رواية راما الفصل الرابع و الثلاثون بقلم اسماعيل موسي
لم تنظر جين خلفها وهي تخرج من المقهى، ولم تشعر بأي شيء حين أغلقت الباب خلفها.
لم يكن هناك ارتجاف، لا لحظة تردد، لا وخزة ندم.
فقط صمت داخلي ثقيل، أشبه بصفحة فارغة بعد انتهاء قصة طويلة.
عندما عادت إلى شقتها، لم تفعل شيئًا سوى الجلوس على الأريكة والتحديق في الجدران. لا دموع، لا أفكار متلاحقة، فقط هدوء غريب كأن عقلها قد قرر أخيرًا منحها استراحة من كل شيء.
مرت الأيام ببطء، لكنها لم تتوقف،كانت تستيقظ كل صباح، تعدّ فنجان قهوتها، تفتح نافذتها، ثم تحاول أن تتذكر كيف كانت حياتها قبل أن يصبح آدم جزءًا منها. لكنها لم تستطع.
بعد أسابيع، التقت به صدفة. لم يكن مخططًا، لم تكن مستعدة له، لكنها لم تهرب.
كان يسير مع راما، يدفع عربة طفلهما، بينما كانت هي تخرج من متجر صغير، تحمل كيسًا ورقيًا مليئًا بأغراض لا تتذكر حتى لماذا اشترتها.
عيونهما التقت لثوانٍ، كأن الزمن تجمّد للحظة خاطفة بينهما،
آدم فتح فمه لقول شيء، لكن جين سبقته.
— "مساء الخير، آدم."
قالتها بنبرة هادئة، طبيعية، وكأنهما مجرد شخصين يعرفان بعضهما معرفة عابرة.
أغلق فمه، أومأ برأسه، ثم قال:
— "مساء الخير، جين."
راما كانت تنظر بينهما، نظرة فضول أو ربما راحة، لا يهم،
فبعض الناس لا تشعر بالسعاده الا على حساب راحة الأخرين
ارعشت جين شعرها لم تكن فى احسن حالاتها لكن الابتسامه لم تفارق وجهها، ليس عناد او غيره بل لأنها كانت كذلك
ألقت جين نظرة أخيرة على الطفل النائم في عربته، ثم ابتسمت ابتسامة صغيرة، مجرد رفع بسيط لزاوية شفتيها، واستدارت لتكمل طريقها.
في الليالي التي تلت ذلك اللقاء، لم تعد تستيقظ فزعًا، لم يعد قلبها ينبض بقوة وكأنها تنزف من الداخل كان هناك ألم، نعم، لكنه أصبح مجرد صوت خافت، كأن جرحها أصبح ندبة قديمة لم تعد تؤلمها إلا حين تلمسها دون قصد.
ومع الوقت، بدأت جين تستعيد نفسها، لم تكن بحاجة إلى معجزة أو حب جديد أو لحظة اكتشاف عاطفية،فقط بدأت تفهم أنها لم تكن بحاجة إلى أن تكون "جزءًا" من حياة أحد لتشعر بأنها موجودة.
وفي يومٍ ما، حين فتحت نافذتها، شعرت بشيء لم تشعر به منذ زمن طويل.
الهواء كان باردًا، لكنه لم يكن مؤلمًا.
كان نقيًا.
وكانت تتنفس أخيرًا.
البعض يستسلم والبعض ينهض من جديد، ربما يعتبر شيء عبثيآ ولكن الأهم ان تعيش الحياه التى كنت ترغب بها
سواء نائم او تركض خلف الحياه أفعل ما يجعلك سعيد
في الأيام التي تلت ذلك، بدأت جين تفكر بجدية في حياتها بعد الطلاق ليس من باب الهروب، بل من باب إعادة البناء. كانت قد اعتادت أن تكون جزءًا من قصة تتمحور حول آدم، والآن وجدت نفسها في بداية فصل جديد، فصل لا يحمل اسمه.
لم يكن الأمر سهلاً، الوحدة كانت ثقيلة في بعض الليالي، لكنها لم تعد تخيفها كما من قبل كان هناك شعور مختلف، ليس سعادة تمامًا، لكنه ليس بؤسًا أيضًا،شيء يشبه السلام، أو على الأقل محاولة للوصول إليه.
شعور مزعج ان تنام وتستقيظ وانت تعرف ان لا أحد يهتم
ان تكون مريض او حتى بصحه جيدة.
العودة إلى العمل
لم يكن الأمر سهلًا في البداية. نظرات البعض كانت تلاحقها، ليست شفقة بقدر ما كانت فضولًا.
البعض تساءل همسًا كيف يمكن لامرأة أن تنفصل عن زوجها بهذه البساطة، كيف يمكنها أن تتابع حياتها دون أن تنهار
كانو يلقون الأحكام عليها كأنها مجرمه
لكن جين لم تكن تفكر في ذلك، كان لديها ما يكفيها من المعارك الداخلية، ولم تكن مستعدة لخوض معارك مع المجتمع أيضًا.
عادت إلى عملها في الشركة ولكن ليس بنفس الدور، لم تكن تلك المرأة التي اعتادت أن تكونها، لم تعد تسعى لإثبات شيء لأي أحد، لم تعد بحاجة إلى أن تكون "الأفضل" أو أن تكسب إعجاب أحد.
عملت بجد، بصمت، وأثبتت نفسها بطريقة مختلفة هذه المرة—ليس لأنها بحاجة إلى التقدير، بل لأنها أرادت بناء شيء لنفسها، شيء لا يعتمد على أي شخص آخر.
لم تكن جين ساذجة، كانت تعرف أن لقب "مطلقة" سيجعل البعض يضعونها في خانة معينة.
في الاجتماعات العائلية، كانت هناك نظرات خفية، أسئلة غير مباشرة، محاولات لتقديم "حلول" وكأن حياتها أصبحت مشكلة يجب إصلاحها.
— "هل تفكرين في الزواج مجددًا؟"
— "ما زلتِ صغيرة، لماذا لا تحاولين إعطاء الحب فرصة أخرى؟"
لكن أكثر ما أثار استغرابها لم يكن تلك التعليقات، بل الصمت أحيانًا. كأن البعض لم يعرف كيف يتعامل معها بعد الآن. لم تكن زوجة، لم تكن أمًا، لم تكن جزءًا من القالب الذي توقعه الناس لها.
لكن جين لم تحاول تفسير ذلك أو تغييره. لم تكن بحاجة إلى تبرير حياتها لأحد.
لم تكن جين قوية لأنها تحدت المجتمع أو أثبتت شيئًا ما، بل لأنها تعلمت كيف تكون سعيدة وحدها.
في بعض الأيام، كانت تشعر بالوحدة، وفي بعض الليالي، كان الحزن يعود بصمت، لكنه لم يعد يستهلكها كما كان من قبل.
كانت تعمل، تخرج، تضحك مع زملائها، تقرأ كتبًا، تذهب إلى السينما وحدها، تملأ أيامها بأشياء بسيطة، لكنها حقيقية.
بدأوا يرونها كما هي: امرأة تعيش حياتها، بكل ما فيها من تحديات وخيارات… دون اعتذار.
رمت نفسها في العمل، ليس كوسيلة للنسيان، بل كطريقة لاستعادة إحساسها بذاتها، لم تعد ترى الصباحات كأوقات فارغة، بل كفرص جديدة. بدأت تأخذ مشاريع أكثر، تخرج من مكتبها، تقابل أشخاصًا جددًا