رواية شظايا قلوب محترقة الفصل الثامن و الثلاثون 38 بقلم سيلا وليد

رواية شظايا قلوب محترقة الفصل الثامن و الثلاثون  بقلم سيلا وليد

تمسّكي بي كما لو أنّي آخر ملاذٍ لكِ، كما لو أن لا شيء في هذا العالم قادرٌ على تعويض وجودي في حياتكِ. دعيني أشعر أنكِ لا تستطيعين المضيّ بدوني، وأنّ غيابي عنكِ يُثقلكِ كما يُثقلني بعدكِ. امنحيني لقاءً كذاك الذي وُلِد فيه حبّي لكِ، حتى أُريكِ كيف استوطن حبّكِ أعماقي، وكيف بات قلبي لا يعرف نبضًا سواكِ.
، ما عاد للنسيان إليكِ سبيل، فقد سكنْتِ روحي حتى غدوتِ بعضي الذي لا يُفارقني. ورغم الحزن الذي ينهش أيامي، رغم الخيبات التي أحاطت بي، لا تزال روحي تهفو إليكِ، وكأنّكِ النور الوحيد وسط هذا العتمة.
أقسم لكِ، لو كان بوسعي أن أصوغ لكِ أجمل الأقدار، لجعلتُ كل لحظةٍ في حياتكِ فرحًا لا يخبو، وسعادةً لا تنطفئ، فقط لأراكِ مبتسمة. تذكّري دائمًا أنّني لم أنسكِ، وأنّ انتظاري لكِ ليس مجرّد وقتٍ يمضي، بل هو يقينٌ بأنّكِ وحدكِ من يملك مفتاح هذا القلب الذي لم يُفتح لسواكِ.
امنحيني فرصةً أخرى، لنكتب سويًا فصولًا جديدةً من الذكريات، اسمحي لوجودكِ أن يُعيدني إلى الحياة، أن يمحو عني سواد الأيام بعد رحيلكِ، فبعدكِ كل شيء فقد لونه، وكل نبضٍ في قلبي ما عاد يعرف للحياة طعمًا دونكِ.
#اسحاق الجارحي 
قبل ساعات..
بشرمِ الشيخ تململت بنومها، نهضَ من فوق مقعدهِ مقتربًا منها..فتحت عينيها تضعُ كفَّيها على جبهتها متأوِّهة، دارت بعينيها بالغرفة إلى أن وقعت عيناها على وقوفه، هبَّت من نومها معتدلة: 
-إنتَ بتعمل إيه هنا؟! وإزاي وصلت لي؟..
-اجهزي علشان هننزل القاهرة، سايب أخواتي لوحدهم.. 
هبَّت متوقِّفة وأشارت إلى بابِ الغرفة: 
-امشي اطلع برَّة، محدش طلب منَّك تيجي لعندي..
تجوَّلَ بعينيهِ على الغرفة، إلى أن وصلَ لحقيبتها فخطا إليها وقام بجمعِ ثيابها، ثمَّ نزل ببصرهِ إلى أحد الأدراجِ المغلقة، قام بفتحهِ يجمعُ مابه..خطت سريعًا إليه تجذبُ منه ثيابها الداخلية:
-إنتَ إزاي تسمح لنفسك تلمس حاجاتي الخاصة؟.. 
توقَّفَ وألقى الحقيبة بالأرض، ثمَّ تراجعَ إلى النافذةِ يضعُ كفَّيهِ بجيبِ بنطاله:
-قدَّامك عشر دقايق تلمِّي حاجتك بدل ماأخرَّجك كدا..
ضربت قدمها بالأرضِ وصرخت هادرة:
-اسمعني علشان مش هعيد كلامي تاني..إنتَ متلزمنيش ومفيش حاجة تربطنا، سمعتني ولَّا لأ؟..
اتَّقدَ الغضبُ كالنيرانِ التي تلتهمُ سنابلَ القمح، ممَّا جعلهُ يصلُ إليها بخطوة، وقبضَ على ذراعيها يضغطُ عليهما بقوَّة:
-إنتِ مراتي سمعتي ولَّا مابتسمعيش؟..
دفعتهُ حينما أشعلت كلماتهِ صدرها كالبنزين الذي يزيدُ الاشتعال: 
-هطَّلقني، أنا أصلًا مش بعتبرك جوزي، أنا مش مراتك سمعتني.. 
كوَّرَ قبضتهِ حتى ابيضَّت مفاصلهِ وهو يرمقها بنظرةٍ ممزوجةٍ بالنيرانِ الجحيمية..حاولت النطقَ ولكن هيئتهِ جعلتها تغلقُ فمها وابتعدت عنه تضعُ ثيابها بمكانها: 
-رحيل!! نطقها بعد لحظاتٍ من الصمتِ المميتِ بينهما، ثمَّ اقتربَ منها بخطواتٍ هادئة:
-إنتي ليه مصرَّة تكرهيني؟.. 
-أكرهك!!..قالتها بفمٍ مزمومٍ ثمَّ دنت منه حتى اختلطت أنفاسهما، وغرزت عينيها بمقلتيه:
-يزن، أنا حبِّيتك حب مفيش واحدة حبِّته لحبيبها، لو طلبت منِّي روحي كنت هتخلَّى عنها علشانك، آه بعترف بدا، وقَّعتني في غرامك ياسيد يزن، شوفت عملت إيه، بس للأسف كسرت قلبي ودوست عليه بجزمتك، وكأنِّي حيوانة ملهاش مشاعر، انسابت دموعها رغمًا عنها، أزالتها سريعًا تشعرُ بالغضبِ من ضعفها أمامه..كلَّ ما تشعرُ به الآن من ناحيتهِ نارًا مشتعلةً تريدُ أن تحرقهُ دون رحمة..رفعت عينيها إليه وغمغمت بنبرةٍ تحملُ كمِّ الألمِ الذي لا يقوَ أحدًا على تحمِّله: 
-طلَّقني يايزن، إنتَ أخدت كلِّ حاجة وأنا خسرت كلِّ حاجة، صدَّقني مفيش مشاعر غير الحقد والكره في قلبي، آخر أمل قطعته لمَّا ساومتني على الطلاق بليلة، دنت إلى غير المسموحِ حتى تلامست الشفاهُ تهمسُ بنبرةٍ مميتة:
-أنا بقيت أكره نفسي علشان لمستني، أنا خسرت وإنتَ كسبت، ودلوقتي بقولك مبروك ياباشمهندس، حرقت قلبي اللي معرفشِ الحبِّ الحقيقي غير في قربك، وفي نفسِ الوقت عرفت الكره على إيدك برضو.  
ظلَّت نظراتهِ إليها جامدة، رغم شعورهِ بالجنونِ والغضب، حتى كاد أن يفقدَ أعصابه ويلطمها على وجهها، لم ترحم سيطرتهِ الجنونيةِ التي أوشكت أن تسقطها بالهاوية، ورفعت نفسها تهمسُ بجوارِ أذنه: 
-هخلعك يايزن لو مطلقتنيش، وهكسبها في أوَّل جلسة.. 
رفعَ عينيهِ الجريحتينِ من كلماتها التي صفعتهُ بقوَّة، حتى ظنَّ أنُّه بكابوسٍ وليس بحقيقةٍ مرَّة، عقدَ جبينهِ منتظرًا تصديقَ ماتلفَّظت به..
تراجعت للخلفِ وابتسامةٍ باهتةٍ تجلَّت بملامحها بعدما وجدت حالته، وانحنت تجمعُ باقي ثيابها وتضعها بمكانها، متجاهلةً صمتهِ قبل عاصفتهِ التي ستحرقُ كلَّ نبضٍ له..
- بتقولي إيه يارحيل؟..قالها بنبرةٍ خاليةٍ من أيِّ مشاعر، نبرةٌ شاحبةٌ تحملُ انكسارًا  ممَّا شعرَ به..
استدارت برأسها وألقتهُ بنظرةٍ مشمئزة:
-هخلعك لو مطلقتنيش..اهتزَّ بعنفٍ بعدما أحرقت رجولته، ونبضَ قلبهِ بقبضةٍ مميتةٍ ممَّا أصابهُ الارتفاع حتى كاد أن يتوقَّفَ عن النبض.. 
