما؟!

اقتربت فريدة منه، بأنفاسٍ متسارعة، وخفقاتُ قلبها المتلاحقةِ هزَّت كيانها بالكامل، استندت على الجدارِ ورفعت بصرها لجسدهِ الهزيلِ الذي أنهكهُ الألم، وعيناهُ التي تحملُ اللهفة، توقَّفت للحظة، تتفحَّصُ ملامحهِ بقلبها قبل عينيها،  تحاولُ أن تطمئنَ قلبها بأنَّه حي، بأنَّه ما زال أمامها، ليس خيالًا نسجتهُ أمانيها بأدعيتها، ردَّدت بلسانٍ ثقيل:
" ياالله"قالتها ليرتجفَ جسدها مع انفجارِ الدموعِ من عينيها، التي جرت كشلالٍ مندفعٍ، كيف لها أن تمنعها وهي التي نزفت صبرها انتظارًا على إفاقته؟! وصلت إليهِ وتوقَّفت أمامهِ ومازالت عيناها تتفحَّصهُ كطبيبٍ يفحصُ مريضهِ بعناية، رفعت يديها المرتعشتين، وكأنَّها تخشى لمسهِ خشيةَ أن يختفي بين أصابعها، ثمَّ همست باسمه بتردد مع رجفة قلبها، وكأنَّها تحيي روحها من جديد:

"أرسلان…"

قالتها بلهفة أمٍّ فقدت كلَّ صبرها..لم تقوَ على تتمَّةِ كلمتها؛ لتجذبهُ لأحضانها تريدُ أن تشعرَ بأنَّه حقيقةً ليست خيال، بلسانٍ ثقيلٍ ارتشفت شفتيها بصوتها المتألِّم الذي شقَّ سكونُ الغرفة:

-"آه يا قلبي، يا بني..الحمدُ لله…ربِّنا نجَّاك، الحمدُ لله، يا ربِّ لك الحمد!"
قبلاتٌ عديدةٌ على ملامحِ وجهه، ثمَّ أخرجتهُ من بين ذراعيها وتراجعت قليلاً، وما زالت عيناها تلتهمه، تحاولُ أن تسترجعَ كلَّ تفصيلةٍ في وجهه، مرَّت بأصابعها المرتعشةِ على وجنته، كنحَّاتٍ مبدع:

-"إنتَ كويس؟ فيه حاجة وجعاك يا حبيبي؟" قالتها بتقطُّع، وصوتٍ يختنقُ بين شهقاتها..

ربتَ على كفِّها ورفعهُ مقبِّلًا إياه، اقتحمت صفية الغرفة، تسبقها خطواتها اللاهثة، وبجوارها فاروق الذي لم يُخفِ توتره، تجمَّدت للحظة، كأنَّ قلبها لم يستوعب الصدمة بعد، وهي تراهُ في أحضانِ فريدة، صاحت بلهفةٍ واندفعت نحوه:

"أرسلان!"

لم تعد قدماها تحملانها فامتزج الفرحُ بالألم، والدموعُ بالابتسامات، والخوفُ بالراحة أخيرًا.. 
-ماما..ردَّدها بأنين، وهو يضعُ كفِّهِ على جرحه، فتوقَّفَ إسحاق متقدِّمًا إليهِ بلهفة:
-مالك ياحبيبي..رفعَ نظرهِ إلى فاروق الذي انزوى بأحدِ الأركانِ وانسابت دموعهِ بصمت، رسمَ ابتسامةً من بين آلامه، ثمَّ اتَّجهَ إلى إسحاق: 
-شكل فاروق باشا مكنشِ عايزني أفوق ولَّا إيه؟..
-بعدِ الشر..قالتها صفية بلهفةٍ وهي تضمُّ رأسه، حاولَ إسحاق إبعادها:
-صفية متنسيش الولد تعبان لسة، متضغطيش على رأسه.. 
-اسكت ياأسحاق..قالها أرسلان، وهو يحاولُ أن يتزحزحَ ليخلو مكانًا بجوارهِ لصفية، ولكن هبَّت فريدة من مكانها تشيرُ إلى صفية:
-تعالي هنا ياصفية، ابتسمَ يقبِّلُ يدَ فريدة..خلِّيكي ياستِّ الكل، ولكنَّها تبسَّمت بعيونٍ دامعة:
-ارتاح ياحبيبي المهم صحتك، أنا من صفية مش هتفرق. 
-ماما إلياس عامل إيه؟..
أومأت تبتعدُ بنظراتها عنهُ قائلة:
-هيبقى كويس حبيبي، إنتَ اهتم بصحِّتك علشان تفوق بسرعة، هسيبك وأروح أشوف اخوك..قالتها وتحرَّكت بعضَ الخطواتِ إلى أن استمعت إلى كلماتهِ التي شعرت بأنَّها خنجرٌ صوِّبَ لصدرها:
-أنا السبب، بسببي ابنك بينازع الموت، سامحيني معرفتش أحافظ عليه، ياريتني أنا اللي كنت مكانه بس واللهِ هوَّ اللي وقف قدامي و..التفتت إليهِ سريعًا وازدادَ بكاؤها بعدما وصلت إليهِ بخطوةٍ تجذبهُ لأحضانها متناسيةً جرحه، وآااه متألِّمة بكت بها وهي تردفُ من بين شهقاتها: 
-إنتَ إيه وهوَّ إيه يابني..تقدَّمَ فاروق أخيرًا وعيناهُ عليهما قائلًا:
-إنتَ وإلياس واحد متقولشِ كدا حبيبي، وإن شاء الله إلياس هيفوق ويبقى كويس، والحمدُ لله إنَّك فوقت، بلاش تحمِّل مامتك فوق طاقتها..كفاية وجعها على إلياس.. 

بعد فترةٍ جلست بجوارهِ غرام وهي تحتضنُ كفِّهِ وهو غافيًا بسببِ الأدوية، ملَّست على خصلاتهِ بحنان، قاطعها طرقاتُ الباب، دلفَ أخيها ووالدها، توقَّفت تزيلُ دموعها، ثمَّ همست: 
-بابا..ولجَ والدها إليها يضمُّها بحنانٍ أبوي قائلًا:
-حمدَالله على سلامة جوزك حبيبتي..بكت بأحضانِ والدها: 
-أرسلان فاق يابابا، بعد شهرين من الغيبوبة، بعد مافقدت الأمل، ابني هيجي وأبوه موجود يابابا..
ملَّسَ والدها على رأسها قائلًا:
-الحمدُ لله ياحبيبتي، ربِّنا يباركلك فيه ويكمِّل شفاه على خير..
حاوطت أحشاءها وابتسمت تزيلُ بكفِّها الآخر دموعها:
-اللهمَّ آمين ياربَّ العالمين، التفت إلى زياد: 
-زيزو عامل إيه حبيبي؟ ومبروك الأوَّل على دفعتك.. 
-الله يبارك فيكي حبيبتي، حمدَالله على سلامة أبيه أرسلان..استمعت إلى همهمات..استدارت إليه: 

-أرسلان حبيبي..فتحَ عينيهِ على صوتها، ومازال لسانهِ يردِّدُ اسمَ أخيه.. 
-حمدَالله على السلامة يابني..قالها محمود والد غرام..حاول أرسلان أن يعتدلَ ولكنَّه أفلتَ تأوُّهًا، هرولت إليهِ لتساعدهُ فأوقفها بكفِّه:
-غرام متنسيش إنِّك حامل..قالها بصعوبة، بينما اقتربَ زياد وانحنى ليساعدهُ قائلًا:
-خلاص أساعدك أنا..
-حمدَ الله على سلامتك يابني، تمتمَ بها محمود..أومأ له مبتسمًا، دلفَ إسحاق ملقيًا السلام: 
-أهلًا يامحمود..
-أهلًا ياسيادةِ العقيد، حمدَ الله على سلامة حضرتك..قطبَ أرسلان جبينهِ متسائلًا: 
-عمُّو!! إنتَ كنت تعبان؟!..اقتربَ منه وهو يجذبُ مقعدًا وابتسمَ وهو يربتُ على كتفهِ بحنان:
-عين وصابتنا حبيبي، الحمدُ لله على كلِّ حال..
-إيه اللي حصل؟...

قبلَ شهرين: 
وصلَ إلياس إلى المركبِ التي بها شريف وأحدِ الأشخاصِ الذي عينهما بمراقبُة راجح: 
-إيه الاخبار ؟..تساءلَ بها إلياس مع اقترابِ شريف منه: 
-إيه المية دي؟..هدومك كلَّها مية..
رفعَ رأسهِ باعتراضٍ وأردفَ بنبرةٍ حادَّة: 
-أنا بسألك عملتو إيه؟..
-راجح رمى رانيا في البحر، ومشي.. 
وبعدين؟..
حمحمَ أحدُ الأشخاصِ وهو يبسطُ كفِّهِ بالكاميرا:
-دا اللي حصل ياباشا زي ماحضرتك أمرت. 
تناولَ منه الكاميرا وبدأ يقلِّبُ بالصور، ثمَّ رفعَ عينيهِ إليه:
-مفيش فيديوهات كلُّه صور؟..أخرجَ شريف هاتفه:
-هنا فيديو بالتفصيل، بس مقولتش ليه عايز دول؟.. 
-ورانيا فين؟..أوعى تقولي أنُّكم سبتوها تموت.. 
-لا، الغواص أنقذها زي ماأمرت، وأخدناها المكان اللي قولت عليه. 
-تمام..قالها وهو يغادرُ المكانَ مع ارتفاعِ رنينِ هاتفه: 
-إسحاق باشا انضرب بالنار، والرصاصة في القلب. 
توقَّفَ متجمِّدًا يردِّدُ مااستمعَ إليه، ثمَّ تساءل: مين اللي ضربه؟..
-الواد اللي كان خاطف مراته، والغريب أنُّه اتحوَّل لحالة من الضحكِ الهستيري،  وفرحان باللي عمله. 
-الواد دا مش قريب عطوة برضو؟.. 
-ابنِ الراجل اللي شغال تحت إيده، اللي إسحاق باشا موِّته في قضية جمال الشافعي..اللي حضرتك طالبت راكان باشا بفتحِ قضية موته.. 
ضيَّقَ عينيهِ وبدأت الأفكارُ تضربُ عقله، حتى شعرَ بأنَّه داخل حلبةِ مصارعةٍ من الأفكار:
- دا إيه الحملة الصليبية اللي انفجرت عليَّا مرَّة واحدة، هلاقيها من راجح ولَّا من عطوة ولَّا من اللي بيحرَّك الكل، دا عش الدبابير أرحم.
تنهيدةٌ مثقلةٌ بكمِّ الهمومِ التي أطبقت على صدره، تحرَّكَ مغادرًا المكانَ متَّجهًا إلى المشفى التي تم حجزَ إسحاق بها..
عدَّةُ ساعاتٍ بغرفةِ العملياتِ إلى أن انتهى الطبيب: 
-عملنا اللي علينا والمريض بين يدي الله، قالها بوصولِ فاروق متلهِّفًا يبحثُ عنه بقلبهِ قبل عينيه: 
-إسحاق ماله يادكتور؟.. 
-الإصابة خطيرة يافندم، الرصاصة بالقربِ من القلب، خرَّجنا الرصاصة بس  لسة الخطر موجود. 
هوى فاروق على المقعدِ مردِّدًا:
-لا نقولُ إلَّا ما يرضي الله ،قدَّرَ الله وماشاءَ فعل، إن شاءَ الله ربنا هينجيه..
وقعت عيناهُ على إلياس المتوقِّف بجوارِ الطبيب:
-إيه اللي حصل؟!! مين اللي ضرب إسحاق بالنار؟.. 
-معرفش، أنا كنت بزور قبرِ والدي، خرجت على المينا وعرفت بالصُدفة أنُّه في السويس.. 
ظلَّت حربُ النظراتِ بينهما إلى أن انسحبَ بعدما أردف:
-معافى إن شاءالله...بعد عدَّةِ ساعاتٍ وصلَ إلى القاهرة، دلفَ إلى مكتبه، وأخرجَ جهازهِ ليحفظَ به فيديوهاته..

