![]() |
رواية صراع الذئاب الجزء الثالث (غابة الذئاب) الفصل الثالث والثلاثون
كُل البدائل مُتاحة لكن هناك أشياء لن يمكن استبدالها، واحذر من الوقوع في الأخطاء إذا تم تحذيرك قبلاً، فهناك خطأ كالسهم المارق عندما ينطلق لن يعود مرة أخرى.
ولاء رفعت
تتمدد فوق الفراش علي جانبها في صمت قاتل، لكن عينيها لم تكف عن البكاء منذ أن جاءت من الخارج، انتبهت أذنيها إلي طرق الباب يتبعه صوت زوجة أخيها
"خديجة؟، أنتي صاحية؟"
نهضت وأخذت تمسح دموعها بالمحرمة ثم ذهبت لتفتح الباب، ظهرت شيماء وتنظر إليها بأسف
"ما كفاية عياط بقي و تعالي أغسلي وشك، أنا عاملة طاجن بامية باللحمة الضاني هتاكلي صوابعك وراه، هينسيكي اللي حصل معاكي النهاردة"
عقدت الأخرى ما بين حاجبيها، تعجبت كيف علمت صديقتها بما حدث، فسألتها
"أنتي عرفتي إزاي؟"
"ما أنا رجعت من برة لاقيت طه قاعد في الصالة و حكالي علي حادثة الواد اللي كان عايز يقتل البت صاحبتك في الجامعة، و كلمتيه وأنتي في المستشفي و بعدها خدك علي الشركة عند جوزك و نزلتي من عنده معيطة و من ساعتها مش عايزة تتكلمي، قولت له بالتأكيد آدم عرف باللي حصل شد معاها وهي ما استحملتش و أتخانقوا"
كانت شاردة نحو الفراغ في عالم آخر، رؤية تلك الصهباء تعانق زوجها و تقبله كان مشهداً لا يُنسي، كادت تبكي من جديد فحاولت أن تتماسك لا تريد أحد أن يعلم بنزيف قلبها، لا ترجو شفقة أو مواساة حتي لو كانت من شقيقها، فهي قد عزمت علي قرارها و لم تتراجع عنه.
انتبهت إلي يد شيماء تلكزها بخفة
"إيه يا بنتي سرحتي في إيه، فوكي كدة و أنسي اللي حصل، و تعالي يلا نتغدي، أنا غديت يوسف وسالم من بدري و قاعدين يلعبوا، والبت ريتاچ مارضتش تاكل معاهم و قالتلي لاء أنا هاكل مع عمتو"
شبه ابتسامة غزت ثغرها فأومأت إليها ثم سألتها
"أومال فين طه؟"
"جاله تليفون و نزل من غير ما يقولي كالعادة، خلينا كدة أحسن أنا وأنتي عشان بعد ما نخلص أكل نعملنا كوبيتين شاي و نقعد نشربهم في البلكونة، عايزة افضفض لك شوية"
وعلي مائدة الطعام في الخارج، تجلس في صمت شاردة في الصحن دون أن تأكل منه ملعقة واحدة
"ألا بالحق، هم فعلاً أهل الواد باعتين لك واحد يهددك لو شهادتي باللي ابنهم عمله؟"
نظرت إليها بعينين تائهة في البادية، لم تملك طاقة كافية للتحدث فأخذت تحدق إليها وداخل عينيها الكثير، تود أن تصرخ عما يعتمل به صدرها من ألم لكن من المُحال أن تفصح عن ما رأته اليوم، صدمة لا يستوعبها عقلها و تتخبط بين جدرانها، وخز قوي داهمها بقوة جعلتها تتأوه ألماً واضعة يدها علي بطنها، و ملامح وجهها منقبضة
"خديجة؟"
صرخت بها زوجة أخيها ونهضت سريعاً تتفحصها وتسأله بقلق بالغ
"مالك حاسة بإيه؟"
رفعت خديجة كفها وبنبرة تكاد تكون مسموعة لدى الأخرى
"أنا بخير، بخير"
حاولت أن تنهض فأمسكت الأخرى بيدها تساعدها
"تعالي أدخلي أستريحي جوة"
عقب جملتها صوت فتح باب المنزل وصوت طه الذي ولج للتو
"شيماء أدخلي غطي شعرك، آدم معايا و واقف برة"
نظرت إليه ثم إلي شقيقته وأخبرتها قبل أن تذهب
"اقعدي طب استريحي، شوفتي أهو ما استحملش زعلك و جه يصالحك، ربنا يهدي سركم"
ذهب بخُطى سريعة إلي الداخل، بينما خديجة حاولت أن تتماسك وتتحمل هذا الألم الذي يهاجمها كالوحش الضاري
"أنا داخلة...
قاطعها شقيقها
"استني يا خديجة، آدم جاي عشان عايز يقعد يتكلم معاكي"
وكأن قوة مفرطة سرت في أنحاء جسدها جعلتها تقف كالوتد الصامد أمام رياح عاتية
"و أنا مش عايز أقابل و لا أتكلم مع حد"
كادت تذهب حتي سمعت صوته حينما دخل
"خديجة تعالي نقعد و أنا هافهمك كل حاجة"
"خديجة، آدم حكالي علي كل حاجة و اللي شوفتيه مش زي ما أنتي فهمتي، ياريت تديله فرصة يشرحلك اللي حصل"
عقب طه ويبدو أن أصبح لديه علم بما حدث وهذا بعد أن تقابل مع زوج شقيقته والذي حكي إليه ما حدث وكذلك الأخر أخبره ما تعرضت له شقيقته اليوم وذهابه إلي المشفي بعدما قامت بمهاتفته
نظرة هازئه تنضح من عينيها تحولت إلي نظرة أخرى بازدراء
"يشرحلي إيه بالظبط؟!، أنا و لا هاقعد معاه و لا هاسمع منه حاجة، لأنه مهما قال وأتكلم مش هاتراجع عن قراري"
تلاقي حاجبيه فسألها مُردداً
"قرارك؟"
أخذت تحدق نحو كليهما بقوة حتي أخبرت شقيقها أولاً
"أنا مكنتش أصلاً هاقولك أي حاجة، بس بما أنه هو حكالك فلازم تسمع اللي هاطلبه منه دلوقتي"
عادت عينيها تنظر إلي زوجها بأمر لم تتراجع عنه
"طلقني يا آدم"
༺※※※༻
صف السائق السيارة أمام باب القصر وترجل مسرعاً ليفتح الباب الخلفي، نزل قصي ومد يديه إليها لتستند عليهما
"علي مهلك، خدي بالك"
و إذا بقدمها المصابة لامست الأرض فتأوهت
"مش قولتلك خدي بالك، كدة بقي مضطر، استعنا علي الشقى بالله"
"قصدك إيـ..
لم يمهلها وقت للسؤال فحملها علي ذراعيه، تعلقت بيديها حول عنقه وأخذت تضحك، فسألها مبتسماً ويسير نحو الداخل
"طبعاً مبسوطة وأنا شايلك، و مش مشكلة اللي بيحصل لضهري"
حدقت بغضب زائف مازحة
"لاء يا حبيبي أنا رشيقة، أنت اللي كبرت و ما بقتش قادر تشيلني زي زمان"
رفع حاجبه فأخبرها بحنق مازحاً
"بدل ما تشكريني بتتريئي عليا؟!، ماشي أتلقي وعدك بقي من ضرتك"
وأشار إليها بعينيه نحو صغيرته التي تقف وساعديها تعقدهما أمام صدرها، وحاجبيها يلتقيا، تحدق لهما بنظرة غاضبة
نزلت صبا بحذر علي الأرض مستنده علي ذراع زوجها، تبتسم إلي ابنتها وتمد ذراعها الآخر لها
"زوزو حبيبة مامي وحشاني أوي، تعالي في حضني"
هزت رأسها برفض ثم صاحت بغضب طفولي
"لاء، أنا مخصماكي أنتي وبابي ومش هكلمكم تاني، عشان روحتوا تتفسحوا و ما خدتنيش أنا ومالك"
اقتربت صبا بشفاها نحو أذن زوجها وسألته بهمس
"هي عرفت منين؟"
"أنا قولتلها لما أتصلت اطمن عليهم"
"و أنا اللي كنت هضحك عليها و أقولها كنا في شغل عشان ما تزعلش، أعمل فيك إيه دلوقتي، كل ما أصلح علاقتي بيها تيجي أنت و تبوظها"
"ما هو ما ينفعش تكذبي عليها، بنتك ماشاء الله ذكية و بتفهم إن كان بتكذبي عليها و لا بتقوليلها الحقيقة"
"هي هتجيبه من برة، طالعة زيك"
ابتسم بفخر متباهياً
"طبعاً لازم تطلعلي، دي زوزو حبيبة بابا"
ثم ألتفت إلي صغيرته المشاكسة وهبط علي ركبتيه فاتحاً ذراعيه
"ممكن حضن الأول و بعدين نتصالح؟"
و سريعاً تبدلت ملامح وجهها من الغضب إلي ابتسامة تصل من الأذن إلي الأذن الأخرى، و لما لا فهذا والدها حبيبها وهي مدللته الصغيرة التي من أجلها يفعل المستحيل ويري تلك الابتسامة تزين ثغرها الصغير دائماً.