اقترَبَ منها كالعاصفةِ الهوجاء، يطالعها بنظراتٍ تشتعلُ بالغضبٍ،  شعرَ بانكسارِ رجلٍ أُغلِقت في وجههِ كلَّ الطرقِ إلَّا طريق حبيبته، فوقفَ عندهُ عاجزًا بين حبِّه ووجعه، بين عشقهِ وكرامته.
نظرَ إليها مطوَّلًا، وكأنَّ ملامحها أصبحت لعنةٌ تطارده، ارتفعَ صوتُ أنفاسهِ المتسارعةِ حتى شعرَ بارتطامها بجدرانِ الغرفة، عيناهُ تجوبانِ وجهها وكأنَّها غريبةٌ عنه، يشعرُ بأنَّه لأوَّلِ مرَّةٍ يراها، حاولَ إخراجَ حروفهِ التي ارتطمت فوق شفتيهِ كارتطامِ الموجِ على الشاطئ:
"خلع يا رحيل؟!" قالها بصوتٍ خشن، نبرتهِ كانت نصلًا حادًّا مزَّقَ هدوءها الذي تحاولُ رسمهِ أمامه..شدَّ على ذراعيها بقوَّة:
"مش كفاية كسرتيني؟ وهربتي وكأنِّك مش على عصمة راجل؟!"
ازدردت ريقها بصعوبة، وانتفضَ جسدها تحت لمستهِ التي كانت ممزوجةً بين الغضبِ والاحتياج، رفعت عينيها المرتعشتينِ إليه، وتوسَّلت بصوتٍ مخنوق: "يزن، بالله عليك...متبقاش كده."
لكن هل يمكنهُ أن يتمسَّكَ بالصبر؟ هل يمكنهُ أن يكون هادئًا بينما هي تقطِّعهُ إربًا؟ كيف تطلبُ منه الهدوءَ والصبر، وهو الذي أصبحَ رجلاً متروكًا، منكسرًا، عاشقًا يضيعُ بين رغبتهِ في الرحيل ورغبتهِ في البقاء.
اقتربَ أكثر حتى اختلطت أنفاسها المرتعشةِ بأنفاسهِ الحارقة، عيناهُ تجتاحانها بلا رحمة، ورغم ذلك قلبهِ ينتفضُ داخل صدره..فقدَ سيطرتهِ كما فقدَ صبرهِ ليرفعَ يدهِ ويمرِّرُ أناملهِ على وجنتها، فتساقطت دمعةٌ حارقةٌ فضحت ارتعاشَ قلبها، شعرَ بما تشعرُ به، فاقتربَ أكثر حتى لمسَ شفتيها ثمَّ همسَ بانكسار:
-هعمل مسمعتش حاجة، بس في نفس الوقت لكل وقت أدان 
-عايز مني ايه، جاي ورايا ليه، عايز تشوف كسرتي، اه كسرتني 
التفت إليه كالذي اصابه سهمًا سامًا:
" ايه اللي بتقوليه دا، انت ازاي تعملي  كدا، لسة مصرة اني غلطان  وإنتي عارفة إنِّي بحبِّك، 
-بتحبني، لا والله فين الحب دا ياباشمهندس، حب الخدعة، حب التمثيل ..
هزَّها بجنونٍ عاصفٍ أفقدهُ اتزانه:
- أيوة بحبِّك، عايزة تسمعي دا، عايزة تعرفي إنِّ حبُّك كسرني، وفي الآخر جاية تتبجَّحي وتقولي طلَّقني ياإمَّا تخلعيني..
رغم أنَّ صوتهِ جاءَ خافتًا، ولكن تألَّم قلبها عليه، رفعت عينيها إليه لترى وجعهِ في عينيه.. 
صمتت للحظاتٍ تتابعهُ بعينيها:
-عايز منِّي إيه يايزن؟..مش أخدت اللي عايزه؟..
حدَّقَ بها طويلًا، وكأنَّ كلمتها تلك أشعلت بداخلهِ حربًا جديدة، هل تصدِّقه؟ هل تعني ما تقول؟ 
مدَّ يدهِ ليلامسَ وجنتها، لكنَّها انكمشت قليلًا، وأغمضت عينيها:
-عايز أوجعك بس قلبي بيحاربني يارحيل، بيقولِّي مش هتقدر تئذي حبيبتك، بس إنتي أذيتيني أوي..
أردفَ بها بهمسٍ مبحوح، خائفًا، وكأنَّه يعترفُ فيها بضعفهِ أمامها، لكنَّهُ لم يعد يهتم، لم يعد قادرًا على إبعادها.. 
رفعت وجهها إليه، عيناها مليئتانِ بالدموع، تقابلت نظراتهما في صمتٍ موجع، لحظةٌ واحدةٌ فقط، لكنَّها كانت كفيلةٌ بأن تجعلَ كلَّ شيءٍ يتوقَّف..حتى الزمن نفسه، حينما تمتمت:
-مش قادرة أنسى إنَّك لعبت بيَّا، دوست على قلبي..
-وإنتي دوستي على رجولتي يارحيل. 
-يبقى طلَّقني يايزن علشان منتعبشِ بعض..جزَّ على أسنانهِ من لسانها الذي ألقاها بنيرانِ غضبهِ الثائرةِ..ليجذبها بعنفٍ ويسحبها بقوَّةٍ مغمغمًا:
-كدا إنتي اللي جبتيه لنفسك..
حاولت التملُّصَ من قبضتهِ ولكنَّهُ كان الأقوى، مرَّت ساعاتٍ إلى أن وصلَ إلى القاهرة، كان كريم بانتظاره: 
-عملت إيه؟..
-كلُّه ولع وبح، وخبر إنَّك مصاب وفي مشفى البنداري زي ماقولت، وهنا طبعًا ممنوع الاقتراب..ربتَ على كتفهِ وأردفَ بنبرةِ امتنان:
-شكرًا ياكريم..ألقى كريم نظرةً على رحيل التي زجَّها بالسيارةِ وتساءل:
-يزن ليه رحيل هربت منَّك بالطريقة دي؟..معقول اللي سمعته، دا اللي خلَّاها تعمل كدا؟..
خطا إلى السيارةِ يشيرُ إليهِ بالركوب:
-ياله على البيت، زمان إيمان هتتجنِّن علينا..
وصلَ بعد فترةٍ إلى منزله، ترجَّلَ واستدارَ يفتحُ إليها الباب: 
-منتظرة أشيلك، معنديش مانع بس الواحد صايم ومش ناقص كلمة، كفاية حضرتك ضيَّعتي سحوري. 
دفعتهُ وترجَّلت تقفُ بمقابلته:
-إنتَ جايبني هنا ليه؟..أنا عايزة أرجع بيتي..اقتربَ مزمجرًا كأسدٍ يريدُ الانقضاضَ على فريسته:
-لمِّي نفسك يارحيل، وادخلي، أوعي تفكَّري هنسى كلامك ولَّا هروبك، دنا أكثر وغرزَ عينيهِ بعينيها وهمسَ بفحيح:
-وحياة كسرتك ليَّا لأعلِّمك الأدب.
طالعتهُ بنظرةٍ أسقطت قلبهِ بين قدميه: 
-إنتَ واطي أوي يايزن..أوي.
قالتها ودلفت للداخلِ وكأنَّها تريدُ أن تحطِّمَ كلَّ مايقابلها..
تنهَّدَ بقوَّةٍ محاولًا إبعادَ شيطانهِ على ألَّا يدخلَ خلفها ويعلِّمها كيفيةِ احترامه..
دلفت للداخلِ وبدأت تدورُ حول نفسها مرَّةً وتُرجعُ خصلاتها بعنفٍ تريدُ اقتلاعها، إلى أن دلفَ ينظرُ إلى إيمان التي هبَّت من مكانها وتوقَّفت أمامه:
-وحياتي بلاش تزعلَّها..دفعَ إيمان وسحبها بقوَّةٍ إلى غرفته، زجَّها بعنفٍ حتى هوت على الفراشِ، بعدما أغلقَ البابَ بقدمهِ وهدرَ بصخبٍ كأنَّهُ ليس الذي كان يترجَّاها منذ ساعات.. 