قاطعهُ رنينُ هاتفه، رجعَ بجسدهِ بعدما التقطَ هاتفهِ وتغيَّرَ حاله: 
-خلَّصتي الفطار ولَّا إيه؟.. 
-المغرب هيدن اتأخرت..نظرَ بساعةِ يدهِ ثمَّ أجابها: 
-لسة نصِّ ساعة، عشر دقايق وأكون عندك إن شاءالله.. 
-تيجي بالسلامة..قالتها ميرال وأغلقت الهاتفَ تتطلَّعُ على طفلها الذي يحاولُ الوقوفَ بفراشه، داعبت خصلاتهِ بابتسامةٍ حانية:
-حبيب مامي، ياله ننزل تحت علشان نستقبل بابي..رفعَ الطفلُ ذراعيهِ وأطلقَ ضحكاتهِ الطفولية، تراجعت بعدما استمعت إلى رنينِ هاتفها: 
-غرام عاملة إيه حبيبتي؟..
-الحمدُ لله، إنتِ عاملة إيه؟..وحضرة الظابط عامل إيه؟..
-كويسين الحمدُ لله..المهم إنتِ في الفيلا ولَّا في بيتك؟.. 
-لا أنا عند بابا، هفطر عنده لسة واصلة من شوية، كنت بسألك أرسلان متصلشِ بإلياس؟..من امبارح مكلِّمنيش وقلقت عليه.. 
حمحمت ميرال ليتجلَّى صوتها بثبات،  بعدما تذكَّرت حديثَ فريدة وقلقها ثمَّ أجابتها: 
-إلياس في السويس من الصُبح، خرج بدري ولسة مرجعش، لمَّا يرجع هطمِّنك أكيد..بس قوليلي أوَّل مرَّة أرسلان يتأخَّر في اتصاله؟.. 
-لا، فيه أوقات بيعدِّي كام يوم، بس كنت بطمِّن من عمُّو إسحاق، لكن هوَّ مش موجود فقلقت مش أكتر، ممكن معندوش فرصة يكلِّمني.. 
حاولت ميرال تهدئتها قائلة:
-إن شاءالله..ممكن يكلِّمك بعد الفطار، متنسيش فرق التوقيت..
-إن شاءَ الله حبيبتي..أنهت اتِّصالها وحملت طفلها متَّجهةً إلى الأسفل، قابلتها المربية: 
-كنت لسة هطلع له علشان أكِّله..وضعتهُ على كرسيهِ الخاص، ثمَّ أشارت إلى الخادمة: 
-هاتي أكل يوسف؟..بعدَ دقائقَ معدودة وصلَ إلياس إلى منزله، بنزولِ رؤى وهي ترتدي بدلةً نسائيةً بيضاءَ اللونِ وحجابًا باللونِ الفيروزي ممَّا أعطاها صورةً هائلة..اتَّجهت إلى نزولهِ من السيارة:
-حمدَ الله على السلامة اتأخرت..تحرَّكَ متجاهلًا مقابلتها قائلًا:
-الله يسلمك، وتأخيري يهمِّك في إيه؟..
توقَّفَ مستديرًا برأسهِ وأكملَ حديثه:
-قبل ما تكوني أختِ مراتي، فانتي أختي زيك زي غادة، وحطِّي تحت دي مليون خط، اتظبطي علشان مش عجباني، وسيبك من شغلِ المخطَّطات الفاشلة بتاعة البنات اللي تشبه شغلِ الرقاصين، علشان أنا معرفشِ النوع دا من البنات...قاطعهم وصول ميرال: 
-إلياس..استدارَ إليها مبتسمًا، فتحرَّكت نحوه، اقتربَ منها ثمَّ انحنى طابعًا قبلةً فوق جبينها: 
-عاملة إيه؟..
طوَّقت ذراعهِ متحرَّكةً معهُ للداخل: 
-عاملة صينية رقاق وبشاميل وجلاش..
توقَّفَ متسمِّرًا يطالعها بأعينٍ متَّسعة:
-أكيد بتهزَّري، أوعي، ناوية تفرسيني وتخلِّيني أروح أفطر مع أمِّي..
قهقهت بصوتها الذي سلبَ روحهِ مما جعله يتمايلُ على أذنها:
-اغريني يابنتِ مدام فريدة، وضيَّعي صيامي قبلِ المغرب بدقايق، علشان أطلَّعه عليكي بعد الفطار.. 
دفنت رأسها بصدرهِ ومازالت ضحكاتها تصدحُ بالمكان، حاوطَ جسدها وتحرَّكَ إلى الداخلِ مع وقوفِ رؤى تنظرُ إليهم بأعينٍ مشوَّشةٍ بالبكاء.

عند أرسلان قبل ساعات..

صعدَ إلى متنِ المركبِ بعدما سمعَ صوتَ استغاثةِ الفتاة..تحرَّكَ مترنِّحًا، فالرؤيةُ أمامهِ كانت مشوَّشة، وجسدهِ المثقلِ بالنزيفِ يكادُ يفقدهُ توازنهِ بالكامل، ظلَّ يتحرَّكُ بثقلٍ حتى وصلَ الدرج، هنا خانتهُ قدماهُ وسقط، لكنَّهُ لم ييأس و تحاملَ على نفسه، مستجمعًا ما تبقَّى من قوَّته، ليواصلَ صعودهِ حتى وصلَ إلى سطحِ السفينة على صرخاتِ الفتاةِ التي تمتزجُ بضجيجِ صوتِ الأمواج، ظلَّت تحاولُ باستماتةٍ الدفاعَ عن نفسها،  حتى تمنعَ ذلك الوحشَ من الانقضاضِ عليها، زحفَ أرسلان بجسدهِ الواهن، ورغم خطواتهِ التي أخذت أكثرَ مما تبقَّى من طاقته، لكنَّه لم يتراجع، وقعت عيناهُ على تلك الفتاةِ التي قامت بمساعدته، هنا شعر بنيرانٍ متأجِّجة بصدره، وخطا  بما تبقَّى له من قوَّة، ليدفعَ الرجلَ بعيدًا عنها، ويقعَ كلاهما أرضًا..ارتجفَ جسدها وزاغت عينيها في كلِّ الاتِّجاهات بهلع، لكنَّها لم تستسلم..بحثت بعينيها عن أيِّ شيءٍ يمكنها الدفاعَ به عن أرسلان، الذي كان يضغطُ على ذراعهِ المصاب وهو يتأوَّه، رأت فوق علبةِ البيتزا إضاءةً لنصلِ السكينِ تحت ضوءِ القمر، اندفعت نحوهِ والتقطته، ثمَّ تحرَّكت بسرعةٍ نحو الرجلِ الذي بدأ بالنهوض، متوجِّهًا نحو أرسلان بسخط..

- "من أنتَ أيها الأحمقُ لتتجرَّأَ على التدخل؟!" 
رفعَ أرسلان ساقهِ السليمةِ وبمهارة ركلهُ بقوَّة، فاختلَّ توازنُ المعتدي وسقطَ على ظهره، عندها اعتدلَ أرسلان ببطء، يلتقطُ السكينَ من يدِ الفتاة، وهبطَ فوقهِ بجسدهِ وأدارَ نظرهِ نحو عنقهِ بعينينِ متوقِّدتينِ وهو يحرِّكُ السكين: 

- "إذا اقتربتَ منها مرَّةً أخرى، سأقتلك." قالها بنبرةٍ تهديديةٍ جامدة، ثمَّ طالعهُ بأعينٍ متوقِّدةٍ بعد صمته، ولكن هنا نظراتهِ كانت توحي أكثرَ مما تفعلُ الكلمات، ثمَّ التفتَ إلى الفتاةِ قائلاً: "هيا، تحرَّكي من هنا."

تردَّدت للحظة، ثمَّ جذبت حقيبتها وأغلقت رداءها حول جسدها المرتجف، لكنَّها لم تتحرَّك فورًا، بل نظرت إليه بقلق:

- "يجب أن تخرج من هنا أيضًا."

طالعها بنظرةٍ آمرةٍ وهو يقول بصوتٍ متقطِّعٍ من الألم:
- "لا بأس، أنقذي نفسك أولًا."

تردَّدت للحظة، ثمَّ استدارت وهي تنظرُ حولها بحثًا عن مهرب..ولكن توقَّفت متجمِّدةً وكأن ضربتها صفعةٌ حينما تذكَّرت أنَّ السفينةَ ابتعدت عن الشاطئ.. نظرت إلى البحرِ الممتدِّ بلا نهاية، ثمَّ إلى أرسلان الذي يراقبها بجهلٍ من توقُّفها.. 

ضحكَ الرجلُ بسخرية، رغم حدَّةِ النصلِ الذي يستقرُّ عند عنقه:
-"ستموتين هنا أيتها الحمقاء، مع هذا الأبله."