اطلقت ساقيها الصغيرتين وارتمت بين ذراعيه، تتعلق بيديها حول عنقه، تخبره بدلال طفولي
"i miss you بابي"
قام بتقبيل وجنتها الوردية
"و أنتي كمان وحشاني يا قلب بابي"
نظرت لهما صبا بحاجبين مرفوعين إلي أعلي، تردد بتعجب ساخر
"لا والله؟"
كتم ضحكته حتي لا يثير حنقها أكثر، فأخبر صغيرته
"قولي لمامي ألف سلامة عليكي، عشان وقعت علي رجلها وروحنا عند الدكتور"
حدقت نحو قدم أمها فرأت الضماد، انتبهت صبا إلي قلق وخوف ابنتها مما أثار دهشتها من رد فعل الصغيرة، و تعجبت أكثر عندما احتضنتها بذراعيها الصغيرين
"ألف سلامة عليكي يا مامي، أنا بحبك أوي"
دنت الأخرى منها واستندت بيد علي كتف زوجها و اليد الأخرى ضمت ابنتها إلي صدرها
"الله يسلمك يا قلب مامي، و أنا كمان بحبك أوي أوي"
رفعت وجهها وسألتها ببراءة
"مين اللي عمل كدة في رجلك؟"
"أتزحلقت و وقعت عليها"
ربتت بكفها علي خد أمها فقامت بتقبيل خدها الأخر
"خلي بابي يشيلك و تعالي نامي جمبي"
نظرت صبا إلي قصي الذي ابتسم وهو يرى تطور علاقة ابنته بأمها إلي الأفضل، سأل صغيرته
"يرضيكي تاخدي مامي تنام جمبك و بابي ينام لوحده؟"
أجابت بتلقائية
"خلاص إحنا نسيبها تنام لوحدها عشان رجلها فيها واوه، وأنت تعالي نام جمبي"
اتسعت عينان صبا و التي صاحت
"بقي كدة يا زوزو؟، لحقتي تقلبي عليا؟، أنا زعلانة منك"
"لاء يا مامي زوزو ما تقصدش، و هي شطورة و هتطلع تنام في سريرها عشان بكرة هاخدها هي و مالك ونروح الملاهي"
و ما أن انتهي والدها من الحديث هللت بفرح
"بجد يا بابي هتودينا الملاهي بكرة؟"
أومأ لها مهمهماً، صاحت بتهليل ثم قامت بمعانقته و تقبيله
"حبيبي يا بابي"
"يلا بقي اطلعي نامي عشان هنصحي بدري"
"أوك بابي، تصبح علي خير"
"و أنت من أهله يا حبيبي"
و لم تنظر إلي أمها وركضت إلي أعلي كما أمرها والدها
"شوفت البنت، و لا عبرتني بأي كلمة"
نهض ضاحكاً
"معلش، واحدة واحدة وهتلاقيها متعلقة بيكي اكتر من تعلقها بيا"
"طبعاً لازم تدافع عنها، أنت بابي السوبر هيرو بالنسبة لها و أنا مامي الشريرة"
قام بحملها مُجدداً يخبرها بمزاح
"لاء أنتي مامي الشريرة اللي خطفت حبيبها منها"
لكزته في كتفه ويصعد الدرج حاملاً إياها
"اه منك أنت و بنتك، هتشلوني"
أخذ يضحك ثم تابع صعود الدرج
༺※※※༻
"افتحي الباب يا خديجة وتعالي نتفاهم، بلاش شغل العيال اللي بتعمليه ده"
صاح بها آدم ويطرق باب الغرفة بقوة، فبعد أن ألقت عليه قرارها الحاسم انطلقت من أمامه إلي الغرفة وأوصدت الباب من الداخل، قلبها نبض بقوة و كلما زادت نبضاته كلما اشتد الألم أكثر، فهي لم تتحمل النظر إلي عينيه وتطلب منه الإنفصال، فالعاشق حينما يصل به الأمر إلي الإنفصال فهو بذلك يحكم علي روحه بمغادرة جسده، يشعر بكل سكرات الموت حتي يصل إلي اللحد ويصبح حبيس جدران مقبرة الزمن الذي يمر ببطئ، فالساعة تصبح يوماً واليوم يصبح شهراً والشهر يصبح كالسنة و السنة تمر كمرور الدهر علي هذا الميت الحي.
صرخت من الداخل وما زالت تضع كفها علي بطنها
"و أنا مش طايقة اشوفك و لا اسمع صوتك، طلقني بالمعروف أحسن ما نتقابل في المحكمة"
كان كل من طه و زوجته يقفان في الرواق فقالت شيماء
"معلش سيبها تقعد مع نفسها شوية وأنا هادخل ليها و هاطمن عليها ، هي شكلها أعصابها تعبانة من اللي حصل لصاحبتها في الجامعة، بالتأكيد ما تقصدش اللي قالته"
فعقب زوجها
"تعالي نقعد في البلكونة شوية و شيماء هاتدخل تكلمها، و إن شاء الله كل حاجة هاتتحل ما بينكم، تعالي يلا"
انفتح الباب فجأة وظهرت منه، تتظاهر بالقوة الواهية
"و أنا مش هتراجع عن قراري، هاطلق يعني هاطلق، و أهو يخلي الجو للباشمهندس مع الهانم اللي كانت في حضنه"
أنهت كلماتها بنظرة ساخرة إلي زوجها، بينما شيماء التي أدركت سبب ردود أفعال صديقتها للتو، شهقت بصدمة واضعة يدها علي فاها غير مصدقة، حاول زوجها أن يهدئ من العاصفة و لو قليلاً
"خديجة عشان خاطري، استهدي بالله و اقعدي مع جوزك و اسمعيه، و بلاش تظلميه قبل ما تعرفي كل حاجة، ده كلنا بنقول أنتي أعقل واحدة فينا، إيه اللي جرالك؟"
"ما أنا كنت بعقلي و أسأله، بما أنك سمعت له هقولك أنا ليه عايزة أتطلق، الهانم اللي شوفتها معاه في المكتب دي اللي كان عمي الله يرحمه كان عايز يجوزها له لما أتأخرت في الحمل، شوفناها من فترة لما كنا مسافرين لما اتخطف يوسف ابني و سبحان الله هي ظهرت فجأة وانقذته و فاكراني مغفلة مش عارفة أنها لعبة عملتها عشان تقرب من البيه، و اتكلمت معاه و حذرته منها بكل هدوء و عقل و لو واحدة غيري أقسم بالله كانت عملت مشكلة كبيرة، لكن قولت خليني ورا عقلي و أحل أموري من غير مشاكل، و اتفقت معاه مهما حاولت تقرب منه تاني يقفل كل الأبواب في وشها و وعدني بكدة لحد ما أتفاجئ النهاردة و أنا رايحة له الشركة منهارة من اللي حصلي في الجامعة عشان أحكيله اللي حصل معايا و أقوله أعمل إيه لاقيتهم في حضن بعض و.... ااه"
بلغ الألم ذروته لديها ولن تتحمل، أطلقت صرخة وسقطت علي ركبتيها، تضع يديها علي بطنها
هبط علي ركبتيه بقلق وخوف
"خديجة، مالك؟"
أخبرته شيماء
"قبل ما تيجوا كانت برضه ماسكة بطنها وبتتوجع"
"أنا هكلم الدكتور بسرعة"
صاح بها طه، و آدم كان يضع يده علي ظهر خديجة ويهدأها بينما هي تصرخ بألم عارم
"مش قادرة استحمل الوجع، بطني بتتقطع، ااه"
و هنا الصرخة قد بلغت أقصاها وتردد صداها بين جدران المنزل!