اقتربَ منها يشيرُ بيده: 
-احمدي ربنا إنِّنا صايمين، أنا مش هموت عليكي..بس خلاص قرفت منِّك، هتقعدي في بيتي لحدِّ ماأخلص من راجح، دي حاجة..الحاجة التانية عايز بيبي، أصلي مش ناوي أتجوِّز تاني كفاية إنِّك كرَّهتيني في صنفِ الستات.. 
توسَّعت عيناها ولا تدري لماذا أصبحت بذلك الضعف..لحظات..إلى أن انتفضت تهاجمهُ بقوةٍ وكأنُّه عدوَّها اللدود: 
-بيبي في عينك، دا أنا اموِّتك لو قرَّبت منِّي تاني.. 
-أستغفرُ الله العظيم يارب، أنا صايم، لو مش صايم كانت زمانها سألتني إن شاءالله حبيبي وهسمِّيه يزن، أصلي بعشق اسمك ياحبيبي.. 
-حبَّك برص يابعيد.
غمزَ بعينيهِ قائلًا: 
-القمر دا برص، يابنتي راعي إنِّنا صايمين، ويمكن بعد أسبوع تيجي تحضننيني وتقوليلي مبروك ياحبيبي هيبقى عندنا يزون صغنون، ماهو جوزك مالي مركزه مش كدا ياسفري؟..
جحظت عيناها، مع تورُّدِ وجنتاها بعدما علمت مكنونَ حديثه:
-هموِّته علشان ابنك.. 
-لو بنتِ العامري اعمليها..دا أنا أموِّتك بدون مايرفِّ لي جفن..قالها وخرجَ يصفعُ البابَ خلفه..
نذهبُ بعيدًا إلى أحدِ المدنِ التي سافرَ إليها أرسلان..بعد إصابتهِ بطلقاتٍ نارية، سبحَ بعدما ألقى نفسهِ بالبحر، إلى أن وصلَ لإحدى الموانئ..صعدَ على متنِ أحدِ المراكبِ المتجوِّلةِ للنزهةِ في البحر، طافَ بعينيهِ بالمركبِ وجدها لم تكن بالمأمن، جلس لبعضِ الدقائقِ يستردُّ أنفاسه، ينظرُ إلى جرحه، نزعَ سترتهِ المبتلةِ ولفَّها على ساقهِ في محاولةٍ لمنعِ النزيف، بعدما فقدَ الكثيرَ من الدماء، استمعَ إلى صوتِ ضحكاتٍ لأنثى، نظرَ للأعلى بحذرٍ وجدَ إحدى الفتياتِ تتراقصُ أمام أحدهم؛ تنهَّدَ بارتياحٍ ثمَّ قفزَ بالمياهِ مرَّةً أخرى للوصولِ إلى ذلك المركبِ الكبيرِ الذي وصلَ للتو، صعدَ بهدوءٍ حذرٍ حتى لا يشعرَ به أحد، التقطت عيناهُ تلك الفتاةِ وهي تتراقصُ أمام أحدهم، أغمضَ عينيهِ حينما داعبهُ الدوار، رفعَ أناملهِ يسحبُ ذاكَ الذي حصلَ عليه، قبضَ عليه بعنفٍ يدعو ربِّهِ بسريرتهِ أن يوفِّقه، استمعَ إلى خطواتٍ أنثويةٍ متَّجهةٍ ناحيته، تمدَّد بمكانهِ حتى لا يراهُ أحدًا، دلفت تبحثُ بأعينها عليه وتمتمت بلهجتها: 
-هل أنتَ بخير؟!
رفعَ رأسهِ إليها يشيرُ إلى جرحه:
-أريدُ الخروجَ من هذا المكانِ بالحال..
-كلَّا..انتظر لبعضِ الوقت، هناك استنفارًا من الأمنِ ولا نريدُ الخوضَ بالشوك.. 
-هيا انهضي واخرجي من هنا، حتى لا يشكَّ بكِ أحد.. 
انحنت تُخرجُ من حذائها مقصًا صغيرًا، وأشارت إليه: 
-هذا سيفيدك، ثمَّ فتحت حقيبتها ووضعت أمامهِ بعض الأشياء:
-لابد أن تساعدَ نفسك، قاطعهم صوتُ أحدِ الرجال:
-حبيبتي لقد تأخرتي كثيرًا.
-هيا، انتظر سأنهي زينتي..
-سأترككَ إلى أن يحينَ الوقت..ازدادَ تعرُّقهِ يهزُّ رأسهِ دون حديث..تحرَّكت إلى الأعلى، أخذَ المقصَّ وقامَ بقصِّ بنطاله، واتَّجهَ إلى بعضِ الأدواتِ التى أحضرتها لكي تساعدهُ بإخراجِ الرصاصة، توقَّف حينما استمعَ إلى صوتِ رجالِ الأمن:
-عذرًا فلابدَّ أن نقومَ بالبحثِ عن لصٍ يحاولُ الفرار، لقد اقتحمَ أحد الأماكنَ المهمَّة..
-هذا المركب خاص بي..هيَّا أغرب عن وجهي، قالها ذلك الرجل بغضب، فهو رجل ذو مكانةٍ بمجتمع.،
خرجَ رجالُ الأمنِ باعتذارٍ له..تنهَّدَ أرسلان بهدوءٍ واستأنفَ ماكانَ يفعله، مرَّت الساعاتُ ثقيلةً إلى أن هبطت تلك الفتاة إليه، وجدتهُ يصارعُ الموت، بعد نزفه المستمر،  ناهيك عن ارتفاع حرارته، فحصت جرحه، الذي مازالَ ينزف..تلفَّتت بحذر، وأمسكت هاتفهِا للحظاتٍ تتحدَّثُ مع أحدهم..بعد فترةِ وصلَ أحد الرجالِ إليها يحملُ قالبًا من الكيك، خرجت إليه بابتسامةٍ ووضعت بكفيَّهِ ورقةً مطويةً ثمَّ أردفت بلهجتها:
-شكرًا لك..قالتها وصعدت مرَّةً أخرى إلى الرجلِ الذي يقفُ على طرفِ المركبِ ينظرُ للبحر..بعدما قام بتحريكها لتبحرَ وسطَ البحر، طالعتهُ بذهولٍ وأردفت بحدَّةِ رغمًا عنها:
-كيف تتحرَّك دون أن تخبرني؟..هيا عد إلى الشاطئ..سحبَ منها قالبَ الكيك ووضعهُ على إحدى الطاولات، ثمَّ جذبها إلى أحضانهِ بعنفٍ لتصطدمَ بصدره:
-كيف نعودُ دون الاستمتاعِ بهذا الجمالِ أيَّتها الشقراء.. 
حاولت دفعهِ بعدما أصابتها ارتعاشةً بجسدها، لقد وصلت إلى التهلكةِ التي لم تخطِّط لها، بالأسفلِ كان يصارعُ الموتِ مع زيادة ارتفاعِ حرارته يهمسُ باسمِ زوجتهِ بخفوت، فتحَ عينيهِ وتشوَّشت الرؤيةُ أمامه، حاولَ النهوضَ كي يهربَ من ذلك الجحيمِ الذي استولى عليه، توقَّف مترنِّحًا، ومازالت ذراعهِ تنزف، استطاعَ أن يصعدَ بعض الدرجات، لمحت عينيهِ بتخبُّطٍ على محاولةِ الرجلِ لاغتصابِ تلك الفتاة، خطا بترنُّحٍ فهوى على الدرج متأوِّهًا، شعرَ الرجلُ بوجودِ أحدهم، ليهبَّ من فوقها وتحرَّكَ للأسفلِ لكي يرى ماذا يحدث..
بالقاهرةِ وخاصَّةً بمحافظةِ السويس، 
خرجَ صباحَ اليومِ بعد اتصالِ شريف به:
-راجح سافر السويس ياإلياس هوَّ ورانيا، معرفشِ ليه..