ازدادَ تألِّمِ أرسلان، ورغم ذلك أخرجت كلماتُ ذلك الرجلِ شياطينه، مما جعلهُ يحرِّكُ السكينَ قليلًا ليضغطَ أكثر على جلدهِ وهمسَ بهسيسٍ مرعب: 
"اصمت، لا أريدُ أن أسمعَ صوتك أيها القذر."..أشارَ إليها: 
-اجلبي شيئا حتى أقيِّدَ ذلك الحيوان، هرولت إلى الأسفلِ تبحثُ عن شيئٍ حتى عثرت على حبلٍ من السلكِ المعدني، سحبتهُ وهرولت إليه تبسطُ كفَّيها به، وجدت تعرُّقهِ يزدادُ على جبينهِ فأردفت بلهجةٍ أخرى حتى لا يعلمَ الرجلُ ماذا تقول:
-يجب إخراجُ الرصاصة..أشارَ إلى أيدي الرجل: 
-هيا امسكي ذراعيه، يجب أن نعودَ إلى الشاطئِ قبل أن يشعرَ بنا أحدهم.. 

بعد معاناةٍ طويلة، نجحَ المركبُ أخيرًا في العودةِ إلى الشاطئ، لكنَّ جسدهِ كانَ قد استسلمَ تمامًا...وازدادت تشنُّجاتهِ حتى فقدَ السيطرةَ على نفسهِ بالكامل، هرعت نحو هاتفها بيدٍ مرتجفة، بعدما وجدت سوءَ حالته، رفعت هاتفها واتَّصلت بشخصٍ ما، وهاتفتهُ بصوتٍ يختنقُ بين الخوفِ والاستغاثة..

مرَّت الدقائقُ عليها كسكينٍ ينهشُ العنقَ ، كلَّ ثانيةٍ كانت تسرقُ جزءًا من أملها بعدما استمعت إلى شهقاتهِ المتقطِّعة..التي  امتزجت بهذيانٍ لم تفهم كلماته، وهو يهمسُ باسمِ زوجته، وكأنَّ روحهِ تحاولُ أن تتعلَّقَ بها، كان يقاوم، فتحَ عينيهِ حتى لا يسقطَ في بئرِ فقدانِ الوعي، ولكن خارت قواهُ بالكاملِ وأغلقَ عينيهِ على الرجلِ الذي يقيَّدُ بركنٍ ويُوضعُ  اللاصقُ على فمه، هنا تراجعَت خطوتينِ إلى الخلف، تحاولُ الصمود، لكنَّها شعرت بجسدها ينهار، الألمُ ينهشُ أطرافها، والخوفُ يكبِّلُ أنفاسها...بعدما فقدَ وعيهِ بالكامل، اقتربت منهُ في محاولةٍ لإفاقته، في ذلك الوقتِ وصل رجلُ الأمنِ الخاصِّ بالرجلِ الثري، انطلقَ إلى الداخل،  وسلَّطَ عينيهِ على المكانِ بحذر، لكنَّهُ توقَّفَ فجأةً في مكانهِ وهو يحدِّقُ في مظهرِ سيدهِ المقيَّد..التقطَ سلاحهِ بحركةٍ سريعة، وسار فوق أرضيةِ المركبِ بخطواتٍ محسوبةٍ يتلفَّتُ حوله.. 

في تلك اللحظة، كانت تحاولُ إيقاظَ أرسلان، تهمسُ باسمه، تهزُّهُ برفق، لكن قبل أن تستوعبَ ما يحدث، التقطت أذناها صوتَ خطواتٍ خلفها، التفتت بحدَّة، وقلبها يخفقُ كطائرٍ مذعور..لم يمنحها الوقتُ لاستيعابِ مايحدث، فجأةً اقتحمَ المركبَ عددًا من الرجالِ المجهولين، تشاهدهم يسحبونَ أرسلان بعيدًا، ارتجفَ جسدها حين شعرت بأيديهمِ القوية تجرَّها معه، وفي اللحظةِ ذاتها دوى صوتُ رصاصة..الرجلُ الذي كان يمسكُ بسلاحهِِ أطلقَ رصاصتهِ لتستقرَّ بصدرِ تلك الفتاة، هنا تدخَّلَ الأمنُ وحدثَ هرجٌ ومرج، اشتعلَ المكان بفوضى عارمة..الفريقُ الأمني كان قد وصل أخيرًا، لكن المعركة قد بدأت بالفعلِ باختطافِ أرسلان بعد إصابته مرة أخرى بطلق ناري في محاولة قتله من فريق أمن الرجل الثري ، ليختطف لوجهةٍ غير معلومة..

بمنزلِ يزن السوهاجي..بعد أسبوع من ذهاب رحيل، احتمى بغرفتهِ يحترقُ داخليًا، وكأنَّ صدرهِ ككتلةِ نار، حتى تحوَّلت عيناهُ إلى لهيبٍ يريدُ أن يحرقَ كلَّ مايراه..كلَّما تذكَّرَ حديثها وإهانتها، دارَ حول نفسهِ بالغرفة كالأسدِ الجريح، يكوِّرُ قبضتهِ ويلكمها بقوة، لترتجفَ أنفاسهِ وهو يمرِّرُ يدهِ على وجهه، كأنَّهُ يحاولُ مسحَ أثرِ كلماتها التي لازالت ترنُّ في أذنيهِ كجرسِ إنذار..وقفَ متصلِّبًا، يضغطُ أسنانهِ بقوةٍ حتى كادَ يسمعُ صوتَ احتكاكها، وتحوَّلت عيناهُ كجمرةٍ تحت الرماد، ناهيك عن صدرهِ الذي يعلو ويهبط كأنَّهُ يحاربُ كي لا يختنق..

-لييييه، بتعملي فيا كدا ليه؟!
قالها ومدَّ يدهِ المرتجفةِ إلى صدره، يضغطُ فوق قلبهِ كأنَّه يريدُ أن ينتزعهُ من مكانه، ليتخلَّصَ من هذا الوجع الذي ينهشهُ بلا رحمة...
-ليه..ردَّدها مرَّةً أخرى، كلمة من ثلاثةِ حروفٍ خفيفةُ النطقِ ولكنَّها ثقيلة، ثقيلةٌ حتى شعرَ بأنَّها دموية، لتخرجَ منهُ كالبلورِ  الذي يشحذُ بالحلق، ليشعرَ بكمِّ الألمِ الذي أحدثته.. 

هوى على الأرضيةِ بعدما فقدَ اتزانه، يضربُ رأسهِ بالجدارِ بقوة، لعلَّهُ يوقفُ نزيفَ روحه؛ ولكن كيف يتوقَّفُ ذلك الألم..والجرحُ يفوق أيَّ ألمٍ ليعجزَ الأطباءُ عن الدواء.

أطلقَ زفرةً ثقيلة، وكأنَّ روحهِ خرجت معها، وألقى برأسهِ على الجدارِ مجدَّدًا، مغلقًا عينيه، ليرى صورتها تضربُ مخيِّلته، وابتسامتها التي كانت يومًا ملاذه، أمَّا اليوم صارت سكينًا يذبحه ببطء..هنا شعر أنَّه منهكًا، محطَّمًا، وكلماتها مازالت تصفعهُ بقوة، أيقنَ حينها أنَّ بعض الجروحِ لا تُشفى أبدًا..هنا توقَّفَ وثارت نيرانُ صدرهِ فانطلقَ في الغرفةِ دون وعيٍ  يدفعُ المكتبَ الذي يوجدُ بأحدِ أركان الغرفة، ليتناثرَ مافوقهِ ويسقطَ محدثًا ضجيجًا قطعَ انهياره، ليهوى مرةً أخرى بجسدهِ على المقعد يرجعُ خصلاتهِ للخلفِ بقوةٍ كاد أن يقتلعها ..
قطع حربهِ مع نفسه دخولُ كريم..
طافت أعينُ كريم بالغرفة، ثمَّ خطا إلى جلوسه: 
-وبعدين هتفضل كدا كتير؟..بقالك يومين قافل على نفسك..
نهضَ من مكانهِ وجذبَ منشفتهِ قائلًا بصوتٍ جعلهُ متزنًا بعضَ الشيء: 
-أنا مش قافل على نفسي ولا حاجة كنت بخلَّص شغل.. 
-أيوة أيوة عارف إنَّك شغال، طيب ياعمِّ الشغال علشان تشتغل أكتر وأكتر 
رحيل سافرت هيَّ ووالدتها..
التفتَ إليه سريعًا وعيناهُ ترسلُ الكثيرَ من الأسئلة، إلَّا أنَّه رسمَ عدم المبالاةِ واستدارَ متَّجهًا للحمَّامِ وهو يتمتم: 
-مايهمنيش..قالها وأغلقَ البابَ خلفه، متوقِّفًا لعدَّةِ دقائقَ يحاولُ السيطرة على ذاته..
بالخارجِ عند كريم..ظلَّ لبعضِ الوقتِ ونظراتهِ مصوَّبة على البابِ الذي أُغلق، دلفت إيمان إليه: 
-يزن فين؟!
أشارَ إلى الحمَّام ثم تحرَّكَ للخارج: 
-عمِّي اتوفى ولازم أسافر البلد، هقعد كام يوم هناك، عايزك تاخدي بالك من نفسك..وكمان فيه حاجة أتمنى متزعليش، هنأجِّل الخطوبة شهرين تلاتة علشان..قاطعتهُ سريعًا: 
-خلاص ولا يهمَّك، البقاء لله، وكويس إننا نأجِّل متنساش امتحاناتي بعد العيد على طول، وعايزة أركِّز شوية، محبتشِ أزعَّلك وأطلب نأجِّل..
ابتسمَ مقتربًا منها وعيناهُ ترسمها بعيونِ عاشقٍ حدَّ النخاع: 
-لو مش حرام كنت حضنتك دلوقتي، هضطَّر أصبر كام شهر كمان..
تورَّدت وجنتيها مبتعدةً عنه بنظراتها، بسطَ كفِّهِ إلى وجهها يديره: 
-بتبعدي ليه بعيونك الحلوة دي؟..فزعت مبتعدةً تفركُ بكفَّيها وتمتمت بتقطُّع:
-كريم لو سمحت، مينفعش يبقى فيه تلامس..ومفيش بينا رابط رسمي.
ابتعدَ معتذرًا: 
-آسف مكنشِ قصدي، المهم نسِّتيتي كنت جاي لك ليه.. 
ابتسمت تهزُّ رأسها: 
-علشان تعرف إيه اللي حصل ليزن ورحيل مش كدا؟..
أومأ لها بعدما أطلقَ ضحكةً رجوليةً قائلًا:
-أيوة كدا بالظبط..حبيبتي ذكية وبتفهمها وهيَّ طايرة، قالها بغمزةٍ من عينيه..قاطعَهُ يزن قائلًا:
-حبَّك بورص ياخويا، مااتلمِّ نفسك، أومال لمَّا تكتب هتعمل إيه؟.. 
استدارَ إليه ضاحكًا واستطرد: 
-لا مش هقولَّك علشان عيب؛ تحرَّكت سريعًا من أمامهما بعدما تورَّدَ وجهها بالكاملِ وشعرت بالخجل من حديثه، ظلَّت عيناهُ تراقبها إلى أن اختفت من أمامه، ليحمحمَ يزن قائلًا:
-أنا جاهز ياله، علشان منتأخرش، لازم أرجع بالليل مينفعشِ أسيب أخواتي يباتوا لوحدهم، وكمان إحنا الاتنين مش موجودين..توقَّفَ قائلًا:
-ولَّا أعديهم على ميرال لحدِّ ماأرجع...قاطعهُ كريم بالرفضِ القاطع: 
-لا..ابتلعَ ريقهِ وتمتمَ بإبانة:
-متنساش إلياس غريب مهما كان، ومينفعشِ إيمان تكون هناك.. 
رفعَ يزن حاحبهِ ساخرًا ثمَّ تحدَّث:
-لا والله، أولًا دا جوز أختها، ثانيًا في حكمِ ابنِ عمَّها، يعني هوَّ قريب لها..
-لا يايزن مش قريبها، هوَّ قريبك إنتَ بس، إنما إيمان لا، حتى لو قريب لها، برضو مش موافق إنَّها تكون هناك.. 
سحبَ يزن مفتاحهِ يشيرُ للخارج:
-على الرغمِ إنِّي مش مقتنع بكلامك، لأنِّي واثق في إلياس، بس هحترم رأيك لأنُّه من حقَّك من وجهة نظري، نصيحة منِّي..إلياس وأرسلان دول بعدي ياكريم بالنسبة لأخواتي، حتى لو لسة معرفتنا جديدة، بس أنا أعرف أقيِّم معادن الناس كويس..
ربت كريم على كتفهِ قائلًا:
-متزعلشِ منِّي بس دا من حقِّي..توقَّفَ مستديرًا برأسه:
-هعتبر كدا على أساس إنَّك خطيبها تمام؟...فهمَ كريم مايحوي كلماته، فهزَّ رأسهِ بصمتٍ وتحرَّكَ للخارج، بينما توقَّفَ يزن ينادي على أخته: 
-حبيبتي أنا هسافر مع كريم أحضر دفنة عمُّه، وإنتي خلِّي بالك من معاذ، إن شاءالله هحاول متأخرش..
-ترجع بالسلامة ياأبيه، اقتربَ يطبعُ قبلةً مطوَّلةً فوق جبينها ثم أردف:
-لو احتجتي حاجة كلِّميني، وإن شاءالله مش هتأخَّر..
-متقلقشِ علينا، خلِّي بالك من نفسك.. 
ابتسمَ لها وتحرَّكَ بعض الخطواتِ إلى أن توقَّفَ على صوتها: 
-يزن لا إله إلَّا الله..التفتَ وعيناهُ عليها: 
-محمد رسول الله حبيبتي. 