༺※※※༻
وصل قصي إلي داخل الغرفة و مازال يحملها، أنزلها علي الفراش وجلس جوارها، يرفع ساقها علي فخذيه، يخلع لها الحذاء وفعل المثل مع ساقها الأخرى، أمسك يديها فقام بتقبيل كل منهما علي حده، يخبرها من شهد الكلمات
"بعشقك"
ابتسمت له وعينيها الرمادية تتلألأ علي ضي المصباح الخافت، تخبره بأعذب الألحان التي تعزفها علي أوتار فؤاده
"ده أنا اللي بعشقك و متيمة بيك، و كل مدي عشقي بيزيد لما بشوف قد إيه أنت حنين معايا و بحس بخوفك و لهفتك عليا لو حصلي أي حاجة"
اقترب منها وعانقها، طرف أنفه يكاد يلامس طرف أنفها، يزيد من البيت شعراً رومانسياً بصوته الرجولي الأجش
"حنيتي دي نقطة في بحر حبي ليكي، أنتي روحي يا صبا، يعني أنتي عايشة جوايا و بتجري في دمي، ما بقدرش أستحمل عليكي أي حاجة"
ابتعدت برأسها قليلاً لتستمتع بالنظر صوب عينيه التي تسحرها في محراب عشقه
"أنا آسفة إن اتنرفزت عليك لما حيت تواسيني عشان ما أركزش في ألم رجلي، مكنتش مستحملة بجد الوجع"
قام بتقبيلها من جوار شفتيها ثم أخبرها
"عارف ومقدر حالتك وقتها، و مش زعلان بالعكس أنا ضحكت من ردة فعلك، أصل شكلك يجنن لما بتتنرفزي"
"أنت كنت قاصد بقي؟"
أومأ لها مبتسماً
"و كنت مبسوط كمان"
تبرق عينيها بلمعة ماكرة تقترب بشفتيها من خده وفي لحظة ضغطت بأسنانها علي خده فتأوه
"عشان تبقي تنبسط أوي"
ضيق عينيه بوعيد
"خدي بالك أنتي اللي بدأتي"
تزحزحت مبتعدة عنه تبتسم بقلق
"قيصو، أنا كنت بهزر معاك، بالله عليك أوعي تعملها أنا مش قادرة أتحرك من رجلي"
ابتسامة خبيثة يتبعها غمزة ينهيها قوله
"أنا واحشتني أوي حركات الشقاوة، فاكرة؟"
رفعت يديها برجاء وتضحك في آن واحد
"لاء مش فاكرة، و لا عايزة افتكر"
"بس أنا بقي فاكر و هافكرك"
أخبرها بذلك وجعلها أسيرة بين ذراعيه وهي تصيح برجاء
"لاء يا قيصو لاء، بلاش عض، عض لاء"
و في لحظات كانت ممددة علي بطنها فوق الفراش، و تحت ضغط يده علي ساقيها و يده الأخري علي ظهرها كافياً بشل حركتها
"يلا عدي و لو غلطي في العد هبدأ من أول و جديد، واحد"
صاحت بعد غرز أسنانه أسفل ظهرها
"ااه، أنت رخم و هزارك تقيل"
"2"
"ااه، كفاية بقي علي فكرة أنت سادي"
تعالت ضحكته علي وصفها المُبالغ به، فجعلها تستشيط من الغيظ أكثر، سألها بصدمة زائفة
"أنا سادي؟!"
"ايوه و شرير كمان"
"طيب، نبدأ من أول وجديد، يا تري أعضك منين يا بطة، سادي بادي كرنب زبادي"
"اااه، خلاص، خلاص، بجد مش قادرة، كفاية هزار"
حررها من قبضتيه فنهضت وهو مازال يضحك، لكزته و تحدق إليه بغضب طفولي مثل ابنتها
"أبعد عني أنا مخصماك، و مش هتنام جمبي النهاردة، عندك الكنبة و لا روح نام جمب بنتك"
جذبها بين ذراعيه بحنان و حب
"أنا أقدر علي زعل روحي؟!، تعالي لما أصالحك"
قام بتقبيل خدها
"أوعي برضه زعلانة منك"
"طب و كدة"
قام بتقبيل موطن كلماتها وسألها متابعاً
"لسه زعلانة؟"
"اه، و زعلانة أوي كمان"
اقترب بشفتيه نحو عنقها بقبلة جعلتها تشعر بأجواء طقس شهر يوليو الحار، ابتعد قليلاً ليرى ملامحها و مدي تأثيره الطاغي عليها، قرأ
في عينيها نداء من أعماقها، فاقترب مرة أخرى وعينيه لا تبرح شفاها
"أنا مش هيسيبك الليلة دي غير لما أصالحك و تبقي مبسوطة"
و بعد كلماته قام بتلبية النداء باشتهاء و رغبة جامحة لا يشعر بها سوي معها هي فقط، المرأة التي امتلكت مفتاح قلبه فولجت داخله وتربعت علي عرشه، و كما أخبرها قولاً وفعلاً فهي صبا القلب والروح.
༺※※※༻
في وقت متأخر من الليل يفر النوم من عينيه كالليالي السابقة، كلما يفكر في حديث صديقه يجن جنونه، علي الرغم أنه قد عاش في بلد أوروبي لسنوات لكن هذا لن يغير من طباعه العربية المتأصلة به كالغيرة ويحب أن يكون الرجل الأول في حياة المرأة التي سيشاركها حياته...
«حدث سابقاً»
"قبل إجابتي علي طلبك، لازم تعرف حاجة"
ابتلعت منار غصة علقت في حلقها فمن الممكن أن علم أدهم بالأمر سيغير رأيه ويعزف عن أمر زواجه بها، تابعت
"قصي هيقولك كل حاجة"
و بدون تردد ذهبت سريعاً من أمامهما، توجه نظر أدهم إلي صديقه منتظراً أن يخبره
"هي إيه الحكاية بالظبط"
نهض الأخر وجلس في الكرسي المقابل له، ود لو أخبره بصدق روايته لكن أحياناً نلجأ إلي الكذب في أمور بها الصدق له وقع الضرر علي الآخرين
"قبل ما أحكي هكرر لك اللي قولته لك من شوية، منار في مقام أخواتي البنات، و الحكاية أن باباها كان مديون لراجل من اللي شغلهم شمال، و كتب علي نفسه شيكات بمبالغ كبيرة وعشان مش قادر يسددها كان عايز يجوزها لراجل أكبر منه هو شخصياً، مالقتش حل غير أن نكتب الكتاب وعملنا فرح علي الضيق، وجت عاشت في القصر عندي لحد ما ضمنت باباها أنه مش هيقربلها من تاني أو يأذيها"
عقد ما بين حاجبيه حاول استيعاب ما قد سمعه
"ثواني، مسألة كتب كتابكم و الفرح و فهمنا الهدف من وراهم، طيب مدام صبا كان وضعها إيه بالظبط لاء و كمان جايبلها ضرة تعيش معاها في القصر، عملتها إزاي؟"
تنهد قصي وتناول لفافة تبغ من الصندوق الخشبي و أشعلها بنار القداحة، وجد عليه تجاوز الخوض في الحديث عن شأن زوجته لاسيما عند تذكره لما سببه لها من آلام نفسية وقهرية
"عادي، هي تفهمت الأمر بصدر رحب، لأن ما بينا ثقة متبادلة، ده غير أن منار كانت قاعدة في أوضة لوحدها"
"يعني...
أدرك سؤال صديقه لذا تابع حديثه ليطمئنه
"أيوه، كان جواز علي ورق مش أكتر من كدة"
«عودة إلي الوقت الحالي»
زفر بضيق لديه سؤال يلح عليه يريد معرفة إجابته من بين شفتيها هي حتي يطمئن قلبه و يريح عقله من التفكير
"إيه اللي مسهرك يا حبيبي لحد دلوقتي و واقف في البلكونة في السقعة دي"
ألتفت إلي هذه السيدة الخمسينية ذات الملامح الجميلة برغم ظهور بعض الخطوط قد حفرها الزمان، تمسك بصينية يعلوها كوبان تتصاعد منهما الأبخرة.
ابتسم إليها بــ ود
"مش جايلي نوم يا لولي"
وضعت الصينية فوق المنضدة
"طبعاً مش هيجيلك نوم من غير ما تشرب من إيد مامتك حبيبتك الـكاكاو بللبن اللي بتحبه"
و أمسكت كوب ومدت يدها بها إليه
"طول عمرك مدلعاني يا ست الحبايب، تسلم إيديكي"
أخذ الكوب من يدها، فأخبرته و عينيها تنضح بالحنان والحب
"أنا ليا مين غيركم أنت وأخوك، هو أتجوز وسافر برة و فين و فين لما بيجي اجازة، وأنت نفس الحكاية بس الفرق هو أن نفسي أفرح بيك وأشوف ولادك قبل ما أقابل وجه كريم"
ترك الكوب سريعاً وأمسك بيدها بين كفيه
"بعد الشر عليكي يا أمي، بإذن الله هحققلك أمنيتك قريب أوي، و كمان هستقر هنا و هأسس فرع للشركة اللي بشتغل فيها برة، محتاج بس دعواتك"
تعجبت ثم ابتسمت بسعادة
"يا حبيب قلب مامتك، أنا مش مصدقة نفسي، وأخيراً هتريح قلبي الله يريح قلبك، بس تطلع مين دي ياتري اللي قدرت تغير تفكيرك"
كاد يتحدث فاوقفه تنبيه رسالة واردة علي هاتفه
"ثواني يا لولي"
فتح الرسالة وكان محتواها اسم منار بالكامل و كل بياناتها والتي تشمل من بينها عنوان مسكنها، ردد بصوت خافت
"كفاية تفكير لحد كدة، أنا لازم أروحلها"
"فيه حاجة و لا إيه؟"
حدق إلي والدته بنظرة غامضة وأخبرها
"لما أرجع هابقي أحكيلك"
تركها و ولج إلي الداخل
"أدهم؟، أدهم؟"
هزت رأسها بسأم وعلقت
"ربنا يرزقك باللي تتمناه يا حبيبي وأشوفك ديماً مبسوط و مرتاح البال"
༺※※※༻
«"أيوة بحبك، و لما لاقيت رد فعلك معايا عنيف كل ما أقرب منك، حبيتك أكتر وجيت النهاردة لقصي عشان يقولك إن أنا عايز أتجوزك" »
كان المشهد الذي يتردد كل حين والآخر في ذاكرتها لا سيما عند تمدد جسدها علي الفراش، باتت تشعر بالأرق منذ ذلك اليوم، لا تنكر أن شعور السعادة غزي دواخلها عند سماعها إلي اعترافه لكن أكبر مخاوفها هو عندما يعلم بأمر زواجها من صديقه.