-تمام ياشريف..نهضَ من فوق سريرهِ واتَّجهَ إلى قضاءِ صلاةِ الضحى، تململت بنومها، اعتدلت بعدما شعرت بفراغِ السرير، وقعَ بصرها على صلاته، جمعت خصلاتها ونظراتها عليه، انتهى من الصلاةِ متَّجهًا إلى غرفةِ ملابسهِ ولكنَّهُ توقَّفَ بعدما وجدها استيقظت:
-صباح الخير ياميرا..
-نهضت من فوقِ الفراشِ بعدما وجدت أنَّ الساعةَ تجاوزت الثانية عشر..
-صباح الخير حبيبي، نازل الشغل، مش كنت بتقول مش هتنزل؟.. 
اقتربَ منها وحاوطَ أكتافها وعيناهُ تتجوَّلُ على ملامحها التي يصرخُ القلبُ باسمها، قائلًا بصوتهِ الأجش:
-مش هتأخَّر، جهِّزي المحشي بتاعك لمَّا أرجع..ضحكت تدفنُ رأسها بصدرهِ ثمَّ حاوطت خصرهِ ممَّا جعلهُ يتراجعُ منتفضًا:
-توبة ياربي، ناوية تدخَّلني النار..ارتفعت ضحكاتها قائلة:
-دا حضن بريئ، اندفعَ إلى غرفةِ ملابسه:
بريئ ياميرا؟ ومعايا!! طيب الكلام دا مع حدِّ غيري يعني.. 
سارت إلى أن وصلت إلى وقوفه:
-دايمًا ظالمني ياإلياس، واللهِ بريئ..
أشارَ مبتعدًا: 
-ابعدي يابت، يخربيتك، إنتي مش صايمة، ولَّا نو إحساس ياروحي.. 
اقتربت خطوةً تضعُ كفَّيها المتشابكينِ خلفَ ظهرها:
-روحك، طيب شوف إنتَ اللي بتجرجرني وأنا صايمة..
توقَّف عمَّا يفعلهُ يرمقها بحذرٍ ثمَّ قال: 
-بتِّ ماتستهبليش، واطلعي برَّة عايز أغيَّر هدومي..روحي صلِّي الضحى، الضهر خلاص هيدَّن..
مطَّت شفتيها متذمرةً وغمغمت:
-شوف إنتَ اللي بتجرجر فيَّا أهو، قالتها وتحرَّكت للخارج ..ظلَّت نظراتهِ على خروجها إلى أن أغلقت البابَ خلفها: 
-عبيطة جاية تبيع المية في حارةِ السقايين.
بعد فترةٍ وصلَ إلى السويس، قابلهُ الرجلَ الذي عيَّنهُ شريف لمراقبةِ راجح: 
-أخد مدام رانيا وراح على المينا ياباشا.
-مينا؟! ليه؟..قالها بشرود، ثمَّ تحرَّكَ  بسيارتهِ متَّجهًا إلى المينا مع الرجلِ الذي يراقبه، وصلَ رجلًا آخرَ إليهم:
-أجَّر يخت ياباشا..ترجَّلَ إلياس من السيارةِ ينظرُ إلى البحرِ يكلِّمُ نفسه:
-ناوي على إيه ياراجح؟ وجاي هنا ليه؟..يكونشِ هتقابل اللي مشغَّلك..طيب أعمل إيه..توقَّفَ لدقائقَ ثمَّ أشارَ إلى الرجل: 
-شوف لي يخت يابني، وعايز اتنين سيَّاح، اتصرَّف بسرعة..أومأ له فتحرَّك إلياس إلى داخلِ الميناء..ولكنَّهُ توقَّفَ حينما وجد أحدِ الرجالِ يحاوطُ جسدَ دينا وكأنَّه يرغمها على الحركة، رفعَ هاتفهِ وحاول الوصولَ إلى إسحاق ولكن لا يوجد رد..
عند إسحاق قبل ساعة: 
منكبًّا على عمله، استمعَ إلى صوتِ هاتفهِ برسالةٍ ما، رفعهُ ظنًّا من أرسلان ولكن وجدها من مجهول، فتحها وبدأ يقرأُ مابداخلها: 
-إسحاق حمزة عايش...
ظلَّ يردِّدُ تلك الكلماتِ التي أنارت بهاتفه، ليتجمَّدَ جسده، مصدومًا يشعرُ ببرودةٍ تجتاحُ جسدهِ وكأن دلوًا من الماءِ المثلجِ سُكب عليه؛ ليهتزَّ داخلهِ وينهضَ بلهفةٍ يمسكُ هاتفهِ متحرِّكًا بخطواتٍ تأكلُ الأرض، وجرحهِ غائرًا، غائرًا جدًا كالذي أصابهُ سهمًا ليصيبَ قلبهِ الذي يترنَّحُ بداخله كالموجِ المتلاطم: 
-فين أحلام هانم؟..
-للأسف ياباشا فقدنا أثرها..
احتدَّت نظراتهِ وهدرَ بصوتٍ كالضجيجِ الذي يخنقُ جوارحه
-عايزها لو في القبر، تطلَّعوها وتجبوها، سامعني..قالها لتزدادَ شراستهِ وهو يستقلُّ سيارتهِ ويتحرَّك بسرعةٍ جنونية، لتتحرَّكَ السيارةُ وكأنَّها لا تلامسُ الأرض، وعيناهُ الجامدة على الطريق، تحملُ من الألمِ مايحطِّمُ جبالًا عاتية..أطبقَ على جفنيهِ يحاولُ إسكاتَ همساتِ الشيطانِ أن يصلَ لوالدتهِ ويلقيها لحتفها حتى تصارعَ الموت..استمعَ إلى هاتفهِ مرَّةً واثنتان وهو يتجاهلهُ بعدما وجدَ اسمَ إلياس ينيرُ بشاشته ..وصلَ إلى المكانِ المنشودِ يتطلَّعُ إلى المقبرةِ التي دفنَ بها فلذةَ كبده، يشيرُ إلى آدم الذي وصلَ للتوِّ من قبل فريقِ إسحاق:
-عايز أعرف الطفل دا ابني ولَّا لأ؟..هتعرف ولَّا أشوف غيرك؟..
نظرَ آدم إليهِ بتيه وتساءل:
-مع احترامي لحضرتك، بس دي طريقة تجيب بها دكتور؟..أنا دكتور مش متَّهم..قاطعهُ رنينُ هاتفهِ مرَّةً أخرى..رفعَ هاتفهِ قائلًا:
-الدكتور عندي ياإلياس، ياريت تقولُّه بلاش محاضراته..أنا مش طالب قدَّامه في الجامعة.. 
-إسحاق باشا، مدام دينا في مينا السويس..قالها والتقطَ صورةً وأرسلها:
-شوف دي، وأنا معاك على التليفون..
🤍🤍🤍
زلزالًا انتفضَ بجسدهِ وكأنَّ القيامةَ قامت داخله، والعالمُ بأسرهِ ينكمشُ ثمَّ ينفجرُ دفعةً واحدةً في صدره.
شعرَ بدورانِ الأرضِ تحت قدميه، بل كانَ إحساسًا طاغيًا بأنَّ الكونَ ينهارُ فوق رأسه، ينشطرُ إلى شظايا متناثرة لا يمكنه التقاطها، لا يمكنهُ حتى أن يتنفَّسَ بينها..
حينما التقمت عيناهُ زوجتهِ وهي تحملُ طفلهِ بين ذراعيها، تضمُّهُ إلى صدرها، ثارَ كالبركانِ الذي أوشك َعلى الانفجارِ يشعرُ بأنَّ أحدهم يقتلعُ روحه، ظلَّت عيناهُ تلتهمُ ذلك المشهد..بجانبها رجلٌ آخر، يسيرُ بجوارها بخطواتٍ ثابتة، خطواتٌ كأنَّها مساميرٌ تُدقُّ في قلبه..ومازال شعورُ الألمِ ينزفُ داخله، بل يشعرُ بأنَّ أحدهم بترَ عنقهِ ولكن تركَ به روحهِ لكي ينصهرَ بكمِّ الألم..
حاولَ أن يتحرَّك، أن يصرخ، أن يصلَ إليها كالحمامِ الزاجل..و لكن قدميهِ لم تتحرَّكا، كأنَّهما جُذبتا إلى قاعٍ عميق. لم يكن مجرَّد عجز، بل كان موتًا على قيدِ الحياة.