بأحدِ الدولِ الأوروبيةِ ألا وهي إيطاليا، خرجت من منزلها متَّجهةً إلى عملها الجديد، وهو العملُ بأحدِ الشركاتِ الكبرى التي وصلت إليها عن طريقِ صديقٍ لوالدها، واستطاعت أن المشاركة، دلفت إلى الشركةِ بخطواتها الواثقةِ وكأنَّها تعملُ بها منذ سنواتٍ وليس منذ يومين، وصلت إلى مكتبها وخلفها السكرتيرةُ الخاصَّة بها:
-مواعيد حضرتك النهاردة ياأستاذة رحيل، الأستاذ بيتر دخل لمستر يعقوب من نصِّ ساعة تقريبًا.. 
-شكرا نادين..توقَّفت نادين تطالعها بابتسامةٍ بشوشة: 
-بتشكريني على إيه؟..أنا اللي عايزة أشكرك بجد، من وقت ماعرفت إنِّ فيه مصرية هتشاركنا ، وأنا السعادة مش سيعاني.. 
-ميرسي ياجميلة، ممكن بقى فنجان قهوتي، وتسبيني أشتغل قبل مامستر يعقوب يشيلنا خصم.. 
ضحكت نادين متراجعة
-وعلى إيه بلاش ياأستاذة، قالتها وتحرَّكت للمغادرة إلَّا أنَّها توقَّفت واستدارت تطالعها بأعينٍ متسائلة، لتهزَّ رحيل رأسها تشيرُ إليها للتحدُّث:
-فيه حاجة، ليه واقفة ؟!
-هوَّ إنتي فعلًا بنتِ مالك العمري؟..هنا ارتجفَ جسدها وصفعاتٍ من ماضي تريدُ أن تحرقها بقوَّة، أسبوعًا مرَّ عليها كقرنٍ وهي تحاولُ أن تدفنَ آلامها داخلها، ولكن كيف لها أن تدفنَ ماضٍ مازال يُنزفُ روحها التي مازالت متعلِّقةً  بنبضها المسلوبِ عنوة.. 

حمحمت نادين معتذرة:
-آسفة أستاذة رحيل..بس، أشارت إليها بالخروج:
-أكمِّل شغلي وبعدين نتكلِّم في المسائل الشخصية..ممكن؟.. 
أومأت لها دون اعتراضٍ وتحرَّكت للخارج، بينما تراجعت رحيل بجسدها على المقعدِ تغمضُ عينيها..لتخترقَ ذاكرتها صورتهِ التي قبضت قلبها المسلوبِ بقوَّة، لتفتحَ عينيها مع نزولِ دموعها رغمًا عنها، تتمتمُ لنفسها:
-لسة بتبكي عليه..علشان إيه؟..دا واحد غدر وباع، وداس، انسيه يارحيل، موِّتيه جوَّاكي وأوعي تشتاقي له تاني.. 
ولكن تمرَّدَ قلبها عليها وازدادت نبضاتهِ من مجرَّدِ تخيُّله، مما جعلها تضعُ كفَّها موضعَ نبضها: 
-مش قادرة، قلبي وجعني أوي، كسرتني يايزن، ليه تعمل فيا كدا بعد الحبِّ دا كلُّه؟..

أطبقت على جفنيها تشعرُ بنيرانِ قلبها الملتهبِ بالاشتياق، كلَّما مرَّت ذكراهُ أمام عيناها..احتضنت رأسها لتتساقطَ خصلاتها على وجهها وانسابت عبراتها بصمت، دلفَ يعقوب قائلًا:
-أستاذة رحيل..هيا سيبدأ اجتماع اليوم، وجودك مهمًّا جدًا في هذا الاجتماع، كي تعلمين كلَّ ما يرتبطُ بذلكَ المشروع.. 
اعتدلت بعدما أزالت عبراتها، اقتربَ بعدما لاحظَ خيوطَ الدموعِ على وجنتيها: 
-هل أنتِ بخير؟..
-نعم سيدي، قالتها وجمعت أشياءها تشيرُ إليه:
-هيا سنتأخَّر عن الاجتماع. 
-حسنًا..قالها وهو يدقِّقُ النظرَ بعينيها التي ابتعدت بها وتصنَّعت اهتمامها ببعضِ الاوراق..

بفيلا راجح: 
خرجَ من مكتبهِ بعدما أخبرتهُ الخادمة: 
-فيه واحد برَّة عايز يقابل حضرتك ياباشا..ضيَّق عينيهِ متسائلًا: 
-مين دا؟!..
بسطت كفَّها إليه بالبطاقةِ التعريفية، تناولَ الكارت ينظرُ إليه بشفتينِ مذمومتين، ثمَّ أشارَ إليها بالخروج:
-تمام دخَّليه وأنا جاي وراكي..خرجَ بعد عشرِ دقائق، وجدهُ متوقِّفًا أمام إحدى اللوحاتِ الزيتية المعلَّقة، يتأمَّلها بصمت، كما لو كان يقرأُ تاريخًا خفيًّا خلفها.
-عاجبتك؟..التفتَ عطوة إليهِ ببطء، بنظراتٍ هادئة، لكنَّها تحملُ شيئًا لا يُقرأ بسهولة...طالعهُ للحظاتٍ قبلَ أن يهزَّ رأسهِ مستخفًّا، ثم أشارَ له راجح بالجلوسِ قائلاً بنبرةٍ ساخرة:

-اتفضَّل ياباشا، ولَّا أقولك ياعطوة..
اتَّجهَ إلى المقعدِ وجلسَ يضعُ ساقًا فوق الأخرى، ثمَّ أخرجَ تبغهِ الغالي ينفثهُ بهدوء، وعيناهُ على جلوسِ راجح الهادي: 
-عرفت من إمتى ياراجح؟..
تهكَّمَ راجح وهو يجذبُ سيجارتهِ من فوق المنضدة وقام بإشعالها ونفثها بالهواءِ الطلق، ونظرَ نظراتٍ خبيثةٍ إلى عطوة مجيبًا: 
-من زمان أوي ياعطوة، ولَّا أقولَّك ياهشام يادمنهوري..
تغيَّرت ملامحُ عطوة لوهلة، لكنَّهُ استعادَ رباطةِ جأشهِ سريعًا، مطَّ شفتيهِ في ابتسامةٍ مائلة، وهزَّ رأسهِ متأمِّلاً قبلَ أن يقولَ بصوتٍ منخفض:

"طيب، ماأنتَ شاطر وعارف كلِّ حاجة، يا راجح…أومال ليه عامل عبده العبيط؟"
جزَّ راجح على أسنانه، وعيناهُ اشتعلتا بلونٍ لا يبشِّرُ بالخير…
-علشان تيجي لحدِّ عندي وتقولِّي ليه عملت فيَّ أنا وأخويا كدا، وأوعى تستهبل عليَّا أنا مش رانيا.. 
زمَّ شفتيهِ ثم توقَّفَ بعدما ألقى تبغهِ بالمطفأة وعيناهُ ترسمُ حركاتُ راجح الانفعالية: 
-اسمعني ياراجح، علشان إنتَ المفروض تشكرني، أو بمعنى أصح تشكر رانيا، علشان لولاها كنت زمانك مدفون جنبِ أخوك.. 
هبَّ راجح من مكانهِ واقتربَ منهُ كالأسدِ المنتظر فريسته، وهمسَ بفحيحٍ أعمى: 
-محدش له حاجة عندي، أوعى تفكَّر مش عارف تخطيطك إنتَ والزبالة رانيا، لا فوق واعرف إنتَ واقف قدَّام مين..
-راجح..صاحَ بها هشام الذي يُدعى عطوة يشيرُ إليهِ بتحذير:
-متنساش نفسك، بفضلي لسة ليك صوت في الدنيا، أنا مش جاي أحاسبك، أنا جاي دلوقتي بطلب منَّك طلب واحد ومش طلب لا دا أمر، ابنِ جمال لازم يموت، ومتفكرش إنِّنا مش عارفين إنَّك بتحاول منعرفشِ أنُّهم ولاد جمال..نسيت إنِّي اللي حطتهم في المكان دا..
-عايز إيه ياعطوة؟..
-فين رانيا ياراجح؟..
-وإنتَ مالك، هيَّ مراتي ولَّا مراتك.. 
-طيب اسمعني ياراجح علشان أنا صبرت عليك كتير أوي، قدامك يومين بس لازم تموِّت ابنِ اخوك، ياإما الكلِّ يعرف إن ابنِ أخوك ظابط، وبيدوَّر وراك شوف بقى هتعمل إيه، ثانيًا إياك تقرَّب من رانيا، لو عرفت إنَّك أذيتها مش هرحمك..
-اطلع برَّة أنا مابتهدِّدش، برَّة..صاحَ بها ينادي على الأمن وأشارَ إليه: 
-خرَّجوه برَّة..طالعهُ بنظراتٍ مستهزئة وأومأ برأسه: 
-تمام ياراجح، هطلع بس متنساش تجهِّز قبرك، مش هشام الدمنهوري اللي ينطرد..قالها وتحرَّكَ مغادرًا المكان بالكامل، هوى على المقعد بعد خروجهِ يسبُّه، ثمَّ تراجعَ بجسدهِ يطبقُ على جفنيهِ وذهبَ بذاكرتهِ قبل عدَّةِ أيام.. 

وصلَ راجح بصحبةِ رانيا إلى السويس، تلفَّتت حولها متسائلة:
-جايبنا هنا ليه ياراجح؟!..مش قولت هنشوف البرج اللي بتبنيه؟..
ارتدى نظَّارتهِ الشمسية وأشارَ إليها بالنزول: 
-انزلي يارانيا مش عايز أسمع صوتك. 
أوف أوف..أنا سايبة شغلي مش فاضية للتفاهات دي..حدجها بنظرةٍ صامتة، ثمَّ استدارَ وتحرَّكَ إلى الشخصِ الذي ينتظره: 
-اليخت جاهز يابني؟.. 
-أيوة ياباشا، هتحتاج حدِّ معاك ولَّا..أشارَ إليهِ بالصمت، ثمَّ بسطَ كفِّهِ يسحبها بجوارهِ ينظرُ إلى البحرِ قائلًا:
-فاكرة المكان دا يارانيا؟..
لمعت عيناها بخطٍّ من الدموعِ وذكرياتِ الماضي تضربُ عقلها، ثم توقَّفت قبلَ وصولهم إلى الشاطئ: 
-إحنا رايحين فين ياراجح؟!
خطا بخطواتٍ متَّزنةٍ ولم يعيرَ لحديثها أيِّ اهتمام، إلى أن وصلَ إلى أحدِ الشواطئِ الهادئة، التي تحاصرها بعض الشاليهات وأردفَ قائلًا
-بحيِّ الذكريات يارانيا، إيه مش عايزة نرجَّع ذكريات حبِّنا.. 
-حبِّنا، راجح إنتَ مالك فيه إيه النهاردة؟!.. 
وصلَ إلى اليخت، ثم جذبَ كفَّها وصعدَ على متنه: 
-عايز أفسَّح مراتي، ولَّا مش أستاهل بعد خمسة وتلاتين سنة يارانيا؟..
-نتفسَّح وفي رمضان؟!..غمغمت بها بتساؤل، اتَّجهَ نحو محرِّكِ اليخت، وانطلقَ في البحر..ظلَّت تنظرُ إليهِ بصمتٍ إلى أن قطعَ مسافةً طويلةً ثم توقَّف ونهضَ من مكانهِ متَّجهًا نحوها: 
-إيه رأيك في المفاجأة دي؟..
سارت إلى أحد المقعد الموجودة وجلست تضع ساقًا فوق الأخرى تطالعه بعيون متسائلة، اومأ بفم مذموم
-فضولك هيقتلك مش كدا ..؟!
-مالك النهاردة ياراجح، مش طبيعي ليه؟..نظرَ إلى سطحِ اليختِ يومئُ برأسهِ مستهزئًا ويردِّدُ حديثها:
-مالك ياراجح النهاردة؟!! أممم، لا يامدام رانيا المفروض تقولي ليه صبرت عليَّا دا كلُّه ياراجح..
نهضت تصيحُ بنبرةٍ حادة: 
-لا ماهو إنتَ مش جايبني لألغازك، أنا مش فاضية قولت لك..

توقَّف دقيقةً متجمِّدًا بمكانهِ كجبلِ الجليدِ ونظراتهِ تحرقُ وقوفها وغضبها، إلى أن اقتربت منه وتعمَّقت بعينيه:
-راجح أنا معرفشِ إنتَ عايز توصل لإيه، وليه جبتني هنا وو..رفعَ كفِّهِ إليها لتصمت: 
-أنا عايز أعرف كلِّ حاجة يارانيا، ليه جبتك هنا، علشان أعرف ليه تعملي فيا كدا، زمان لمَّا اكتشفت إنِّك ورا خطف ولاد جمال وضحكتي عليَّا بكلامك التافه عن فريدة، وأنا الحمار اللي صدَّقت واحدة زبالة زيك، وفضلت ماشي وراكي لحدِّ ماسلبتي منِّي كلِّ حاجة، ليه يارانيا، ليه عايزة تخلصي منِّي بعد الحبِّ اللي حبتهولك، بعد مااتنازلت عن كلِّ حاجة.. 
-اتنازلت لا والله، وياترى اتنازلت عن إيه ياراجح؟..على سهرك كلِّ ليلة في حضن واحدة، ولا على خطرفتك باسمِ فريدة وإنتَ جايلي سكران، ليك عين تتكلِّم..
وصلَ إليها بخطوةٍ وأطبقَ على ذراعيها بقوةٍ آلمتها وهتفَ بهسيسٍ مرعب: 
- ودا من إيه يازبالة، مش لمَّا عرفت إنِّك اتجوِّزتيني كُبري علشان تكوني جنب جمال، إيه نسيتي حبيب القلب اللي موِّتي ابني بسبب زعلك عليه، ولَّا صريخك بالليل باسمه، ولَّا كلامك لصحبتك..وإنتي بتقولي لها كنت مستعدة أكون خدامة تحت رجله بس كان يحبِّني ربع حبُّه لفريدة...لطمةٌ قويةٌ على وجهها ثمَّ جذبها بقوةٍ من خصلاتها: 
-وفي الآخر تلبِّسيني العمَّة وتخونيني مع ابنِ غوازي، أنا تلعبي بيَّا لابنِ الدمنهوري بعد ماموِّتوا أخويا وولاده.. 
دفعتهُ بقوةٍ وصرخت تعدِّلُ خصلاتها التي آلمتها:
-لا متعملشِ فيها البريء ياراجح، إنتَ كنت عارف كلِّ حاجة وعارف ليه الدمنهوري قتل جمال، ورغم كدا وافقت تشتغل معاه..
رفعت عيناها الدامعة تلاقي عيناهُ واستطردت:
-متعملش بريء ياراجح، إنتَ الشيطان يتعلِّم منَّك، آه مش حبِّيتك وحبِّيت جمال..وكنت أتمنَّى أعيش يوم واحد معاه وإن شالله بعدها أموت، بس أخوك يستاهل اللي حصلُّه علشان رفض حبِّي وطلع يجري ورا فريدة، ويوم ماأتجوِّز ألاقي جوزي بيحبِّ الستِّ الوحيدة اللي مكرهتش في حياتي قدَّها، مش هيَّ بنتِ عمِّي..بس بكرهها زي مابكرهك بالظبط ياراجح، بكرهها علشان كانت عارفة إنِّي بحبِّ جمال وراحت اتجوِّزته، وبكرهك علشان كلِّ مرة تقرَّب منِّي مكنتش شايفني..مكنشِ فيه على لسانك غير فريدة وبس، علشان كدا حسَّرتها على ولادها..بس عطوة الغبي مسمعشِ الكلام وقتلهم، طلعت محظوظة زي ماطول عمرها محظوظة والكلِّ شايفها البريئة اللي مبتغلطش..

جذبها يجرُّها من خصلاتها حتى هوت على سطحِ اليخت تصرخ: 
-شعري..
شعرك دا أنا هولَّع فيكي، مبقتش راجح العبيط الِّلي بيسمع كلامك، أنا كنت بطاطي يارانيا علشان أوصل اللي أنا فيه دلوقتي..انحنى يرفعها من خصلاتها يهمسُ بجوارِ أذنها:
-هوَّ أنا ماقولتكيش، مش إسماعيل الدمنهوري عيَّني الراجل الكبير في المنطقة..بعد ماعرف وساختك إنتي وابنِ أخوه اللي اتَّفق مع ناس علشان يقتلوه وياخد مكان أبوه.. 
جحظت عيناها تهزُّ رأسها بذعرٍ بعدما علمت بما ينويه: 
-محصلشِ ياراجح، عطوة مش ناوي يقتل عمُّه.. 
ارتفعت ضحكاتهِ وهو يدفعها لتسقطَ بكاملِ جسدها وقامَ بإشعال سيجارة مغمغمًا:
-ضحَّكتيني ولازم أحتفل بسيجارة، ربِّنا يسامحني بقى في نهار رمضان،أكيد هيسامحني بعد اللي بعمله فيكي، ماهو هخلَّص البشرية منِّك..
نهضت من مكانها تحدجهُ بنظراتٍ نارية: 
-مش هتقدر ياراجح، علشان إنتَ أمر موتك خلاص نفذ، بعد مارفضت قتل ابنِ السيوفي، أوعى تفكَّر إنِّي غبية ومعرفشِ لعبتك إنَّك تجيب قناص علشان تبيِّن للكلِّ إنَّك هتموُّته، وفي الآخر تضحك على الكل، أنا عارفة إنَّك بتحاول تحميه، بس مبقاش رانيا لو خلِّيت فيه نفس واحد بعد الليلة.. 