تنهدت وعينيها مازالت شاردة نحو السقف، نهضت بجذعها باحثة عن هاتفها، قامت بفتح الشاشة ولمست أيقونة تطبيق شهير، قد توصلت إلي حسابه الشخصي و كل فينة والأخرى تشاهد صوره الملتقطة له ما بين إيطاليا و مصر، و صور أخرى له عندما كان طفلاً ثم مراهقاً و شاباً حتي أصبح في منتصف الثلاثينات من عمره، ابتسمت وعلقت
"حلو من صغرك يا أدهومي"
و إذا فجأة يرن هاتفها فانتفضت بفزع ووقع الهاتف من يدها، دنت من الأرض بيدها لتمسك به و ترى اسم المتصل فكان رقم مجهول الهوية، ترددت في الإجابة وانتظرت ريثما ينتهي الرنين فعاد مرة أخرى، لا مفر من الإجابة
"ألو؟"
كان صوتاً رجولياً جعل قلبها ينبض بقوة، ترددت في الرد وانتظرت حتي تحدث المتصل ثانية
"أنا أدهم الشافعي يا منار، ما تقلقيش"
نهضت والصدمة تنضح من عينيها
"أدهم؟، أنت عرفت رقمي منين؟، سؤال غبي صح، بالتأكيد خدته من مستر قصي"
أطلق زفرة و أخبرها بجدية
"لاء، بس عرفت و خلاص، علي فكرة أنا تحت البيت عندك"
صاحت غير مصدقة
"نعم؟!، أنت بتهزر؟"
ذهبت من قرب النافذة وأزاحت الستائر لتجد بالفعل سيارة تقف أمام البناء، بينما هو لاحظ ظلها من خلف زجاج النافذة فقام بتشغيل وميض المصابيح الأمامية لسيارته عدة مرات
"لاء مش بهزر، مش شايفة كشافات العربية؟"
"خلاص شوفت، ممكن تفهمني سبب وجودك تحت بيتي؟"
"جيتلك عشان عايز أتكلم معاكي ياريت تنزلي"
"لاء أنت مجنون بقي، أنت عارف الساعة دلوقتي كام؟، 2 بالليل إستحالة أنزل من البيت في الوقت ده أو أهلي يسمحوا لي أعمل كدة"
زفر بنفاذ صبر شعرت به عبر الهاتف وخشيت من رد فعله القادم و قد كان
"بصي أنا مليش خُلق أتحايل، قدامك دقيقتين ألاقيكي قدامي، لو خلصوا هطلع لحد عندك يا إما هوقف أنادي عليكي و خلي الجيران و كل اللي في مصر الجديدة كلهم يسمعوا و أنا بنادي عليكي عشان تنزلي"
صدرت منها ضحكة رغماً عنها
"أقسم بالله أنت مجنون"
"أنتي فاكراني بهزر، أنا بتكلم جد و عشان تتأكدي هبدأ عد، واحد، اتنين"
صاحت برجاء
"خلاص، خلاص، هلبس بسرعة و نزله لك"
"و ياريت لو في طريقك إزازة ميه هاتيها عشان عطشان"
ابتسمت وحركت رأسها يميناً ويساراً
"مش عايز بالمرة أكل"
"لاء شكراً، و يلا بقي الدقيقتين قربوا يخلصوا أنتي حرة"
أنهت المكالمة وفي سباق مع عقارب الساعة كانت ترتدي معطفها الأسود الذي يصل إلي الركبتين فوق قميصها القطني، ألقت نظرة سريعة في المرآة علي هيئتها، قامت بتمشيط خصلاتها وارتداء قبعة صوفية حمراء اللون ثم ارتدت حذائها الأسود الجلدي ذو النصف رقبة.
في خلال دقائق كانت في الفناء بعد أن خرجت من منزلها دون أن تصدر صوت أو يشعر به أحد فوالدتها وشقيقها في سبات عميق.
يستند بظهره علي السيارة عاقداً ساعديه أمام صدره، طيف ابتسامه علي ثغره عندما رآها، كم هي جميلة مثل حبة الفاكهة الشهية، و خصلات شعرها الذهبية تضوي أسفل ضوء مصابيح البناء، اقتربت منه وتدس الزجاجة في يده بحنق
"اتفضل أشرب"
"علي فكرة الدقيقتين خلصوا من خمس دقايق، يعني ممكن أنفذ تهديدي دلوقتي يا...
كاد يصيح باسمها فوضعت يدها علي فمه
"يخربيتك يا مجنون، ما أنا أهو قدامك"
حدق إليها لثوان ولم تدرك شيئاً من نظراته، شعرت بملمس شفتيه علي كفها يقبله، كان كتأثير التيار الكهربي، ابعدت يدها عن فمه وأخذت تحرك اهدابها ثم رفعت سبابتها في وجهه
"للمرة الأخيرة لو عملت الحركات دي تاني هتلاقي مني رد فعل مش هايعجبك، و لا نسيت القلم اللي خدته في المكتب؟!"
فتح الزجاجة وشرب الماء في صمت، و بعد أن أنتهي من الشراب و أغلقها أعطاها إياها ثم دخل سيارته علي مقعد القيادة وفتح لها الباب الآخر مشيراً إليها
"اركبي"
رفعت احدى حاجبيها
"إيه الاستهبال ده؟!، ما تخلص قول عايزني في إيه و يلا أمشي قبل ما حد يشوفك معايا من الجيران و تجيبلي الكلام"
نظر لها بصرامة غير معهودة من شخص لا يتسم بالجدية أغلب الأوقات
"أنا قولت اركبي و مش هكررها، إلا و إذا هطلع دلوقتي أرن الجرس و أصحيلك مامتك و أخوكي"
زفرت بحنق من أفعاله الهوجاء
"و علي إيه المشاكل، أمري لله هاركب بس ياريت تنجز عشان عايزة أطلع قبل ما يصحي حد فيهم"
و ولجت داخل السيارة وجلست بجواره، سمعت صوت إغلاق أقفال أبواب السيارة و النوافذ أيضاً
"أنت بتقفل ليه؟"
أنطلق بالسيارة دون أن يعطيها إجابة مما جعلها تصيح بغضب وتلكزه في كتفه
"هو أنا مش بسألك؟!، يا برودك يا أخي، نزلني"
استمر في القيادة حتي توقف في مكان هادئ و ألتفت إليها
"أنا عايز أعرف قصي يبقي بالنسبة لك إيه؟"
سؤاله مباغت دون مقدمات، نظرت إليه وهي تحاول استيعاب السؤال لتجيب
"هو قالك إيه بالظبط؟"
"ما ترديش علي سؤالي بسؤال وعايز إجابة واضحة من غير لف ودوران"
"و أنا ما بحبش اللف والدوران، و إجابتي هي أن قصي بالنسبة لي زي أخويا الكبير، سواء قبل جوازي منه أو بعده"
ظل ينظر إليها و يدور في رأسه سؤال آخر نطق به لسانه
"يعني لما كنتم متجوزين محصلش حاجة ما بينك و ما بينه؟"
فهمت ماذا يقصد، شعرت بالحرج من كون السؤال جريئاً، هزت رأسها بالنفي
"لاء محصلش، و كان اتفاقنا من الأول أن جوازنا علي الورق و بس"
نظر أمامه وأطلق زفرة بأريحية وكأنه يتنفس الصعداء ثم عاد يحدق إليها من نظرة الجمود إلي ابتسامة صاحبها فعل أهوج حيث جذبها بين ذراعيه وعانقها بقوة
"بحبك أوي يا منار"
حاولت التملص من عناقه بينما ذراعيه كانت تطوقها بقوة، تابع بنبرة نابعة من قلبه
"تعرفي أنا نفسي أنزل من العربية و أشيلك و أجري بيكي في الشوارع و أصرخ أقول لكل الناس أنا بحب منار، أنا بحب منار"
"ما أنت لو فضلت مكلبش فيا كدة نفسي هايروح و مش هتلحق تحقق أمنيتك"
تركها من بين ذراعيه
"آسف، من كتر فرحة قلبي اللي إرتاح بعد سهر يومين ورا بعض، محستش بنفسي غير و أنا باخدك في حضني جامد"
"طالما قلبك أرتاح وهاتعرف تنام أخيراً، ممكن يعني بعد إذنك ترجعني بيتي"
قرب وجهه من وجهها فتراجعت إلي الوراء قليلاً و رفعت يدها استعداداً للطمه
"هاا؟؟"
أومأ لها مبتسماً
"أمرك يا حبيب قلبي"
و قبل أن يستعد للقيادة ألتفت إلي إضاءة قوية صادرة من مصابيح سيارة الشرطة و الضابط الجالس بجوار السائق، يشير إليه بأن يترجل من السيارة، بينما هي لطمت علي وجنتيها
"روحنا في داهية"
ولاء رفعت
تتمدد فوق الفراش علي جانبها في صمت قاتل، لكن عينيها لم تكف عن البكاء منذ أن جاءت من الخارج، انتبهت أذنيها إلي طرق الباب يتبعه صوت زوجة أخيها
"خديجة؟، أنتي صاحية؟"
نهضت وأخذت تمسح دموعها بالمحرمة ثم ذهبت لتفتح الباب، ظهرت شيماء وتنظر إليها بأسف
"ما كفاية عياط بقي و تعالي أغسلي وشك، أنا عاملة طاجن بامية باللحمة الضاني هتاكلي صوابعك وراه، هينسيكي اللي حصل معاكي النهاردة"
عقدت الأخرى ما بين حاجبيها، تعجبت كيف علمت صديقتها بما حدث، فسألتها
"أنتي عرفتي إزاي؟"
"ما أنا رجعت من برة لاقيت طه قاعد في الصالة و حكالي علي حادثة الواد اللي كان عايز يقتل البت صاحبتك في الجامعة، و كلمتيه وأنتي في المستشفي و بعدها خدك علي الشركة عند جوزك و نزلتي من عنده معيطة و من ساعتها مش عايزة تتكلمي، قولت له بالتأكيد آدم عرف باللي حصل شد معاها وهي ما استحملتش و أتخانقوا"
كانت شاردة نحو الفراغ في عالم آخر، رؤية تلك الصهباء تعانق زوجها و تقبله كان مشهداً لا يُنسي، كادت تبكي من جديد فحاولت أن تتماسك لا تريد أحد أن يعلم بنزيف قلبها، لا ترجو شفقة أو مواساة حتي لو كانت من شقيقها، فهي قد عزمت علي قرارها و لم تتراجع عنه.