أيُعقل هذا الشخصُ هو إسحاق..صقرُ المخابرات؟
دقائقَ كالسيفِ على العنقِ محاولًا السيطرةَ على جسدهِ المرتجفِ بنزيفِ الخيانة، رفعَ الهاتفَ بيدهِ المرتعشةِ وأنفاسهِ المتقطِّعة، وكأنَّ الهواءَ يرفضُ الدخولَ إلى صدره..ضغطَ الرقم، وصوتهِ خرجَ مخنوقًا:
-"إلياس...خلِّيك وراها...أنا في الطريق."
-تمام أنا هنا متقلقش، أتمنَّى ماتتأخرش.
لم يستمع بما نطقَ إلياس، فالألمُ فاقَ كلَّ الحواس، إلى أن أصبحَ قاسيًا كحدِّ السكين..
رفعَ نظرهِ بتيهٍ فيما حوله..نظرَ آدم إليه بشفقةٍ منتظرًا التعليمات، لكنَّهُ لم يقوَ على النطق...فقط أشارَ إليه بإصبعه، وصوتهِ خرجَ هادئًا بطريقةٍ مخيفة:
-"خليك جاهز، في أيِّ لحظة هكلِّمك."
ثمَّ التفتَ إلى أحدِ رجاله، عيناهُ تحكي كمَّ الألمِ الذي يشعرُ به، فهمسَ بخفوت :
- "رجَّعوا الدكتور من المكانِ اللي جبتوا  منُّه."
قالها، ثمَّ استدارَ بسرعة، كأنَّ النارَ تحت قدميه، فتح بابَ السيارةِ بعنف، وركبها، وقبل أن يُديرَ المحرِّك، أمسكَ المقودَ بيدينِ مرتجفتين، وأنفاسهِ تتصاعدُ كأنَّها براكينٌ تريدُ أن تنفجر:
"لا، مستحيل...مش هيحصل."
ضغطَ على دوَّاسةِ الوقود، فانطلقت السيارةُ بسرعةٍ جنونية، كأنَّها تترجمُ الفوضى العارمة في رأسه..عيناه ُعلى الطريق، ولكنَّهما لم تريا الطريقَ أمامه... لم تكن هناك إلَّا صورةٌ واحدة تتكرَّرُ في ذهنه:
وهي تأخذُ طفلهِ معها، تطعنهُ دون رحمة..
ارتجفَ جسده، ليس بردًا، بل غضبًا، خذلانًا، ألمًا لم يعرف له اسمًا..
عند إلياس:
أخرجَ هاتفه، وضغطَ على اسمِ شريف، 
"شريف، وصلت؟"
- "دخلت السويس خلاص، إنتَ فين؟"
ـ"تعالَ على المينا في ( )."
-"أوك، جاي."
بعد فترةٍ قصيرة، وصلَ شريف..ترجَّلَ من سيارتهِ واقتربَ منه، بينما نزلَ إلياس بمجرَّدِ أن رآه، عيناهُ تضيقانِ بحذر.
- "اسمعني كويس، فيه واحدة هنا عايز عينيك متفرقهاش لحظة."
أخذ نفسًا عميقًا، ثمَّ أضافَ بصوتٍ أكثرَ حدَّة وهو يشيرُ إلى البحر:
- "هنزل البحر وراجع لك...شريف، الستِّ دي مينفعش ِتخرج من المينا بأيِّ شكل، وقَّف أيِّ إجراءات خروج لها، لأنَّها خارجة بطريقة غير مباشرة."
رفعَ شريف حاجبهِ متسائلًا:
- "هيَّ مجرمة؟"
ربتَ على كتفهِ بجديَّة، وضعَ نظارته، ثمَّ قالَ بصوتٍ قاطع:
-"نفِّذ وإنتَ ساكت."
لم يمنحهُ فرصةً للرَّد، استدارَ ومضى مباشرةً نحو الشاطئ، تاركًا خلفهِ أسئلة بلا إجابات، وأعصابًا مشدودةً كوترٍ على وشكِ الانقطاع..وشريف يدورُ حول نفسهِ بجهلِ مايفعلهُ يتمتم:
-وبعدين ياإلياس هتفضل طول عمرك كدا، بتشكِّ في كلِّ اللي حواليك..أوف أوف..قالها وتحرَّكَ إلى الداخل.. 
على شاطئِ البحر، بأماكنِ السفن، وصلَ إلى أحدِ رجاله:
-عملت إيه؟!.
-اليخت جاهز ياباشا، بس راجح لسة ماخرجشِ بيه
-هوَّ فين؟..تساءل بها وهو يتلفت حوله بحذر..
في الشاليه...أومأ له وتوجَّهَ نحو اليختِ،  ولكنَّهُ توقَّف حينما لمحت عيناهُ الرجلَ الذي كان يتحرَّكُ بجوارِ دينا يتحدَّثُ مع سيدة..تراجعَ متَّجهًا إليهم..توقَّفَ على بعدِ خطوات حتى يحينُ له التصرُّفَ إذا خرجَ الأمرُ عمَّا أدركه..
قطبَ جبينهِ حينما ترجَّلت من سيارتها: 
-مش دي أحلام الجارحي؟..
هوَّ إيه اللي بيحصل؟!..يعني هيَّ اللي بتساعدها في الهروب، وبعدين بقى..كان ناقصني أنتوا كمان، التفتَ ببصرهِ إلى الشاطئِ حتى وصلَ الرجلُ إليه:
-أفندم ياباشا..
-راقب راجح، لو جه عرَّفني..قالها وتحرَّكَ خلفَ أحلام..
بالداخلِ عند دينا:
ولجت أحلام إلى الغرفةِ التي تحتجزها بها، جلست وعيناها ترمقُ دينا التي انزوت بأحدِ الأركانِ تحتضنُ طفلها:
-ابنك في حضنك وزي ما اتَّفقنا، هتسافري، إسحاق لو عرف حاجة متفكريش مش هعرف أجيبك..
-ليه بتعملي كدا؟..معقول علشان الفلوس؟!!..
ضحكت أحلام بسخريَّةٍ تضعُ ساقًا فوق الأخرى وأشارت إليها بإشمئزاز:
-إنتي مفكَّرة نفسك مين علشان تسألي السؤال دا؟..فكَّري في نفسك وبس، خافي على ابنك يادينا، أنا حذَّرتك كتير بس إنتي غبية اتحميتي في إسحاق، شهرين وأنا بخطط لكدا يادينا، بس اخيرا هرتاح منك، متزعليش هبعتلك اللي يساعدك هناك..قالتها تنظر إلى أظافرها ثم نزلت ببصرها إليها 
-هقولك حاجة علشان ترتاحي، لازم اسحب من اسحاق كل حاجة بيحبها زي ماهو زمان سحب مني حياتي، اصلك متعرفيش سبب وجوده حياتي انقلبت ازاي 
-إنت اكيد مش طبيعية دا ابنك
-اخرصي يابت، مالكيش فيه..دلفَ الرجل: 
-مدام، ورق المدام ماتقبلش..
هبَّت من مكانها وهدرت بحدَّة: 
-إزاي يعني ماتقبلش؟..إنتَ مجنون، لازم تتصرَّف، لازم تسافر النهاردة، سمعتني، لازم وإلَّا هقتلك..
أمسكت هاتفها وصرخت بالتليفون
-مش قولت لك عايزة كل حاجة جاهزة، اتصرف ليه ورق البت دي اترفض 
-اهدي يااحلام، انا هشوف واتصرف، متخافيش مجهز خطة تانية 
-البت دي لازم تسافر المكان اللي قولت لك عليه، لازم اسحاق يبعد عن المخابرات، طول ماهو قوي مش هعرف ارجع حقي منه، كفاية بقى لحد كدا
-احلام اسمعيني كويس، انا اكتر واحد عايز اخلص منه، موقف شغلي وحالي، غير مش ناسي أنه السبب في فراقنا، بس الي مصبرني عليه أنه ابنك 
اقفلي وأنا هبعت حد يشوف ليه الورق اترفض رغم تغيير اسم البنت 
قبل قليلٍ بداخلِ الميناءِ بإحدى الغرفِ المسؤولةِ عن خروجِ ختمِ الجوازت، دلفَ بهيبتهِ وأخرج كارتهِ الوظيفي: 
-أؤمر ياباشا..فتحَ هاتفهِ وأشارَ إلى صورةِ دينا:
-أيِّ حاجة تخصِّ الستِّ دي مرفوض، سمعتني؟.. 