رفعَ حاجبهِ ساخرًا ثمَّ نفثَ تبغهِ بالهواء يلوِّحُ بيديهِ وكأنَّهُ يستمعُ إلى مقطوعةٍ موسيقية:
-غنِّي يارانيا صوتك رائع..الله الله، قالها واقتربَ منها بخطواتٍ سلحفيةٍ وعيناهُ ترسمُ رعبها وتراجعها للخلف، انحنى بجسدهِ ينظرُ إلى مقلتيها:
-مش لمَّا ترجعي الشطِّ التاني يارانيا، 
دارَ حولها يغمغمُ بصوتٍ هادئٍ كأنهُ يغني ثم توقَّف يلفُّ ذراعيهِ حول جسدها يقرِّبها إليه يهمسُ بجوارِ أذنها:

-خنتيني يارانيا، خنتي جوزك مع راجل تاني وإنتي على ذمتي..قدرتي تخوني راجح اللي باع كلُّه علشانك، أه حبيت فريدة بس الولاء كلُّه كان لرانيا، خلِّتيني أرمي ولادي علشانك، رميت مرات أخويا بالباطل علشانك، حاولت أقتل ولاد أخويا علشانك، وفي الآخر واحدة أخرها تشتغل رقاصة تخون راجح الشافعي..قالها بعيونٍ تنطقُ نيرانًا جحيميةً ليضعطَ على عنقها حتى كادت أن تلفظَ أنفاسها ليدفعها بقوةٍ وتسقطَ على الأرض، خطا مقتربًا منها ثمَّ ضغطَ بقدمهِ على جسدها: 
-أنا تخونيني يازبالة، يعني خيانة في الأوَّل وخيانة في الآخر.
-محصلشِ ياراجح، صدَّقني بيكذبوا عليك..أمالَ يرفعها من ذراعها ثمَّ وصلَ إلى حافةِ اليختِ يميلُ برأسها إلى البحر: 
-هموِّتك موتة تستهاليها يارانيا، هخليكي وجبة لسمكِ البحر، ومتخافيش الحقير التاني هيلحقك، هنضَّف نفسي منِّك ومن اللي وسَّخوا راجح الشافعي، كلِّ واحد هياخد حقُّه، حتى أنا..
-لا ياراجح، متعملشِ كدا، وحياة بنتنا الوحيدة ياراجح متعملش فيَّا كدا، ووعد مش هقرَّب تاني من الدمنهوري وابنه..جرَّها إلى أن أوقفها ولم يرفّ له جفنًا ليقومَ بإلقائها متمتمًا:
-بنتك هتدعيلي علشان خلَّصتها من واحدة قذرة زيك..قالها وظلَّ لبعضِ الدقائقَ ينظرُ إلى محاولاتها التي باءت بالفشل، ثم تحرَّكَ باليختِ متراجعًا إلى الشاطئ وقامَ بإبلاغِ شرطةِ السواحل: 
-مراتي نزلت البحر من ساعتين ولسة مرجعتش ...

خرجَ من شرودهِ على صوتِ الخادمة: 
-هيَّ المدام مش هترجع الليلة ياباشا؟..
أشارَ إليها بالخروج: 
-اطلعي برَّة معرفش، قالها وتناولَ سيجارهِ ينفثهُ بغضب، ثمَّ تناولَ هاتفه:

-إيه آخر الاخبار؟.. 
-إلياس جه المكتب متأخَّر قعد ساعة ونزل ودلوقتي هوَّ في بيته..
-طيب أخوه التاني اللي هوَّ أرسلان؟. 
-لا ياباشا مشفتوش مجاش..
تنهَّدَ ثمَّ صمتَ ثواني قائلًا:
-طيب خلِّي القناص يجهز، علشان لازم نخلص من إلياس دا في أقرب وقت، وعايزك تشوف المحامي عايز أقابل طارق، بقالي تلات شهور مش عارف أقابله.. 
-هحاول ياباشا، متنساش أنُّه في قضية سياسية. 
-اتصرَّف، لازم أخرَّجه، حتى لو موِّت كل اللي حاول يوقَّعني بيه..
فصلَ اتصالهِ بعدما وجدَ اتصال الدمنهوري:
-أيوة ياباشا..على الجانبِ الآخر: 
-أنا هسافر بالليل وإنتَ استلم  كلِّ حاجة مش عايز غلطة ياراجح، وهشام ابعد عنُّه ياراجح، إياك تقرَّب منه. 
أغلقَ الهاتف وألقاهُ بعيدًا متمتمًا:
-عيوني ياباشا، مش هقرَّب منه بس دا هبعتهولك في صندوق.. 

بمنزلِ زين الرفاعي.. 
-آدم عملت إيه في القضية الأخيرة؟.. 
تساءلَ بها زين وهو يتِّجهُ إلى مائدةِ الطعامِ لتناولِ وجبةِ الإفطار، جذبَ آدم مقعدهِ وجلسَ بجوارِ والده: 
-للأسف يابابا، القضية كبيرة أوي، والبنت ماتت مقتولة، ولسة التحقيقات شغَّالة، وصلت إيلين وهي تحملُ أكوابَ العصائر: 
-حمدَ الله على السلامة حبيبي اتأخرت ليه كدا؟..توقَّف يجذبُ منها أكوابَ العصير:
-طلع عندي شغل مهمّ، المهمِّ إنتي عاملة إيه والبيبي عامل إيه؟.. 
جلست تحاوطُ بطنها مبتسمةً ثمَّ رفعت عينيها إلى زين: 
-كويس، وبعد إذنك ياآدم أنا قرَّرت لو جبت ولد هسمِّيه زين ..توقَّفَ زين عن التسبيح ورفعَ عينيهِ إليها ولمعت عيناهُ بالدموع: 
-إنتي بتقولي إيه يابنتي؟!..سحبت كوبًا ثم رفعت نصفَ جسدها ووضعتهُ أمامه:
-بقول جهِّز هدية لزين الصغير ياجدُّو، ماهو مش هسمِّي ابني ببلاش، خلِّي بالك.. 
ضحكةٌ رنانةٌ أطلقها زين وهو ينظرُ إلى آدم: 
-سمعت مراتك بتقول إيه، يعني هتسمِّي ابنك زين..وصلَ أحمد بجوارِ مريم قائلًا:
-ماتضحَّكونا معاكم يابابا، خير فيه إيه؟..
أشارَ إلى إيلين قائلًا:
-إيلين عايزة تسمِّي ابنها زين..أومأ أحمد مبتسمًا: 
-لفتة حلوة ياإيلين..قاطعهم رنينُ هاتفِ آدم، رفعهُ ثمَّ قطبَ جبينهِ متسائلًا:
-دا إلياس، قالها وأجابَ على الهاتفِ بالحال:
-أيوة ياإلياس..على الجانبِ الآخرِ كان جالسًا بمكتبهِ فتحدَّثَ قائلًا:
-آدم بعد الفطار تعالَ عايزك في موضوع مهم. 
-حاضر..قالها وأغلقَ الهاتفَ ينظرُ إلى والده:
-عايزني في شغل..أومأ زين يشيرُ إلى أبنائه: 
-افطروا الأذان رفع..
عند إلياس..
أنهى مكالمتهِ ينظرُ إلى جهازهِ ينقرُ بقلمهِ على المكتب، دلفت إليه ميرال: 
-المغرب أذن، معقول ماسمعتش؟!..نهضَ من مكانهِ متَّجهًا إليها، ثمَّ بسطَ كفِّه إليها:
-آسف ميرا، كان معايا تليفون، عانقت ذراعهِ تضغطُ عليه:
-خلاص سماح ياحضرةِ الظابط، وصلَ إلى طاولةِ الطعام يجذبُ مقعدها يشيرُ إليها بالجلوس: 
-اتفضلي سموّ الملكة...رفعت حاجبها تطلَّعُ إليهِ بتهكُّم:
-إلياس السيوفي والغزل، لا كدا يُغمى عليَّا.. 
ابتسمَ وهو يرفعُ كوبَ عصيرهِ يرتشفُ بعضهِ بعدما ردَّد دعاءَ الإفطار، ثمَّ رفعَ كوبها واتَّجهَ إليها: 
-ماشربتيش عصيرك ليه؟..
هزَّت رأسها بالرفض:
-لا حاسة السُّكر عندي عالي، فبلاش سكريات..رفعهُ أمام وجهها:
-اشربي شوية حبيبتي علشان خاطري..
وضعت كفَّها فوق كفِّهِ ورفعهُ لفمها لترتشفَ بعضه، ابتسمَ بحنانٍ عليها ثمَّ جذبَ الطعامَ يضعهُ أمامها..
رفعَ  عينيهِ نحوها، تأمَّل جلوسها المتحفِّز، نظرَ إلى أصابعها فوق حافَّةِ الكوبِ وهي تديره، وتحاولُ إبعادَ  نظراتها عن مقابلته مباشرة..ابتسمَ داخلهِ ساخرًا لأنَّه يعرفها جيدًا، يعرفُ متى تحاولُ أن تُخفي شيئًا، ومتى تخشى المواجهة..جذبَ صحنهِ وبدأ يتناولُ طعامهِ في صمتٍ لمدَّةِ دقيقتينِ إلى أن نطقَ متسائلًا:

"عملتي إيه النهاردة؟" سألها  بنبرةٍ هادئة، لكن عيناهُ لم تُخفيا فضولهِ المتحفِّز هل ستقصُّ له أم أنَّها تُخفي ماتحاولُ أن تفعله..

هزَّت كتفيها بلا مبالاة، ولم ترفع عينيها إليه وأجابت:

"عادي، مخرجتش النهاردة، مكنشِ عندي شُغل كتير، خلَّصته في البيت، وعملت شوية حاجات مع غادة."