انتبهت إلي يد شيماء تلكزها بخفة
"إيه يا بنتي سرحتي في إيه، فوكي كدة و أنسي اللي حصل، و تعالي يلا نتغدي، أنا غديت يوسف وسالم من بدري و قاعدين يلعبوا، والبت ريتاچ مارضتش تاكل معاهم و قالتلي لاء أنا هاكل مع عمتو"
شبه ابتسامة غزت ثغرها فأومأت إليها ثم سألتها
"أومال فين طه؟"
"جاله تليفون و نزل من غير ما يقولي كالعادة، خلينا كدة أحسن أنا وأنتي عشان بعد ما نخلص أكل نعملنا كوبيتين شاي و نقعد نشربهم في البلكونة، عايزة افضفض لك شوية"
وعلي مائدة الطعام في الخارج، تجلس في صمت شاردة في الصحن دون أن تأكل منه ملعقة واحدة
"ألا بالحق، هم فعلاً أهل الواد باعتين لك واحد يهددك لو شهادتي باللي ابنهم عمله؟"
نظرت إليها بعينين تائهة في البادية، لم تملك طاقة كافية للتحدث فأخذت تحدق إليها وداخل عينيها الكثير، تود أن تصرخ عما يعتمل به صدرها من ألم لكن من المُحال أن تفصح عن ما رأته اليوم، صدمة لا يستوعبها عقلها و تتخبط بين جدرانها، وخز قوي داهمها بقوة جعلتها تتأوه ألماً واضعة يدها علي بطنها، و ملامح وجهها منقبضة
"خديجة؟"
صرخت بها زوجة أخيها ونهضت سريعاً تتفحصها وتسأله بقلق بالغ
"مالك حاسة بإيه؟"
رفعت خديجة كفها وبنبرة تكاد تكون مسموعة لدى الأخرى
"أنا بخير، بخير"
حاولت أن تنهض فأمسكت الأخرى بيدها تساعدها
"تعالي أدخلي أستريحي جوة"
عقب جملتها صوت فتح باب المنزل وصوت طه الذي ولج للتو
"شيماء أدخلي غطي شعرك، آدم معايا و واقف برة"
نظرت إليه ثم إلي شقيقته وأخبرتها قبل أن تذهب
"اقعدي طب استريحي، شوفتي أهو ما استحملش زعلك و جه يصالحك، ربنا يهدي سركم"
ذهب بخُطى سريعة إلي الداخل، بينما خديجة حاولت أن تتماسك وتتحمل هذا الألم الذي يهاجمها كالوحش الضاري
"أنا داخلة...
قاطعها شقيقها
"استني يا خديجة، آدم جاي عشان عايز يقعد يتكلم معاكي"
وكأن قوة مفرطة سرت في أنحاء جسدها جعلتها تقف كالوتد الصامد أمام رياح عاتية
"و أنا مش عايز أقابل و لا أتكلم مع حد"
كادت تذهب حتي سمعت صوته حينما دخل
"خديجة تعالي نقعد و أنا هافهمك كل حاجة"
"خديجة، آدم حكالي علي كل حاجة و اللي شوفتيه مش زي ما أنتي فهمتي، ياريت تديله فرصة يشرحلك اللي حصل"
عقب طه ويبدو أن أصبح لديه علم بما حدث وهذا بعد أن تقابل مع زوج شقيقته والذي حكي إليه ما حدث وكذلك الأخر أخبره ما تعرضت له شقيقته اليوم وذهابه إلي المشفي بعدما قامت بمهاتفته
نظرة هازئه تنضح من عينيها تحولت إلي نظرة أخرى بازدراء
"يشرحلي إيه بالظبط؟!، أنا و لا هاقعد معاه و لا هاسمع منه حاجة، لأنه مهما قال وأتكلم مش هاتراجع عن قراري"
تلاقي حاجبيه فسألها مُردداً
"قرارك؟"
أخذت تحدق نحو كليهما بقوة حتي أخبرت شقيقها أولاً
"أنا مكنتش أصلاً هاقولك أي حاجة، بس بما أنه هو حكالك فلازم تسمع اللي هاطلبه منه دلوقتي"
عادت عينيها تنظر إلي زوجها بأمر لم تتراجع عنه
"طلقني يا آدم"
༺※※※༻
صف السائق السيارة أمام باب القصر وترجل مسرعاً ليفتح الباب الخلفي، نزل قصي ومد يديه إليها لتستند عليهما
"علي مهلك، خدي بالك"
و إذا بقدمها المصابة لامست الأرض فتأوهت
"مش قولتلك خدي بالك، كدة بقي مضطر، استعنا علي الشقى بالله"
"قصدك إيـ..
لم يمهلها وقت للسؤال فحملها علي ذراعيه، تعلقت بيديها حول عنقه وأخذت تضحك، فسألها مبتسماً ويسير نحو الداخل
"طبعاً مبسوطة وأنا شايلك، و مش مشكلة اللي بيحصل لضهري"
حدقت بغضب زائف مازحة
"لاء يا حبيبي أنا رشيقة، أنت اللي كبرت و ما بقتش قادر تشيلني زي زمان"
رفع حاجبه فأخبرها بحنق مازحاً
"بدل ما تشكريني بتتريئي عليا؟!، ماشي أتلقي وعدك بقي من ضرتك"
وأشار إليها بعينيه نحو صغيرته التي تقف وساعديها تعقدهما أمام صدرها، وحاجبيها يلتقيا، تحدق لهما بنظرة غاضبة
نزلت صبا بحذر علي الأرض مستنده علي ذراع زوجها، تبتسم إلي ابنتها وتمد ذراعها الآخر لها
"زوزو حبيبة مامي وحشاني أوي، تعالي في حضني"
هزت رأسها برفض ثم صاحت بغضب طفولي
"لاء، أنا مخصماكي أنتي وبابي ومش هكلمكم تاني، عشان روحتوا تتفسحوا و ما خدتنيش أنا ومالك"
اقتربت صبا بشفاها نحو أذن زوجها وسألته بهمس
"هي عرفت منين؟"
"أنا قولتلها لما أتصلت اطمن عليهم"
"و أنا اللي كنت هضحك عليها و أقولها كنا في شغل عشان ما تزعلش، أعمل فيك إيه دلوقتي، كل ما أصلح علاقتي بيها تيجي أنت و تبوظها"
"ما هو ما ينفعش تكذبي عليها، بنتك ماشاء الله ذكية و بتفهم إن كان بتكذبي عليها و لا بتقوليلها الحقيقة"
"هي هتجيبه من برة، طالعة زيك"
ابتسم بفخر متباهياً
"طبعاً لازم تطلعلي، دي زوزو حبيبة بابا"
ثم ألتفت إلي صغيرته المشاكسة وهبط علي ركبتيه فاتحاً ذراعيه
"ممكن حضن الأول و بعدين نتصالح؟"
و سريعاً تبدلت ملامح وجهها من الغضب إلي ابتسامة تصل من الأذن إلي الأذن الأخرى، و لما لا فهذا والدها حبيبها وهي مدللته الصغيرة التي من أجلها يفعل المستحيل ويري تلك الابتسامة تزين ثغرها الصغير دائماً.