-أسبابك يافندم، قالها الرجلُ الآخر، التفتَ يرمقهُ بنظرةٍ كادت أن تحرقه:
-مش من أسرار شغلي أقول كلِّ حاجة لكلِّ من هبَّ ودبّ، أنا قولت ورقها يترفض وجاي لك بصفة رسمية..
خرجَ إلياس إلى الكافيه المقابل وجلسَ  يتفحَّصُ المكانَ بعينيهِ الصقرية..رفعَ هاتفهِ ليتأكَّدَ ممَّا إذا كان أرسلان قد اتَّصلَ به دون أن يلاحظ، لكنَّهُ لم يجد شيئًا..تنهَّدَ وهو ينقرُ بأصابعهِ على الطاولةِ أمامه، قبل أن يلمحَ الرجلَ يدخلُ إلى المكتبِ المسؤولِ عن الجوازات..
توقَّف الرجلُ هناك لدقائقَ قليلة، ثمَّ خرجَ مرَّةً أخرى.
زمَّ شفتيهِ بشرود، متسائلًا في نفسه:
– يا ترى إيه اللي بيحصل في العيلة دي؟
استرجعَ ذكرياتهِ منذ أكثرَ من شهرين حين كان يجلسُ مع أرسلان…
– أيوة يا عمُّو…قالها أرسلان وهو يصغي باهتمامٍ للمكالمة…
ثمَّ أردف: تمام، خمس دقايق وأكون عندك.
أنهى المكالمة ونظرَ إلى إلياس قائلاً:
– أنا همشي دلوقتي، وهنأجِّل موضوع راكان البنداري لبعدين، بس من كلامك عنُّه، شكله هيوقف معانا، متقلقش.
قطبَ إلياس حاجبيهِ متسائلًا:
- في حاجة ولَّا إيه؟ إحنا واخدين موعد مع الراجل، وده عيب في حقِّنا.
مرَّر أرسلان يدهِ على وجههِ بضيق، ثمَّ قالَ بانفعال:
– مرات إسحاق هربت من المستشفى.
نظرَ إليهِ إلياس باندهاش: مراته؟!..
أكملَ أرسلان وهو يزفرُ بضيق:
– إنتَ عارف إنَّها كانت محجوزة بعد وفاة الطفل، والموضوع ده مرهق جدًا لإسحاق، ومينفعشِ أسيبه لوحده.
ظلَّ إلياس يحدِّقُ فيه للحظاتٍ قبل أن يقول:
– مراته؟! هوَّ إسحاق متجوِّز؟
ضيَّقَ أرسلان عينيهِ ونظرَ إليه بصمتٍ للحظات، ثمَّ قالَ بنبرةٍ هادئة:
– بقولَّك ابنه، بتقولِّي متجوِّز…
ثمَّ أضافَ بعدما زفرَ بعمق:
– إسحاق متجوِّز بقاله خمس سنين، بس هوَّ رافض حدِّ يعرف، وأنا احترمت رغبته.
ظل إلياس ينظر إليه بتركيز، ثم قال متعجبًا:
– متجوز في السر؟ ليه واحد زيه، بمكانته، يتجوز في السر؟ وبعدين حرام شرعًا يا بني.
هزّ أرسلان رأسهِ نافيًا سوءَ الفهم:
– لا، بابا وماما عارفين، وكمان أهل مراته عارفين، بس ليه مش معلن، دي كانت رغبته وأنا احترمتها..الجواز شرعي، مش اللي في دماغك.
سألهُ إلياس: مين مراته؟
– مهندسة في الشركة عندنا، شكلها بنت كويسة، وبما إنَّها قدرت توقَّع إسحاق يبقى أكيد موثوق فيها.
صمتَ إلياس لوهلة، ثمَّ قال:
– طيب ليه هربت؟
زفرَ أرسلان بضيق، وأجابَ وهو يزمُّ شفتيه:
- معرفش، بس مفيش بينهم مشاكل، من فترة، تيتا قلبت الدنيا لمَّا عرفت بالجواز، وبعدها مراته حاولت تبعد عنُّه بسبب ضغطِ تيتا، لكنُّه راضاها بعد كده، معرفشِ إيه اللي حصل…بصراحة دخلنا في موضوعنا وقصَّرت معاه.
أومأ إلياس متفهِّمًا، ثمَّ قالَ بعد لحظةِ تفكير:
– لو عايز مساعدة، متقلقش، مش هقولُّه ولا كأنَّك قلت حاجة.
تردَّد أرسلان قليلًا، ثمَّ أخرجَ هاتفهِ وأرسلَ صورة لدينا، قائلًا:
– أتمنَّى توصل لحاجة، وأنا كمان هدوَّر وأشوف..
أخذَ إلياس الهاتفَ وسجَّلَ الصورة، ثمَّ قالَ بثقة:
– هسجلَّها عندي وإن شاء الله نوصل لحاجة، وممكن هوَّ يوصلَّها من غير ما نعمل حاجة أصلاً..
ربتَ أرسلان على كتفه، قائلاً:
– لازم أمشي، وإنتَ قابل راكان وشوف هتعمل إيه.
خرجَ من شرودهِ على وصولِ أحدِ الرجالِ يبدو أنَّهُ ذو سلطة، دلفَ لدقائقَ وخرج..ظلَّت عيناهُ تراقبُ ذلك الرجلَ إلى أن وقعت عيناهُ على بعض الرجالِ الذين اقتربوا منه.. 
ضغطَ على شفتيهِ يهزُّ رأسهِ بسخرية:
-دا الموضوع طلع ليلة بقى، وياترى مين عريس الليلة دي؟..يعني أنا آجي لراجح ألاقي مصايب..مرَّت قرابةُ الساعتين..
تنهَّدَ ومازال يتابعُ المشهدَ من تحت نظارتهِ السوداء..
استمعَ إلى رنينِ هاتفه:
-أيوة..
-راجح وصل ياباشا هوَّ ورانيا 
-تمام قالها وتوقَّفَ من مكانه، وسارَ إلى الشاطئ..توقَّفَ على رنينِ هاتفه: 
-أيوة يافندم..
-أنا وصلت ياإلياس، استدارَ متحرِّكًا واتَّجهَ إلى مكانه: 
-فين..!!
قامَ بالاتِّصالِ بشريف:
-إنتَ فين؟!.
الستِّ خرجت متَّجهة للشاطئ بس مش جهةِ السفن، على الجهة الخلفية.. 
التفتَ إلى إسحاق سريعًا:
-شكلهم هيسفَّروها برَّة المينا..
هرولَ إسحاق كالمجنونِ بالاتِّجاهِ المخالفِ عن المينا، بينما توقَّفَ إلياس 
-خليك ورا راجح، شوفوه هيعمل إيه، وعايزك تصوَّره، سمعتني؟..
-أمرك ياباشا..خطا خلف إسحاق الذي وصلَ إلى الشاطئِ بدقائقَ معدودة..
-فيه لانشات أو أيِّ حاجة خرجت من هنا؟..
هزَّ الرجلُ رأسهِ باضطراب..اقتربَ إلياس منه وعيناهُ تخترقُ حركاتِ الرجل: 
-اللانش اللي خرج من دقايق مشي لفين؟..
مفيش حاجة خرجت..قالها بتقطُّع..
اقتربَ يطبقُ على عنقه:
-متخلنيش أفقد اعصابي عليك واحنا صايمين، اللانش اللي خرج راح فين؟.. 
أشارَ الرجلُ بإصبعهِ على اتِّجاهِ تحرُّكه: 
-عايزين واحد بسرعة..خطا إسحاق سريعًا وكأنَّهُ يدوسُ على كتلٍ نارية، نطَّ كشابٍ عشريني يشيرُ إلى إلياس أن يتركَ الرجل..