ظلَّ يراقبُ تحرُّكاتِ وجهها بالكاملِ وهي تجيبه، ثم عادَ إلى طعامهِ ببطء، لكنَّهُ، كان يحرِّكُ الملعقةَ بين أصابعهِ واردف بغموض:

"ماكلمتيش حد؟"

تجمَّدت يدها للحظةٍ فوق الكوبِ قبل أن تضعهُ برفقٍ على الطاولة، ثمَّ رفعت عينيها نحوهِ أخيرًا، حينما علمت أنَّه لم يكن سؤالاً بريئًا

"طيب ما أنتَ عارف ليه السؤال، إلياس..." تنهَّدت ببطء، تكبحُ توَّترها، تحاولُ أن تحافظَ على هدوئها، "عارفة إنَّك خايف عليَّا، بس دا ميمنعشِ تديني شوية خصوصية."

ابتسمَ بسخرية، لكنَّ الابتسامةَ لم تصل لعينيه، وضعَ الملعقةَ جانبًا وأسندَ كوعهِ على الطاولة، وعيناهُ تحاصرها، قائلًا بنبرةٍ تشوبها الحدَّة:

"هوَّ فيه خصوصية بين الراجل ومراته يا ميرا؟"

شعرت بانقباضٍ في صدرها، ليس من كلماته، بل من الطريقةِ التي نطقَ بها..

أسندت ذقنها على كفِّها وتنهَّدت:

"إنتَ مش مجرَّد جوزي ياإلياس...بس دا ميمنعشِ يكون ليا حاجة خاصة لنفسي وبس."

راقبها بصمت، وحاولُ ألَّا يُدخلَ الحوارَ إلى نفقٍ مظلم، حتى لا يجعلَ النقاشَ يتحوَّلُ إلى معركةٍ أخرى بينهما..مدَّ يدهِ بهدوء، ورفعَ ذقنها برفقٍ لتلتقي عيناها بعينيه، يرى ما تُخفيهِ خلف تلك السحبِ التي بدأت تتكاثفُ تحت جفنيها:

"حبيبتي، الناس دول مش سهلين، ومش عايز أوصَّلك لليوم اللي راجح يبعت حدِّ يقتلك، إنتي عارفة أنُّه تبع الناس اللي بتهاجميها بمقالاتك دي، غير الحملة اللي مش موقِّفاها رغم تحذير رئيس التحرير."

تراجعت قليلًا، ثم نظرت إليه بعينينِ مشتعلةٍ بالغضبِ المكبوت، الذي يحاولُ أن يخفيهِ بنبرتهِ الهادئةِ وأردفت:

"وأنا مش هنافق في شُغلي حتى لو كان ابني ياإلياس..الناس دي تستاهل كده، إنتَ عارف أنُّهم بيضحكوا على أولاد صغيرين بحجِّةِ الدين، بياخدوهم للدواعش، وبعد كده يعملوا منظمات إرهابية يقتلوا فيها ناس مالهاش ذنب.. عارف اللي وجعني أوي؟ إنهم بيختاروا شباب صغير يادوب بيعرفوا يعني إيه دنيا، وبعدِ كده بيعملوا لهم دنيا تانية في دماغهم."

كانت كلماتها تخرجُ كالرصاص، تحملُ غضبها، قهرها، خوفها غير المعلن..نظرت إليه بعينينِ مليئتينِ بالرجاء:

"أنا بحاول من خلال رسالتي أحمي ابني وابنِ غيري زي ماإنتَ بتحاول تدافع عن بلدك...أنا كمان، بس مش بالسلاح."

نظرَ إليها، هنا شعر قلبهِ بالانقباض، شعورًا بالعجزِ امتزجَ بحبٍّ لا يعرفُ كيف يتعاملُ معه..مدَّ يدهِ إلى خصلاتها ومسحَ عليها برفق، كأنَّها قطعةُ زجاجٍ يخشى أن تنكسرَ بين يديه:

"كمِّلي فطارك...وبعدها نكمِّل كلامنا."

أشارَ إلى الطعام، وأردفَ بصوتٍ أهدأ لكنَّه مشبعٌ بالإصرار:

"أنا مش طالب منِّك غير إنك ماتحاوليش تخبِّي عليَّ حاجة، وموضوع التليفون التاني اللي بتشتغلي بيه من ورايا...بلاش منه، ميرال..أتمنَّى تحافظي على نفسك، وتأكدي...هعرف أيِّ حاجة مهما حاولتي تخبيها."

ابتلعت ريقها، لم ترد...وحاولت أن تستعطفه:

"أنا عايزة منَّك تساندني بس، إلياس... مش عايزة الخوف يسيطر عليَّا."

مطَّ شفتيهِ باعتراض، وهزَّ رأسه، ثمَّ أردفَ بصوتٍ منخفضٍ لكنَّه لا يقبلُ الجدال:

"مش هقدر أوعدك، لأن لو في حاجة هتضرِّك...مستحيل أوافق عليها."

نظرت إليهِ طويلًا، ثمَّ همست بابتسامةٍ ساخرة:

"شفت؟ إنتَ قلتها بنفسك."

أمسكَ بيدها، وسحبها نحوهِ بلطف، ثم طبعَ قبلةً على كفِّها وهو يهمس:

"قلت إيه؟ قلت إنِّي مش مستعدِّ أضحي بيكي...صح ولَّا إيه؟"

شعرت بالهواءِ يثقلُ في صدرها، كأنَّها على وشكِ الانهيار، اقتربت منهُ بجسدها ودفنت رأسها بصدره، أغمضت عينيها وتنهيدةٌ طويلةٌ خرجت منها كأنها تفرغُ كلَّ ما بداخلها دون كلمات:

"نفسي أرتاح من كلِّ حاجة ياإلياس... نفسي راجح ياخد جزاؤه على اللي عمله فينا، خايفة يخطفك من حضني أوي، عندي إحساس كبير إنِّ سعادتي مش هتدوم معرفشِ ليه"

أخرجها من أحضانهِ وبعيونٍ مكتظَّةٍ بالغضبِ استرسلَ بتساؤل:

"يعني بتعملي ده كلُّه علشان توقَّعي راجح...مش كده؟"

رسمت ابتسامةً ساخرة، مالت برأسها قليلًا وهي تجيبهُ بنبرةٍ خبيثة:

"زي ماإنتَ يا حضرةِ الظابط بتحاول توقَّع راجح ورانيا، علشان متأكِّد أنهم مش هيسكتوا، وجاي توقَّعني في الكلام."

رغم توتُّرهِ الداخلي، لم يستطع منعَ نفسهِ من الضحك..هزَّ رأسه، وتأمَّلها لوهلةٍ ثم قال وهو يميلُ نحوها:

"بتعملي ذكية عليَّا ياحضرةِ الأستاذة... نسيتي إنِّك قدَّام إلياس السيوفي؟"

ضحكت بخفة، تلك الضحكة التي لم يكن يعرف إن كانت تمازحهُ أم تتحدَّاه، لكنَّها بدأت تتناولُ طعامها بصمت، بينما هو ظلَّ يراقبها، وصدرهِ يغلي من الداخل، كلَّما تخيَّلَ نتيجة ماتفعله...

مر يومين لينتهي الشهر المعظم بروائحه، توقفت أمام المرآة تنظر إلى بطنها التي بدأت بالظهور تملس عليها بإبتسامة 
-ابنك بيكبر وانت بعيد، ياترى ايه اللي اخرك، اتمنى عمو فاروق يكون بيقولي الحقيقة وتكون كويس
ابتسمت تحدث جنينها كأنه يدرك ماتنطقه
-حبيبي بابا وحشك انت كمان، انا زعلانة منه، بس عندي امل أنه بعد شوية يدخل علشان يعيد علينا
بتر حديثهم صوت ملك مع إسلام بالخارج..خطت إلى خارج غرفتها وجدت اسلام متوقفا على باب منزلها
-ازيك ياأم عتريس
ابتسمت واقتربت بخطواتها منه تنظر للذي يحمله، ثم أشارت عليه
-ايه دا يا اسلام
نظر للحقيبة التي بيديه ثم رفع نظره إليها قائلا
-ماما بعتت لك الحاجات دي، بتقولك لوازم العيد، خديها بس متخلصهاش كلها علشان انا والبت غادة وميرو هنصلي العيد ونيجي نتغدى هنا 
قطبت جبينها تنظر لما تحتويه تلك الحقيبه
-ايه دا كله، ماما صفية لسة بعتالي حاجات قد كدا 
زم شفتيه باعتراض 
-بقولك ايه ياست الكل انا ماليش دعوة، انا عبد الرسول ..خد دا يا اسلام تمام، تليفون ماما معاكي اتكلموا وحاسبوا بعض ..قالها وهو يتطلع إلى ملك 
حمحم بعدما تحدثت غرام:
-شايفة رجلك اخدت علينا ياحضرة المهندس..
-أنا مين قال كدا، اتجه بنظره الى ملك 
-صحيح انت شايفة زي ماهي بتقول 
تحركت مبتعدة عنهما بعدما توردت وجنتيها ..راقب تحركها بعينيه حتى قاطعته غرام
-ميرال عاملة ايه ..التفت اليها يهز رأسه 
-تمام كويسة، همشي بقى ولو عوزتي حاجة كلميني مش تكلمي ميرال تمام 
افلتت ضحكة مستديرة تنظر إلى ملك التي توقفت وتصنعت الانشغال بهاتفها، ثم التفت إليه تهز رأسها بابتسامة قائلة
-تدفع كام ..
تحرك مغادرا بعدما لوح بيديه
-بتاخدوا عليا بسرعة

في منزل إلياس، بعد ساعات من الاستعداد، تأملت انعكاسها في المرآة، أمالت رأسها قليلًا وهي تدور بجسدها، تتفحص نفسها بعيون يلمع فيها الرضا، بمنامتها الحريرية الناعمة التي تلامس بشرتها كهمسات عاشق، تنسدل على جسدها بتناغم فريد، تصل إلى أعلى ركبتها، تحتضن تفاصيلها بدقة، وأكتافها العارية فتزيدها فتنة، مررت يدها برفق على خصلاتها المتموجة الناعمة، ثم أمسكت بأحمر الشفاه القاني، مررته برقة على شفتيها، وكأنها تخط توقيعًا أخيرًا على لوحة عشق متقنة، تتخيله توقفت تجلب عطرها، نثرته بكثرة، تعرف أنه يثير جنونه، انتشرت رائحته في المكان، ثم استدارت وأطفأت الأضواء الرئيسية، وأشعلت الشموع ذات العطر الدافئ، فانعكس وهجها الرومانسي على وجهها، مما زادها سحرًا. أغلقت عينيها للحظات، وهي تستمع... تتنفس بصمت، تترقب صوت خطواته التي تشبه موسيقاها المفضلة، ذلك الإيقاع الذي يسرّع دقات قلبها قبل أن تراه، بعدما استمعت إلى صوت السيارة 

لم يطل انتظارها... فتح الباب ودلف إلى الداخل، توقّف للحظة، وعيناه تعكسان الدهشة والانبهار، كما لو أنه يراها لأول مرة، وقف، يتأملها كفنان مهووس بلوحته الأجمل، أو كعاشق أدرك أنه في قلب جنته، لم يستطع مقاومة فتنتها فتقدم، وكأنها مغناطيس يجذبه بلا مقاومة. اقترب منها حتى بات خلفها تمامًا، رفع يديه ببطء، ولمس ذراعيها بأطراف أصابعه، فشعر برعشتها التي لم تستطع إخفاءها، همس بصوت خافت حمل بين طياته كل أشواقه:
"عيد سعيد، ميرا، اوعي يكون دا كله احتفال بالعيد"

قالها  بأنفاسه الدافئة التي لافحت بشرتها، فارتجف جسدها استجابة له، قشعريرة لذيذة تسلّلت على طول عمودها الفقري، جعلتها تستسلم بين ذراعيه وكأنها قطعة موسيقية يعزفها بأنفاسه ولمساته، شعر باهتزازها بين يديه، فشدد من احتضانه، دار بها ببطء على أنغام الموسيقى، يهمس بكلمات الأغنية التي تصدح في المكان بصوته الخفيض العاشق.