اطلقت ساقيها الصغيرتين وارتمت بين ذراعيه، تتعلق بيديها حول عنقه، تخبره بدلال طفولي
"i miss you بابي"
قام بتقبيل وجنتها الوردية
"و أنتي كمان وحشاني يا قلب بابي"
نظرت لهما صبا بحاجبين مرفوعين إلي أعلي، تردد بتعجب ساخر
"لا والله؟"
كتم ضحكته حتي لا يثير حنقها أكثر، فأخبر صغيرته
"قولي لمامي ألف سلامة عليكي، عشان وقعت علي رجلها وروحنا عند الدكتور"
حدقت نحو قدم أمها فرأت الضماد، انتبهت صبا إلي قلق وخوف ابنتها مما أثار دهشتها من رد فعل الصغيرة، و تعجبت أكثر عندما احتضنتها بذراعيها الصغيرين
"ألف سلامة عليكي يا مامي، أنا بحبك أوي"
دنت الأخرى منها واستندت بيد علي كتف زوجها و اليد الأخرى ضمت ابنتها إلي صدرها
"الله يسلمك يا قلب مامي، و أنا كمان بحبك أوي أوي"
رفعت وجهها وسألتها ببراءة
"مين اللي عمل كدة في رجلك؟"
"أتزحلقت و وقعت عليها"
ربتت بكفها علي خد أمها فقامت بتقبيل خدها الأخر
"خلي بابي يشيلك و تعالي نامي جمبي"
نظرت صبا إلي قصي الذي ابتسم وهو يرى تطور علاقة ابنته بأمها إلي الأفضل، سأل صغيرته
"يرضيكي تاخدي مامي تنام جمبك و بابي ينام لوحده؟"
أجابت بتلقائية
"خلاص إحنا نسيبها تنام لوحدها عشان رجلها فيها واوه، وأنت تعالي نام جمبي"
اتسعت عينان صبا و التي صاحت
"بقي كدة يا زوزو؟، لحقتي تقلبي عليا؟، أنا زعلانة منك"
"لاء يا مامي زوزو ما تقصدش، و هي شطورة و هتطلع تنام في سريرها عشان بكرة هاخدها هي و مالك ونروح الملاهي"
و ما أن انتهي والدها من الحديث هللت بفرح
"بجد يا بابي هتودينا الملاهي بكرة؟"
أومأ لها مهمهماً، صاحت بتهليل ثم قامت بمعانقته و تقبيله
"حبيبي يا بابي"
"يلا بقي اطلعي نامي عشان هنصحي بدري"
"أوك بابي، تصبح علي خير"
"و أنت من أهله يا حبيبي"
و لم تنظر إلي أمها وركضت إلي أعلي كما أمرها والدها
"شوفت البنت، و لا عبرتني بأي كلمة"
نهض ضاحكاً
"معلش، واحدة واحدة وهتلاقيها متعلقة بيكي اكتر من تعلقها بيا"
"طبعاً لازم تدافع عنها، أنت بابي السوبر هيرو بالنسبة لها و أنا مامي الشريرة"
قام بحملها مُجدداً يخبرها بمزاح
"لاء أنتي مامي الشريرة اللي خطفت حبيبها منها"
لكزته في كتفه ويصعد الدرج حاملاً إياها
"اه منك أنت و بنتك، هتشلوني"
أخذ يضحك ثم تابع صعود الدرج
༺※※※༻
"افتحي الباب يا خديجة وتعالي نتفاهم، بلاش شغل العيال اللي بتعمليه ده"
صاح بها آدم ويطرق باب الغرفة بقوة، فبعد أن ألقت عليه قرارها الحاسم انطلقت من أمامه إلي الغرفة وأوصدت الباب من الداخل، قلبها نبض بقوة و كلما زادت نبضاته كلما اشتد الألم أكثر، فهي لم تتحمل النظر إلي عينيه وتطلب منه الإنفصال، فالعاشق حينما يصل به الأمر إلي الإنفصال فهو بذلك يحكم علي روحه بمغادرة جسده، يشعر بكل سكرات الموت حتي يصل إلي اللحد ويصبح حبيس جدران مقبرة الزمن الذي يمر ببطئ، فالساعة تصبح يوماً واليوم يصبح شهراً والشهر يصبح كالسنة و السنة تمر كمرور الدهر علي هذا الميت الحي.
صرخت من الداخل وما زالت تضع كفها علي بطنها
"و أنا مش طايقة اشوفك و لا اسمع صوتك، طلقني بالمعروف أحسن ما نتقابل في المحكمة"
كان كل من طه و زوجته يقفان في الرواق فقالت شيماء
"معلش سيبها تقعد مع نفسها شوية وأنا هادخل ليها و هاطمن عليها ، هي شكلها أعصابها تعبانة من اللي حصل لصاحبتها في الجامعة، بالتأكيد ما تقصدش اللي قالته"
فعقب زوجها
"تعالي نقعد في البلكونة شوية و شيماء هاتدخل تكلمها، و إن شاء الله كل حاجة هاتتحل ما بينكم، تعالي يلا"
انفتح الباب فجأة وظهرت منه، تتظاهر بالقوة الواهية
"و أنا مش هتراجع عن قراري، هاطلق يعني هاطلق، و أهو يخلي الجو للباشمهندس مع الهانم اللي كانت في حضنه"
أنهت كلماتها بنظرة ساخرة إلي زوجها، بينما شيماء التي أدركت سبب ردود أفعال صديقتها للتو، شهقت بصدمة واضعة يدها علي فاها غير مصدقة، حاول زوجها أن يهدئ من العاصفة و لو قليلاً
"خديجة عشان خاطري، استهدي بالله و اقعدي مع جوزك و اسمعيه، و بلاش تظلميه قبل ما تعرفي كل حاجة، ده كلنا بنقول أنتي أعقل واحدة فينا، إيه اللي جرالك؟"
"ما أنا كنت بعقلي و أسأله، بما أنك سمعت له هقولك أنا ليه عايزة أتطلق، الهانم اللي شوفتها معاه في المكتب دي اللي كان عمي الله يرحمه كان عايز يجوزها له لما أتأخرت في الحمل، شوفناها من فترة لما كنا مسافرين لما اتخطف يوسف ابني و سبحان الله هي ظهرت فجأة وانقذته و فاكراني مغفلة مش عارفة أنها لعبة عملتها عشان تقرب من البيه، و اتكلمت معاه و حذرته منها بكل هدوء و عقل و لو واحدة غيري أقسم بالله كانت عملت مشكلة كبيرة، لكن قولت خليني ورا عقلي و أحل أموري من غير مشاكل، و اتفقت معاه مهما حاولت تقرب منه تاني يقفل كل الأبواب في وشها و وعدني بكدة لحد ما أتفاجئ النهاردة و أنا رايحة له الشركة منهارة من اللي حصلي في الجامعة عشان أحكيله اللي حصل معايا و أقوله أعمل إيه لاقيتهم في حضن بعض و.... ااه"
بلغ الألم ذروته لديها ولن تتحمل، أطلقت صرخة وسقطت علي ركبتيها، تضع يديها علي بطنها
هبط علي ركبتيه بقلق وخوف
"خديجة، مالك؟"
أخبرته شيماء
"قبل ما تيجوا كانت برضه ماسكة بطنها وبتتوجع"
"أنا هكلم الدكتور بسرعة"
صاح بها طه، و آدم كان يضع يده علي ظهر خديجة ويهدأها بينما هي تصرخ بألم عارم
"مش قادرة استحمل الوجع، بطني بتتقطع، ااه"
و هنا الصرخة قد بلغت أقصاها وتردد صداها بين جدران المنزل!