ركضَ خلفهِ بعدما وجدهُ يستعدُّ للتحرُّك..
-انزل ياإلياس بقولَّك.
-لو عايز تلحقهم ياباشا لازم نتحرَّك..طالعهُ لدقائقَ ثمَّ قادَ اللانش بأقصى سرعتهِ للِّحاقِ بهم..
كان يتحرَّكُ في عرض  البحرِ وكأنَّهُ طائرة فوق السحاب، لا يرى سوى زوجتهِ التي تغادرُ بطفله..
دقائقَ معدودةً حتى ظهرَ أمامهِ ذلك اللانش الذي يحملُ دينا وطفله، أفلتت ضحكةً بعدما ظهر منتصب الجسد فوق اللانش و وجدتهُ يقتربُ منهم، همست بخفوت:
-إسحاق..قالتها بلمعةٍ من عينيها، رفعَ الرجلُ سلاحهِ تجاهَ اللانشِ الذي به إسحاق والياس..
قامَ إلياس بتبليغِ شرطةِ السواحلِ عن مكانهم دون تفكير. 
-إلياس أوعى تضرب نار، ابني معاهم. 
-إحنا كدا هنموت..
-نموت ياأخي، مراتي وابني معاهم.. 
-تمام تمام اهدى لازم نفكَّر بحل، اللانش سريع جدًا، السباحة صعبة..
انزل برأسك بس..
ظلَّت الطلقاتُ الناريةِ تصوَّبُ تجاههم،  دقائقَ ووصلت شرطةُ السواحل تحاصرهم..أمسكَ أحدُ الرجالِ دينا بطفلها ووضعَ السلاحَ برأسها:
-لو قرَّبتوا هموِّتها..
تراجعَ إسحاق ينظرُ إلى إلياس: 
هنزل البحر، وإنتَ حاول تلهيهم.. 
-مستحيل. 
-نفِّذ وإنتَ ساكت.
-يافندم صعب على حضرتك السباحة في العمقِ دا..
-إنتَ ناسي أنا شغَّال إيه؟..
-اسمعني..حضرتك،اسمعني أنا ممكن أنزل البحر، وحضرتك اللي ظاهر في الوش، أكيد عارفين حضرتك..
-إلياس..نزعَ إلياس سترتهِ يشيرُ بيديه: 
-خلاص مش هتفرق، أنا هعرف أتولى الأمر، متخفش.
-يابني اللي بتعمله..
-لو سمحت..قالها وهو يتِّجهُ إلى طرفِ اللانش ويقفزُ إلى البحرِ بهدوء، بعد وقوفِ إسحاق ينظرُ إلى الشرطة التي اقتربت منه، ليخبرهم عن الوضعِ دون الخوضِ بشيء..
ارتفعت صيحاتُ الشرطةِ بمكبِّرِ الصوت الذي يُسمَّى المذياع، بالتحذيرِ والمساءلةِ القانونية..
مرَّت أكثرُ من نصفِ ساعةٍ ثقيلةٍ على الجميع، محاولةِ الخارجينَ عن القانونِ بالهروب، واستخدامهم العنف، أردفَ أحدهم:
-هنعمل إيه؟.. 
أشارَ إلى دينا:
-دي منقذنا الوحيد، انسابت عبراتها مع بكاءِ طفلها المتواصل، ولم تردِّد سوى اسمِ زوجها، ورغم وجودهِ على بعدِ مسافةٍ قريبةٍ إلَّا أنَّها رأتها كفارقٍ بين السماءِ والارض، همست بتقطُّع: 
-سبوني وأنا مش هبلَّغ عنكم، هقولُّهم كنت خارجة سياحة معاكم، لو سمحتم.. 
دفعها الرجلُ بقوَّةٍ إلى أن سقطت تضمُّ رضيعها مع زئيرِ إسحاق لهذا المشهدِ الدموي. 
دقائقَ عصيبة، إلى أن وصلَ إلياس إلى اللانشِ المتوقِّفِ بعرضِ البحر بعد حصارهِ من كافةِ الأنحاء، ورغم ذلك مازالت دينا تحت سيطرةِ أيديهم الملطَّخةِ بالدماء.. 
تشبَّثَ إلياس باللانش، يتجوَّلُ بعينيه.. كيف سيصيبُ هدفهِ دون سلاح..
تسلَّلَ داخلهِ بحذر، وتحرَّكَ إلى الجهةِ الآمنة بعيدًا عن الرجالِ التابعين لرجالِ الشرطة..
تحرَّكَ وعيناهُ تفحصُ كلَّ شبرٍ إلى أن وقعت عيناهُ على زجاجةٍ للكحول، حملها وسارَ بخطاً مدروسة، إلى أن وصلَ بأحد الأركانِ متوقِّفًا يتابعُ المشهدَ عن كثب، حتى يستغلَّ الفرصة، استمعَ الى أحدِ الرجال:
-خد الستِّ دي ولفِّ الناحية التانية، وخلِّيكم مستعدِّين..لو منفذوش مطالبنا أرموها في البحر..قاطعهُ أحدهم: 
-لا أنا اللي هرمي نفسي دلوقتي، مش مليون جنيه اللي تضيَّع شبابي، رفعَ الرجلُ سلاحهِ بعد اعتراضه، وأطلقَ رصاصته، واتَّجهَ بنظرهِ الى الآخر: 
-زمان المركب منتظرانا، لازم نتصرَّف.. 
سحبَ دينا وهي تتلفَّتُ إلى إسحاق الذي اقتربَ منهم، صاحَ الرجل: 
-لو قرَّبت هموِّتها..دلفَ الآخرُ إلى الجهةِ المنشودة، تحرَّكَ ليجذبهُ إلياس بقوَّةٍ يدورُ برأسهِ سريعًا ليلفظَ أنفاسهِ، مع صرخاتِ دينا التي جعلت الآخرين يلتفتونَ إليها، لحظات لم تحتاج إلى تفكيرِ إلياس حينما رفعَ سلاحَ الرجلِ وأطلقَ طلقتهِ الأولى على أحدهم..فحدثَ هرجٌ ومرجٌ وهو يدفعُ دينا لتسقطَ بابنها بأسفلِ اللانش..وظلَّ بتبادلِ الطلقاتِ الناريةِ مع اقترابِ الشرطةِ واستحواذهم عليهم  
بعد فترةٍ كانت تجلسُ تنتفضُ بخوفٍ بإحدى غرفِ المينا..بينما بالخارجِ يقفُ إسحاق مع أحدِ الضباطِ للتحقيقِ فيما حدث..
توقَّفَ إسحاق أمام الرجلِ الوحيدِ الذي مازال على قيدِ الحياة..مع ذهابِ إلياس إلى راجح بعد اتِّصالِ رجله: 
-باشا، راجح رمى رانيا في البحر.. 
-جايلك، متتحركش من مكانك، ثم قام الاتصال بشريف
-خليك مع اسحاق باشا لحد مانشوف هنعمل ايه 
-إنت فين..تسائل بها شريف
-رايح لراجح، المهم عرفت اللي ورا موضوع اسحاق دا واحد تقيل وعايز يغرقه، ايه الأسباب شريف باشا هيقوم بالواجب 
-هو انا مقولتلكش يابن سيادة اللوا
-لا ياحليتها ماقولتش 
-مش أنا بحب التسميع ومبحبش الكتابة، إلياس شغلنا واقف خد بالك من الحتة دي 
-شريف حبيبي لو عايز تتجوز وانت سليم تجبلي اخبار الراجل الغامض بسلامته، وياله صدعتني كفاية فيلم راجح 
عند اسحاق 
اقتربَ إسحاق من الرجلِ وعيناهُ لهيبًا من النيران: 
-إنتَ تبع مين؟..وليه كنت خاطف مراتي؟.. 
ابتسمَ الرجلُ ساخرًا:
-إيه ياإسحاق باشا نستني..دقَّقَ إسحاق النظرَ به، ولكنَّهُ غابَ عن ذاكرته.. 
اقتربَ منه بهدوءِ مايسبقُ العاصفة حتى أطبقَ على عنقهِ يرفعهُ للأعلى: 
-مش عايز فوازير..مين اللي سلَّطك عليَّا يالا؟..