رفعت رأسها نحوه، عيناها متعلقة بعينيه، وكأنهما مرآة تعكس كل المشاعر التي في داخلها. ثم رفعت ذراعيها ببطء، وأحاطت عنقه برقة، وقربت شفتيها من أذنه وهمست بابتسامة دافئة:
" كل عيد وانت معايا وجوا حضني ياالياس، اه بحتفل بالعيد لجوزي، زعلان ولا هتقولي هبل 
هز رأسه ومازالت عيناه ترسمها بشغف
- تؤ مش هبل، بس اتفاجأت ماتوقعتش منك كدا 
تلاعبت بزر قميصه حتى فتحت اول زر منه وداعبته بعيونها اللامعة وكلماتها الرقيقة
- ماهو انت مش مديني فرصتي ياحبيبي 
رفع حاجبه مرددا حديثها
-فرصتك!!..وياترى عايزة فرصتك في ايه 
مررت أناملها على زر اخر ومازالت تتلاعب بمشاعره قائلة
-عايزة أرقص... أنا سعيدة جدًا، اول عيد نكون لوحدنا مع بعض نفسي اعمل حاجة تسعدك"

توقف للحظة، وحدّق في عينيها بدهشة، وكأن هذه الكلمات تعني له أكثر،  فانخفض بصوت خافت ممتلئ بالشغف، سألها:
" الرقص هيسعدك ولا يسعدني؟"

أومأت برأسها برقة، ثم وقفت على أطراف أصابعها، وطبعت قبلة بجوار ثغره، ولمسته برقة حتى قضت على ثباته ، ثم نظرت إليه بعينيها السوداويتين التي اشتعلت ببريق خاص به وحده و تمتمت بدلال:
" مش هسعدك يعني، حتى ولو، طيب انا لازم أكون أسعد واحدة... مش وقعت إلياس السيوفي في حبي؟"

ابتسمت عيناه قبل شفتيه، ونطق بنبرة دافئة امتزجت بالسعادة و قال:
"وأنا أعترف بذلك... والاعتراف سيد الأدلة... إلياس بيحبك يا ميرو."
قالها واناملها تداعب جسدها برقة اذابتها 
أغلقت عينيها للحظة، وكأنها تريد أن تحفظ هذه اللحظة في قلبها إلى الأبد، ، هذه اللمسة، هذا الحب... فتحت عينيها لتجده ما زال يحدّق بها وكأنه يراها لأول مرة،  مرّت لحظات من الصمت، ولكن حديث العيون لم ينقطع، تريد أن يصرخ بحبها وليس بهمسه، ورغم ذلك اردفت
-بتحبني قد ايه 
-كتيير..قالها وهو  يسحب من جيبه صندوقًا صغيرًا، فتحه أمامها ببطء، وكشف عن عقد ماسي يتوسّطه اسمه محفورًا بدقة متناهية. رفعه أمام عينيها، ثم همس لها بحنان عميق:
"وعشان دايمًا أكون في قلبك... دي هديتي ليكي."

نظرت إلى العقد، ثم إلى عينيه، شعرت وبأن حبّه يلفّها كما يلفّ هذا العقد عنقها، ابتسمت بمكر، ومالت نحوه هامسة بدلال طفولي:
"هدية ولا عيدية؟ لازم توضح."

رفع حاجبه مستنكرًا، ضيّق عينيه وسأل بمكر مماثل:
"تفرق؟"

هزّت رأسها، واقتربت أكثر، وكأنها تزيد من إثارة مشاعره، همست بصوت خافت:
"لو هدية، هكون عايزة العيدية... ولو عيدية، هكون عايزة الهدية، وخلي بالك دا اسمك مش اسمي، متعرفش إن اسمك محفور كالوشم في قلبي، مش منتظرة هدية"
قلبته بين أناملها واكملت دلالها 
-لا محبتش الفكرة، عايزة ميرال جوا حروف إلياس، دي هعتبره عيدية، ياله اطلع بالهدية ولازم تكون بحبك ياميرا، وانا اصقف واقولك بعشقك ياقلب ميرا 
انت عارف دا شغل الافلام الابيض والأسود 

ارتفعت ضحكاته، بضحكة خافتة عميقة، فتح كفيه مستسلمًا:
"طيب... وفين عيديتي؟"

لم تمنحه فرصة للحديث أكثر، اقتربت منه ببطء، وضعت يديها على وجنتيه، مرّرت إبهامها على شفتيه، ثم طبعت عليهما قبلة عميقة، قبلة حملت كل حبها، كل شغفها، كل امتنانها لهذه اللحظة. ثم تراجعت بخفة، نظرت إليه بعينيها اللامعتين، وقالت بصوت ناعم:
"دي عيديتي لك."

طالعها بنظرات مبهرة وكأنه فقد القدرة على الكلام، فقط نظر إليها  يحاول استيعاب السحر الذي أغرقته به، اقترب منها، أمسك بخصرها ورفعها قليلاً، عانق عينيها وهمس بشغف:
"هتقدري تديني عيدية تساوي حبي؟"

وضعت جبينها فوق جبينه، لتمتزج أنفاسهما، وهمست بصوتها العذب:
"هحاول اعايدك بقلب ميرال، ولو بتحب ميرال، مستحيل تنساها."

ابتسم ابتسامة تحمل كل معاني العشق، سحبته برقة، وغيّرت الموسيقى إلى أغنية أخرى أكثر رومانسية، وبدأت تتمايل أمامه بأنوثة آسرة. كان ينظر إليها وكأنه يُحفظ تفاصيلها في ذاكرته، كل حركة، كل لمحة، كل نفس... لم يكن يريد أن يضيع أي لحظة منها..اقتربت مع تمايل جسدها تجذبه بدلال تهمس له كلماتها العاشقة، ليمرر أنامله على منامتها التي أنهكته بالكامل 

في الخارج، كانت رؤى تشتعل بغيرة لم تستطع كبحها. قلب يشتعل بالغضب، أنامل ترتجف بعنف، وصوت الموسيقى بداخل غرفتها تفقد سيطرتها،  ويذكّرها بالعشق الدفين، عضت على أناملها بغيظ تهمس لنفسها
-ليه مش انا اللي جوا، هي احسن مني في ايه، توقفت تدور حول نفسها
-بيعملوا ايه دا كله..تذكرت يوسف، فانسحبت إلى غرفته وجدت المربية تضعه بمخدعه
-سبيه انا هكون معاه

مرت  دقائق حتى كُسر سحر اللحظة بطرقٍ مفاجئ على الباب. استدار إلياس نحو الصوت، وأشار إلى ميرال :
"هشوف مين؟"

نظرت إليه، ثم سحبت روبها الحريري ببطء، تمتمت وهي تتقدم نحو الباب:
"ممكن يكون يوسف زهقان من نانا... خليك، أنا هشوفه."

توقف يرمقها بنظر اوقفتها صامتة، ثم تراجعت لفراشهما
فتح الباب وجد مربية ابنه تحمل يوسف الذي يبكي بشهقات
-يوسف معرفش ماله مش مبطل عياط
أشار إليه بالصمت واردف:
-إنت هنا شغالة علشان ايه، شغلك تسكتيه وتاخدي بالك منه، خمس دقايق ومسمعش صوته، ياإما تمشي واشوف له واحدة تعرف يعني ايه تربي طفل 
-ياله ارجعي لاوضته وشوفي شغلك، وممنوع تزعجيني تاني 
هرولت إليه ميرال بعد ارتفاع صوته، وتوقفت خلفه تجذبه من ثيابه 
-خلاص ياالياس أنا هشوفه
-كل سنة وانتي طيبة ياميرال..قالها بعدما اغلق الباب وتحرك للداخل 
ضغطت باسنانها على شفتيها قائلة:
-وباظت الليلة الله يخربيت اللي يكلمك يااخي

بعد أسبوع..
خرجَ من مكتبهِ متَّجهًا إلى المشفى التي يُحجزُ بها إسحاق، دلفَ للداخلِ وجدَ فاروق يقفُ بجوارِ أحدهما، ووجههِ لايوحي سوى بأنَّهُ فقدَ شيئًا عزيزًا، ظلَّ متوقِّفًا يراقبهُ إلى أن تحرَّك الرجلُ فاتَّجهَ إليهِ ودون حديثٍ تساءل: 
-أرسلان بقاله اكتر من أسبوعين ومش عارف أوصلُّه، ووالدتي قلقانة، أتمنَّى من حضرتك تعرَّفني إيه اللي بيحصل؟..
ظلَّ فاروق ينظرُ إليه بصمتٍ لبعضِ الدقائقِ..إلى أن فقدَ إلياس صبرهِ واقتربَ منهُ أكثر..
-فاروق باشا لو سمحت طمِّني على أخويا، أوَّل مرَّة تنقطع أخباره بالشكلِ دا..لوسمحت من فضلك.. 
-أرسلان مخطوف ياإلياس ومنعرفشِ من مين، وإسحاق الوحيد اللي يعرف خطِّ سيره، ودا في غيبوبة، كدا ارتحت.. 
التفتَ للخلفِ بعدما استمعَ إلى ارتطامِ شيئًا ثقيلًا على الأرض..

تعليقات



×