༺※※※༻
وصل قصي إلي داخل الغرفة و مازال يحملها، أنزلها علي الفراش وجلس جوارها، يرفع ساقها علي فخذيه، يخلع لها الحذاء وفعل المثل مع ساقها الأخرى، أمسك يديها فقام بتقبيل كل منهما علي حده، يخبرها من شهد الكلمات
"بعشقك"
ابتسمت له وعينيها الرمادية تتلألأ علي ضي المصباح الخافت، تخبره بأعذب الألحان التي تعزفها علي أوتار فؤاده
"ده أنا اللي بعشقك و متيمة بيك، و كل مدي عشقي بيزيد لما بشوف قد إيه أنت حنين معايا و بحس بخوفك و لهفتك عليا لو حصلي أي حاجة"
اقترب منها وعانقها، طرف أنفه يكاد يلامس طرف أنفها، يزيد من البيت شعراً رومانسياً بصوته الرجولي الأجش
"حنيتي دي نقطة في بحر حبي ليكي، أنتي روحي يا صبا، يعني أنتي عايشة جوايا و بتجري في دمي، ما بقدرش أستحمل عليكي أي حاجة"
ابتعدت برأسها قليلاً لتستمتع بالنظر صوب عينيه التي تسحرها في محراب عشقه
"أنا آسفة إن اتنرفزت عليك لما حيت تواسيني عشان ما أركزش في ألم رجلي، مكنتش مستحملة بجد الوجع"
قام بتقبيلها من جوار شفتيها ثم أخبرها
"عارف ومقدر حالتك وقتها، و مش زعلان بالعكس أنا ضحكت من ردة فعلك، أصل شكلك يجنن لما بتتنرفزي"
"أنت كنت قاصد بقي؟"
أومأ لها مبتسماً
"و كنت مبسوط كمان"
تبرق عينيها بلمعة ماكرة تقترب بشفتيها من خده وفي لحظة ضغطت بأسنانها علي خده فتأوه
"عشان تبقي تنبسط أوي"
ضيق عينيه بوعيد
"خدي بالك أنتي اللي بدأتي"
تزحزحت مبتعدة عنه تبتسم بقلق
"قيصو، أنا كنت بهزر معاك، بالله عليك أوعي تعملها أنا مش قادرة أتحرك من رجلي"
ابتسامة خبيثة يتبعها غمزة ينهيها قوله
"أنا واحشتني أوي حركات الشقاوة، فاكرة؟"
رفعت يديها برجاء وتضحك في آن واحد
"لاء مش فاكرة، و لا عايزة افتكر"
"بس أنا بقي فاكر و هافكرك"
أخبرها بذلك وجعلها أسيرة بين ذراعيه وهي تصيح برجاء
"لاء يا قيصو لاء، بلاش عض، عض لاء"
و في لحظات كانت ممددة علي بطنها فوق الفراش، و تحت ضغط يده علي ساقيها و يده الأخري علي ظهرها كافياً بشل حركتها
"يلا عدي و لو غلطي في العد هبدأ من أول و جديد، واحد"
صاحت بعد غرز أسنانه أسفل ظهرها
"ااه، أنت رخم و هزارك تقيل"
"2"
"ااه، كفاية بقي علي فكرة أنت سادي"
تعالت ضحكته علي وصفها المُبالغ به، فجعلها تستشيط من الغيظ أكثر، سألها بصدمة زائفة
"أنا سادي؟!"
"ايوه و شرير كمان"
"طيب، نبدأ من أول وجديد، يا تري أعضك منين يا بطة، سادي بادي كرنب زبادي"
"اااه، خلاص، خلاص، بجد مش قادرة، كفاية هزار"
حررها من قبضتيه فنهضت وهو مازال يضحك، لكزته و تحدق إليه بغضب طفولي مثل ابنتها
"أبعد عني أنا مخصماك، و مش هتنام جمبي النهاردة، عندك الكنبة و لا روح نام جمب بنتك"
جذبها بين ذراعيه بحنان و حب
"أنا أقدر علي زعل روحي؟!، تعالي لما أصالحك"
قام بتقبيل خدها
"أوعي برضه زعلانة منك"
"طب و كدة"
قام بتقبيل موطن كلماتها وسألها متابعاً
"لسه زعلانة؟"
"اه، و زعلانة أوي كمان"
اقترب بشفتيه نحو عنقها بقبلة جعلتها تشعر بأجواء طقس شهر يوليو الحار، ابتعد قليلاً ليرى ملامحها و مدي تأثيره الطاغي عليها، قرأ
في عينيها نداء من أعماقها، فاقترب مرة أخرى وعينيه لا تبرح شفاها
"أنا مش هيسيبك الليلة دي غير لما أصالحك و تبقي مبسوطة"
و بعد كلماته قام بتلبية النداء باشتهاء و رغبة جامحة لا يشعر بها سوي معها هي فقط، المرأة التي امتلكت مفتاح قلبه فولجت داخله وتربعت علي عرشه، و كما أخبرها قولاً وفعلاً فهي صبا القلب والروح.
༺※※※༻
في وقت متأخر من الليل يفر النوم من عينيه كالليالي السابقة، كلما يفكر في حديث صديقه يجن جنونه، علي الرغم أنه قد عاش في بلد أوروبي لسنوات لكن هذا لن يغير من طباعه العربية المتأصلة به كالغيرة ويحب أن يكون الرجل الأول في حياة المرأة التي سيشاركها حياته...
«حدث سابقاً»
"قبل إجابتي علي طلبك، لازم تعرف حاجة"
ابتلعت منار غصة علقت في حلقها فمن الممكن أن علم أدهم بالأمر سيغير رأيه ويعزف عن أمر زواجه بها، تابعت
"قصي هيقولك كل حاجة"
و بدون تردد ذهبت سريعاً من أمامهما، توجه نظر أدهم إلي صديقه منتظراً أن يخبره
"هي إيه الحكاية بالظبط"
نهض الأخر وجلس في الكرسي المقابل له، ود لو أخبره بصدق روايته لكن أحياناً نلجأ إلي الكذب في أمور بها الصدق له وقع الضرر علي الآخرين
"قبل ما أحكي هكرر لك اللي قولته لك من شوية، منار في مقام أخواتي البنات، و الحكاية أن باباها كان مديون لراجل من اللي شغلهم شمال، و كتب علي نفسه شيكات بمبالغ كبيرة وعشان مش قادر يسددها كان عايز يجوزها لراجل أكبر منه هو شخصياً، مالقتش حل غير أن نكتب الكتاب وعملنا فرح علي الضيق، وجت عاشت في القصر عندي لحد ما ضمنت باباها أنه مش هيقربلها من تاني أو يأذيها"
عقد ما بين حاجبيه حاول استيعاب ما قد سمعه
"ثواني، مسألة كتب كتابكم و الفرح و فهمنا الهدف من وراهم، طيب مدام صبا كان وضعها إيه بالظبط لاء و كمان جايبلها ضرة تعيش معاها في القصر، عملتها إزاي؟"
تنهد قصي وتناول لفافة تبغ من الصندوق الخشبي و أشعلها بنار القداحة، وجد عليه تجاوز الخوض في الحديث عن شأن زوجته لاسيما عند تذكره لما سببه لها من آلام نفسية وقهرية
"عادي، هي تفهمت الأمر بصدر رحب، لأن ما بينا ثقة متبادلة، ده غير أن منار كانت قاعدة في أوضة لوحدها"
"يعني...
أدرك سؤال صديقه لذا تابع حديثه ليطمئنه
"أيوه، كان جواز علي ورق مش أكتر من كدة"
«عودة إلي الوقت الحالي»
زفر بضيق لديه سؤال يلح عليه يريد معرفة إجابته من بين شفتيها هي حتي يطمئن قلبه و يريح عقله من التفكير
"إيه اللي مسهرك يا حبيبي لحد دلوقتي و واقف في البلكونة في السقعة دي"
ألتفت إلي هذه السيدة الخمسينية ذات الملامح الجميلة برغم ظهور بعض الخطوط قد حفرها الزمان، تمسك بصينية يعلوها كوبان تتصاعد منهما الأبخرة.
ابتسم إليها بــ ود
"مش جايلي نوم يا لولي"
وضعت الصينية فوق المنضدة
"طبعاً مش هيجيلك نوم من غير ما تشرب من إيد مامتك حبيبتك الـكاكاو بللبن اللي بتحبه"
و أمسكت كوب ومدت يدها بها إليه
"طول عمرك مدلعاني يا ست الحبايب، تسلم إيديكي"
أخذ الكوب من يدها، فأخبرته و عينيها تنضح بالحنان والحب
"أنا ليا مين غيركم أنت وأخوك، هو أتجوز وسافر برة و فين و فين لما بيجي اجازة، وأنت نفس الحكاية بس الفرق هو أن نفسي أفرح بيك وأشوف ولادك قبل ما أقابل وجه كريم"
ترك الكوب سريعاً وأمسك بيدها بين كفيه
"بعد الشر عليكي يا أمي، بإذن الله هحققلك أمنيتك قريب أوي، و كمان هستقر هنا و هأسس فرع للشركة اللي بشتغل فيها برة، محتاج بس دعواتك"
تعجبت ثم ابتسمت بسعادة
"يا حبيب قلب مامتك، أنا مش مصدقة نفسي، وأخيراً هتريح قلبي الله يريح قلبك، بس تطلع مين دي ياتري اللي قدرت تغير تفكيرك"
كاد يتحدث فاوقفه تنبيه رسالة واردة علي هاتفه
"ثواني يا لولي"
فتح الرسالة وكان محتواها اسم منار بالكامل و كل بياناتها والتي تشمل من بينها عنوان مسكنها، ردد بصوت خافت
"كفاية تفكير لحد كدة، أنا لازم أروحلها"
"فيه حاجة و لا إيه؟"
حدق إلي والدته بنظرة غامضة وأخبرها
"لما أرجع هابقي أحكيلك"
تركها و ولج إلي الداخل
"أدهم؟، أدهم؟"
هزت رأسها بسأم وعلقت
"ربنا يرزقك باللي تتمناه يا حبيبي وأشوفك ديماً مبسوط و مرتاح البال"
༺※※※༻
«"أيوة بحبك، و لما لاقيت رد فعلك معايا عنيف كل ما أقرب منك، حبيتك أكتر وجيت النهاردة لقصي عشان يقولك إن أنا عايز أتجوزك" »
كان المشهد الذي يتردد كل حين والآخر في ذاكرتها لا سيما عند تمدد جسدها علي الفراش، باتت تشعر بالأرق منذ ذلك اليوم، لا تنكر أن شعور السعادة غزي دواخلها عند سماعها إلي اعترافه لكن أكبر مخاوفها هو عندما يعلم بأمر زواجها من صديقه.