حاولَ الضابطُ إنقاذَ الرجلَ من بينِ براثنه، ولكنَّهُ كان كشيطانٍ لايرى سوى مؤمنٍ زاهدٍ بالدنيا..تركهُ بعدما استمعَ الى صرخاتِ دينا تضمُّ ابنها: 
-ابعدوا عنِّي..
استدارَ إليها حينما استمعَ إلى صوتِ أحدهم: 
-يامدام اهدي، الولد لازم دكتور يشوفه..
جذبَ الرجلُ سلاحَ أمين الشرطة:
-إسحاق خد حق أبويا..قالها 
وأطلقَ رصاصتهِ لتستقرَّ بصدرِ إسحاق ليرتفعَ الضجيج، حتى وصلَ الأمرُ إلى قتلِ الرجل.. 
بفيلا الجارحي.. 
دلفت صفية إلى غرام التي جلست على مصلَّاها:
-حبيبتي قاعدة كدا ليه؟.، 
رفعت عينيها الباكية إلى صفية وتمتمت بتقطُّع:
-مفيش كنت بقرأ وردي القرآني..اقتربت منها وجلست بمقابلتها، ثمَّ أزالت دموعها بحنان: 
-بتعيَّطي ليه يابنتي؟..دا إنتي صايمة، وحامل كمان، دماغك هتوجعك..
- مفيش ياماما، حاسَّة إنِّي مخنوقة وعايزة أعيَّط، قولت يمكن لمَّا أعيَّط أرتاح.. 
ضمَّتها صفية بحنانٍ أمومي تمسِّدُ على ظهرها: 
-ربنا يريَّح قلبك حبيبتي، إن شاءالله جوزك يطمِّنا عليه، اصبري إسحاق يرجع وهوَّ يتصرَّف.. 
أزالت دموعها ورسمت ابتسامةً راضية:
-إن شاءالله، هقوم ألهي نفسي بالمطبخ، عايزة أعمل حاجة حلوة لبابا وأخدها معايا له، اذا سمحتي طبعًا.. 
شهقت صفية تهزُّ رأسها متذمِّرة:
-كدا ياغرام، حدِّ قالك عليَّا بخيلة؟.. 
-أبدًا والله ياماما، بس لازم أعرَّف حضرتك، زياد هيجي لي بعد ساعة كدا، أكون خلَّصت.. 
ربتت على كتفها وساعدتها بالقيام: 
-قومي حبيبتي، إنتي صاحبة بيت مش تستأذني، إنتي مرات الغالي.. 
-شكرًا ياماما..قالتها وخطت ناحيةَ المطبخ، تنهَّدت صفية وأمسكت هاتفها تحاولُ الوصولِ إلى إسحاق، ولكن كالعادة هذا الهاتف مغلق..
بعد شهرين 
كان يقف أمام غرفة العناية ينظر لذاك الجسد وكأنه فارق الحياة، اقتربت تربت على كتفه
-هتفضل كدا ..لمعت عيناه بالدموع هامسًا بصوت رجل أضاع كل ما يملك
-نفسي أضمه أوي، أنا عارف أنه حاسس بيا..عانقت ذراعه وتمتمت بنبرة تحمل مزيج من الحزن والألم :
-حبيبي لو سمحت لازم ترتاح شوية، ملست على ذقنه 
-شوف دقنك بقت عاملة ازاي!! 
استدار إليها بضعف رجل ماتت كل حواسه
-وايه تفيد الحياة وهو مش موجود 
-طيب احنا ذنبنا ايه..؟!
-ارجعي على البيت ..همست اسمه، رمقها بنظرة كادت تقتلها لتتراجع للخلف تطبق على جفنيها بعدما فقد صبرها 
بمنزل يزن
دارت إيمان حول نفسها بفستان خطوبتها، تتأمله بفرحة طفولية، ثم التفتت إلى رحيل بعينين تلمعان حماسًا:
- إيه رأيك يا رحيل؟ حلو؟ لفيت المولات كلها لحد ما لقيت اللي عجبني، غادة وميرال تعبوا معايا أوي... كان نفسي تكوني معانا، بجد.
كانت تنظر من النافذة بشرود، جسدها فقط هو الذي يجلس، أما روحها فكانت حبيسة خلف جدران هذا السجن،  وكأنها تحلم بأن تهرب من بين القضبان  التي أحاطها بها يزن.  اخترق صوت ايمان شرودها، فالتفتت إليها ببطء، تنظر إليها بتيه والعجز يكسو وجهها، فهتفت بسخرية مريرة:
- البركة في أخوكي، اللي حابسني وكأني في سجن!
تجمدت الابتسامة على وجه إيمان، وخفضت عينيها بأسف، وشعرت بوخز الذنب في قلبها، فتمتمت بصوت خافت:
- آسفة يا رحيل... معرفش يزن بيعمل معاكي كده ليه.
لكن رحيل لم تكن بحاجة إلى أسفها، لم تكن بحاجة إلى كلمات جوفاء، اتمنى فقط الحرية! ضحكت فجأة، ضحكة خاوية، مريرة، تحولت في لحظة إلى غضب انفجر كبركان ظل مكبوتًا طويلًا، فنهضت فجأة وصرخت بعنف:
- علشان واطي!!
شهقت إيمان، ونظرت إليها بذهول، تقدمت نحوها خطوة، والعاصفة تشتعل في عينيها:
- أخوكي واطي يا إيمان! منعني عن أمي، وعن حياتي، وعن كل حاجة بحبها! بس أنا خلاص! فاض بيا! لو ما خرجنيش من السجن ده... هقتله!
- حبيبتي، ممكن تهدي؟
أهدى..قالتها مستنكرة، كيف تطلب منها الهدوء بعدما بلغ الألم مداه، وبلغ الغضب ذروته..دخل يزن في تلك اللحظة، مع عاصفتها الهوجاء.. وقفت رحيل تنظر إليه بعينين متوهجتين كجمرات تحترق، بينما قال بهدوء بارد:
- إيمان، سبينا لوحدنا.
ترددت للحظة، قبل أن تستجيب، تنسحب بصمت، تاركة خلفها قلبين يتصارعان بين الحب والكراهية، بين العذاب والانتقام.
وما إن أُغلق الباب، حتى اندفعت رحيل نحوه بكل ما تملك من ألم، تدفعه في صدره، تصرخ، تبكي، تهتز أنفاسها بعنف:
- إنت عايز مني إيه؟! ليه مصر تعذبني معاك؟! أنا بكرهك!! فاهم؟ بكرهك! مش عايزاك! مش طايقة أسمع صوتك! مش طايقة أشوفك! إنت حيوان يا يزن!!
وقف يزن، صامتًا، ملامحه لا تبوح بشيء، عينيه جامدتان، وكأن عاصفتها اماتت كل ما بداخله... للحظة، ظنت أنه لن يهتم ، لكنه نطق أخيرًا، بصوت هادئ، لكنه كان أكثر قسوة من صراخها منذ قليل :
- إنتِ طالق..!!
تجمدت في مكانها. للحظة، لم تستوعب، لم تفهم، لم تصدق. شعرت وكأن الهواء اختفى من حولها، وكأن العالم توقف، لم يرحم ضعفها ليكمل قتلها مثلما قتلته بكلماتها الدمويةا:
-النهاردة حريتك ملكك... الباب مفتوح، وخلاص، محدش هيضايقك تاني.
ثم ابتسم بسخرية، ابتسامة باردة كطعنة خنجر:
- مبروك يا مدام رحيل... الحرية.
تعلقت عيناها بعيناه، لا تعلم أتفرح أم تحزن، ولكن كل ما تشعر به أنها لم تستطع الحركة، لم تستطع التنفس، فقط شعرت بداخلها بشيء يُكسر... شيء كان متماسكًا رغم كل العذاب، لكنه الآن تهشم للأبد. هل كان هذا ما أرادته حقًا؟ الحرية؟ أم أن جدران هذا السجن كانت تخفي ألمًا آخر، أكبر وأعمق...؟

الفصل التاسع والثلاثون من هنا

تعليقات



×