تنهدت وعينيها مازالت شاردة نحو السقف، نهضت بجذعها باحثة عن هاتفها، قامت بفتح الشاشة ولمست أيقونة تطبيق شهير، قد توصلت إلي حسابه الشخصي و كل فينة والأخرى تشاهد صوره الملتقطة له ما بين إيطاليا و مصر، و صور أخرى له عندما كان طفلاً ثم مراهقاً و شاباً حتي أصبح في منتصف الثلاثينات من عمره، ابتسمت وعلقت
"حلو من صغرك يا أدهومي"
و إذا فجأة يرن هاتفها فانتفضت بفزع ووقع الهاتف من يدها، دنت من الأرض بيدها لتمسك به و ترى اسم المتصل فكان رقم مجهول الهوية، ترددت في الإجابة وانتظرت ريثما ينتهي الرنين فعاد مرة أخرى، لا مفر من الإجابة
"ألو؟"
كان صوتاً رجولياً جعل قلبها ينبض بقوة، ترددت في الرد وانتظرت حتي تحدث المتصل ثانية
"أنا أدهم الشافعي يا منار، ما تقلقيش"
نهضت والصدمة تنضح من عينيها
"أدهم؟، أنت عرفت رقمي منين؟، سؤال غبي صح، بالتأكيد خدته من مستر قصي"
أطلق زفرة و أخبرها بجدية
"لاء، بس عرفت و خلاص، علي فكرة أنا تحت البيت عندك"
صاحت غير مصدقة
"نعم؟!، أنت بتهزر؟"
ذهبت من قرب النافذة وأزاحت الستائر لتجد بالفعل سيارة تقف أمام البناء، بينما هو لاحظ ظلها من خلف زجاج النافذة فقام بتشغيل وميض المصابيح الأمامية لسيارته عدة مرات
"لاء مش بهزر، مش شايفة كشافات العربية؟"
"خلاص شوفت، ممكن تفهمني سبب وجودك تحت بيتي؟"
"جيتلك عشان عايز أتكلم معاكي ياريت تنزلي"
"لاء أنت مجنون بقي، أنت عارف الساعة دلوقتي كام؟، 2 بالليل إستحالة أنزل من البيت في الوقت ده أو أهلي يسمحوا لي أعمل كدة"
زفر بنفاذ صبر شعرت به عبر الهاتف وخشيت من رد فعله القادم و قد كان
"بصي أنا مليش خُلق أتحايل، قدامك دقيقتين ألاقيكي قدامي، لو خلصوا هطلع لحد عندك يا إما هوقف أنادي عليكي و خلي الجيران و كل اللي في مصر الجديدة كلهم يسمعوا و أنا بنادي عليكي عشان تنزلي"
صدرت منها ضحكة رغماً عنها
"أقسم بالله أنت مجنون"
"أنتي فاكراني بهزر، أنا بتكلم جد و عشان تتأكدي هبدأ عد، واحد، اتنين"
صاحت برجاء
"خلاص، خلاص، هلبس بسرعة و نزله لك"
"و ياريت لو في طريقك إزازة ميه هاتيها عشان عطشان"
ابتسمت وحركت رأسها يميناً ويساراً
"مش عايز بالمرة أكل"
"لاء شكراً، و يلا بقي الدقيقتين قربوا يخلصوا أنتي حرة"
أنهت المكالمة وفي سباق مع عقارب الساعة كانت ترتدي معطفها الأسود الذي يصل إلي الركبتين فوق قميصها القطني، ألقت نظرة سريعة في المرآة علي هيئتها، قامت بتمشيط خصلاتها وارتداء قبعة صوفية حمراء اللون ثم ارتدت حذائها الأسود الجلدي ذو النصف رقبة.
في خلال دقائق كانت في الفناء بعد أن خرجت من منزلها دون أن تصدر صوت أو يشعر به أحد فوالدتها وشقيقها في سبات عميق.
يستند بظهره علي السيارة عاقداً ساعديه أمام صدره، طيف ابتسامه علي ثغره عندما رآها، كم هي جميلة مثل حبة الفاكهة الشهية، و خصلات شعرها الذهبية تضوي أسفل ضوء مصابيح البناء، اقتربت منه وتدس الزجاجة في يده بحنق
"اتفضل أشرب"
"علي فكرة الدقيقتين خلصوا من خمس دقايق، يعني ممكن أنفذ تهديدي دلوقتي يا...
كاد يصيح باسمها فوضعت يدها علي فمه
"يخربيتك يا مجنون، ما أنا أهو قدامك"
حدق إليها لثوان ولم تدرك شيئاً من نظراته، شعرت بملمس شفتيه علي كفها يقبله، كان كتأثير التيار الكهربي، ابعدت يدها عن فمه وأخذت تحرك اهدابها ثم رفعت سبابتها في وجهه
"للمرة الأخيرة لو عملت الحركات دي تاني هتلاقي مني رد فعل مش هايعجبك، و لا نسيت القلم اللي خدته في المكتب؟!"
فتح الزجاجة وشرب الماء في صمت، و بعد أن أنتهي من الشراب و أغلقها أعطاها إياها ثم دخل سيارته علي مقعد القيادة وفتح لها الباب الآخر مشيراً إليها
"اركبي"
رفعت احدى حاجبيها
"إيه الاستهبال ده؟!، ما تخلص قول عايزني في إيه و يلا أمشي قبل ما حد يشوفك معايا من الجيران و تجيبلي الكلام"
نظر لها بصرامة غير معهودة من شخص لا يتسم بالجدية أغلب الأوقات
"أنا قولت اركبي و مش هكررها، إلا و إذا هطلع دلوقتي أرن الجرس و أصحيلك مامتك و أخوكي"
زفرت بحنق من أفعاله الهوجاء
"و علي إيه المشاكل، أمري لله هاركب بس ياريت تنجز عشان عايزة أطلع قبل ما يصحي حد فيهم"
و ولجت داخل السيارة وجلست بجواره، سمعت صوت إغلاق أقفال أبواب السيارة و النوافذ أيضاً
"أنت بتقفل ليه؟"
أنطلق بالسيارة دون أن يعطيها إجابة مما جعلها تصيح بغضب وتلكزه في كتفه
"هو أنا مش بسألك؟!، يا برودك يا أخي، نزلني"
استمر في القيادة حتي توقف في مكان هادئ و ألتفت إليها
"أنا عايز أعرف قصي يبقي بالنسبة لك إيه؟"
سؤاله مباغت دون مقدمات، نظرت إليه وهي تحاول استيعاب السؤال لتجيب
"هو قالك إيه بالظبط؟"
"ما ترديش علي سؤالي بسؤال وعايز إجابة واضحة من غير لف ودوران"
"و أنا ما بحبش اللف والدوران، و إجابتي هي أن قصي بالنسبة لي زي أخويا الكبير، سواء قبل جوازي منه أو بعده"
ظل ينظر إليها و يدور في رأسه سؤال آخر نطق به لسانه
"يعني لما كنتم متجوزين محصلش حاجة ما بينك و ما بينه؟"
فهمت ماذا يقصد، شعرت بالحرج من كون السؤال جريئاً، هزت رأسها بالنفي
"لاء محصلش، و كان اتفاقنا من الأول أن جوازنا علي الورق و بس"
نظر أمامه وأطلق زفرة بأريحية وكأنه يتنفس الصعداء ثم عاد يحدق إليها من نظرة الجمود إلي ابتسامة صاحبها فعل أهوج حيث جذبها بين ذراعيه وعانقها بقوة
"بحبك أوي يا منار"
حاولت التملص من عناقه بينما ذراعيه كانت تطوقها بقوة، تابع بنبرة نابعة من قلبه
"تعرفي أنا نفسي أنزل من العربية و أشيلك و أجري بيكي في الشوارع و أصرخ أقول لكل الناس أنا بحب منار، أنا بحب منار"
"ما أنت لو فضلت مكلبش فيا كدة نفسي هايروح و مش هتلحق تحقق أمنيتك"
تركها من بين ذراعيه
"آسف، من كتر فرحة قلبي اللي إرتاح بعد سهر يومين ورا بعض، محستش بنفسي غير و أنا باخدك في حضني جامد"
"طالما قلبك أرتاح وهاتعرف تنام أخيراً، ممكن يعني بعد إذنك ترجعني بيتي"
قرب وجهه من وجهها فتراجعت إلي الوراء قليلاً و رفعت يدها استعداداً للطمه
"هاا؟؟"
أومأ لها مبتسماً
"أمرك يا حبيب قلبي"
و قبل أن يستعد للقيادة ألتفت إلي إضاءة قوية صادرة من مصابيح سيارة الشرطة و الضابط الجالس بجوار السائق، يشير إليه بأن يترجل من السيارة، بينما هي لطمت علي وجنتيها
"روحنا في داهية"